يجب أن تُكتب الفلسفة وتُقرأ كرسالة
جئتُ إلى الفلسفة وفي جعبتي الكثير من الأشياء لقولها. وفي مكان ما، خلال مسيرتي، تغير ذلك. ليس لأنني أحجمتُ عن الكلام، أو مع مرور الوقت، توقفت عن الكتابة. ولكن لأن صيغة الكتابة ومقام ممارستها كان قد مَسَّهما التغيير. لقد وجدتُ نفسي مفعمًا بحِسِّ التساؤل، ليس فقط مع نفسي أو أولئك الذين أعرفهم، بل أيضًا مع عامة الناس، المحدد منهم والمبهم. وجرى الانتقال من مقولة «تحقق بنفسك» إلى مقولة «اعرف نفسك».
كيف يمكن للمرء أن يحدث تغييرًا أساسيًّا في فن النثر؟ وإذا كانت الفلسفة مسكونةً –جزئيًّا– بالشعور بكينونة المساءلة، أفلا ينبغي لها أن تتمتع بقدرٍ أكبر من الشعور بالمراسلة؟ عزيزي، إليك موقفي، في الوقت الحالي… تفضلوا بقبول فائق تقديري. يجازف الكاتب باجتراح الأفكار، وتفسيرها ثم يترقب الرد، ليبدأ التراسل ثانية: عزيزي، شكرًا لك على ردك. لقد تغير الكثير (أو القليل) منذ أن تلقيتُ رسالتك.
إن أيّ خطوةٍ نخطوها صوب أسلوب المراسلة هي خطوة في الاتجاه الصحيح كما يبدو لي، على الأقل في الفلسفة. وربما ما زلنا بحاجة إلى ذبابة الخيل [وصف أفلاطون سقراط بأنه كالذبابة التي تلدغ الخيل فتدفعها للحركة] كي ننطلق تفاديا للّدغ، مع التهيؤ المسبق للقيام بذلك، حتى من أجل الآخرين. لكن إلى أي مدى يمكن أن يصل تجانس الفلسفة مع أسلوب المراسلة؟ هل حينما نمارس التفلسف نضع في حسباننا تباين مستويات المخاطبين والأحوال المختلفة التي يتلقون فيها كتاباتنا؟ لقد استُبعِدَتِ «الرؤية من لا مكان» تقريبًا من نظرية المعرفة، ونعرف أن عملية الإدراك لا تتم إلا في إطار مواقع محددة وثابتة. لكن هل تفاعلت الكتابة الفلسفية مع هذه المتغيرات وطوَّرت طريقة للتعامل مع مقتضيات التفكير في سؤال: كيف عليَّ أن أكتب؟
وباستقراء تاريخ الفلسفة نجد أن رقعتها تزداد كثافة. الكتابة الفلسفية هي شأن واسع ومتنوع. تضع بعض الكتابات البرهان العملي على رأس أولوياتها، عادَّةً –مثلًا– «الحقيقة» هي بمنزلة وصل بين المعتقد والعالم. فيما تلجأ بعضها إلى الإثارة، كأن يَعْمِد الكاتب إلى اختتام نقاشه حول طبيعة الصداقة قبل أن يتوصل إلى تعريف عملي لها. ولو أردنا تحديد الصداقة فيتعين علينا أن نعمل على توليد التعريف الخاص بنا، وإلا يتعين علينا أن نفكر في مسوِّغ مقبول لعدم ذكر التعريف. وهناك كتابات أخرى تَعْمِد إلى التمثيل النموذجي، كما هي الحال حينما تبرهن سيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الآخر» (1949م) على كونها عقلًا فاعلًا في المجتمع الأبوي الذي يأبى الاعتراف بذلك. ومن خلال تتبّعها لمصير المرأة التاريخي، تكشف لنا عن مدى الاختلال الذي ساد هذا المصير، ومدى ما لَحِقَ المرأة من ظلم. كما تبين لنا المكاسب التي حرمنا منها النظام الأبوي.
تعزز الاعتبارت النوعية من أهمية السؤال عما ينبغي أن ينتظم الكتابة الفلسفية من أنواع: المحاورة، والأطروحة، والقول المأثور، والمقال، والمقالة والدراسة المتخصصتين، والشذرة، والسيرة الذاتية. وإذا كان المرء يتمتع بحس أكثر شمولًا، فإن الرسائل والبيانات الرسمية manifestos والمقابلات تغدو من الإمكانات المتاحة للكتابة الفلسفية. بيد أنه ليس هناك نوعٌ يُرْقَش بشكل كامل عند كتابته، وهذا ما يقتضي منا الالتفات أيضًا إلى الآليات المنطقية والبلاغية: طرائق التثبّت، والسخرية، والمحاججات المتعالية، والأمثولة، والصور، والتناظرات، والأمثلة، والاقتباسات، والترجمة، حتى التلفظ، فهو طريقة مميزة للوجود وللقارئ. ويبدو أن هناك الكثير من الجوانب التي يتوجب مراعاتها لفهم كيف نكتب.
الكتابة والاكتشاف
تنشأ الأسئلة المتعلقة بالكتابة في بعض الأحيان عندما ينشغل الفلاسفة بشأن انتشار كتاباتهم ومحاولة الوصول إلى قاعدة واسعة من القراء. غير أن تلك الإمكانات النوعية التي أشرتُ إليها تؤثر بشكلٍ مباشر في الفكر ذاته. فالكتابة فعلٌ خلّاق يقود إلى اكتشافات، وليس النوع الذي تتأدى من خلاله الكتابة مجردَ أداةٍ لنقل الأفكار بل يكون له تأثير في تلك الاكتشافات، وكذلك تفعل الآليات المنطقية البلاغية. لقد كان فرنسيس بيكون ميالًا إلى نمط الأقوال المأثورة لأنه كان يتيح له التحرر من التقاليد المدرسية، في حين أن المقالة المتخصصة تراعي اللغة المشتركة في الأوساط الأكاديمية. تسعى الأطروحة إلى استقصاء موضوع ما من جميع جوانبه -ولنقل «الرؤية من كل مكان»– بينما المقال يستسيغ التحيز لفكرة ما ويسبر نطاق وصوله بالقياس إلى موضوعات مثل الصداقة والجنسية النسوية، حتى الشغف الجارف بالسينما. وحين تغدو الكتابة موضعًا للتساؤل، فثمة قضايا أولى بالنظر فيها من قضية توسيع نطاق الانتشار.
هاك البداية. كيف ستتشكّل أفكاري من خلال هذا النوع الكتابي وهذه الآليات المنطقية والبلاغية؟ وإلى أين سيأخذني القول المأثور أو المقال أو المقالة المتخصصة أو تبادل الرسائل؟ وكذلك الأمثلة أو الخلافات غير المُحدَّدة أو الاقتباس أو جهد الترجمة أو السخرية في هذا الصدد؟ فالسخرية مجازٌ معروف يجمع بين المفاجأة والإزاحة. غير أن قدرًا مقبولًا من السخرية، على الأقل عندما يلجأ المرء إلى لعب دور الساخر، يمكِّن الذات من الحفاظ على توازنها. فالقارئ هو الذي يتفاجأ عندما يصادف معنى ضمنيًّا من نوع ما، في حين أن المعاني الصريحة والضمنية للمؤلف قد اتخذت شكلها النهائي إلى حد ما. (ومن ثم فإنني أتساءل: ما الذي تصونه السخرية لدى الذات؟).
أما الأسئلة المتعلقة بالإمكانات التي يقرها النقد فلا يمكن الخوض فيها، فالنقد أصبح بعد إيمانويل كانت يستجوب طبيعة أحكامنا ومفاهيمنا العملية؛ لاستكشاف القواعد التي تحكم استخدامنا لهذه الأحكام. إن الاكتشافات التي تتولد عن فعل الكتابة تشكِّل دليلًا على أن الفلسفة ترتبط ارتباطًا وثيقًا باللغة حيث إن الأخيرة تضطلع بدور قائد العربة إلى الجياد. فالكتابة هي مغامرة في المجهول، وعندما تكون أمينة وصادقة، فإن المرء قد يظفر بنتائج غير متوقعة.
وحين يتهيأ المرء للشروع في الكتابة قد يتساءل أيضًا: ما العلاقات التي سيخلقها النص مع المخاطبين الذين يتوجه إليهم؟ فالسجالي يسعى إلى تحويل وجهة نظر المخالفين أكثر من توجهه إلى محاورة المتفقين معه، ويكون ذلك على حساب الاكتشاف، حتى عندما يبتعد بعضٌ من السجال الصريح، فإنهم يَعمِدون إلى اجتزاء نصوص معارضيهم بدلًا من قراءتها قراءة صريحة ودقيقة؛ ومن ثم يستحيل الحوار إلى إلقاء المواعظ على المخالفين، وهو ما يبدو خطوة خاطئة.
وهناك من لا يرغب في أن يسلك في نصه مسلكًا دوغمائيًّا، فيلجأ إلى الإثارة على حساب مبادئه ومعتقداته، كما أخذ بعضٌ على أفلاطون فعل ذلك. غير أن أية إثارة لها تَبِعَاتها الخاصة، ويأتي على رأسها تحديد الغاية التي يسعى من ورائها إلى استفزاز قرائه. يعدّ سقراط أحد أولئك المتحاورين، فيما جايوس لايليوس ضرب مختلف تمامًا، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الطرائق المختلفة التي يقارب بها كل من أفلاطون وشيشرون موضوعات التعليم والروح والأحوال الخاصة. وعلى هذا فإن التمييز الدقيق بين السعي للإثارة والإفصاح عن المعتقد (أو بين الشكل والمحتوى في هذه الحالة) يظل أمرًا متعذرًا.
هناك آليات أخرى تعمل على إشراك المخاطبين الذين يتوجه إليهم الكاتب. فالأمثلة تتيح للقراء إعادة النظر فيما يُعرَض، كما أن تنظيم التعارضات ذات الوجاهة يتيح أيضًا رؤية بعض الأبعاد الأخرى. (عندما أجد الكاتب يُحجِم تمامًا عن تصوّر وجود معارضة لما يطرحه، أشعر بالاختناق وأهرع إلى النافذة). ولو بدأ الكاتب بالتسليم بمدى تنوع المخاطبين الذين يتوجه إليهم، فسوف تَنْجَلي بقية التقاليد الكتابية. وبالعودة إلى بعض اقتباسات أعمالي السابقة، أجد نفسي قد كتبت نصوصًا تتضمن إشارات من قبيل «البيض فقط» أو «لا لزوم لتمثيل النساء».
القوى المتحكمة في السياق
بيد أن القراء والنصوص لا يلتقيان بمعزل عن الأوضاع المحيطة بهما. ومن ثم فإنني أتساءل: ما السبل التي ينبغي للكاتب أن يسلكها للتصدي للقوى المتحكمة في السياق، التي تمتد من النعرات القومية العرقية إلى سلطة الرجل الأبيض وهيمنته إلى تسليع التعليم العالي؟ من المُغري أن نتصوَّر نصًّا بلا هوامش، كما لو كانت الأخيرة مجرد زخارف. لكن في مرحلة تتسم بالنفور الشديد من صرامة المعرفة، ومعاداة تاريخ ما نتمسك به من حقائق، فلماذا لا نبرز المختلف فيه من تاريخ الفكر، لا لشيءٍ سوى التشديد على أن: الفكر جهد، ونتائجه ليست نهائية، وإمكانية وجود اختلافات.
يمثل الوضوح في الفلسفة قضية أخرى، وتحدِّيًا خاصًّا للفلسفة، التي لا تستند على التجارب. بل تنحصر صحة الفكرة (أو خطئها) من خلال عرضها وطريقة البرهنة عليها. وفضلًا عن ذلك فإن الاستنتاجات الفلسفية لا تبقى فلسفية إذا تنكَّبت لمسار البرهنة الذي قاد إليها. فعبارة «الله موجود» تعني شيئًا في الصلاة وفي نهاية البرهان تعني شيئًا آخرَ. وكثيرًا ما يُطلب من الباحثين المتخصصين أن يتبادلوا نتائج أبحاثهم من دون عرض إجراءات عملهم. لكن عرض الإجراءات قريب للغاية من عمل الفلسفة. فهل بإمكان الباحث أن يفعل ذلك ويصل إلى مدى أبعد من الوسط الأكاديمي؟
يدرك جميعُ قراء أفلاطون أن سقراط يُشكِّلُ من خلال التمثيل صورةً للفلسفة، بداية من أساليب الاستجواب التي يتبناها مع محاوره وانتهاء برسائل تذكيره أن الفلسفة تتطلب الشجاعة. وكذلك الحال بالنسبة للمحاورة نفسها فهي تعدُّ نموذج الفلسفة. لكن كلّ نصٍّ يعلن: هنا أيضًا فلسفة؛ لذلك فإن النتاج الإجمالي للكتابة يقتضي من كاتبه التدقيق والتمحيص. فهل هو نتاج متحقق وثري أم أُنجز على عجلٍ؟ وهل تحققه كامن في سلامة إجراءاته، أو هل تَذَرَّع بالمقبول حدسيًّا في دحضه لآراء المعارضين من خلال اقتناص أوجه القصور الخفية فيها؟ وهل يقر النتاج بتعدد المخاطبين الذين يتوجه إليهم أم يتقوقع داخل السبل الضيقة للمماثلين له في التفكير؟ وهل يَعْمِد إلى اختبار مقدماته أم يلجأ إلى التمويه بالرطانة والتعميمات المطلقة؟
يمكنني القول، مستلهمًا لوديفج فيتجنشتاين: إن الفلسفة قد تنكّبت عن نهج الكتابة. وما يُطالع في ميدان الفلسفة –من المقالات والدراسات المتخصصة– يُكتَبُ طلبًا للتوافق وليس طلبًا للتفكير الفلسفي والالتزام. وهذا لا يشمل الكل. فهناك العديد من الكتّاب الذين نأوا بأنفسهم عن هذا المسار التوافقي وأصبحوا نماذج يُقتدى بها. لكن إنْ أَجَلْتَ النَّظر على وجه الإجمال وفي الوقت الراهن ستجد أن تجربة الكاتب تظل من النواحي غير المطروقة في السياق الطموح للفلسفة.
لقد هداني تأملي في حقل أنواع الكتابة وآلياتها المنطقية والبلاغية إلى اقتراح أربعة أسئلة موجهة: كيف ستتشكّل أفكاري في هذا الصدد؟ ما العلاقات التي ستبنيها مع المخاطبين المتنوعين؟ هل سيتمكن مُخاطبي من الإبحار عبر تيارات حياتنا المتنوعة ويكون «على قدر اللحظة»، كما تساءل فالتر بنيامين ذات مرة؟ وأخيرًا، ما النموذج الذي يقدمه نصي باسم الفلسفة؟ هل عرضت صورة بديعة؟ عزيزي، إليك موقفي، في الوقت الحالي… تفضلوا بقبول فائق تقديري.