بواسطة عبدالقادر الجنابي - شاعر وكاتب عراقي | يناير 1, 2023 | نصوص
سأتجوّل
سأُرخي حِباليَ في نهرٍ صديق
راحلًا إلى ظِلِّ مولدي
لكي أُنعِشَ أهواءَ التُّرُوبادُور المَنسيّة!
سأجعلُ آلافَ المَساءاتِ تُشعْشِعُ
لكي نَصقُلَ الحبَّ
على شاكِلَتِنا!
سأتجوّلُ مُبتَسِمًا
بدون توقّفٍ
في أكثرِ أرجاء ليلِ العالم لهوًا
حتى يَثْغُو في شسوع النظر
البحّارةُ والطيارونَ والمُغامرون
وكأنهم نِعاجٌ متراميةٌ في أطرافِ المفاوزِ والأعشاب.
العبء المفيد
(دليل العَيشِ في المنفى)
لا يُهِمُّ ما تَـفعلُهُ!
ابحثْ في المُستَبعَد أولًا
ناظرًا إلى الأمام
مرفوعَ الرأس.
فليس ثمّة ماضٍ أو مستقبلٌ
وإنَما حاضرٌ مُتَوالِدٌ.
اغسِلْ قدَمَيْكَ
في المياه الموسمية
فالسماءُ ستسقُطُ
في مَجرى الغَضب!
ما جدوى لغة الخطباء الكتومين
المتكدرين في مقهى بجانب الطريق
مثل حشرات لا تَجِدُ ما تأكُلُهُ،
مثل سكارى الجمعةِ
المترنحين صوب مكانٍ مجهول.
عندما يَشخِرُ الظلامُ
هناك دائمًا سماءٌ وقمر.
قمةٌ حيث يمتدُّ الوجودُ
بوجه العاصفةِ وعظامِ الأصلِ الملوّثة.
في الأزمنةِ السَّحيقة
كان البشرُ يموتون عُراةً.
وعلى نومِهم العَميق
قامَ عالمٌ وطيد.
في هذه اللحظة
لم يَعُدْ هناك ثورةٌ،
والجميعُ في السجون
والأبرارُ
يختبئون بين السطور،
لم تَعُدْ لديك فرصةٌ في الجَيْب!
اكْنُسْ إذن، كلَّ المُخلّفات من سِردابِ عَقلِكَ
وسوف تَشْعُرُ بلُيُونَةِ المُطلَق!
فعلى ساحلِ التشبيه
وفي هُويّة التاريخ
يُلاعبُ الجمالُ أمانَ المَسار.
نهاية الشتاء
العالَمُ المُكلّلُ بثلجٍ
بائسِ البَياض،
لا يَزالُ نائمًا في بِرَكِ الوقت
مثل عَبّاد الشمس دونَ مأوى.
الطفولةُ تبكي تحتَ التَّنُّوب،
المنزلُ مأهولٌ بالغِياب
والناعِسُ ينحني في أحلامِه البلّورية
تاركًا خلْفَهُ ما أقامَهُ من أسوار.
على سطحِ الظواهر
يَلِدُ المُستَقبلُ حاضرًا آخرَ
وعلى أكتافِنا تتراكمُ المَجازات.
منظرٌ حَضَريّ
سطحٌ مُمتدٌّ تحت سماءٍ زاهيةٍ
نافذةُ الطابقِ مفتوحةٌ
على شكلِ حَقيبةٍ.
بابُ المَدخلِ مُغلقٌ
أمامَه طفلٌ يلحسُ كتابًا.
ثَمَّ ظِلٌّ يتأرجَحُ في الشارع.
إنهُ خَيالُ الحارس
وهو يتشاجَر
مع أشباحٍ يَتَدافعونَ
مِن ثقبِ المِغلاق.
لَعِبٌ على الحرب
بَلدي يَسعُل في سريرٍ
ملقاةٌ تحته الحربُ
مثل جَوْربٍ عتيق.
كسلي يُضمرُ مشروعًا
منذ زمن طويل
فأنا جاسوسٌ لصالِح الكلمات
أتخبّأ فيما لا محلَّ له من الإعراب
بين تفرّعات المعنى
والجُمَلِ المرفوعةِ على رؤوسِ الأشْهَاد.
أَقْضي عُطلتي الصيفية على الشاطئ
أمسُّ الضوءَ المنتشر على صفحة الماء.
كلاهما يرتج،
ينزل بي حتى سريري…
وإذا ببلدي
ينفجرُ رذاذ قيحٍ
بوجه الكون.
رحلة في الفراغ
لقرونٍ
كنا نصرخُ في الفراغ
في برج الماء والشوك.
نرمي من وقت إلى وقت
السهامَ على قلوبِنا
المعلّقةِ في السقف
فنحن هائمون بدون شَرشَفٍ،
بدون ذاكرة،
مجرد طيورٍ من زجاجٍ ملون
دائمةِ التحليق، لم تطأ أرضًا.
وها هو النوم يأخذنا في دَيْرٍ
جدرانُه تستهزئ بفِراخِ النسر
والصورةُ تتفتّتُ حول السرير!
بواسطة عبدالقادر الجنابي - شاعر وكاتب عراقي | نوفمبر 1, 2021 | نصوص
I
بدأت الظلمةُ تنقشع شيئًا فشيئًا عن منزل معزول من طابقين، يسكنه رجلٌ وامرأةٌ، يقع في أعلى الهضبة التي ينحدر منها شارع القرية الوحيد في أحضان الأودية. إنها قرية صغيرة لها بنايات توزعت على ناحيتي الشارع والمنعطفات المتفرعة، وأخرى موزّعة في السفوح والعراء، وعمائر حديثة مجهزة بآخر صرعات الرفاهية والبقاء! وثمة نهر صغير يقطع القرية شيد فوقه جسرٌ حجري… ومع هذا فإنها قرية تعيش في الزمن القديم؛ زمن ما قبل زرع الكاميرات في الشوارع وظهور الإنترنت… فهذه قرية نزلت من السماء، وحطّت في هذه البقاع النائية من الطبيعة! هناك لوحٌ على بوابتها جاء فيه بحروف بارزة: «القرية حلم متماسك قائم على أساسٍ… حائزٌ على صفات عديدة من لون وحرارة وأرياح إلخ. لا يسعى أهلُها إلى دخولِ جنّةٍ. فهم أصلا في الجنّة. ليس هناك مطهر أو جحيم… فإنهم إما خالدون، هنا، وفي تقدم دائم نحو لذات جديدة؛ كمالات جديد… وإما يُرسَلون إلى العالم الآخر… ذلك لأن ثمّة شرّين: الأول فيزيائي، أي طبيعي، وهو ألم ضروري للوصول إلى خير أكبر، إذ لا يمكن الحصول على نتائج مثمرة دون مجهود مؤلم. والثاني ميتافيزيقي، أي عدم كمال المخلوقات الفيزيائي والعقلي في الأصل»، غالبًا ما يتجلى شرًّا يجب اجتثاثه.
ليس للقرية شرطة أو محاكم… لا جرائمَ ثمة ولا إخلال بالأمن… لا محامين ولا قُضاة… بل حتى الموت لا يحدث قط إلا بقرار ويُطبّق بسرية تامة. هناك سلطة غير مرئية، القرية هي وجودها الأرضي، لكن لا وجود ملموسًا لها يمكن لأحد الرجوع إليه… في حين أن السلطة هذه حاضرة في كل بادرة وكلام… صحيح أنها لا تقع تحت الحواس الخارجية للسكان، بيد أن ذلك لا يمنع أنها محبوبة ومفضلة لديهم… وكأن ثمة تفاهمًا ضمنيًّا بينهم وبينها! فإنها هي التي أوحت إلى أسلاف القرية الأولين «بالحقائق الرئيسية الخاصة بالتفكير والأخلاق»، ولا يزال يتبعها السكان! وهناك منتدى كبير اسمه «المُطلقات الثلاثة: السلطة، الأنا، الواجب!»، تجري فيه مناقشات حرة حول كل ما يدور في ذهن القرية، يتبين من خلالها أن السكان على وعي تام بأنهم ليسوا في حاجة قط إلى التشكيك في أي أمر مهما كان مغريًا لمساءلته…
ذلك أن الشك روح انقلابية لا تفضي إلا إلى دمار شامل… كما أنه ليس هناك شيء أكثر متعة من الشعور، دون أي جهد فكري، بلذة وجودهم… في هذا المخدر الفلسفي، يعيش أهل القرية واعين لحريتهم دون أن يعرفوا كيف يفسرون وجودها… وهم لا يخافون من شيء سوى مما يجهلونه… لكن ليس هناك شيء يجهلونه في تاريخ قريةٍ عالمُها «احتمالٌ وحرية وعدالة وشرٌّ قيدُ التحقيق»… على أن كل فرد يدرك أنه منقاد برغم استقلاله، مثلما هو مستقل برغم انقياده، فالسلطة قد توارت مختفية، فقط لكي تضمن استقلاله، أي أن يُترك وحيدًا مع تأمله، وهكذا يبرهن ولاء مطلقًا لطبيعته.
وهكذا يكتسب الفرد قيمته ليس من حيث هو مقلد أمين لنموذج، بل من كونه نموذجَ نفسه… شعار القرية هو إذن ناقشْ كما تفكر… ولك تعود حرية الاستنتاج. كما أن للقرية دستورًا أقرّه أهلها وأقسموا العهدَ على احترام بنوده مهما كانت العواقب! ذلك أن كل من تبيّنَ للسلطة أنه مرتكب ذاك «الشر الميتافيزيقي» الذي لا يعرف أحدٌ ما طبيعة هذا الشر، سيَدْرأُ عليه العقاب، من حيث لا يدري! وبالمقابل، يتضمن هذا الدستور بندًا ارتضاه الأهالي كعملية تطهير القرية من «الشرير الإبطاني»، وكتعويض تُجدد به شبابها… ألا وهو: «باجتثاث كل شرير… تكافأ القرية بطفل جديد»… وهكذا ظل عدد سكانها هو هو لم يتغير قط… إذ ما إنْ يطير شعاع من منزل، حتى يومض نورٌ في منزل آخر! وللتخلص من هذا الشر الميتافيزيقي، شيّد بُناة القرية الأولون حفرة معزولة جد عميقة، على الجانب الشمالي من الهضبة، يسدّها غطاءٌ معدني مدوّرٌ أحاطته عبارة بحروف مُجسّمة: «أنّى تكونوا وأَيْنَمَا تَكُونُوا تُدْرِككُّمُ الأخْيِلَةُ»! وسمّوها «هاوية الحُكم»… يأتي، من وقت إلى آخر، رجال، على شكل أخيلة لهم عيون واسعة كعيون الغزال تومض بإشعاعات، يُسمّون «أهل الدليل» لينفذوا الحُكمَ الصادر، عن محكمة غيرِ مرئية، بحق شرير…
وقد ادركَ كلُّ فردٍ من أفراد القرية، أنّه، في نهاية المطاف، «شرير إبطاني»، دون أن يعرف ما هذا الشر الذي يبطنه المرء داخل ذاته الفاعلة… ومتى سيرتكبه، هذا إن لم يرتكبه بعد في نظر السلطة غير المرئية… وكأن قدرًا فجائيًّا ينتظره… لكن ليس في عرف القرية ثمة «قدر مكتوب» يخضع المرء فيه كليًّا لما سيحدث… وإنما هناك قدر اختياري، رواقي… فمثلا إذا احترقَ منزله، عليه أن يلقي النار بالماء، وأن يسعى قدر الإمكان إلى إطفائها، وإذا اشتدت النار ولم تطفأ بعد ذلك فما عليه إلا أن يقبل الأمر، أراد أو لم يُرد، كخارج عن إرادته؛ كحكم مطلق… إذَنْ، لتجنب ما يمتثل قدرًا، سيكون من شأنه أن يدرس كل خطوة قبل أن يتخذها… وإلا سيكون، وعلى نحو مفاجئ، في قبضة «أهل الدليل»… الذين ما إن يراهم الديك، من برج القرية، وكأنما يرى ملائكة، حتى يَصيح إيذانًا لهم بأن شريرًا ثمة…
وهذا ما لم يحدث منذ وقت جد طويل! فالاحتفالات الموسمية، الشعبية والخاصة، جرت كلها دون حوادث تذكر حتى ذلك الاحتفال السنوي بالجسد، قبل أسبوع، الذي راح يتعرى فيه كل من يرغب في الميدان العام ويرقص طوال الليل حتى ظهور الفجر الصادق… لكن، في هذه اللحظة، فيما كانت تظهر علامات فجر اليوم، ارتسمت، على حين غرة، أخيلة فوق أديم مياه النهر وكأن شرًّا استيقظ من غابر الأزمنة…
كان أهل القرية نائمين ملءَ عيونهم، ولابد أنهم كانوا يحلمون، ككل ليلة، بتباشير فجر زاه جديد… على أنهم لا يدرون أن الفجر الذي سيستيقظون فيه سيكون، هذه المرة، بداية تاريخ جديد للقرية… ليس هناك غضب آلهة أو قدر مكتوب… وإنما ثمة سيرورة تاريخية لا غير تتربص بهم؛ عود أبدي آنَ أوانُه… فهم، الآن، يغطّون في منامهم، بينما هناك رَجل لا يزال يقظًا يقظةً غريبةً.. إنه الرجل الفوضوي الذي اقتحم مساء أمس، مجلس «المُطلقات الثلاثة» واعدًا الحاضرين بأنه سيأتي غدًا بأدلة أثرية حول حقيقة «هاوية الحكم»؛ حفرة الموت، و»أهل الدليل»… فأحدث فوضى في المجلس وفض الاجتماع بسببه… وها هو الآن، وضوء الفجر آخذ بالازدياد، يصعد الهضبة من جانب الشارع، راسخَ العزمِ، مدججًا بكل أدوات المنقّب الأثري من مجرفة، عربة يدوية، دلو، معدات لحفظ المواد وأدوات صغيرة، ويتنقّل من مكان إلى آخر كأنما يتجنب أحدًا، أو يلعب لعبة الاختباء…
وفجأة أنشأ الديك يصيح… فأداروا «أهل الدليل» أنظارَهم اللامعة في الرجل، كأشعَّة مقطعية، من الرأس إلى القدم، حتى أقاموا الدليل على أنه شرير إبطاني… وبلمح البصر، داهموه وألقوا به في «الهاوية»… صدرت عنه صرخةٌ مرت مرور الكرام، دون أنْ تَلِج أذنًا واحدة من آذان السكان النائمين، اختلطت بعويل الطفل الجديد، ثم تلاشت تلاشي «أهلَ الدليل» الذين لم يتركوا أي أثر وكأنهم لم يكونوا!
II
علت زَقْزَقَةُ العَصَافِير، مع أديم الضحى… فأيقظت الرجل والمرأة من نومهما. نهضت المرأة من الفراش… وكالعادة، كان أول شيء تقوم به، لاسيما في الصيف، هو أنها تفتح الباب واسعًا ثم تقف على العتبة، متصفحةً بناظريها أنحاء القرية… لكن اليوم، بعد أن لمحتْ نورًا يومض في أحد المنازل… وهذا أمر اعتادت عليه كسائر السكان، يُشير إلى أن شريرًا نُفّذ الحكمُ فيه… رأتْ شيئًا لم تره من قبل… رأت الديك يتلفّتُ يمينًا وشمالًا وعلى نحو مضطرب وغريب… سمعت زوجها يردد… وهو يرتدي بيجامته «حذّرته»
فقالت:
حذرتَ مَن؟
أجابها:
عالم الآثار الذي وعد المجلس أمس بأنه سيقوم في الليل بعملية تنقيب قرب الحفرة ليفك لغزها…
قالت:
إنه شاب…
أجابها:
لكنه طائش…
قالت:
تعال… انظر إلى الديك… هذه أول مرة أراه على هذه الشاكلة…
نظر الرجل وتردد لحظة قبل أن يقول:
يبدو كأنما يتهيأ لصياحٍ ثان!
اعترضت زوجته موضحة:
كيف؟ الديك لا يصيح إلا مرة واحدة، وقد صاح على ما يظهر… والبرهان هو الوميض في ذاك المنزل.
لم ينبس الرجل بكلمة… فهو يعرف مجريات الأمور… وإنما ظل صامتًا لدقائق وهو ينظر، بوجوم، جنب زوجته وهي تشير بأصابعها إلى ما تريد أن تلفت نظره… بعدها دخلا المنزل. وفيما يفتح النافذة المطلة على الحديقة ليتسرب من خلالها شعاع الشمس إلى داخل البيت… قالت زوجته مذعورة بعض الشيء:
«سمعتُ قرقعة!»
«أنا لم أسمع أي شيء، ربما أحد الحيوانات المنتشرة يلعب مع غصن أو اصطدمَ بشيء!» أجابها الرجل متهمًا إياها بأنها مهلوسة: «ماذا دهاك هذا الصباح تتخيلين فيه أشياء؟!»، وطلب منها أن تجلس إلى منضدة الفطور. في هذه الآونة، كانت جثة الرجل التي أُلقيت، هذا الفجر، في الحفرة، لا تزال حية وقد طفقت تحفر التراب إلى الأعلى، قدرَ ما تتمكن، لكي تخرج إلى السطح… راح الرجل والمرأة يتناولان فطورهما. كلاهما كان قصير الجثة… يعيشان معًا منذ عشرين عامًا… انتقلا، قبل شهر، إلى هذا المنزل الرابض فوق الهضبة الذي يتلقى، قبل سائر البيوت، الرعد والعواصف والأمطار… المرأة كانت مدرّسة في مادة الجبر والإحصاء، واليوم متقاعدة، تقضي معظم ساعات النهار في تنظيف المنزل والاعتناء بالحديقة وغسل الصحون وإعداد الغذاء والتدخين المفرط…
أما الرجل فقد شغل مناصب مهمة آخرها منصب رئيس مجلس «المُطلقات الثلاثة»، قبل أن يتقاعد في العام الماضي. إنهما رجلٌ وامرأة لا يتدخلان في أمور أحد، يعيشان في عزلة من اختيارهما… وتطفح سعادتهما في محياهما، إذ لهما ثقة بأنهما في أتم الأمان على رغم أنهما على بينة من أمور كثيرة، لا تداخلهما مريةٌ… لكل منهما هواية يقضي بها أوقات الفراغ: الرجل في القراءة والاعتناء بالحديقة، والمرأة في التطريز… لكن الرجل كان، أحيانًا، في انتصاف الليل، حين يغطي القمر الأرضَ فيجعلها تتراوح بين العتمة والنور، بل بالأحرى حين تغط زوجته في نوم عميق، يصعد إلى العليَّة وينظر من خلال كوّة فيها، تتيح له أن يرى، بواسطة النور الأزرق القاتم، ما يجري قرب الحفرة…
يا له من أمر مرعب، ما يرى! فيتندم، في كل بصيص، على استئجاره هذا المنزل لأنه أرخص بكثير من إيجار الشقة الصغيرة الواقعة في نهاية الشارع التي كانا يعيشان فيها… لم يدر أن قرارَه هذا ستكون له تداعيات جد غريبة… إذ اكتشف، بمحض الصدفة، ذات ليلة متأخرة، ما يجري في «هاوية الحُكم» من أحداث غريبة لا توصف، كائنات ملتحفة بالغمام، مياه ونيران، حيوانات خرافية لم ترها العين من قبل، نساء عاريات يتراءَين له ثم يطرن في السماء؛ مشاهد بلا صوت أشبه بفيلم من أفلام الرعب الصامتة… إلى اليوم لا يدري إذا كان ما رأى حقيقةً أم وهمًا في وهم… خصوصًا أنه تعوّد أن يتجول في بعض أرجاء الهضبة حيث، كما تقول إشاعة في القرية، ثمة أريج وهيج منتشر يسبب هَلْوسة لدى كل من يشمه… على أنه أكمنَ في خِزانة نفسِه، كل ما رأى، أو ما ظن أنه قد رأى، من صور هائلة، فلم يُطلع حتى زوجته على هذا الأمر، خشيةَ أن يخونَها قلبُها من الخوف، أو رجاء ألا ينكشف سره وإلا ستدركُه الأخيِلَة… فللحفرة هذه حرمةٌ في أعين السكان، فهي أشبه بتابو يُحرّم الاقتراب منها!
إنها حجرُ أساس القرية… لكن، يُعتقَد أن تحتها – وهنا تكمن القشعريرة – ثمة مدينة عامرة بالكائنات الأثيرية… هذا ما يتداوله بعض الأشخاص في مجالسهم الجماعية، بعضهم يقول إن أغلب الذين تم إلقاؤهم في الهاوية كانوا أحياء، والآخر يظن أنهم يموتون خنقًا في أثناء طمرهم… وحين راح يجلس في مقعده، سألته زوجته إن كان وجد نسخة من الكتاب الذي كان يبحث عنه. أكّدَ لها أنه اشتراه، أمس، من مكتبة «المرآة السوداء»، ثم أضاف: «حسن أنك سألتِ.. إذ كنت قد نسيته في جيب المعطف»، وفيما هو ينهض ليأتي بالكتاب… توجّسا معًا هذه المرة وفي آن واحد – نبْأةً، جرْسًا، صوتًا خفيًّا غير معهود… الأَمرُ المُفزِع هو أنهما سمعا شيئًا له نبرةٌ تثير القلق… لم يستطيعا تمييزه أو تحديد مصدره، ولكن من الأكيد أنهما سمعاه فعلًا! أسرع الرجل إلى تقْفيل الباب والنافذة… ثم صعد إلى العليَّة، وراح ينظر، من خلال كوّتها، إلى الشارع، أسفل الهضبة.
كان خاليًا. فقلما يعمل أحد، في ساعة كهذه، خاصة في يوم عطلة رسمية، باستثناء سائق شاحنة القمامة الذي كان منهمكًا في تحميل شاحنته بأكياس القاذورات التي وضعها أحياء القرية أمام بيوتهم لهذا الغرض، وسائق سيارة رشّ الماء في الطرقات لغسل الشارع مما كساه من أتربة… تابع النظر أبعدَ… ثم عاد يتفحص، بعد أن فرك عينيه، الحديقة، سياجها والعراء المجاور… لا أحدَ ثمة، لا حركة ولا صوت سوى خرير مسيل مائي يسقي الحديقة… كل شيء كان في هدنة مع الصمت… لاحظ أن الأغصان تحتاج إلى تشذيب، وأن بعض الأزهار ذابلة ففكّر في ضرورة قصها، وَعدَ نفسه بأن يقوم بكل هذا بعد الظهر… عاد إلى الطابق الأرضي، شرب كأس ماء… أخذ يراوح مكانه مفكرًا كأنما يدور في ضلالة… ثم غضّ النظر وكأنه لم يسمع أي شيء.
دخل غرفة مكتبه وتناول الكتاب، ثم عاد إلى الصالة وجلس في مقعده، وطفق يتصفح الكتاب الصغير الذي يروي، على شكل حكاية مجازية، تاريخ القرية وكيف شيد جبابرة الحفرة بيوم واحد ينتهي قعرها بصلصال يفضي بكل من يُلقى فيها، مباشرة، إلى العالم الآخر… وفيه فصل، مقتضب وبلغة معقدة، أحيانًا عن قصد، حول السلطة الخفية وكيف تتجلى على شكل شرارات تعيد الأمور، بحريق، إلى نصابها في حال الاضطرابات والشكوك… وكيف تحبس هذه السلطةُ، بيمينها، الريحَ المسماة «هائمة»، والماء بشمالها… ولو رفعتْ شمالها لزخرت المياه وتلاطمت وأغرقت القرية ومن عليها، ولو تطلق «هائمةَ» لنسفت مَن في السماء ومَن في الأرض…
في الحقيقة إنه لم يشتر الكتاب من أجل هذه المعلومات الأسطورية، وإنما لأنه يتضمن، حسب ما سمع، معلومات دقيقة حول العالم الآخر… له توق كبير إلى معرفته… أهو مدينة، صحراء، أم مغارة؟ ألا يمكن أن تكون القرية هي العالم الآخر… وفيما كان مستغرقًا في تقليب الكتاب بحثًا عن إجابة عن سؤال واحد من كم الأسئلة التي تدور في ذهنه… تحسَّس بشيء يلوذ بالحائط الخلفي للمنزل، وكأن حيوانًا ضخمًا يخدش بأظفاره الإطار الخشبي أسفل الحائط ويريد قلعه! ظن أنه ضبع… توجه إلى مخزن الأدوات المنزلية، يقع تحت سلم الطابق الأعلى…
فراح يبحث بين محتوياته من المطارق والفؤوس وباقي القطع المعدنية عن شيء صلب، فلَمسَ بيده فأسًا مخلبيّة عتيقة كان قد اشتراها قبل سنة لقطع أُرُوم الأشجار إلى حطب لموقد النار… أخرجَها وسارَ بها إلى الباب الخلفي، وقبل أن يفتحه، طلب من زوجته أن تصعد إلى الطابق الأعلى وأن تختبئ تحت السرير، «لا تخرجي إلا عندما أناديك»، قال لها…
وما إن وضع قدمه اليمنى خارج الباب، حتى علَقَ ناظِراه بشيء غريب، شيء معفَّر بالتراب، يزحف بمحاذاة حائط المنزل، ويتنفس بشكل متقطع، كأنما ثُعبان مُبينٌ خرج من غار السنين. إنه الجثة التي أُلقيت في الهاوية ساعةَ الفجر… لها أصابع منشبة كالبراثن… ويظهر أن نبشها استغرق قرابة ساعتين لتخرج من مكان جانبي على مبعدة نصف متر من الغطاء الحديدي… ها هي تفتح عينيها لتتفحص حواليها، راحت تحدق في وجه الرجل وكأنها تريد أن ينفذ نداؤها من عينيها إلى قلبه فيرحم! أخذت تَنْأَم… فداخله خوف مروع، جعله غيرَ قادر على الإتيان بحركة، بحيث ظل لابثًا في مكانه، مذْعُورًا فَاغِرَ الْفَم، مضطرب الذهن…
لم يقدِر أن يتقدم أو يتأخر… كانت الجثة تقترب وهي تتنفس بمشقة، ومع أنها باتت على بعد خطوتين منه، لكن لا سبيل له للتعرف عليها، إذ كانت جد معفرة بالتراب… لم يبق له وقت للتفكير فيما يجب أن يعمله، فجعل يرفع الفأس ويشهرها بكلتا يديه – في هذه اللحظة سرت رعدة في كل ما كان لا يزال حيًّا في الجثة – ثم هوى بالفأس على رأسها كَرَّةً بَعدَ كَرَّةٍ إلى أن لم يعد لها نأمةٌ تُسمع! تقهقر… أخذ نفسًا عميقًا… كانت هناك دَكَّة قُرْبَ الباب، جلس عليها ثم ألقى الفأس الملطخة بالدم على الأرض…
رفع رأسَه عاليًا ليتنشّق نسيمًا مُنعشًا يهب من المروج المحيطة، فلاحظ عصافير تمر مرفرفةً بأجنحتها، تابعتها نظراتُه حتى تلاشت… لكن هذا الشعور بالاسترخاء المشوب بالنفور، فيما هو يجيل البصر في الجثة المهشمة الرأس التي ظل الدم ينزّ منها حتى اختلط بالتراب فشكل بقعة طينية ذات لون بني، سرعان ما بددته علاماتُ الأسى التي نشأت تكتسح تجاعيدَ وجهِه وكأنما أخذ يتنبه لجريرة لم يفكر يومًا ما بارتكابها… وأخذ يتكلم مع نفسه: «آه، كم أنا آسف لقتلي هذا الطيف الوافد من العالم الآخر… لم يكن لي حيلة في الأمر… إذ مساعدة فار من الهاوية جناية كبرى، لكنني أشعر بالندم الشديد على أمر واحد هو أنني أسرعت في قتله، إذ كان عليَّ أولًا أن أسأله عما رأى، عن السر الذي ساعده في نبش التراب لساعتين دون أن يختنق؟ كيف استطاع الخروج من الهاوية؟ هل رأى العالم الآخر يا ترى؟» استغرق في تساؤلات مبطنة بشكوك محرّمة، مدمدمًا: «إنه لغز عجيب… لغز يمكن لحله أن يقلب حياةَ القرية رأسًا على عقب ويغيّر نظامها…» صمت، وتلفت يمنة ويسرة، ثم قال في سريرته: «لحظة… قد تكون هناك خطة وراء كل هذا.. ربما أهل الدليل لم يلقوا به في الهاوية، وإنما تركوه قرب المنزل شبه ميت، عن تصميم وقصد، لاستشفاف نوايانا…! ربما ثمة سببٌ آخر أكثر منطقية، لا أدري… لم يعد لذلك أية أهمية…
الآن، لقد فات الأوان!… وعلى حين غرة، تذكر زوجته، فأنشأ يتعجل في النهوض: «حريٌّ بي على الفور أن أعلمها بإمكانها الخروج من مخبئها، فالحال تنذر بما لا يُحمد عقباه!» وما إنْ همَّ واقفًا، حتّى سقطت عليه الأخيِلَةُ، فبدا كأنه وراء قضبان! فأخذوا بخناقه… خارت قواه إذ أدرك، وهم يسحبونه إلى الهاوية، أن لا مفر ثمة بعد… فهو، على ما يظهر، «شرير إبطاني» تنتظره «هاوية الحكم»! ومع هذا حاول أن يروي لهم حقيقة ما حدث، موضّحًا الإشكالية التي جعلته يتصرّف «وفق قانون…»، توقف لحظة ثم أكمل بنبرة جد منخفضة «… الخوف»!
أنشأ يقسم أنه قتلَ الطيف العائد، عن طريق الخطأ. لكن «أهل الدليل» لم تكن لهم لا آذان ولا بِنْت شَفَةٍ لينبسوا بها كبادرة حوار… وإنما كل ما كان لديهم هو حبْلٌ ربطوا به الكيسَ الضخم الذي أَدْخَلوه فيه بشدة، وحملوه إلى حافة الهاوية حيث تتفكك الجثث، من ثم رفعوا الغطاء، وألقوا به في قعرها… فندَهَ ندْهة شقَّتِ ترابَ الهضبة مُندفعةً عبر حُفر الحديقة والمزاريب حتى صافحت سمعَ زوجته المختبئة تحت السرير وقد أخذتها الرعدة، فانحدرت الدموع من عينيها وراحت تصيح، متسائلة بأعلى صوتها: «أين أنت… أين أنت»… لكن كيف يمكن له أن يسمعها وهو قد انزلق نزولًا إلى ما تحت الأرض الدائرية؛ إلى ما قبل تاريخ القرية حيث فضاء يرنو عليه السكون، حسب ما جاء في الكتاب الذي كان قد اشتراه، لا طيور فيه، لا شمس ولا قمر… وإنما بقايا كائنات مصغرة إلى كتل جد ضئيلة معلقة بأوتاد تهزها، ذات اليمين وذات الشمال، رياح شديدة الهبوب لم يَعهَدها أحد من قبل!
III
في تلك الأثناء، قررت الزوجة أن تخرج من تحت السرير… دفعت بنفسها إلى الأمام، حتى استطاعت أن تنهض… كان باب المنزل مفتوحًا… وقفتْ عند العتبة ولم يكن ثمة أثر لدم الجثة، كان كل شيء في مكانه كالعادة… دارت ببصرها هنا وهناك وهي تردد «أين أنت… أين أنت!» ظلت تكررها حتى وجدت نفسها تنزل منحدر الهضبة باتجاه مدخل الشارع، هائجة، شبه مذهولة تتلفت يمنة ويسرة بحثًا عن زوجها. أخذت تصيح: «لقد قتله أهل الدليل… لم يرتكب أية جناية»… لم يكن هناك سوى عدد قليل من الناس… اعتبروها مجنونة… فتح البعض النوافذ ثم سرعان ما أغلقوها غير مبالين.
وهذا ما لم تجرِ به العَادَةُ حين يحتج أحد ضد السلطة الخفية… لمحتْ في منتصف الشارع قرب مكتبة «المرآة السوداء»، خيالًا مر بشكل خاطف… مشت صوبه بما أنها لم تعد تخشى العواقب. لا أحد ثمة. كرّرت: «أهل الدليل قتلوا زوجي بلا دليل!»… خطرت في بالها الحفرة، استدارت ثم صعدت الهضبة آخذةً الممر الذي يفضي إليها… وحين وصلت… حاولت أن تزيح الغطاء الحديدي. لم تقدر. أسندتْ أذنها على الغطاء علها تسمع شيئًا؛ كلمة… لا شيء! عادت أدراجها إلى المنزل. دخلته وجلست على كرسي واجمة التفكير، لا تعرف ماذا عليها أن تفعل… أشعلت سيجارة… وطفقت تدخن تدخينًا ينم عن تأمل؛ عن رغبة في الانتقام… أخذتْ كتابًا… تصفحته دون أي تركيز… ألقتْ به على الطاولة. ثم تابعت التدخين.
نهضت… تمشت بضعة أقدام… نظرت إلى رفوف الكتب طوال الحيطان وقالت في سريرتها «ما نفعُها الآن؟»… طفقت تنظر في المرآة التي تتوسط الرفوف، مسّت بيدها التجاعيد أسفل عينيها… شعرت بحرج أمام نفسها… وما لبثت أن جلست من جديد… فأصابها شرود جعلها تستسلم، في خاطرها، لذكريات بعيدة… رأت نفسها كيف كانت، وهي صغيرة، تلاعب كلب الجيران وتلاحقه في الشارع، وكشابة في مقتبل العمر كانت تقضي ساعات طويلة في أندية القرية مع أصدقائها وفي جو آمن… وكيف آنت لها فرصة العمر التقاؤها بزوجها في حفل أقامتها عمتها لبعض شخصيات القرية…
لم تنسَ كيف وقعت في غرامه حين أخذ يحدثها، في ليلة زرقاء، في الحديقة تحت ضوء القمر، عن الزواج بين الكواكب والنجوم وهو يشير بأصابعه إلى نجمة الراعي التي ظلت تلاحق زحل سنوات قبل أن تقترن به… وبغتةً وقع في سمعها اصطفاق باب السرداب، وما إن التفتت صوب السلم المؤدّي إليه… حتى ومضتْ في ذهنها فكرة بعثت فيها شيئًا من الأمل… تذكرت أن زوجها فكر مرة بحرق الحفرة ليرى ما يحدث، وقد اشترى لهذا الغرض تَنَكة بنزين… لكنه لم يجرؤ على ذلك لاعتبارات أخلاقية مفضلًا طرقًا أخرى لكشف سر القرية، كالقراءة أو التنقيب الأثري… وتخلى عن الفكرة…
أما هي فإنها تختلف عنه، تريد جوابًا سريعًا، لا سيما في هذه اللحظة الراهنة… أخذت تدمدم «مثلما الهاوية تنادي الهاوية، فاليأس كذلك ينادي اليأس»… لقد ألهبتها هذه الفكرة حد النزول إلى السرداب بحثًا عن التَنَكة فوجدتها مركونة في زاوية وراء دولاب عتيق مهجور، والتقطت عتلة للخلع… صعدتْ بهما إلى المطبخ. كانت التنكة ثقيلة بعض الشيء إذ تحتوي على لترين من البنزين… توقفت ثم أخذت ولاعتها وأشعلت سيجارة ثانية، سحبت نفسًا عميقًا…، ثم حملت التنكة والعتلة، وسارت، على نحو وئيد خوفًا من السقوط أو الانزلاق، فممرات الهضبة كلها متعرجة تكثر فيها الأحراش… وحين باتت على مبعدة مترين من الحفرة… أخذت تتفحص الأنحاء… هدوء تام، لا أحد هناك… تذكّرتْ: «قلما يكون ثمة أشخاص قرب الهاوية»… فالهضبة، في حقيقة الأمر، منطقة شبه مهجورة… وضعت التنكة على الأرض بعد أن فتحتها، فراحت تبحث، وفي يدها العتلة، عن قفل غطاء الهاوية لخلعه… لم تجده أو بالأحرى لم يكن هناك أي قفل… طافت، وهي تدخن، حولها بكل تؤدة، بحثًا عن ثقب يمكن لها أن تصب فيه البنزين… لا شيء ثمة.
شعرت بعطر يخترق خياشيمها… أخذت تشعر بالإعياء… ألقت عَقِب السيجارة، بعد أن دخنت الجزء الأكبر منها، على كومة من الأحراش، دون أن تفطن إلى أن ثمة لوحًا في مدخل الهضبة كتب عليه: «جمرة سيجارة كافية لبدء حريق مدمر!». لكن، بسبب حركة مفاجئة، اصطدمت رجلها بالتنكة فانقلبت وأخذ البنزين يسيل منها باتجاه الجمرة الكامنة تحت السيجارة فاندلعت نار صغيرة سرعان ما أخذت بالتوسع والازدياد… ناهيك عن أن الهضبة تمتلئ بالهشيم في الصيف، وشعاع الشمس الحراري، في هذا الهجير، كان قد هيأ، سلفًا، جانبًا منه للاحتراق السريع… وجدتْ نفسها محصورة مسندة الظهر إلى جدار الهاوية…
أخذت تصيح: «النجدة!» «النجدة! ألن يأتي أحدٌ؟» أحست بالعطر… وبغتة رأت زوجها خيالًا بين أخيلة يلوح لها وكأنه يطلب منها الانضمام إليه… فرَكَتْ عينيها، نظرتْ من جديد… ما من خيال سوى تموجات لعاب الشمس الذائب حيث أخذت النار تلتهم يابس النبات والشجر… لم يكن هناك أحد يهب لنجدتها… لا خرطوم إطفاء ولا جرة ماء في متناولها… لا شيء… حتى زوجها بدا، كما مر في خاطرها، مشغولًا كالعادة في فك ألغاز القرية بمعادلات رياضية، غير آبه بها… تساءلت في قرارة نفسها، وهي عاجزة عن إيجاد مخرج من هذا المأزق الناري الذي بدأت تنبعث منه أدخنة غريبة راحت تخنقها وفي الوقت ذاته تخفيها عن نواظر سكان القرية: «ما هو شرّي الميتافيزيقي؟»…
سؤال عاد بها إلى أيام كانت تلميذة وسمعت هذا السؤال: «ما الشر الميتافيزيقي؟»، للمرة الأولى… وكانت هناك إجابات عديدة، لكنها لم تكن إجابات حاسمة وواضحة… بعضهم قال: «هو سلوكنا حين يكون وجودنا في حقل ضيق!»، والآخر: «حين يقضي المرء على التناقض فيه ويدرك كمالًا يصيّره إلهًا فتتاح له حرية الاختيار المطلقة حيث يكمن الشر الميتافيزيقي»، وقال آخر «إنه التدخل في شيء غير مرئي!»، إلخ… شعرتْ أن رجليها لم تعدا تتحملانها… وما هي إلا دقائق حتى أغمي عليها، ثم سقطت على الأرض فأمسكها الشرر الطائر من ثيابها، والتهمت النار جسدَها… كان الديكُ يصيح ويصيح، على الجانب الآخر من الهضبة، فخرج السكان أجمعين، مستغربين تكرار الصياح في هذه الساعة المتأخرة… وفيما هم يحدقون في تموج اللهب وكأنه أعلام ترفرف فوق قلعةٍ، امتدت النار لتشمل المنزل دون أن تذهب أبعد كأنما أحد كان يمنعها… حتى شب في المنزل حريق هائل دمّر كل محتوياته فتداعى إلى مجامرَ ورمادات…
كان ثمة طفل يلعب على جرف النهر مع زوارقه الورقية… نهض وأخذ ينظر إلى ما وراء حدود القرية؛ إلى الوهاد والحقول والأراضي البور والمياه… حتى استقر بصره على منزل المرتفعات… فجمجم: «لا أثر هناك لكائن!» ثم جعل يركض باتجاه زقاق فرعي، محاولًا الالتحاق بزملائه من الطلاب!
بواسطة عبدالقادر الجنابي - شاعر وكاتب عراقي | مايو 1, 2020 | نصوص
هناك دومًا عُصبة مكوّنة من ثلاثة أو خمسة أشخاص يجمعهم هوى مشترَك تتآلف فيه مصالحهم ورؤاهم… ومع أنهم يتذرعون بكل ما لديهم من حصافة تدل على تماسكهم، فإنّ هناك على الدوام نهايةً لهم غير متوقّعة حتى من لَدُنِ القدر؛ نهاية دون إعداد مُسبق تشتتهم وكأنهم لم يلتقوا من قبل… أحمد كاتب روائي دائم البهجة له كَرشة بارزة. علاء مسرحي حقق بعض الشهرة، يعمل بجد على تحقيق طموحه، لحيته في بداية نموها لا تزال صغيرة… ومازن شاعر نظراته تندّ عن عينين حالمتين، له مجموعة شعرية واحدة نالت إعجاب بعض النقاد. تعوّدوا أنْ يجتمعوا، كلّ أسبوع، على هذا الجسر… فيتكئ أحدهم على سياجه، قرب دكّة صخرية تتسع لاثنين يجلس عليها الآخران… فيشعرون، بعيدًا عن أعين المشككين، وكأنهم في مقهى أدبي خاص بهم لا تنقصه سوى الطاولة وأقداح الشاي… يُصحح أحدهم نص الآخر (فمثلًا، مازن يضبط أوزان الأبيات الشعرية التي يُدرجُها علاء في نصوصه المسرحية)، فهم يعتقدون أنّ النصوص العظمى تكاد تكون، في أحوال عديدة، نتاج «اختلاط القرائح» كما يقول علاء، أي أنها عظمى ليس بفضل مؤلفيها وإنما بقدر ما بفضل التشطيبات والتغييرات التي يجريها صديق لهم على المخطوطة أثناء قراءتها، كباوند مع إليوت، وكبليز سندرار الذي اقترح على أبولينير أن يغير عنوان مجموعته الشعرية الجديدة، قبل أن يرسلها إلى المطبعة، من «ماء الحياة» إلى «كحول» فاشتهرت بسبب هذا العنوان… ذلك أن Alcools تنطوي على شحنة طليعية عصرية تفتقر إليها كلمة Eau de vie… وبكونهم يتابعون بشكل دؤوب حركات الأدب الطليعي فإنهم يعرفون كم من دور حاسم لكلمة واحدة في بناء أدبي اختيرت بشكل صائب… فـ«الكلمة»، كما يقول مازن «هي كل آلة المخيلة»… يقرؤون كل ما يقع تحت أيديهم من أدب مترجم؛ يقدحون زِنادَ فكرهم تحت وهج الشمس، هذا يتباهى أنّه قرأ يونسكو، والآخر رامبو وذاك جاك كيرواك… مقهقهين من حين إلى حين، وأحيانًا بصوت عالٍ، غير مبالين، بل فرحين، في أنّ يُنظر إليهم كبوهيميين… وأن محياهم يدلّ على ارتياحهم في كونهم من جيل هذه الفترة الحاسمة من تاريخ بلدهم الضائع بين الأمر الواقع، وبين أحلام غالبًا ما تنقشع انقشاع الغيوم في أفق النهر، رغم أميال من الورق وأنهارٍ من الحبر المُسال، والمقهى الصغير الواقع في مركز المدينة هو الدليل على أنّ لهم مكانة أدبية عالية بحيث حين يدخلون المقهى ليلًا يشعرون بتعاليهم، وهم يضحكون في أعماقهم، أمام هواة يبحثون عن الشهرة عبر صداقات وهمية معهم!
لقد تعارفوا في مؤتمر غريب، إذ تلقى مازن، ذات يوم، دعوة لحضور «مؤتمر البطرانين» جاء فيها: «… بعيدًا عن التنظير والادعاء بتقديم حلول… دائمًا كانت كارثية… وانطلاقًا من أنّ للقطيعة مع الذهنية الماضوية بدايةً وما عداها شرحٌ وإسهاب، ندعوك إلى مؤتمر البطرانين العادي الثالث الذي سيجري في منطقة نائية… وإذا وافقت على المشاركة، ستزود بعنوان مكان اللقاء والموعد المحدد للمؤتمر، وهويتك الرقم 19… وعليك ألَّا تكشف عن رقمك أبدًا، وإنما أن تتعارف في المؤتمر مع الآخرين بواسطة اسمك الحقيقي، وأن تحتفظ دائمًا بسرية هويتك؛ رقمك، لنفسك». وأجاب مازن بأنه موافق، فوصلته رسالة ثانية فيها عنوان وموعد اللقاء ومجموعة الأرقام المدعوة ما يقارب أربعين رقمًا… نظر مازن في الأرقام وقال في نفسه يا ترى من هو رقم 14، أو 87 أو 3… وراح يتأمل في الفقرة الموضوعة بين أقواس صغيرة تحت العنوان: «البطران هو الكائن السائب الذي له حقوق وليس عليه واجبات. كحق تأمل ما هو مبتذل ومستهان به ومألوف لا غير…» طوى الرسالة وأدرك أن عليه أن ينتظر يوم موعد انعقاد المؤتمر… فيأخذ قطارًا ثم باصًا وينزل في المكان المحدد في الرسالة، وهو منطقة معزولة أشبه بغابة… سار مسافة بين الأحراش، شعر بهواء منعش راح يزيد من طاقة مخيلته وضجيج أصوات يتناهى إلى سمعه… فرأى كشكًا لبيع مشروبات الفواكه والمياه المعدنية وبعض السندويتشات… وأشخاصًا على شكل حلقات تضم كل حلقة أربع أو ست يتبادلون الابتسامات والكلام: «لا محاضرة ولا مناقشة؟» علّق أحدهم، فأجاب آخر: «مجرد تعارف وتأمل هذه الأعشاب والأشجار!» اشترى مازن قنينة ماء وسار بضع خطوات حتى قارب حلقة من شخصين، وقدم نفسه: «اسمي مازن الراوي (إذ يجب على كل مدعو أنْ يقدّم نفسه باسمه، وألَّا يكشف عن رقمه أبدًا) فأجاب الأول: «أنت مازن الراوي، الشاعر؟ أنا علاء سالم… أنا واحد من المعجبين بك… لم أكن أتصور أني سألتقي بك هنا…»، وقال الثاني: «أنا أحمد فنجان، سعيد بكما الاثنين… لقد قرأت بعض ما نشرتموهما»، تدخل علاء قائلًا: «لقد قرأت روايتك حول أطفال المستنقع، وقد وجدتها معالجة باهرة بأسلوب حديث لمشاكل تعتبر تقليدية…» قاطعه مازن: «ماذا تحبون أن تشربوا؟» «كوكا…» قال علاء: «ماء معدني…» قال أحمد وتابع قائلًا وهو يتأمل المكان يمنة ويسرة: «مؤتمر جميل لا ثرثرة فيه ولا اقتراحات مزعجة، لا ينطوي على أي شيء سوى تأمل المكان لفهم الأشياء المستهان بها كأشياء عادية مبتذلة، واللقاء بأشخاص لا تعرفهم وتدردش معهم وكأنهم رفاق منذ زمان طويل والغريب تجد نفسك على اتفاق حول أية نقطة كانت مع هذا الذي تتناقش معه… وثم… كلّ يودع الآخر عائدًا أدراجه… إنه التعارف بأنبل الطرق!» وفجأة وقف أحد منظمي هذا المؤتمر فوق جذع شجرة كبير، طالبًا من الجميع الإصغاء إلى ما سماه بـ«بيان المؤتمر»: «جرت وقائع مؤتمر البطرانين العادي على النحو التالي: انتظرَ المشرفون حضرة المدعوين وبعد الترحيب بهم، راح المدعوون يتعارفون واحدًا إلى الآخر. هذا كل ما في الأمر… وإذا فكر أيُّ عضو أنّ هناك شيئًا آخرَ وراء كلّ هذا، فسوف تُنزع منه صفة البطران ويُمنع من حضور المؤتمرات المقبلة… لكنّ البطرانين الحقيقيين سيجدون المؤتمر متلائمًا مع أهدافه الراهنة وهي: لقد شبعنا نظريات حل المشاكل ولا نريد إضافة فصل جديد في باب الحلول… هذا كل ما في الأمر ليس هناك شيء آخر… سوى واقع أشبه بغاب مفتوح على كل الآفاق! ذلك أنّ ثمة لحظات تاريخية يجب أن تعاش ضمن سيرورتها هي أي أنْ لا نحبسها في حضيرة ايديولوجية وكأنها بقرة يجب حلبها!» وبعد أن شكر الحاضرين على مجيئهم، نزل ملوّحا بيده تحياته وهو يقول بصوت عالٍ: «نراكم في المؤتمر المقبل…»، ثم اتجه صوب موقف الباص، وهناك من تبعه مباشرة وهناك من بقي وقتًا يتناقش مع آخرين… وكان هناك أشبه بثلاثي غنائي. راحوا يغنون أغنية مكونة من بيت واحد يكررونه مع دق رتيب على طبلة: «هذهْ ليستْ أغنية حب، هذهْ ليستْ أغنية حب، هذهْ ليستْ أغنية حب، أغنية حب، أغنية حب…»! اقترح مازن، قبل أن يفترقوا، على أحمد وعلاء أنْ يلتقيا في بيته في يوم الغد قائلًا لهم:
«… هذه فلتة صداقة قلما تحدث… لقاء فالت من كلّ تصميمٍ مسبق كهذا استطاع أن يجمعنا أكثر من كل المنابر التي ننشر فيها… أشعر أني أطفح بأفكار وصور لم يكن لي وعي بها من قبل… بفضل هذا المؤتمر أخذت تبرز هذه الأفكار…» ورد علاء، «بالفعل لدي الإحساس نفسه شخصيات وهمية غريبة تلعب في رأسي…» قاطعه مازن معقبًا «يجب أن يتعرف واحدنا إلى الآخر بشكل أعمق…» والتقوا، فعلًا، في بيت علاء على الغداء وبعد مناقشة طويلة اقترح أحمد أن يكتبوا الآن بيانًا يعلنون فيه تشكلهم كعصبة أدبية لها أهداف جديدة، أنهوه بالعبارة التالية: «يجب أن يكون للكتابة دورها هي لا الدور الذي يعطى لها من الخارج؛ أي أن تختار ذاك المرمى الممنوع لتثبت فيه بالذات سهمها!» وتم نشره في الملحق الثقافي لجريدة «الزاوية» هكذا باتت أواصرُ الصداقة بينهم متينة منذ ذلك اللقاء… يدافع واحدهم عن الآخر، يقاطعون معًا المجلة التي لا تعجب أحدهم، هذا يمدح ذاك، واحدهم يطلع على نص الآخر… وكتبوا، ذات يوم، نصًّا مشتركًا يبدأ الأول بكتابة فقرة لا يهم قصيرة أو طويلة يكملها الثاني بفقرة جدية وينهيها الثالث ويعيدون الكَرَّة إلى أن يشعروا بإعياء ويتوقفوا عن الكتابة. وحين نشروه تضاربت الآراء فيه، هناك من اعتبره نصًّا رؤيويًّا والآخر اعتبره مجرد ثرثرة… هكذا كرت الأيام في حركة دؤوبة؛ لقاءات ونقاشات وكتابات أشبه ببيانات ومعارك شبه يومية مع أعوان الثابت. لقد ضمهم معًا حلم تتخلله أشعة الخيال الباهرة ففتحت لهم آفاقًا كتابية لم يعرفوا مثلًا لها من قبل… لكن مجتمعهم ظل -كما هو- مسدودًا، يتصرف فيه الكائن كبقية الناس؛ وكما يقول المثل ما كان الإبداع يومًا سريرًا من الزهور وإنما هو دومًا منطقة محفوفة بالمخاطر، مخاطر تسببها أشياء عادية تافهة، مكتسبة.
وها هم اليوم يلتقون هنا عند هذا الجسر العتيق على أمل أنْ يلهمهم، كما في المرات السابقة، بأفكار يظنونها جديدة فيدونونها رؤوسَ أقلامٍ يشتغلون عليها فيما بعد، فرادى، في غرفهم المنعزلة الشبيهة بأكفان…
راح نسيم يهزّ أوراقَ أشجارٍ على مبعدة من الجسر، أحدث حفيفًا غريبًا كما لو كان نذيرًا… حفيفًا لم ينتبهوا إليه؛ إذ كانوا في حمّى أثيرهم التنظير… تابع علاء قائلًا: «المهم أنا لا أشرع في الكتابة إلا عند الغروب؛ لأنه مطابق لمنصة المسرح: انطفاء الأضواء ورفع الستارة… ودخول جوقة الممثلين!».
قال أحمد معارضًا:
لا وقت أصفى من الضحى للتركيز على كتابة ورقتين أو ثلاث من رواية طويلة… بسرد تخييلي يحوّل شخصيات وهمية إلى أبطالٍ حقيقيين!
أما مازن فقال:
طبعًا أنتما تعرفان… أنّ الشاعر شيطانه القمر. أبدأُ بالأبيات الأولى في مآخير الليل حين يضيء القمر السماء، وعند تباشير الفجر الأولى أنتهي منها…
صمت ثوانيَ، ثم تابع مستدركًا:
لكن في أغلب الأحيان، تأتي الأفكار الناضجة والجديدة في أوقاتها هي، ومن دون إنذار: ليلًا وأنت على وشك النوم، ظهرًا وأنت تتغدى أو عصرًا وأنت تتمشى… لا وقت محددًا للقريحة الإبداعية…
عقّب أحمد قائلًا:
خذ رزمة أوراق بيضاء وابدأ بكتابة كلّ ما يمر في ذهنك… لا تعرقل سير ما تجيئك من أفكار… التنقيح يأتي فيما بعد…
أخرج أحمد كتابًا مغبر الشكل تكاد صفحاته تتفتت، وقال:
مرّيت البارحة بمكتبة ابن خلدون… احزروا ماذا وجدت؟
«ماذا؟» سأله علاء.
أجاب أحمد وهو يريهم الكتاب:
طبعة إنجليزية قديمة لكتاب عبدالله الحظرد «العزيف»… يقال: إنه كان يستنطق، تحت تأثير المخدرات، الموتى فيكشف عن جغرافيات قديمة لم يعرفها التاريخ البشري…
وجه علاء سؤالًا إلى أحمد:
وماذا تعني كلمة «العزيف»؟
ردَّ عليه أحمد موضحًا:
كلمة «العزيف» تعني صوتًا في الرمل لا يُدرى مأَتاه، وتعني أيضًا صوت الأرواح والجن… أي عويل الموتى…. وهذا عنوان ذكي يربط بين الرمال والأرواح فيوحي بعالم القبور… المهم مفتاح الكتاب هو هذا البيت الشعري المذكور على الغلاف:
لا ميتًا ما قادرًا يتبقى سرمدي
فإذا يجيء الشذاذ الموتُ قد ينتهي
قاطعه مازن قائلًا، وهو يسحب أوراقًا من حقيبته الصغيرة:
أوه، دعونا من هذه الخرافات… إلى اليوم لم يُعثر على النسخة العربية الأصلية لكتاب الحظرد المزعوم… القصة كلّها، في نظري، تأويل مبالغ فيه احتاجه الكاتب الأميركي لوفكرافت لتعميق حالات الرعب في كتاباته، بل يقال: إنّ لوفكرافت هو الذي ابتكر البعد الأسطوري لهذا الشاعر اليمني الذي لم يعثر أحدٌ على أي شيء له في هذا المجال…
تدخل علاء في النقاش واقترح لأحمد بنبرة ساخرة:
لماذا لا تفتش في كتاب «وَفَـيَات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» لابن خلكان، عن اسم مغمور كليًّا تَنسُب له عملًا من صنيع خيالك بعد تدخين عدة سجائر فيها مخدّر…
وفي هذه الأثناء مرّ بهم صديق… سلّم عليهم واحدًا واحدًا، ثم سأل مازن عن نسخة من ديوانه الجديد… اعتذر مازن ووعده بأنّه سيأتيه بنسخة في الأسبوع المقبل… وبعد أنْ تركهم الصديق، قال أحمد لمازن:
حقيبتك مليئة بالنسخ، لماذا لم تعطه نسخة؟
رد مازن وهو يضحك:
هذا ليس بقارئ… إنه لص. لو أعطيتُه نسخةً لرأيتها غدًا منشورة باسمه تحت غلاف آخر… أنا تعبان من قراء لصوص…
فما تمالكوا أنْ ضَحكوا ضحكًا عاليًا حتى انقطع فجأة حين قال مازن:
أقدر الآن أقرأ عليكما القصيدة التي حدثتكما عنها البارحة؟
أجابه الآخران:
كلنا آذان…
ابتسم مازن ثم قال:
هذه قصيدة أبثّ فيها شوقي إلى كلّ ما هو حيّ… آمل أنْ أنتهي منها هذه الليلة في لحظة ابيضاض القمر فوق الكون!
وفجأة صرخ أحمد وهو يشير إلى قارب يكاد ينقلب في عرض النهر:
انظروا… إنّه مُنحنٍ من جهة… أتوقع أنّه سينقلب…
قام الآخران، اتكآ بمرفقيهما على سياج الجسر ورميا ببصريهما إلى القارب متبادلين الرأي في احتمالية انقلابه قبل وصول مركب الانقاذ… لم ينتبه مازن إلى أنّ ورقة مطوية سقطت منه، على الأرض، حين أخرج مخطوطته من حقيبته… وقد رآها أحمد، فداسها بحذائه ومن ثم وضعَ فوقها حقيبته… ثم أردف، ليشغلهما في النظر إلى القارب:
ألا توجد فرق إنقاذ لمساعدتهم؟
قال هذا، وهو يرفع حقيبته، قليلًا، ويدس يده تحتها، ملتقطًا الورقة، على غفلة منهما، ثم وضعها في الحقيبة، وجعل يعيد ربطَ رباطِ حذائه ليبرّر انحناءه… ثم اعتدل وأخذ ينظر معهما وهو يعلّق…
غريب… ولا حتّى قارب نجاة…
أجابه علاء:
بلى، ألمحُ في أفق النهر مركب الإنقاذ قادمًا…
وفيما يقلّبون أنظارهم في الفضاء المفتوح أمامهم متأملين مياه النهر وضفافه الشبيهة بمرافئ اللوحات الانطباعية، وعلى امتداد الساحل، الزوارق الصغيرة وصفوف المنازل… لفت انتباههم منظرٌ كأنّه لوحة زيتية لشابتين بالبيكيني متمددتين على رمال الشاطئ… ساد صمتٌ أبانوا من خلاله عن تحسّر على شيء لا يمتلكونه، شيء له علاقة بكل ما يثيره الجسد من صور غائرة في الأعماق… فكر علاء في اللحظة الوحيدة التي كان فيها مع امرأة في غرفة مغلقة… فسها عن الفكر غرقًا في مياه نشوة لم تتكرر قط… قال مازن بغتة، وهو يرتّب تسلسل المخطوطة:
اسمعا…
جلس علاء وأحمد على الدكّة بانتظاره أنْ يقرأ… لكن مازن قد توقّف حائرًا… إذ انتبه إلى أنّ ورقة من قصيدته، مفقودة… فأخذ يدمدم:
لا أجد الورقة التي فيها مطلع القصيدة… عجيب! لا بد أنّها سقطت عندما أخرجت الأوراق الأخرى…
ثم أخذ يدور حواليه وهو يجيل ببصره في الأرض، بحثًا عن الورقة… لم يجد شيئًا. ثم أردف يقول:
هل رآها أحد منكما؟
وفي هذه الأثناء، لاحظ أحمد، بمحض الصدفة، أنّ ورقة لونها أزرق، أيضًا، تتطاير على الرصيف الآخر، فقال لمازن:
ماذا تعطيني إذا قلت لك أين هي؟
رد عليه مازن:
لا شيء… قلْ لي أينَ هي؟
فهز أحمد رأسه هزّة رفض، وهو يقرقش البسكويت. إلا أنّ مازنًا الذي لا يحب مقالب أحمد، ظل يلحّ عليه وبلهجة حادة:
قلْ لي أين هي… هاتها وإلا أقطعُ علاقتي بك.. فهذا ليس وقتًا مناسبًا للمزاح…
وبعد سكوت دام دقيقتين كرر فيهما مازن تهديداته، عاد أحمد يقول:
لا أدري إذا كانت هي ورقتك أم لا…
توقف للحظة وهو يمسد شفَتيه بأصابع يده مُزيلًا ما تبقى عالقًا من فتات البسكويت، ثم أردف يقول:
رأيتُ قبل دقائق ورقةً تطير صوب الرصيف الآخر… انظر هنالك… الورقة التي يدوسها الآن برجله ذاك الأفندي. ربما هي… ألا تراها… هناك..
رد عليه مازن وعينه على الرصيف الآخر:
أين… أوه، نعم أراها… أعتقد هي… لونها أزرق… لحظة..
ودون أن ينتبه، هبّ يركض محاولًا عبور الشارع إلى الجهة الأخرى، فصدمه لوري صدمة عنيفة بحيث صار يتدحرج تحت إطار اللوري، فبدا، بعد أنْ نزل السائق ليرى ماذا حدث، كأنما يلفظ نفسه الأخير… لم يصدقا ما رأيا… ودمدم أحمد يقول، زائغ النظر:
كنت أمزح معه… كان مجرد مَقلب…
ألقى علاء عليه نظرة مستفسرة، ثم سأله:
ماذا تقصد…
أجابه أحمد قال، وهو يناول علاء الورقة المطوية التي أخرجها من حقيبته:
ورقته التي ضيَّعها هي هذه وليست تلك التي ركض وراءها…
بسطها علاء فوجدها صفحة فيها أبيات بعضها معلومة بالأحمر وكأنها تحتاج إلى تضبيط وزني:
«أحلامُنا
لم يطْوِها الضّوءُ الوقيح
أحلامُنا مَلأى بأَزْهارِ البَعيدْ
تُسقى بماء القافِلهْ
أحلامُنا
ذات الثّغور الحافِلهْ
مِن نَسغِها كونٌ يَميح»
سقطت دمعةٌ من عينه… نظر إلى أحمد شزرًا وراح يغلظ له القول! ثم رفع يده اليمنى، وخطا بضع خطوات، ووجه كلامه إلى أحمد بلهجة فيها شيء من التمثيل:
ابتعد عني… لن ألبّي لك بعد اليوم أمرًا!
وهذا الكلام يضمر شيئًا غير مريح لأحمد… فإنّ علاء كان قد وعده بأنّه سيساعده في تضبيط حوار طويل في روايته الجديدة التي ينوي نشرها قريبًا… لكن أحمد لم يُلقِ بالًا إلى ما قاله علاء… فقد بات في حال يرثى لها: متجهمًا، مربد الأسارير؛ نادمًا أشد الندم على فعلته التي سيحمل جريرتَها في ذاته إلى الأبد… وفيما كان علاء يُزجي نظرة أخيرة إلى مازن المضرّج بدمه على الأرض، كان القارب، قبالة الجسر، قد انقلب وكاد يغرق وسطَ النهر… فنشأت قطرات الماء والدم تتواثب تحت أشعة شمس على وشك الزوال….