كنت هنا من قبل
هذا الدرب أعرفه.. بعد العطفة الأولى، نخلة مائلة حتى ليخيّل للرائي أنها تتهاوى. سيلوح منزل أبيض مصبوغة شبابيكه بالأحمر. هاهو المنزل.. سوف أخطو إلى عتبته وأدق الباب، ولما لن يردّ أحد، سأدور حول السياج وفي الحديقة، سأرى أرجوحة حمراء اللون أيضًا.
هل رأيت كل ذلك منذ زمن بعيد فيما يرى النائم؟ ولكن أين الرجل الذي ينبثق فجأة من الباب الخلفي ليقول بخشونة «ابتعدي عن الأرجوحة أيتها الصغيرة، فدهانها لم يجف بعد».
ارتجّ الباب على حين غرة، وظهر على العتبة رجل ضخم، قال بصوت عابس «ابتعدي عن الأرجوحة أيتها الصغيرة، فدهانها لم يجف بعد».
مددت إصبعًا حذرة، ولمست قائم الأرجوحة، وانتفضت كالملسوعة… لقد تخضب إصبعي بلون أحمر مثل الدم.
وقفت مشدوهة، أحاول أن أجمع شتات نفسي. كل شيء كما حدث من قبل، مع اختلاف هائل.. لقد مضى على ذلك نصف قرن.. ولمّا يجف الدهان بعد؟
هممت أن أسأل الرجل. حدقت في عينيه. كانتا بلون البحر عند الفجر. أطلتُ النظر إليهما. كانت الزرقة الداكنة تدعوني إليها، فدخلت.
دخلت حتى لفحني نسيم الفجر، فارتعشت ولففت المعطف حولي. كم مضى من الوقت وأنا واقفة هنا على شاطئ البحر؟ أحس ببرودة الرمل الناعمة، تدغدغ باطن قدميّ العاريتين، تنداح الأرض تحتهما، فتغوص قدماي شيئًا فشيئًا، أرفعهما وأنظر إلى أثريهما، وهما يمتلئان بماء البحر.
كم فات من الزمن وأنا أسير بمحاذاة الجرف؟ يدهمني إحساس أنني سرت هكذا قبل كمّ من السنين، وعندما أصل عند تلك الصخرة سأجد خلفها غلامًا يرمي سنارته في البحر، وينتظر بصبر، وفي سلة صغيرة بجانبه، تنام سمكتان: واحدة كبيرة، وأخرى صغيرة.
سأقف عنده وسوف أسأل:
– هل أنت وحدك في هذا الوقت؟
وسينظر إليّ بارتياب، ويهزّ كتفيه. وعندما أسأله عن نوع السمك الذي في السلة، يهز كتفيه وسوف أتمتم «أنت لا تريد أن تكلمني»، وأرمي حذائي إلى الأرض، لأنتعله، وأفكر بأني أريد أن أرجع إلى البيت، قبل أن تفتقدني أمي.
قبل أن أبتعد عن البحر، ألقي نظرة إلى الوراء. أحدق بظهر الغلام. كان مازال ممسكًا السنارة ولكنه لم يعد ذلك الغلام.
أجد معالم رجل أعرفه. أتردد في أن أرجع، وأطل في وجهه، لكني في اللحظة التي هممت أن أفعل ذلك، شعرت بخوف أن تلتقي عيناه عينيّ، فقد تذكرت فيما يشبه الحلم، أنه كان منذ سنوات طويلة على ظهر المركب التي غرقت، ولم ينج منها أحد.
أسرعت أرتقي هضبة الرمل إلى الشارع. كدت أقع على وجهي، لكني سرعان ما تمالكت نفسي، وعندما اعتليت الرصيف، نظرت خلفي بوجل، كان الغلام يحمل سلته ويمضي مبتعدًا.
اصطدم بصري بزرقة البحر الذي بدأ يضيق.. كلما أطلت نظري إليه.. يضيق حتى صار بحيرتين، تضاءلتا، فإذا بي أحدق بعينين بلون البحر عند الفجر، وأفقت على صوت الرجل «لقد تأخرت كثيرًا.. لا أحد هنا» قالها بحدة، كان لها وقع اصطفاق باب في وجهي، فانقبض صدري للوحشة التي أحسست بها عندئذ.
أتراجع إلى الخلف، فيتلاشى البيت بسرعة، ويستحيل إلى نقطة تهرع إلى مكان ما في الأفق.
على الدرب الذي أعرف، رأيتني أسير مرة أخرى. في نهايته كان يلوح شراع أبيض يهفهف في نسيم الأصيل. بعد أن اقتربت، تبين لي أن الشراع كان ثوبًا أبيض يرتديه رجل فارع مهيب، يقف على شفا حفرة حاملًا فأسًا ضخمة يضربها في الأرض، فتتسع الحفرة وتتخذ شكلًا مستطيلاً وعندما يراني يشير إلى الحفرة بحركة حازمة، وبغير أن أتكلم، أنزل إلى الحفرة، ويشير الرجل ثانية فأميل إلى الخلف وأتمدد على التراب. هذا واحد من تلك الكوابيس التي تنتابني أحيانًا كثيرة، ولكني، مثل كل مرة، سوف أفتح عينيّ على سعتهما، فأستيقظ.
يزداد انهيال التراب على جسدي. متى كانت آخر مرة رأيت فيها مثل هذا الحلم؟ تتسع حدقتاي حتى تتوتر أجفاني. يغطي التراب صدري وتضيق الحفرة. أتنفس بصعوبة. إني أحلم.. سأفتح عيني هكذا.. بقوة.. هكذا..
لكني أكتشف بعد أن أُغلِقتْ الحفرة تمامًا.. أنني لم أكن أحلم!