طارق إمام يؤسس «مدينة الكوابيس» في «طعم النوم» رواية تستخدم «الميتافكشن» وتستعين بـ «الميثولوجيا»

طارق إمام يؤسس «مدينة الكوابيس» في «طعم النوم»

رواية تستخدم «الميتافكشن» وتستعين بـ «الميثولوجيا»

تُثبت الرواية العربية يومًا بعد آخر، جدارتها باهتمام القراء، في ظل ما نتابعه من تقدم معدلات قراءة الرواية، مقارنة بالشعر «ديوان العرب»، وأبرز سمات هذه الجدارة، هو أن فن الرواية لا يتوقف عن تطوير نفسه وتغيير جلده وتقديم أساليب وجرعات جديدة من المتعة، متبعًا طريق «التجريب»، من دون مراعاة تقاليد السرد الروائي التي ترضي ذائقة الجمهور وتُشبع «الجماليات المستقرة» للنقاد وأعضاء لجان تحكيم الجوائز الأدبية في العالم العربي.

وعلى عكس كثيرٍ من الميراث الأدبي للرواية المصرية، وبخلاف كثير من الملامح الروائية التي عمَّمتها كتابات أجيال أدبية عدّة، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بات لدينا اليوم جيلٌ جديد من الروائيين، يتمتعون بقدرة هائلة على ممارسة التجريب والتمرد على نمط «الحكاية المحفوظية»، وهم يكتبون رواياتهم، مدفوعين بالاستفادة من التطور الهائل لفن الرواية في العالم، من ناحية، مستغلين نقاط التماس الناعمة مع تراثهم العربي، بطريقة تجعلنا نعيد اكتشاف واقعنا ومُدننا وشقائنا، لا بطريقة الروائي القديم، الذي يقف طموحه عند حدود التصوير الفوتوغرافي الحرفي للواقع، أو الاستغراق في توصيف أنثروبولوجي لحدث تاريخي أو سياسي، وهي الطريقة التي دخلت حيّز المألوفية، بعدما استهلكتها أجيال متلاحقة من الروائيين الأجانب والعرب والمصريين، قديمًا وحديثًا.

طارق إمام

رواية «طعم النوم»، الصادرة مؤخرًا عن «الدار المصرية اللبنانية» في القاهرة، للكاتب والروائي المصري طارق إمام، واحدة من الروايات المتمردة على طرق السرد التقليدية، وتستحوذ عليها فكرة «التخييل الإرادي»، أي أن الكاتب يؤمن بتلك «الأخوة» التي تصنعها القصص والحكايات بين الشخوص، يؤمن بذلك المنتج الروائي الذي يخرج من ثقافة «تدوير الخيال»، بحيث يُكمل الكاتب حكايةً وردت في رواية «الجميلات النائمات»، للكاتب الياباني ياسوناري كواباتا، ويربطها بشقيقة لها في الخيال، «ذاكرة عاهراتي الحزينات» للكاتب الكولومبي الحائز على جائزة نوبل 1982م غابرييل غارسيا ماركيز.

وعلى الرغم من أن طارق سيظل يؤكد في كل كتاب جديد له، أنه المغامر أبدًا بين القصص، وعلى الرغم من أنه سبق أن تخلص من إرث السرد التقليدي في أعمال سابقة، إلا أنه على ما يبدو قد وجد في «طعم النوم» النغمة الرفيعة لعالمه المدهش والإيقاع الذي يلائم حكايته، كأنه وَجَدَ التيمة التي تجعله طارق إمام وليس سواه، مفضلًا تقديم حكاية هي ابنة شرعية لخيال الميثولوجيا العربية وتقنيات «الحكاية الإطار» و«الحكاية من داخل حكاية» المأخوذة من التراث الشفاهي العربي، مرسخًا ملامح جمالية جديدة لما يكتبه.

لقد كان الإهداء الشجي الذي افتتح به طارق روايته: «إلى عينيك يا كرمة» أمرًا لا يُمكن إغفاله لفهم هذه الرواية، بالضبط كما لا يمكن أن أحسب جملة المفتتح التي استقاها طارق من «ألف ليلة وليلة» جاءت جزافًا، وتقول: «فقال من أنتِ؟ فقلتُ أنا هدية وأريد إنجاز الموعد الذي وعدتني به والآن لي ثلاثون يومًا لم أذق طعم النوم»، لذلك سوف نقرأ رواية طارق إمام بعين جديدة، لا تنكر على الكاتب حقه في ارتكاب الخيال، من ناحية، ولا تنسى – من ناحية أخرى – حقها في فهم الدلالات والإشارات إلى واقعنا المعيش، والتي يُعيد النص تفكيكها وتقديمها لنا من جديد.

الذي لا شك فيه أن طارق اختار أن تحمل «طعم النوم»، واحدة من أبرز سمات رواية «ما بعد الحداثة»، حيث بات الروائي يخبر القارئ صراحةً بكل التفاصيل، وأن يجعله على علم دائم بأن ما يقرأه هو مجرد عمل تخييلي، وأنه ليس هناك أي محاولة لإقناعه بواقعية الرواية، مصرحًا ـ كما فعل طارق ـ بأن الرواية محض خيال، وهي الطريقة التي باتت تعرف بـ «الميتافكشن ـMetafiction»، أي ما وراء القص، وتعني إبلاغ القارئ بكل ما يدور داخل الحكاية، حيث هناك محاولة دائمًا لتقويض الأسس المتفق عليها سابقًا في فن الرواية، يقول الصوت السارد في «طعم النوم»: «في رواية كاواباتا المعنونة «منزل الجميلات النائمات»، فقدت فتاة حياتها في سرير بطل الحكاية العجوز، .. هذه الفتاة كانت شقيقتي».

«المقدس.. المدنّس»

هكذا يتجاسر «طارق إمام» على تقديم شقيقة ثالثة لهاتين الحكايتين، اليابانية والكولومبية، مُستكمِلًا حلم شخص آخر، معلنًا للقارئ أنه وعلى الرغم من فوارق اللغة وحواجز الجغرافيا، سيعيد تقديم حكاية ـ ذات طابع شرقي ـ عن منزل عجيب يزوره العجائز للنوم عرايا بجوار شابات يافعات، لكن هذا المنزل، سيكون هذه المرة في مدينة الإسكندرية، وسرعان ما سوف تتحول إلى مدينة أسطورية، حيث يفضل طارق إمام دائمًا أن يرسم ملامح مدينة صغيرة وهو يحكي حكاية عن الموت والكتابة، عن ثنائية الانتقام باليد التي تكتب أو باليد التي تقتل.

طبعًا، سبق أن حضرت الإسكندرية في أعمال سابقة لطارق إمام كمدينة أشباحٍ ليلية وخطايا، لكنها تبدو في «طعم النوم» مدينةً «كابوسية» محاصرة تحت وطأة «حظر التجوال»، كأنها مدينة الظلمات، أو نقيض مدن الأساطير «المضاءة» أو «الذهبية» أو «المسحورة»، التي شغلت العقل العربي القديم، منذ «إرم» و«أورشليم»، و»تدمر» وغيرها، معيدًا إلى أذهاننا هذه المرة قصص المدن التي تمتلئ بالذهب والياقوت والمرجان، لكن مدينته تمتلئ بأنماط بشرية مدهشة، وحكايات موت وقتل، وغدر وانتقام، وقصص عشق وخيانات لا تُحد، حيث نعرف أن المعتقدات العربية القديمة التي نشأت في الصحراء، لم تكن تعد «المدينة» مجرد منشأة معمارية، بل هي عالم سحري خاص، يتميز عن عالم الصحراء «الخشن»، ويمكن أن يصل في مرحلة من المراحل إلى
مرحلة التقديس.

الصوت السارد هنا لفتاة شابة مُغمضة العينين، ترغب في الانتقام، من العجوز الذي كان سببًا في موت شقيقتها، ولا تجد سبيلًا سوى الانتقال للعمل في «منزل الجميلات النائمات»، خلال العامين 2013 و2014م، وقد أبرزت الرواية هذه المدة التي عرفت فيها البلاد اضطراباتٍ سياسية عنيفة، وحظرًا للتجوال، وأعتقد أن هذه الرواية تعليق سوداوي مُحتشد بالأسى، على أحداث الربيع العربي، بعد عامين ونصف من اندلاع ثورة 25 يناير 2011م، والكاتب يستغل سنوات «حظر التجول» والفزع المصاحب للثورات، حيث تحول «الربيع» في بلدان كثيرة خريفًا دمويًّا بلا نهاية، يجعل كثيرين يتمنون تذوق «طعم النوم» بلا طائل.

في الرواية حضور طاغ للسلطة التي تمارَس ضد مجموعة من الفتيات الصغيرات اللائي يكافحن في هذا العالم بالنوم تحت تأثير حبوب منومة إلى جوار رجال عجائز، والجميع يخضع لسلطة مديرة البيت التي لا تعاقب إلا بالقتل، وكأن الاستبداد الذي يمارسه صاحب مصنع الملابس، في رواية «طعم النوم»، ضد الفتيات بنات الشقاء اللائي يعملن في المصنع صورة من صور القهر التي نعرفها في الواقع، لكن الكاتب ينهي حياة بعضهنّ بالاختفاء المريب، وحين قُتل صاحب المصنع يخبرنا عن سر الاختفاء في هذا المشهد المُريع: «وبعد أن تقيأ الأشياء بدأ يتقيأ البشر، حتى أنني رأيت فتيات المصنع المفقودات يغادرن فتق بطنه متسربلات في طابور طويل، راكضات نحو الباب بسرعة، بافتتان مذهول للجريمة التي حررتهنَّ».

الرواية تعليق ساخر ومذهل، على المسوخ البائسة التي أفرزتها مجتمعات مشوهة، منذ نكسة 1967م وحتى 2014م، من «العجوز جبريل» مرورًا بـ «الست روز» القوادة، و»شهرزاد» الاسم ذات الخلفية الأسطورية لصاحبة الحكايات، والبنت النائمة، التي تجوب شوارع الإسكندرية بدراجتها الخاصة، و«منزل الجميلات»، الذي يحيطه البحر بالمياه، فيبدو كأنه رحم، وهو بيت أسطوري فيه المقدس والمدنس ينامان معًا، بمنتهى البساطة، العجوز والشابة، حيث لا يمكن عد الغرف التي يحتويها البيت، والذي نجحت «الست روز» بقدرة قادر في محوه – كأنه خطيئة كبرى – من «سجلات الحكومة، ومن إستمارات التعداد، وإيصالات الكهرباء وحذفته من كردون المدينة نفسه، وصولًا لخريطة العالم».

في مدينة «طعم النوم» ـ كما في منزلها أيضًا ـ يمتزج المقدس بالمدنَّس، وفيها يموت بعض الناس، لكنهم يعودون إلى الحياة مجددًا في اليوم التالي، كأن الموت هو نفسه النوم، وفيها كتابٌ لا يحب أن يقرأه أحد، وكتاب آخر تضيع سطوره بمجرد قراءته، وكتاب ثالث يظل مخطوطة على رغم أنه طبع مرارًا، ومصدر هذه الكتاب كلها هو تاجر الكتب «الرملي»، أي الصحراوي، بما يحيلنا إلى الكتب المسحورة، وإلى الميثولوجيا العربية القديمة التي انشغلت طويلًا بـ «صحف الأولين».

كما أن بعض شخصيات هذه الرواية، ليست شخصيات من لحم ودم، بحيث يمكن لـ «اسم» ـ فكرة ـ أن يكون شخصًا في الرواية، وأن يكون مهزومًا ومُحبطًا فوق ذلك، لأنه لا يجد شخصًا يحمله (أي لا يجد من يتسمى به)، فيدور يبكي للناس في «مكاتب الصحة» ليقنع الأهل بجدارته لأبنائهم، كما أن في هذه الرواية «شخصية حرامي العجائز»، الذي يتأمل حصيلة يومه من العجائز المنسيين والتائهين والذين يجمعهم كي يُتاجر فيهم، وفيها شخص يقرر أن يكون شاعرًا ذات يوم، على رغم أنف الحياة واللغة معًا: «لكن ينتهي به الأمر كجميع من يقررون أن يصيروا شعراء، وحيدًا في بيت يكتظ بكل كتب العالم، ولا ينقصه سوى الكلمات التي لن يكتبها أبدًا».

هذه الكائنات «المسخ»، تحيلنا إلى صورة نقيضة لمدينة أسطورية، أو مدينة فقدت أسطوريتها وسقط عنها سحرها في حقيقة الأمر وباتت مدينة ملعونة، لم يعد فيها غير مسوخ شائهة، تذكّر بتلك المدينة التي طرد منها الناس في قديم الزمان، بسبب لعنة ما، أو بسبب نبوءة ما، مدينة تجبّر أهلها فتم مسخُهم، حجارةً أو حتى ذهبًا أو أحجارًا كريمة، وتلك الكائنات «المسوخ» وسمت أعمال طارق إمام، وقد بدت بعض من ملامح هذه المدينة أيضًا في مجموعته القصصية «مدينة الحوائط اللانهائية»، الدار المصرية اللبنانية ـ الطبعة الثالثة 2019م.

بطولة العجائز

وفي حين تبدو شخصيات العجائز، أقرب ما في الرواية إلى واقعنا المعيش، والأكثر تأثيرًا في أحداث الرواية، ونموذج «العجوز جبريل» خير دليل على صحة ذلك، فهو الصحفي النافذ في جريدة محلية ولديه صفحة لا يقرأها أحد، نراه وهو يخوض كثيرًا من التجارب من أجل أن يكتب قصة حياته، في «منزل الجميلات النائمات»، وحين يدخل المنزل يكون متوترًا ومتعجلًا، كأنَّه يخشى شيئًا ما وكأنه جاء إلى المنزل لكي يختفي أو يموت، ويظل يتصرف بنهمٍ كأنه منفي من هذا البيت، وكأي منفي يقوم غريزيًّا بتعظيم المكان الذي يحن إليه، ويجلب فيه كل ما يعتز به.

يحظى العجوز بمعاملة خاصة من القوادة التي لا تدير منزلًا للرذيلة، بل فقط لكي يتمكن عجائز المدينة الذين غادرتهم المنصات وخاصمتهم المناصب على ارتكاب الخيال واستعادة الذكريات عُراةً ومُهذَّبين، وبينما يحقق العجائز رغباتهم دومًا، مستغلين سلطاتهم، لا يبدو الشباب قادرًا على فعل شيء، فالرواية متخمة بالعجائز، الذين يتحركون خارج المألوف ويكسرون «حظر التجوال» ويرتكبون كثيرًا من الفظائع، إلى جوار الحب أيضًا، حيث الزمن لا يستطيع أن يطولهم، عكس الشباب الذين لا يستطيعون المواجهة مثل «فتيات المصنع»، فيُستغلون أو يختفون أو يضيعون بطرق شتى.

يمكن القول إن «عجائز» طارق إمام، لا علاقة لهم بنمط العجوز الذي ظهر فجأة خلال العقد الأخير وتحول إلى موضة ذائعة الصيت في الرواية الغربية، منذ عام 2011م تحديدًا، والعُهدة على «اللوموند دبلوماتيك» يوليو 2019م، حيث قالت إن البطل الجديد في الرواية الأوربية شهد تحولًا بدأ من السويد، حيث أصبح الرجل العجوز يزيح البطل الشاب، وحيث شكلت هذه القصص عنصر إيحاء في السينما الأميركية، وأصبح الأجداد اللصوص نوعًا قائمًا بذاته، كما ألهمت القصص المصورة والألعاب الإلكترونية ومنها neighbors from hell، وكلها تقدم دلائل على انتشار نمط العجوز بطل الرواية.

لقد لفتنا الفيلسوف والكاتب والناقد المجري «جورج لوكاتش» (1885-1971م)، عندما تحدَّث عن علاقة الواقع بالمتخيل في الرواية، ملاحظًا أن: «الروائي يُشكل انسجام عالمه السردي، من صلب التفكك الذي يعايشه في الواقع»، لذلك أعتقد أن «طعم النوم» استطاعت تقديم تلك الضغوط الهائلة والخيبات الدائمة والتفكك الهائل بحكايات القتل والانتقام، الذي يعيشه أهل المدينة العربية عمومًا، في ظلال الهزائم العسكرية أو عقب «ثورات الربيع العربي»، ليقول إن هناك متغيراتٍ عميقة وجذرية عرفتها هذه المجتمعات العربية، وإن بعض هذه المتغيرات ـ في حقيقة الأمر ـ قد لا تذيقنا حتى «طعم النوم».

ختامًا، طارق إمام واحد من أبرز كتاب جيله، ومن أكثرهم اهتمامًا بالنقد أيضًا، حيث يكتبه بدهشة العاشق، وسبق لطارق أن أصدر عشرة كتب، بين روايات ومجموعات قصصية، أبرزها «هدوء القتلة» و«الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس»، و»مدينة الحوائط اللانهائية»، وتُرجمت بعض أعماله إلى عدة لغات بينها الإيطالية، وهو من أكثر كتاب جيله تتويجًا بالجوائز، حيث حازت أعماله العديد من الجوائز الكبرى مصريًّا وعربيًّا ودوليًّا، منها جائزة الدولة التشجيعية، وجائزة ساويرس مرتين، وجائزة وزارة الثقافة المصرية مرتين، وجائزة سعاد صباح، وجائزة «متحف الكلمة» العالمية.