بواسطة حواس محمود - كاتب سوري | مارس 1, 2023 | كتب
يتحدث الروائي السوري المعروف فواز حداد في كتابه الجديد «لقد مررت من هذا العالم» (دار المحيط، 2022م) عن تجربته الروائية في محاولة منه لتسجيل تجربة جديدة في مجال السيرة النقدية الذاتية؛ فقلما نجد كُتابًا روائيين أو شعراءَ يكتبون مثل هذه السيرة بكل شفافيةِ قولٍ وجماليةِ تعبيرٍ وصِدقِ أفكارٍ.
فواز حداد كاتب الواقع بكل ما يحمله من أحداث وإشكالات ومفارقات وتناقضات وعسف وظلم وقمع السلطات، ورصد وسبر أعماق الشرائح والفئات والتاريخ والمجتمعات. تمتد تجربته الروائية إلى أكثر من ثلاثين عامًا، وإن كانت قد بدأت منذ مدة أطول بكثير، عندما قرأ أول رواية وانفتح أمامه عالم يختلف عما يدور حوله. أذهلته رحابة العالم الروائي، عالم سيكون فيه من الخاسرين، حسب تعبيره؛ إذْ لن يحيط به ولا نهاية له. لم يكن فواز حداد ينشر أعماله لأوضاع وأسباب كثيرة. واظب على الكتابة في المسرح والسينما والقصة القصيرة والرواية من دون أية محاولة منه لنشرها إلا بعد أن وصل إلى الأربعين من عمره.
فواز حداد يكتب عن رواياته
المهم والمفيد والممتع في هذا الكتاب هو حديث الروائي حداد عن رواياته وبداياته الروائية؛ فالقارئ المتابع لرواياته يدفعه الفضول المعرفي لكشف كيفية تشكل الجسم الروائي لدى كاتب الرواية، وعندما يكشف الروائي جزءًا من أسرار كتابته الروائية يشعر القارئ في المقابل أنه اكتسب شيئًا فائضًا عن معرفته ويعوض عجزًا عن قدراته الاستكشافية.
يشبّه حداد مشاعره في أثناء كتابة روايته الأولى بأنها لا تقلّ إبهارًا عن التعرف إلى الحب في مرحلة المراهقة؛ إذْ لن تعود الدنيا بعده كما كانت قبله، ولن تسترد صورتها إلا مع الرواية الثانية، وهو لم يسبغ هذه المبالغة إلا من عظمة النقلة بين الخواء والامتلاء. ويرى المؤلف روايته الأولى «موزاييك» منحة حصل عليها بعد طول انتظار، والظَّفَر بخطواته الحقيقية الأولى في عوالمها، واكتشاف أسلوب سيكون عُرضةً للتنوع، من خلاله أمسك المؤلف بطرائقه في صناعة الرواية.
يشير المؤلف إلى المنظر الذي جاءه عفو الخاطر ورسم بدايات روايته الأولى: «امرأة تقف عند مدخل دكان في سوق قديم (سوق مدحت باشا) تصوب نظراتها إلى مجرد ظل يتململ في عمق المكان، تتبادل معه بضع كلمات يبعثرها الهواء الراكد، ثمّ أرى الظل يتقدم نحوها مشطورًا بالضوء، بينما العتمة أسدلت أستارها على رأسه وكتفه. من هذه المرأة؟! وما هذا الظل الذي أصبح رجلًا؟ وما الكلمات التي قيلت؟!».
في «موزاييك» لم يبدأ حداد من فكرة واضحة أو من منظر متكامل يتداعى عن آخر. ما حصل كانت لمحة استهوته وكادت ألا تؤدي إلى رواية، ولا إلى قصة قصيرة، لكنها استهوته، ومن فرط ما استعادها في خيالاته استأثرت بأفكاره واستحوذت عليه.
في روايته الثانية «تياترو» يقول المؤلف: إنه لم يأتِ إلى الرواية الثانية خاليَ الوِفاضِ. كان حدث «الانقلاب» الشيء الوحيد العالق في ذهنه من «موزاييك»؛ فالكابتن «صولاني» من جيش الشرق الفرنسي كان مشروعًا انقلابيًّا واعدًا، سيصبح في «تياترو» الزعيم «حسني الزعيم» قائد الانقلاب السوري الأول. عداه كانت روايته التالية ساحة مقفرة من قلب اليأس. وكما يحدث في الروايات، ظهر على حين غرة المخرج المسرحي «حسن فكرت» من مسودات الرواية المكتوبة أمام الروائي، من لا أقل من مئة صفحة، عندئذ كأنما صرخ حداد وقال: وجدتها، لقد عثرت على روايتي التي سأكتبها وكنت من الجرأة والإقدام بحيث مزقت ما كتبته سابقًا وبدأت بكتابة «تياترو» ص 17.
وكانت روايته الثالثة «صورة الروائي» استكمالًا من ناحية التسلسل الزمني للروايتين السابقتين؛ فأحداثها تدور في حقبة السبعينيات مع انتشار الانقلابات في البلاد العربية: ليبيا والسودان ووفاة الرئيس جمال عبدالناصر وقدوم السادات.. وفي موازاة هذه الأحداث، يجري تحقيق مطول مع مواطن ما، يتعرض إلى مختلف الضغوط التي تبلغ أقصاها في المعتقل. بالموازاة أيضًا، روائيان كل منهما يكتب رواية على حِدَةٍ، لا يعرف أحدُهما الآخرَ، يتراسلان بفصول روايتيهما، ويكتشفان أن رواية الأول تكمل رواية الثاني، كأنهما يكتبان رواية واحدة.. هذا إضافة إلى مذكرات أستاذ تاريخ عن خلافات بين مؤسسي البعث.
ثلاثيات
يضع المؤلف رواياته الثلاث: «مرسال الغرام»، «مشهد عابر»، «المترجم الخائن»، ضمن ثيمة «الواقع». في روايته «مرسال الغرام» يضع حداد الأحداث ضمن إطار أوسع، العصر السوري داخل العصر العربي، ممثلًا بالزمن المصري، من خلال قناعاته أنه لا يمكن الفصل بينهما، ويرسم زمنًا تصدرته سيدة الغناء العربي «الست ثومة» وشاعرها «سي رامي»، ويحف بها عشاقها وملحنوها من القصبجي إلى محمد عبدالوهاب، وقد عادوا إلى الحياة في دمشق من خلال «رابطة عشاق أم كلثوم».
مشهد عابر: الروائي في هذه الرواية أكثر مباشرة واقتحامية، من دون أي اعتناء بالتورية في مقاربة واقع سياسي مفتوح على تحولات مفصلية، يتوالى ترديها بالذهاب إلى مكامن الفساد، والتعرض إليها في الصميم دونما رمز أو تلميح.
المترجم الخائن: يعالج الروائي هنا موضوع الثقافة والمثقفين، المثقف الانتهازي المتسلط، المثقف الوغد والنذل، المثقف الحائر والمغترب، في مشهد يشكل واقعًا يمارس اضطهادًا وإذلالًا على المثقفين.
ويضع المؤلف ثلاث روايات أخرى ضمن ثيمة «الإرهاب» وهي: «عزف منفرد على البيانو»، «جنود الله»، «خطوط النار».
عزف منفرد على البيانو: يتأثر الروائي بما جرى في مدينة حماة السورية في ثمانينيات القرن الماضي، وهو الأمر الذي شكل لديه حافزًا لعمل روائي. لقد أدى تتبع المجريات إلى تشييد معمار متشابك بالرعب والتيقظ والحذر والأوهام عن دولة تمتلك وحدها الحقيقة، وهذه الحقيقة قاتلة وتحرض على معادلة غير قابلة لأي حل، ووجود أحدها يلغي الآخر، فلا يجب السماح بالانحياز إلى إسلام معتدل؛ فهذا الإسلام بالذات هو المطلوب القضاء عليه، باعتباره الحاضن لإسلام متطرف، وعلى العلماني أن يكون متشددًا ويعمل لصالحها فقط. (ص 43).
جنود الله، خطوط النار: بحسب المؤلف تجمع روايتا «جنود الله» و«خطوط النار» أرضَ العراقِ، الأنموذج العراقي، الصارخ والحي، كمكان قابل لأحداث تراجيدية، تدور حول زمن الغزو الأميركي وسقوط العراق تحت الاحتلال، ومعارك المقاومة العراقية التي شارك فيها تنظيم جهادي بلغ الذروة في العمليات الإرهابية ضد الأميركان وفئات أخرى من المجتمع العراقي. (ص 44).
السوريون الأعداء: يصنف المؤلف هذه الرواية ضمن ثيمة «روايات الثورة والحرب»، ويرى أن الفكرة الأساسية من وراء كتابة «السوريون الأعداء» هي الإجابة عن سؤال: لماذا قامت الثورة؟ وهذا السؤال يتفاعل في داخل الروائي على نحو مختلف قبل سنوات من قيامها، كمحاولة للتعرف إلى طبيعة النظام الذي كتب حداد عن فساده في معرض مشروعه الروائي، وأكّد من خلاله كتابةَ «رواياتنا». (ص 52).
بواسطة حواس محمود - كاتب سوري | مايو 1, 2020 | كتب
يكشف هذا الكتاب «العصبيات وآفاتها هدر الأوطان واستلاب الإنسان» الصادر حديثًا عن المركز الثقافي العربي بيروت لمؤلفه الدكتور مصطفى حجازي المستور والمسكوت عنه في جل الدراسات التي تناولت واقع مجتمعاتنا، وتتمثل فرضيتها الأساسية في أن البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ظلت على امتداد التاريخ العربي محكومة منذ تسعة قرون بثلاثية بنية العصبيات والفكر الأصولي والاستبداد، ويرى المؤلف أن هذه الثلاثية مغروسة بعمق في البنى الاجتماعية، وترسخ في اللاوعي الثقافي الجمعي منذ تسعة قرون، منذ بدايات عصر انحطاط الحضارة العربية الإسلامية. جدير بالذكر أن هذا العمل القيم والمهم في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ المنطقة العربية يعد امتدادًا لعملين سابقين للمؤلف هما: سيكولوجية الإنسان المقهور، وسيكولوجية الإنسان المهدور، وهو يقدم إجابة فكرية تحليلية لأسباب إخفاق عمليات التغيير وبناء الديموقراطية في العالم العربي.
يمثل اللاوعي الثقافي الجمعي البنى العميقة الاجتماعية منها والنفسية سواء بسواء، ويظل فاعلًا بقوة بالخفاء، لأنه يحدد البنى الذهنية الحاكمة للبنى الاجتماعية وعلاقات السلطة على وجه الخصوص، وكذلك للنظرة إلى الذات والكون، ويصدق ذلك على واقع الشرائح الشعبية العربية على وجه الخصوص ورسوخ الذهنية العصبية وما تولده من أصوليات واستبداد تشكل هذا الوعي، الذي استمر ما يقرب من ألف عام من التاريخ العربي الإسلامي مما يشكل قرون الانحطاط منذ عهد السلاجقة والبويهيين ثم العثمانيين من بعدهم، وسيادة عصور الاستبداد السياسي والأصولية الدينية والقضاء على الانفتاح الفكري والديني «تكفير المعتزلة» والفلسفي «تحريم التفلسف وشيوع مقولة كل من تمنطق تزندق» وتجيير الفكر الأصولي لخدمة السلطان واستبداده، وتعميم الجبرية وذهنية الخضوع بمثابة حتمية تصور وكأنها هي طبيعة الحياة ذاتها والقدر المنزل، ذلك أن العالم العربي ورغم مظاهر الحداثة لم يحقق النقلة النوعية التي تمثلت بالثورة الثقافية المواكبة للثورة الصناعية في الغرب، والتي تخدم احتياجاتها في إعداد الإنسان المنتج وتأطيره المؤسسي والقانوني، وإطلاق العنان لسلطان العقل محل سلطان الغيب، الخادم والمبرر للحكم الإلهي والكنيسة.
يؤكد المؤلف على فكرة أساسية وهي أنه لا يمكن بناء حداثة مستقبلية على تراكمات الماضي وتركها كما هي، من دون مراجعة وتدقيق وفرز وتمحيص، فالتغيير لا يشمل السطح فقط أي الأنظمة السياسية الاستبدادية، وإنما يتناول الأصوليات التي أصبحت نوعًا من الثوابت التاريخية، لا بد للتغيير من أن يصيب ثوابت اللاوعي الثقافي هذا، والتي اتخذت على مر القرون طابع الثوابت الأبدية.
تنتظم هذه الثوابت ضمن مثلث العصبيات والأصوليات والاستبداد السلطاني، وهي ككل مثلث تتبادل التعزيز والاعتماد المتبادل فيما بينها، ولو برزت في كل حالة صدارة إحداها على الركنين الآخرين للمثلث، اللذين يتراجعان إلى الخلفية، إنما لا يمكن فهم دينامية فعل أي من هذه الأركان وسطوته على الواقع بمعزل عن الركنين الباقيين وإلا وقعنا في سطحية التحليل واجتزاء الرؤية، وهو ما تقع فيه العديد من الأدبيات الرائجة في الموضوع، من مثل الكلام في الأصوليات بمعزل عن المثلث الذي تشكل أحد أركانه، كذلك هو الحال في الرؤى المختزلة حول الاستبداد وفيض الكتابات العربية الراهنة فيه، وكأنه ظاهرة فريدة قائمة بذاتها. يرى المؤلف أن هذا الاختزال هو المسؤول عن عجز هذه الكتابات أو حتى التحركات السياسية وانتفاضاتها، في حين تستفحل أركان هذا المثلث باطراد، ولذلك لابد من تغيير منظور المقارنة بالتالي، والتعامل مع بنية المثلث وآليات عمله وليس مع أحد أركانه معزولًا عن بنيته الكلية الدينامية، تلك هي المقاربة التي تتوسلها الدراسة الحالية للمؤلف.
إن العلاقة التعزيزية والترابطية والتكاملية بين أطراف الثلاثية تتجلى من خلال أن العصبية هي في بنيتها النفسية ذات نزعة أصولية، بمعنى أنها تقوم على القطعية التي تلغي الآخر، إذ تسبغ على كيانها كل الفضائل، وتسقط على الآخر الخارجي كل المثالب، مما يمهد السبيل إلى إلى تفجر العنف فيما بينها وبين الخارج، ذلك أن العنف هو النتاج المباشر لعدم الاعتراف بالآخر، ناهيك عن شيطنته وإسقاط كل العيوب الذاتية عليه، تلك هي السمة الأصولية للعصبية حتى بمعزل عن الدين على أن رباط الدم المكون لنواة العصبية يتعزز ويتفاقم من خلال رباط العقيدة الدينية أو السياسية أيضًا «الأخوة في الدم، والأخوة في العقيدة الدينية والسياسية»، وعلى صعيد المشهد السياسي غالبًا ما تتلازم العصبية السياسية مع العصبية الدينية «من مثل المارونية السياسية والسنية السياسية والشيعية السياسية».
لقد ترسخت العصبية في اللاوعي الثقافي الجمعي خلال تسعة قرون، وما يزال، تمامًا على غرار اللاوعي الفردي ومكبوتاته، ناشطًا في الخفاء طالما استمرت الأمة في تعثرها، وما زال هو بدوره يشكل أحد أبرز قوى التعثر الخفية، طالما لم يتم الكشف عنه في بنيته وديناميات فعله، ويتم العمل على تصفيته، وخصوصًا أن القوى الأجنبية الطامعة في ثروات العالم العربي تشتغل على إثارته تحديدًا، مما يتجلى في المشهد الراهن لواقع العالم العربي ومآزقه، واطراد تعرضه للتفكك والدمار الذاتي، ذلك أن مثلث العصبية – الأصولية – الاستبداد هو في الأساس ضد قيام وطن جامع، إذ تتركز غايته في إقامة نظام حكم (غلبة إحدى العصبيات، إقامة دولة أو خلافة إسلامية أو طائفية أو إقامة نظام حكم استبدادي إلغائي، يقوم على الأجهزة الأمنية التي تحميه).
أسلوب التفكير للعصبية وخطابها
يرى المؤلف أن الخطاب العصبي، كما يتجلى في لغة زعيم العصبية، يتصف باليقين القطعي، فالعصبية هي دومًا على حق والآخر هو الباطل، وحقوق العصبية قاطعة مطلقة ولا تحتمل التسويات مما يعتبر بمثابة انتقاص، ليس من هذه الحقوق، وإنما هو مس بكيان العصبية ذاتها، يستدعي الانخراط في الصراع دفاعًا عنه كاملًا غير منقوص، تمامًا كالقتال دفاعًا عن الشرف الذي لا يتجزأ أو يقبل التسويات.
وكما تقوم العصبية على التعميم إذ أي مس بأي جزئية أو أي شيء منها هو مس بالعصبية كلها، تقوم أيضًا على الاجتزاء في النظرة والتفكير، حيث تركز الأحكام على بعض الخصال أو السلوكيات فتضخم سلبياتها بحيث يمكن أن تصل حد شيطنة الآخر، تلك هي إحدى الخصائص الأساسية في النظرة إلى العصبيات الأخرى.
تتضافر أساليب التفكير في الأمور ومقاربتها هذه وتعزز بعضها الآخر، وتضاف إلى العديد غيرها، مما لم يعرض لها المؤلف، وتؤدي إلى بلورة نظرة مغلقة على نفسها إلى الذات والوجود، تسجن أعضاء العصبية ضمنها، وتدفع إلى تصلب الرؤى والمواقف، وهو ما يشكل المدخل إلى التنكر للآخر، كما يشكل المدخل الذهني الذي يشرعن الصراع ويفتح أبواب العدوانية، كما تشاهد في حروب العصبيات القبلية، والعصبيات الطائفية وتبلغ أوجها في العصبيات الأصولية التي تمثل الحالة المتطرفة لأخطاء أساليب التفكير هذه.