القدس بين الدعاية الصليبية والدعاية الصهيونية
تعد قضية القدس أحد أهم القضايا التي تشغل بال الرأي العام والنخبة الأكاديمية والسياسية المهتمة. وبعد أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن القدس عاصمة لإسرائيل في 6 ديسمبر 2017م، أشعل هذا الإعلان عاصفة من ردود الأفعال الغاضبة والمعارضة لهذه الخطوة. ثم تلا ذلك أن أعلن الرئيس نفسه ما يسمى «صفقة القرن» في 28 يناير 2020م التي من أهم بنودها أن القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل.
لم يكن هذا الإعلان وليد اللحظة وإنما جاء نتيجة لسلسلة من المخططات الدقيقة والمدروسة التي جرى تنفيذها على مراحل متعددة تتلاءم مع القدرات الصهيونية. وقد بدأت أولى هذه المراحل مع نشوء الفكرة الصهيونية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. وقد استفادت الحركة الصهيونية من الحركة الصليبية التي كانت قبلها بقرون لتنفيذ مشروعها لاحتلال القدس.
عندما صدر كتاب «الحروب الصليبية» للمؤرخ البريطاني ستيفن رنسيمان، قال في مقابلة معه أنه فكر في وضع عنوان آخر لكتابه هو «دليل الصهيونية في الحروب الصليبية» ويعلل رنسيمان سبب ذلك هو أن كل الأحداث التي أدت إلى قيام إسرائيل تسير على نفس خط الأحداث التي أدت إلى قيام الحركة الصليبية. وإذا ألقينا نظرة فاحصة على تاريخ الحركتين: الصليبية (488– 691هـ/ 1095- 1292م) في العصور الوسطى، والصهيونية في العصر الحديث، فسنجد أن الدعاية كانت واحدة من أهم الأدوات التي تسلحت بها الحركتان في سعيهما من أجل الوصول إلى غايتهما باحتلال أراضي المسلمين في فلسطين. وهو ما سوف يتناوله هذا المقال مقارنة بين الحركتين.
فما نوع الدعاية التي استخدمتها كلتا الحركتين؟ كلتاهما استخدمت «الدين». فعندما بدأت الحركة الصليبية استخدمت الدين ستارًا لتحقيق أطماعها وإثارة العامة الذين هم الأداة لتحقيق تلك الأطماع. وعندما قامت الصهيونية «التي كان لديها المال» ولكن ليس لديها القدرة على الاستفادة منه من دون أن تتخذ من الدين ستارًا وشعارًا لتحقيق أهدافها.
أولًا: الحركة الصليبية
عندما قرر الفاتيكان (البابوية) إعلان الحملة الصليبية الأولى 1095/ 1099م رأى أن تنفيذ هذه الحملة يعتمد في معظمه على الجماهير الأوربية المسيحية فهي التي سيذهب فرسانها بجيوشهم إلى بلاد المسلمين لمحاربتهم، وحتى تسهم هذه الجماهير بالدور المطلوب منها وجدت البابوية ورجال الدين أن الطريق إلى هذه المساهمة لا بد أن يمر بجهد دعائي منظم لخلق رأي عام مسيحي يؤمن بالأهداف التي رسمتها الحركة ويعمل من أجل تحقيقها؛ لذا وضعت البابوية وبخاصة البابا أوربان الثاني (1088 – 1099م) الأساس الأول للدعاية الصليبية لكسب تعاطف الرأي العام الأوربي للحركة الصليبية. من أساليب البابا الدعائية أن الحرب الصليبية هي حرب المسيح والبابا يعلنها باسم المسيح وهي مشروع المسيح الخاص، ففي خطبة البابا أوربان الثاني قال: «إن المسيح هو الذي يدعوكم ولست أنا وليعلم كل حاضر وليبلغ كل غائب أنها أوامر المسيح» ويستشهد بآيات من الإنجيل ادَّعى البابا أنها وردت على لسان المسيح تقول: «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم»، إنجيل متى: 10 – 28. «ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني» إنجيل متى: 10 – 28.
ولإثارة النزعة القومية لدى المسيحيين الأوربيين اعتبر البابا أوربان الثاني ومن جاء من بعده من البابوات أن الأراضي المقدسة ببلاد الشام إقليمٌ تابعٌ للمسيحية باعتبار أن المسيح –عليه السلام– ولد وعاش فيها. وبما أن هذا الإقليم في أيدي الغرباء –أي المسلمين– إذا يجب أن يعود إليهم. وعدُّوا المسلمين غزاة وغاصبين، وأن المسيحيين يحررون أرضهم ويستردون ملكيتهم الشرعية. وعدُّوا أيضًا أن المسيحيين في الشرق الإسلامي إخوانهم، فعلى الأوربيين أن يولوا وجوههم نحو إخوانهم لإنقاذهم من صنوف العذاب التي يتعرضون لها –كما يزعم البابوات– على أيدي المسلمين. وهكذا كانت تسوّغ أي حملة صليبية يُدعَى للمشاركة بها.
وأهم أسلوب دعائي استخدمته البابوية لتحريك الحملات الصليبية هو اسم القدس. فاسم القدس كان على درجة كبيرة من التأثير في مشاعر الأوربيين في ذلك العصر المليء بالأساطير والنبوءات والرؤى الإعجازية التي كانت تحكمها مفاهيم غيبية وأخروية آمن بها المجتمع. وقد ردد دعاة الحروب الصليبية كلمات المزمور 78 عدد 79 القائلة «اللهم إن الأمم قد دخلوا ميراثك» وهي إشارة إلى أن الأرض المقدسة هي ميراث المسيح ومن ثم هي «مملكة المسيح» التي تخص –في نظرهم– العالم المسيحي، والتي يجب عليه الدفاع عنها، واستردادها من المسلمين، ولهذا فالحروب الصليبية المتجهة إلى الشرق هي مجرد عملية استرداد إقليم تابع للعالم المسيحي وأن المسلمين مجرد مستعمرين ودخلاء على تلك الأرض. وهكذا كانت تسوّغ الحملة الصليبية.
لذا عندما دعا البابا أوربان الثاني للحملة الصليبية الأولى ركز في خطبته على طلب النجدة لمدينة القدس؛ لأنه كان يرى أن استخدام اسم القدس سيكون له وقع السحر من حيث الدعاية في أوربا الغربية. وجميع الروايات التي وصلتنا عن خطبة البابا أوربان الثاني ذكرت أنه وظف اسم القدس وشرح أهميتها للمسيحيين بأنها مهد السيد المسيح ومنبع الديانة المسيحية. تقول رواية فوشيه الشارتري إن البابا أوربان الثاني قال عن المسلمين، إنهم: «قد استولوا على المزيد من أرض المسيحيين»؛ ليؤكد لمستمعيه على أن تلك الأرض هي أرضهم وأن عليهم استردادها.
ورواية روبير الراهب أكدت لنا أيضًا أن البابا أوربان الثاني وظف اسم القدس في خطبته وقال بقصد إثارة حماس الجمهور: «ربما تتحركون بشكل خاص بحافز من الضريح المقدس لسيدنا ومنقذنا الذي يرقد أسيرًا في أيدي أجناس قذرة، وربما حركتكم الأماكن المقدسة التي تنتهك حرماتها الآن بممارستهم القذرة». ثم يواصل البابا أوربان الثاني خطبته عن القدس بأسلوب آخر ليثير عواطفهم بصورة أكبر؛ إذ يقول: «القدس هي مركز العالم، وهي الأرض التي تسمو فوق غيرها، مثل جنة أخرى حافلة بالمتع. لقد جعلها مخلص البشرية مشهورة بميلاده، وزانها بحياته، وقدسها بعذابه ومعاناته، ثم طهرها بموته، وترك خاتمه عليها حين دفن بها. هذه المدينة الملكية، بمكانها في مركز العالم، أسيرة الآن في أيدي أعدائها، ومسخرة لخدمة الطقوس الوثنية لشعب لا يعترف بالرب، ولذا فهي تستغيث وتصلي من أجل تحريرها، وتناديكم دومًا لتهبوا لنجدتها». لقد عَدَّ البابا أوربان الثاني الحربَ الصليبيةَ هي عملية تطهير للأماكن المقدسة من أيدي من سمّاهم الأجناس القذرة وقد تبنى تلك الفكرة كل من جاء بعده من البابوات.
لقد نجحت دعاية البابا أوربان الثاني في التأثير في مشاعر الناس فعندما انطلقت الحملة الصليبية الأولى كانت القدس الأرضية والقدس السماوية تسيطر على عقول المشاركين بالحملة، ففي أثناء سيرهم كانت تتبدى في أذهانهم ليست فقط صورة القدس الأرضية، وإنما صورة القدس السماوية ذات الأبواب الياقوتية والأسوار المرصعة بالأحجار الكريمة التي ورد ذكرها في سفر الرؤيا 21 -10: «المدينة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله»؛ لذا كان الصليبيون، وهم في طريقهم إلى القدس، يرون أنفسهم سائرين على طريق الخلاص، الطريق إلى مستقبل أفضل.
وفي المرسوم الصليبي الذي أصدره البابا يوجين الثالث في الحملة الصليبية الثانية عام 1145م/ 540هـ، استخدم اسم القدس لإثارة مشاعر الأوربيين وحثهم –كما يدعي– على «تحرير تلك المدينة من دنس الكفار». فهي عملية تطهير، ثم ذكر أهمية تلك المدينة الدينية لتكون دعاية لحملته حيث يقول: «تلك المدينة التي عانى فيها مخلصنا عن طواعية من أجلنا، وتركها لنا لتكون ذكرى لمعاناته ولضريحه الممجد».
استغل الداعي الصليبي بطرس المبجل اسم القدس في الدعاية للحملة الصليبية الثانية فقد ألقى خطبة في مجمع كنسي أقيم في فرنسا برئاسة البابا يوجين الثالث عام 541هـ/ 1146م، حيث عَدَّ بطرس الحملة الصليبية الموجهة إلى القدس كأنها عودة إلى أرض الوطن، وأكد الأهميةَ الفريدة التي يمثلها بيت المقدس للمسيحيين والطابعَ المقدسَ الذي يحمله قبر المسيح ليوضح عظمته وبسبب تلك العظمة يجب تطهيره من دنس الكفار. ويرى أن إنقاذ القدس واجب مقدس على المسيحيين، ويرى أن المشاركة في الحرب الصليبية هي منتهى العظمة، يقول: «أليس أعظم الأمور الحرص والتأكد من عدم رمي الأرض المقدسة للكلاب؟ حتى لا تطأ أقدام الأشرار مرة أخرى الأماكن التي وطأتها ذلك الذي جاء بالخلاص إلى قلب الأرض؟ وحتى لا يكون مصير أورشليم العظيمة، التي قدسها الأنبياء والرسل وفادي الجميع [يقصد المسيح عليه السلام]». وكان معظم مستمعيه من رجال الدين ورجال علمانيين، وبعد أن أنهى خطبته رفعوا راية الصليب إعلانًا منهم لذهابهم مع الحملة الصليبية لمحاربة المسلمين.
وبعد استرداد صلاح الدين الأيوبي للقدس في معركة حطين الشهيرة عام 583هـ/ 1187م. أعلن البابا جريجوري الثامن في مرسومه الصليبي عن شن حملة صليبية، ويعد ذلك المرسوم في أوربا من أكثر المراسيم البابوية تأثيرًا، عبر فيه البابا جريجوري الثامن عن المعنى العميق الذي تضمنه انتصار صلاح الدين واسترداد القدس. وقد بدأ بعدِّ حطين وصلاح الدين نتيجة لغضب الرب على المسيحيين. وأخذ يحث الشعب الأوربي على الخروج بكل حماس لمقاتلة المسلمين. واستخدم كغيره من الدعاة الصليبيين اسم القدس كأسلوب دعاية للتأثير في سامعيه، فقد تحدث البابا جريجوري الثامن عن أهمية القدس فقال إن: الحواريين عملوا بكل حماسة «حتى تصبح قداسة هذا المكان قائمة دائمًا بل وحتى تفيض لتعم أرجاء باقي مناطق العالم». والآن قام المسلمون بإراقة الدم المسيحي وتدنيس الأماكن المقدسة والقضاء على عبادة الرب من الأرض التي باركها الرب. ويستمر في توظيف اسم القدس فيذكر أن أرض القدس هي التي ضحى فيها المسيح بنفسه من أجل البشر. ثم أخذ البابا جريجوري الثامن يثير حماس الناس بشدة قائلًا: «كم يجب علينا وعلى جميع المسيحيين الشعور بالحزن الشديد إزاء إخضاع هذه الأرض». إن توظيف اسم القدس في الدعاية للحرب الصليبية كان قويًّا ومؤثرًا وذا جاذبية طاغية لدى المسيحيين الأوربيين؛ بسبب ارتباطه بقصة المسيح –عليه السلام– لذا استغله البابوات ورجال الدين في دعايتهم الصليبية.
وهكذا اعتمدت الدعاية الصليبية على الدين، فهو أقوى وسيلة يمكن أن يثار بها حماس الجماهير، فعلى الرغم من أهمية الدوافع الاقتصادية والسياسية، فإن الدين يحظى بالقبول الشعبي الواسع؛ لذا صاغ البابوات ورجال الدين المسيحي الأساليب الدعائية على أساس ديني.
ثانيًا: الحركة الصهيونية
اتبعت الحركة الصهيونية أسلوب الحركة الصليبية نفسه في التأثير في الرأي العام الأوربي وإثارة المشاعر الدينية اليهودية والمسيحية على حد سواء من أجل الحصول على الدعم لتحقيق مشروعها الاستيطاني في فلسطين. عند بداية الحركة الصهيونية رفض الكثير من اليهود في العالم انتقالهم إلى فلسطين بسبب ارتباطهم بالدول التي عاشوا بها أولًا، وثانيًا أن العقيدة اليهودية تحرم محاولة العودة الجماعية إلى فلسطين وتعدّها هرطقة وتؤمن بأن العودة إلى أرض الميعاد تكون عندما يأتي «الماشيح» وهو من يأخذهم إلى هناك ويحدث هذا في الوقت الذي يحدده الرب وليس فعلًا بشريًّا. لذا رأت الدعاية الصهيونية أن تتبع أساليب دعائية نابعة من المعتقدات الدينية اليهودية وتوظيفها لبناء مشروعها الصهيوني. وهذا ما عبر عنه الصهيوني كلاتز كين حين قال: «إن الدين اليهودي يمكن أن يساهم في بلورة الروح القومية للشعب اليهودي». وقد كان تيودور هرتزل وماكس نوردو يدركان أهمية الأساليب الدينية في تجنيد الجماهير، ولذا عندما وقع اختيار أرض فلسطين لتجميع اليهود فيها بسبب عوامل عدة من بينها الدين قال هرتزل عن اسم فلسطين: «ففلسطين هي صرخة عظيمة تجمع اليهود».
دعا مؤتمر بازل في سويسرا الذي دعا إليه وترأسه تيودور هرتزل عام 1897م إلى تقوية الوعي والعواطف اليهودية لدى اليهود عن طريق المعتقدات اليهودية والنصوص التوراتية وتوظيفها في مشروع بناء الدولة الصهيونية. واتبعوا أساليب دعائية لهذا الهدف. ومن أساليبهم تركيز الدعاية الصهيونية على استخدام النص التوراتي في تحقيق أهدافهم وغاياتهم. فالنصوص الدينية من أهم ما يشكل فكر الرأي العام لذا راح زعماء الصهيونية بخلق نصوص توراتية تدعي أن لهم جذورًا تاريخية ودينية في القدس. وإعطاء مكانة لها عند اليهود وذلك عن طريق خلق نصوص تدعي أن الإله منحهم الأرض ملكًا أبديًّا، من هذه النصوص –على سبيل المثال لا الحصر– النص الذي ورد في سفر التكوين 15 / 8 ادَّعَوْا أن الله يخاطب به إبراهيم –عليه السلام– «لنسْلِك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات». وجعل الإله هذا العهد أبديًّا «وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسْلِك من بعدك في أجيالهم عهدًا أبديًّا» (التكوين 17 / 7 )، والواضح أن العهد يشمل جميع نسل إبراهيم، ولكن يمعن كتبة التوراة في التفصيل حتى يكون العهد فقط لسلالة يعقوب -عليه السلام-.
والنص الآخر أن القدس مكان نجاة لليهود يقول النص: «لأنه في جبل صهيون وفي أورشليم تكون النجاة كما قال الرب» سفر يوئيل: 2 / 33. وأن الرب ساكنٌ فيها: «والرب من صهيون يزمجر ومن أورشليم يعطي صوته، فترجف السماء والأرض، فتعرفون أن الرب إلهكم، ساكن في صهيون جبل قدسي، فتكون أورشليم مقدسة ولا يجتاز فيها الأعاجم فيما بعد» سفر يوئيل: 3 / 15، 17. هذه التعبئة النفسية تجعل اليهودي يتحمس للمشروع الصهيوني باعتبار أن الله أعطاهم الأرض فهم أحق بها من غيرهم.
الأسلوب الدعائي الآخر هو الترويج لدى اليهود أنهم شعب الله المختار «شعب مقدس» يقول النص: «إله إسرائيل… قدوس إسرائيل.. الساكن في بيت إسرائيل شعب الله المختار.. تراث الرب، أفرزتهم لك ميراثًا من جميع شعوب الأرض، اختارك الرب لكي تكون له شعبًا خاصًّا فوق جميع الشعب الذين على وجه الأرض» خلقت الدعاية الصهيونية على اليهود صفة القداسة ونشرت عن طريق رجال الدين اليهود أفكارًا يروجونها بين جماعات اليهود بأنهم شعب مقدس اختاره الإله. وهو شعب واحد وبوجوده متفرقٌ في أنحاء العالم لن تتحقق له هذه القداسة؛ لذا عليه العودة إلى القدس «أرض الميعاد»؛ لكي تتحقق له كامل هذه القداسة. فنقله إلى القدس له أبعاد دينية مقدسة. يقول أحد مفكري الصهاينة يدعى موشيه ليلينبلوم مؤكدًا قداسةَ اليهود أنهم «الجميع أبناء إبراهيم واسحاق ويعقوب… لأننا مقدسون». فالمعنى أن اليهود تجري في عروقهم هذه القداسة بشكل متوارث.
ومن أساليبهم أيضًا أن العودة إلى القدس مقدمة لظهور «الماشيح»، سعت الدعاية الصهيونية عن طريق رجال الدين اليهود إلى تطور مفهوم الماشيح فبعد أن كان شخصية سياسية قومية سيظهر آخر الزمان ويقود شعبه إلى القدس ويعيد بناء الهيكل ويؤسس مملكة يهودية، أصبح بفعل فتاوى حاخامات اليهود لن يظهر إلا بهجرة أعداد كبيرة من اليهود إلى القدس لاحتلالها كخطوة على طريق ظهور الماشيح المنقذ وتحقيق مملكة إسرائيل؛ لذا خلق حاخامات اليهود النص التوراتي وهو نبوءة هوشع النبي: «لأن بني إسرائيل سيقعدون أيامًا كثيرة بلا ملك وبلا رئيس… بعد ذلك يعود بني إسرائيل ويطلبون الرب إلههم… ويفزعون إلى الرب وإلى وجوده في آخر الأيام» معنى ذلك أن الماشيح لن يظهر إلا بعودتهم للقدس.
سعت الدعاية الصهيونية إلى بث الروح القومية لدى اليهود، فاليهود يعيشون جماعات متفرقة في العالم منتمين إلى البلدان التي يعيشون بها؛ لذا حاولت الدعاية الصهيونية إعادة إنتاج صورة اليهودي لدى اليهود أنفسهم فاليهودي خارج أرض الميعاد هو إنسان لا جذور له وغريب مضطهد، لكن إذا قرر العودة فسيصبح إنسانًا قويًّا ويستطيع أن يدافع عن نفسه. ورفعت شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وإطلاق مصطلح شعب على الجماعات اليهودية المتفرقة في العالم تعطي انطباعًا لديهم بأنهم شعب لا ينتمي إلى البلدان التي يعيشون بها، وحيث إنهم شعب فعليهم العودة إلى أرضهم «أرض الميعاد». واستفادت الدعاية الصهيونية من أسلوب بث الروح القومية لدى اليهود من جانبين: الأول هجرة أعداد من اليهود إلى فلسطين. والجانب الآخر هو أن اليهودي في أي بلد لا بد أن يشعر أنه لا ينتمي إليه وإنما يجب أن يوجه انتماءه إلى إسرائيل حتى وإن لم يهاجر إليها فعليه خدمة مصالح بلده إسرائيل أولًا، فمثلًا في أميركا أصبح اليهود فيها يخدمون الصهيونية من دون الحاجة إلى الهجرة لإسرائيل وبما أن أميركا دولة مهاجرين من بريطانيا وفرنسا وألمانيا… إلخ، فكذلك هناك مهاجرون من إسرائيل. ونقلت هذه الفكرة إلى يهود العالم فأصبح اليهودي في أي مكان بالعالم إن لم يهاجر إلى إسرائيل فعليه أن يخدمها في البلد الذي يعيش فيه بحكم أن أصوله ترجع إلى هناك.
وهكذا عن طريق الدعاية المنظمة استطاعت الصهيونية تحقيق أهدافها، ولكن حقيقة القول أنه لم يكتب للحركة الصهيونية النجاح إلا بعد أن تبنت الدول الإمبريالية، وبخاصة التي تدين بالمذهب البروتستانتي، المشروع الصهيوني، فالمذهب البروتستانتي معتقد في ظاهرة مسيحي وباطنه صهيوني يؤمن بالعودة الثانية للمسيح التي لن تتم إلا بعد تجميع اليهود فيما يسمى أرض الميعاد. وهذا يفسر لنا السياسة الأميركية الداعمة لإسرائيل فمعظم سياسيها من أصحاب هذا الفكر وهم يمثلون أداة ضغط فعالة على السياسة الأميركية خدمة لمصالح إسرائيل وبما يملكونه من رؤوس أموال كبرى تؤثر في سير الانتخابات للأحزاب الأميركية. وما إعلان الرئيس الأميركي الحالي ترمب أن القدس عاصمة لإسرائيل، إلا ترجمة لهذه السياسة الصهيونية.
الصهيونية شأنها شأن أي حركة سياسية تريد أن تكسب شرعية وأن تجيش الجماهير وراءها ولن تجد أنسب من لباس الدين لتحقيق غايتها ولكن في حقيقتها حركة علمانية لا دينية. وقد أظهر بعض زعماء الصهيونية عداء للدين اليهودي ومنهم أبو الصهيونية ومؤسسها تيودور هرتزل الذي تعمد انتهاك العديد من الشعائر الدينية اليهودية عندما زار القدس، وانتقد عقيدة «الماشيح» ووصفها بأنها رؤية متخلفة. والزعيم الآخر ماكس فوردو كان يجاهر بإلحاده ويرى أن كتاب هرتزل «دولة اليهود» يجب أن يحل محل التوراة بوصفه كتاب اليهود المقدس، ولا يرى أي قدسية للقدس وإنما هي مجرد أرض ينقل إليها اليهود لأهداف مادية.
وخلاصة القول أن المشروع الصهيوني هو نفسه المشروع الصليبي، فكلاهما مشروع غربي علماني يهدف إلى احتلال الأراضي العربية والسيطرة عليها.