بواسطة صبحي موسى - كاتب مصري | يوليو 1, 2020 | كتب
أسئلة وجودية اعتنت بها الرواية الجديدة للكاتب المصري محمد الفخراني «أراك في الجنة» الصادرة أخيرًا عن الدار المصرية اللبنانية. أسئلة أصرت على مناقشتها على مدار 127 صفحة من قطع الجيب، وذلك عبر قصة حب بين كاتب ومعلمة، قصة حب بها كثير من الفنتازيا المناسبة لطرح أسئلة فيزيقية عن الجنة والنار وإنكار الإله وإثبات وجوده، قصة حب تدور ما بين الجنة والجحيم، وما بين الواقع في الحياة الأولى والمتخيل في الحياة الثانية، قصة حب يربطها من بدئها حتى نهايتها علاقة رومانسية بين آدم وحواء الجديدين، آدم هو الشاب الوسيم الذي اتُّفِقَ على أن يكون اسمه نقار الخشب رغم أنه أقل وسامة منه، والمعلمة التي كلما سألها الشاب عن شيء أجابته بكلمة: «تخيل؟»، فمنحتها هذه الكلمة اسمًا لها، الشاب العلماني الرافض للأساطير الكبرى أو ما يعرف بالديانات، والفتاة المؤمنة بالإله الخالق المدبر لكل شيء، وعلى مدار صفحات الرواية نجد هذا الحوار الطويل بين نقار الخشب وتخيل عن الإله والجنة والنار وجدوى ذلك من عدمه، عن الإيمان وعدم الإيمان ودلائله، حتى بدا النص كما لو أنه استعادة بشكل ما لقصة حي بن يقظان، والوصول إلى الله باليقين وليس بالتسليم، والإيمان بأهمية الشك من أجل الوصول وليس الشك لأجل الشك.
وكعادته في مجموعة أعماله الأخيرة بدءًا من خيال حر وغيرها تمتعت رواية الفخراني بصغر الحجم وقصر الفصول وعوالم الفنتازيا واللغة الشاعرية، ويمكن القول: إنه تمكن من بث طاقة شعرية مهولة في لغة هذه الرواية، حتى بدت في مجملها كما لو أنها قصيدة شعر متعددة المقاطع، وبدت عوالمها الشعرية مدهشة وجميلة، وانتقالاتها بسيطة وتلقائية رغم تغيرات الزمان والمكان، حتى إننا لا نشعر بوجود الزمان والمكان فيها من الأساس، ونتحرك مع النص كلوحات متوالية، منشغلين بشاعرية الأسئلة والإجابات، وبالرومانسية التي شملت كل صفحة وسطر فيها.
محمد الفخراني
حوار طويل
تعد الرواية في مجملها حوارًا طويلًا بين الشاب والفتاة، وروح اليقين والمحبة اللذين سربهما الفخراني إلى نصه، وكأننا أمام حال وَجْدٍ صوفيٍّ تقطعت على لوحات، لينتهي العمل بأن يثبت الإله للإنسان أنه أكثر حبًّا لعباده منه، فيعفو عن كل من في الجحيم كي يدخلوا الجنة ويعيشوا بسلام، الإنسان الذي سعى الفخراني لجعله محور النص عبر طرائق شتى، في مقدمتها الرواية التي كتبها نقار الخشب، التي ضاق منها ومزقها، والتي قامت حبيبته تخيل بجمعها مرة أخرى على نحو جمع إيزيس لأشلاء أوزوريس، وقامت بطبعها بعد موته بنحو خمسين عامًا، الإنسان الذي استحق أن يطلق عليه الكاتب «أجمل فكرة في العالم»، لتتحول في لحظة غضبه عليه إلى «الإنسان أحقر فكرة في العالم»؛ ذلك لأنه لم يتوقف عن الفساد والقتل.
يتبنى الفخراني طيلة النص موقفًا دينيًّا يتسم بالمرونة، فيمكنه أن يناقش أفكار العلمانيين واللادينيين، ويقدم مزاعمهم في رفض الإله على لسان نقار الخشب، بينما تقوم تخيل بالرد وتوضيح مدى فشل وجهة نظرهم، ليأخذنا النص في سيناريو شبه محكم إلى القول في النهاية بوجود الإله، وأن الحب هو السر الذي يمكننا من خلاله أن نراه، وأن هذا الإله ليس قاتلًا ولا دمويًّا ولا معذبًّا كما يتصور بعض، وأن الجنة ليست سوى حياة أخرى يستحقها الجميع، وبخاصة هؤلاء الفقراء والمستضعفون الذين كانوا حطبًا لصراعات أكبر منهم، وأن كل شيء يسير بحكمة كبرى لا نستطيع أن نفهمها لأننا لا نرى غير جزء بسيط من الرواية الكلية، الرواية التي يمكن فهم ما فيها من خلال تحليلنا للجزء الذي علمناه منها، لكنها ستظل رؤية كلية لا يحيط بتفاصيلها وأبعادها سوى الإله نفسه، هكذا نجد أنفسنا أمام نص ديني متطور، يعنى بإعادة إنتاج الأفكار القديمة التي طرحها أصحاب علم الكلام، ولكن عبر صيغة روائية تتفق مع الزمن الحديث، معتمدة منهج الشك وصولًا لليقين وليس الشك للشك فقط.
أجواء متخيلة لعوالم الجنة والجحيم
أصعب ما قامت عليه الرواية هو الأجواء المتخيلة لعوالم الجنة والجحيم، ولقاءات ما بين نقار الخشب وبين أهل الجنة والجحيم، وكأننا أمام الفردوس المفقود لدانتي أليجيري، لكن أغلب مشاهد الرواية، التي استفادت كثيرًا من لغة السينما وتقنياتها وخبرات مشاهدتها، اعتمد على مشاهد سينمائية ظهرت في بعض أفلام الخيال العلمي، كالشاشة الفضية التي تظهر منها «تخيل» لـ«نقار الخشب» كلما طلب رؤيتها، وكأن يمدد يده من خلال هذه الشاشة ليقبض على يد حبيبته، وهو أمر يمكن تفهمه في إطار الرغبة في تنمية الخيال، وبخاصة أن الفرضيات التي انطلق منها الفخراني صعبة ولا توجد خبرات سابقة لها سوى ما ورد في كتب الأثر أو إبداعات الفلاسفة والأدباء، أو ما قدمته السينما الغربية بتقنياتها المدهشة وقدراتها المهولة على تحويل الفنتازيا إلى واقع في أفلام الخيال العلمي.
النص في مُجمَلِهِ عمل مدهش وبسيط، يتمتع بسلاسة مفرطة ورؤية شعرية كبيرة، وهو ينتمي إلى عالم النوفيلا وليس الرواية في معناها الكلاسيكي وبنائها الكتدرائي الكبير، تمكن فيه الفخراني من أن يطرح أسئلة يصعب طرحها من دون السقوط في مأزق المؤاخذات، لكن لأنه من الصفحة الأولى خلق حال من الشاعرية والفنتازيا، وجعل من الحديث اللاهوتي سؤالًا فلسفيًّا وليس حديثًا في الدين، وفي الوقت الذي يناقش فيه موقف الأساطير القديمة خلَق أسطورةً جديدة محورُها الإنسانُ، كما في الوجودية، لكنه الإنسان الذي يعيش ويتأمل ويحلم بعالم آخر.
بواسطة صبحي موسى - كاتب مصري | مارس 1, 2020 | بورتريه
حين رأيناه في سنواته الأخيرة كان محمد عيد إبراهيم (1955- 2020م) قد عاد من مدن الخليج البعيدة متكئًا على عصا في يده، باتت جزءًا لا يفارقه خلال هذه الأيام العصيبة، لكنه أصر على أن يكون جزءًا من المشهد المليء بالثورة حينها، حيث ميدان التحرير وأحداثه الصاخبة في محمد محمود وغيرها، كانت الثورة تضرب بجلالها في الميادين والشوارع والبيوت والمؤسسات الكبيرة والعريقة. وكانت عصا محمد عيد إبراهيم لا تتوقف عن السعي في مواكبها الطويلة، متأملًا شعاراتها التي بدأت بـ«ارحل» مع مبارك، وانتهت بـ«نون النسوة مش هترحمك يا مرسي». هكذا جلس يتأمل هذا الشعار على أسوار قصر الاتحادية ضاحكًا، كما لو أن انتصارًا شخصيًّا يخصه تحقق على السلطة، تلك التي قرر الثورة عليها منذ كتب قصيدة النثر في مطلع شبابه، فكان الشاعر الوحيد الذي كتبها بين رفاق جيله، هؤلاء الذين ساروا على دربه فيما بعد، وتحولوا من التفعيلة إلى النثر، بدءًا من حلمي سالم ورفعت سلام ومحمد فريد أبو سعدة وانتهاءً بأمجد ريان وجمال القصاص وعبدالمنعم رمضان ومحمد سليمان وسواهم.
دوائر الاغتراب
يقول الشاعر محمد سليمان: إنه التقي محمد عيد إبراهيم في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وإن الأخير كان يكتب نصًّا مختلفًا في ذلك الوقت عن جميع الشعراء المصريين والعرب، لكن هذا النص وضعه في دائرة الاغتراب منذ بداياته، ويوضح سليمان ذلك قائلًا: «كان عضوًا معنا في جماعة أصوات، ونشرنا له ديوانه الأول «طور الوحشة» ضمن مطبوعاتها، ثم جاءت مجلة إبداع برئاسة الدكتور عبدالقادر القط، وكان القط يرى أننا متأثرين بالسريالية، ونصوصنا مشبعة بالغموض، فنفاها في باب خاص أسماه تجارب، وللأسف هذا الباب لم يرحب ولو بنص واحد لمحمد عيد إبراهيم، فظل مستبعدًا من معظم المجلات ودور النشر، ولم ينشر معظم دواوينه إلا في الخارج حينما سافر للعمل، ولم يحدث أن طُبع أي من دواوينه طبعة ثانية في مصر، وظل نصه بعيدًا من المتلقي، ولأن النشر يتيح فرصة التراكم النقدي والإعلامي فلم يستفد من الحركة النقدية التي لم تجد له نصوصًا، فظل يواصل الإبحار في دوائر الاغتراب».
«لا أعرف كيف ينام المرء، حال المرض، 24 ساعة في 24 ساعة، وسط كوابيس ملونة خفيفة، وموتى كأزهار سود في عشب قد تآكل… ولا يأكل غير الماء! عقلي في صفحة لتئن أوهامي، بينما ملاكي الحارس تمضي بيديها من حولي طيلة الوقت. وأناملها المريمية على جبيني بعض الوقت، لتتأكد من أنني لا أزال ضمن هذا العالم، لم أطر».
هكذا قال محمد عيد إبراهيم في مستهل ديوانه «عيد النساج»، وهكذا صنع قصيدته الخاصة مبكرًا ضمن إطار قصيدة النثر، قبل أن يفكر أبناء جيله في الدخول إلى هذا العالم، ليكتب دواوينه (طور الوحشة، فحم التماثيل، الملاك الأحمر، خضراء الله، السندباد الكافر، عيد النساج)، وإمعانًا في التحليق خارج السرب فقد زاوج ما بين الشعر والترجمة، وتنوعت ترجماته ما بين الشعر والرواية والنقد. يقول الشاعر والناقد المغربي عبداللطيف الوراري عن هذه التجربة: «تلتصق صورة محمد عيد إبراهيم في وجداني بثلاث علامات رئيسيّة؛ فهو الشاعر المختلف الذي يقدم إلينا تجربته الخاصّة مع جيل السبعينيات المصري، وحماسه الطليعيّ ضمن جماعة «أصوات» جنبًا إلى جانب «إضاءة». وإذا كان بعض شعراء هذا الجيل، بمن فيهم حلمي سالم ورفعت سلام وعبدالمنعم رمضان، برزوا أكثر من غيرهم لأسباب ذاتية وموضوعية، إلا أن محمد عيد إبراهيم قد يكون من «مظلومي» الجيل الذين لم يأخذوا حقّهم من الدرس النقدي والرواج الإعلامي؛ وذلك لسببين هما طبيعة شعره «الغامض»، وثراء مقروئيّته التي تنهل من روافد معرفية كثيرة قادمة من الشرق والغرب؛ مما يُظْهر جملته الشعريّة على غير ما اعتادت الذائقة السائدة من سعة المعنى وتراكب البناء النصّي. بدءًا من «طور الوحشة» (1980م) حتى «على شكل طائر» (2018م)، ويمكن في حقيقة الأمر للدارس غير المتعجّل أن يكتشف خصائص مائزة ظلّت هاجعة في لا وعي النص الشعري عنده، ورُبّما أعادت تقويم موقعه الريادي والمختلف ضمن حركة الشعرية العربية ككلّ».
ويذهب الوراري إلى أن اسم محمد عيد إبراهيم ارتبط في مجال الترجمة بعدد من عيون الأدب والفكر العالميين، كبورخيس، وإيتالو كالفينو، ومارك توين، وموراكامي، وهارلود بنتر، وجاك كرواك، وآن سكستون، وتيد هيوز، وجلال الدين الرومي، وبول إيلوار، وجاك بريفير، وجورج باتاي، وبول أوستر، وميلان كونديرا، والماركيز دو ساد، ولويس أراغون، وأنطوان آرتو وغيرهم، وكانت هذه الترجمات ضرورية، لحاجة بيئتنا اللغوية والجمالية المعاصرة إليها، ويضف الوراري «لكن الصورة الأهمّ هي نصرته لشباب المبدعين في مصر وفي الوطن العربي، فقد كان يقف إلى جانبهم ويحفزهم على مواصلة إبداعهم، خاصة من أهملتهم مؤسساتهم الثقافية، وتجاهلتهم وسط تهافت «شلليّات» تستشري كالفطر وتحجب عنهم الأفق».
صراعات قديمة
ويذهب الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة إلى أن محمد عيد إبراهيم مثل نقطة مضيئة في مسيرة الشعر العربي وفي قصيدة النثر منذ أواسط السبعينيات حتى الآن، وأنه كرس جزءًا كبيرًا من وقته وجهده من أجل ترجمة الشعر الأجنبي إلى اللغة العربية لأنه لا بد للشاعر العربي أن يطلع على نماذج كثيرة من الشعر الأجنبي. ويشير حوامدة إلى أن عيد إبراهيم كان «يمتلك حساسية طازجة للنصوص الجديدة، ولا يتوقف عن نشرها وتعريف الشعراء بها، فهو يبحث عن الشعرية حتى عند غيره من دون أنانية أو شخصنة، بل كان يرى أن كل الفنون تخدم القصيدة حتى الفن التشكيلي؛ لذا علينا أن نهتم بقصائده ومجموعاته التي لم تحظ في حياته بالنقد الكافي؛ إما بسبب الصراعات القديمة بين جماعتي «أصوات» و«إضاءة»، أو بسبب عدم تقبل قصيدة النثر».
ويؤكد الشاعر المصري أسامة الحداد على أن الغياب ليس إلا حضورًا ساطعًا، وأن الحياة تكشف كل لحظة عن عبثيتها، ويقول: «قبل أيام من رحيله كنا نتحدث عن فاعلية لتكريم محمد عيد إبراهيم، فاعتذر حزينًا وفي صوته مرارة واضحة نتيجة قلة الحضور في تكريم بعض مجايليه، وقال وجود عدد قليل من المشاركين مؤلم، وأنا مريض لا أتحمل أن يكون الاحتفال بي هزيلًا. كان شعوره بالتهميش يضاعف آلامه، هو المقاتل الذي لا يلين منذ ديوانه الأول، فخلال رحلة تجاوزت أربعين سنة أخلص فيها لقصيدة النثر، والتجديد فيها، ليقدم منجزًا شعريًّا يحمل فرادته وخصوصيته، ويكشف من خلاله عن ثقافته الرحبة وقدرته على التفاعل مع نصوص إنسانية عديدة ومختلفة، منتجًا نصًّا له أفقه متعدد الدلالات».
ويضيف الحداد «لم يتوقف جهد محمد عيد على إنتاج الشعر ولا نقل العديد من عيون الأدب العالمي إلى اللغة العربية، فجهده الثقافي كان كبيرًا، فقد أسس خلال فترة عمله بإدارة النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة سلسلة «آفاق الترجمة» التي من خلالها تعرف القارئ المصري والعربي على أعمال «هنري ميشو» و«قيصر بابخيو» و«بيسوا» وغيرهم، وعقب عودته من عمله بالخليج لعب دور الأب من خلال صفحته على الفيس بوك باسم (أنا / الآخر)، فقدم من دون افتعال العشرات من الكتاب والشعراء المصريين والعرب، ونجح في توطيد العلاقات بينهم وفي بداية تأسيسه لها، وكلما قرأت نصه عن موت الأدمن شعرت بالأسى، فقد كان يستشرف غيابه هو، هو الأب الذي تنازل طواعية عن سلطته الأبوية باقترابه من الأجيال الجديدة كأنه واحدًا منهم، ليعلي قيمة الكتابة الأدبية وأنساقها الجمالية التي عاش من أجلها».
بحثًا عن أرض وسماء أكثر اتساعًا
عاش محمد عيد إبراهيم دوائر متوالية من العزلة والتهميش، ربما لأن خطواته كانت أسبق من خطوات أقرانه، فكتب قصيدة النثر مبكرًا عنهم، وهجرهم في مقاهيهم، وذهب إلى بلاد الخليج بحثًا عن أرض وسماء أكثر اتساعًا، لكن رحلته التي دامت نحو عشر سنوات لم تزده إلا غربة على اغترابه، فعاد يحمل عصاه يتوكأ عليها، ويتأمل الثورة التي انتظرها طويلًا، لكنها لم تأتِ وفقًا لما كان يحلم به، فقد صعد الإخوان إلى سدة الحكم، وتآكلت مساحة الليبرالية التي تمناها، والتي استعاض عنها بصفحة (أنا/ الآخر)، والتي استلهم منها صديقه الشاعر والصحفي محمد حربي قصيدته «نساج وحيد»، التي كتبها عنه قائلًا فيها:
«طينة رحبة تُسامح الحصى
ثم تتوكأ على الحواريين في الطواف
أنسي الحاج والماغوط ولوركا ورامبو
وبورخيس اللعين
صلاح فائق جندي يرابط في تخوم الخيال
كي لا تخطفه غيمة إلى ما لا يريد
وحتى باتاي الرجيم يسنده إلى جدار؛ كي لا يقع على ظل
على حافة المقهى وهو يترجم معوذة في حضرة العواء
وترنيمة بإيقاع المقامرة ورعشة الجنون».