بواسطة منصور الصويم - كاتب سوداني | سبتمبر 1, 2021 | مقالات
لا أظن أن أحدًا من المثقفين السودانيين، توقّع أن يَعلَق الواقع الثقافي السوداني في الحالة الراهنة من السكونية بل الغياب، بعد المؤشرات التي أبرزتها ثورة ديسمبر المجيدة عقب الإطاحة بالنظام الظلامي للإخوان المسلمين؛ إذ ظلت تلك المؤشرات تذهب -تفاؤلًا- باتجاه تحولات كبيرة منتظرة للمشهد الثقافي السوداني، بعدما ظلت الثقافة خارج اهتمامات النظام البائد بل ناصبها العداء الصريح، باستثناء اضطراره إلى استعمال سطحها في الهامش البروتوكولي.
لكن بعد انزراع الفعل الثقافي في قلب الثورة، واستبطانه بالكامل في الخطاب السياسي المحرك للفعل الثوري؛ سواء إبان الحراك الثوري الفاعل للإطاحة بالبشير وزمرته، أم بعد الإطاحة به، جاءت مسارات الأحداث بعد ذلك لتوضح لكثير من المثقفين أن الأمر لم يكن سوى أمنيات ووعود براقة -كالعادة- تلوّح بها نخبة السياسيين، فراهِن المثقفين اليوم أكثر تراجعًا، إن لم نقل مواتًا، منه قبل الثورة. فما الذي حدث؟
في بلد يعاني داءً اقتصاديًّا عضالًا، وخناقًا سياسيًّا وورطة مجتمعية بفعل الحروب الأهلية، والفساد المتراكم منذ العهد البائد؛ يصبح ضربًا من «الاستحالة الرومانسية» تشييد بنيان ثقافي متكامل، يلامس ويحاور الثقافات السودانية المتداخلة والمتنازعة والمتجاورة؛ من دون أن يستند إلى دعم حكومي كبير، بما يشمل خططًا وسياسات وتمويلًا وتأسيسًا للبنى التحتية.
هذا ما يراه كثير من المثقفين السودانيين الموضوعين خارج الفعل، حين نظرهم فيما يعكسه واقع بلد تعاني أكثر ثقافاته وفنونه التهميش والتغييب المتعمد، منذ استقلال البلاد وربما قبله، وليس في عهد المخلوع البشير فقط، وهو أمر ظلت انعكاساته واضحة في الدور الطليعي للمحمولات الثقافية في ثورات الهوامش السودانية خلال الثلاثين سنة الماضية، التي أسهمت -إلى حد كبير- في انفصال جنوب السودان.
إذن، جاءت حكومة الثورة، مثقلة بأحلام المثقفين عن سودان الفعل الثقافي المتوازن بين الجميع، في المركز أو عند البعيد من أقاصي وتخوم البلاد، المثقفون لائذين رأوا فيها أيضًا حكومة الاستنارة والوعي المرتجاة، بما يعنيه ذلك من تثوير في سبل المعرفة والثقافة، في الكتابة والدراما والغناء، وقبل ذلك الحوار الثقافي بين مكونات الشعب السوداني كافة، لكن لِمَ لمْ تفعل حكومة الثورة كل ذلك؟ ولِمَ غيَّبت المثقفين عن موقعهم ومشهدهم وفعلهم الثقافي؟ ولِمَ تراجعت الثقافة إلى أدنى الاهتمامات حتى وهي جزء أصيل في واحدة من حقائب الحكومة الثورية الجديدة؟ هذا ما يحاول المثقفون السودانيون الإجابة عنه، وما يحاولون تكسيره وإعادة الأشياء إلى منطقها السليم بوضع الثقافة في موضعها المفترض.
وزير الصحافة ومجالس الثقافة
أثرت الأزمات الكثيرة، بما فيها أزمة جائحة كورونا، في أداء حكومة الثورة الأولى، وحدّت من فعلها وتحركها تجاه الثقافي وتفعيله، لكن كثيرًا من المثقفين السودانيين رأوا أن الوزارة التي كان يفترض أن تضطلع بالدور الفعلي في تثوير الفعل الثقافي في سودان ما بعد الثورة، لم تهتم أصلًا بهذا الجانب، وركز وزيرها، فيصل محمد صالح، على الشق الثاني من وزارته (وزارة الثقافة والإعلام)، مرجعين ذلك إلى الخلفية الإعلامية والصحافية للوزير، مع أنه قريب أيضًا إلى مجموع المثقفين، لكونه شاعرًا معروفًا وكاتبًا أدبيًّا يهتم بالنقد، بيد أن التركيز الإعلامي للرجل ولمجمل عمل وزارته عضَّد من هذا الاتجاه، بكون الثقافي شقًّا مهملًا في أجندة الوزير، وحكومته. ما الذي فعله الوزير بالضبط؟
حاول الوزير فيصل تفعيل الكيانات الثقافية الرسمية الموروثة من النظام السابق، وعلى رأسها المجلس القومي للثقافة والآداب والفنون، وصندوق دعم المبدعين السودانيين، ومجلس حماية حق المؤلف والحقوق المجاورة، وهي كيانات ومؤسسات ثقافية تتماس بشكل مباشر مع المثقف والفعل الثقافي. اختار الوزير للمجلس القومي للثقافة والآداب الشاعر عالم عباس ليكون أمينًا عامًّا، في خطوة حسبت لصالح الوزارة لما عرف عن عالم عباس من رغبة وقدرة في العمل لأجل التغيير، ولإسهامه الكبير خلال الحقب المختلفة في قراءة المشهد السوداني، واقتراحه لواقع ثقافي متوازن لا يهمل أو يهمش ثقافة من الثقافات السودانية المتعددة، ولا سيما أن الرجل نفسه ابن لهذا الواقع المهمش أو المغيب.
مضت ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر على تعيين عالم عباس في منصبه ذي البعد التخطيطي والتنفيذي، ولم يفعل الرجل خلالها شيئًا سوى عقد بعض الاجتماعات واللقاءات مع مجموعات مختلفة من المثقفين (مسرحيين، كتاب، موسيقيين)، ثم أعلن فجأة تقديم استقالته، مستتبعًا ذلك بتوضيح يؤكد أنه كان يعمل من دون ميزانية، ومن داخل مبنى آيل للسقوط، وأن كل مناشداته للوزارة والحكومة لم تجد أذنًا مصغية، وبهذه الكيفية فهو لن يستطيع تقديم شيء، ففاقد الشيء لا يعطيه، انسحب عالم عباس من المشهد ولم يعد أحد يدري بالذي يدور داخل أهم مؤسسة للفعل الثقافي داخل البلاد، فكل شيء متوقف ولا جديد.
للمؤسسة الثانية، (صندوق دعم المبدعين)، التي كان المثقفون يأملون أن تقدم لهم شيئًا وإن على طريقة وأسلوب النظام البائد في الدعم والرعاية، اختار الوزير شاعرًا آخر هو عبدالقادر الكتيابي، الذي شكا بدوره من قلة وانعدام والتمويل، لكنه لم يتقدم باستقالته، ولم يقدم شيئًا للمثقفين أو الثقافة، ولا يدري أحد ما الذي ينوي فعله أو يفعّله بالضبط.
أما مجلس حماية حق المؤلف والحقوق المجاورة، فاختار له الوزير أيضًا شاعرًا، ذا خلفية قانونية، وهو المحامي حاتم إلياس، الذي على ما يبدو وجد شيئًا من الحياة داخل المؤسسة سيئة السمعة، وعلى الرغم من كل المشكلات والشكوك التي كانت تحيط بالعمل في هذا المكان، فإنه إلى حد ما استطاع إدخال المبادئ الثورية وتثوير العمل؛ إذ تمكن من إلغاء كل أشكال الرقابة على الكتب والأعمال الأدبية والفنية، بل ألغى بأثر رجعي قرارات متعلقة بمنع ومصادرة كثير من المؤلفات التي لم تكن تروق لأجهزة النظام البائد، سواء الأمنية أم الثقافية أم السياسية. إلى هنا وتوقف الوزير وتوقفت محاولات التغيير الثقافي في مستواها الحكومي والمؤسسي.
بنية متهالكة وواقع مزرٍ
تعاني البنية الثقافية السودانية واقعًا متهالكًا ومتداعيًا. ولو أخذنا نموذجًا المشهد المسرحي في البلاد، فسنجد أن هناك عشرات المباني التي تسمى مسارح، وهي إما في طور التشييد من دون إكمال ولسنوات طويلة -مسرح خضر بشير مثلًا- أو هي في حالة لا تتناسب مع العروض المسرحية؛ لتداعي مبانيها وعدم ملاءمتها، ناهيك عن تخلفها الكبير عن التطور الذي تشهده الحركة المسرحية في المحيط الإقليمي أو في العالم أجمع. أما حال المسرحيين الدراميين أنفسهم، فواقعهم يحيل إلى حالة من التشظي والبؤس، فلا جهة تتبنى خطابهم، كما لا توجد مؤسسة رسمية أو خاصة تتبنى مشروعاتهم أو أعمالهم، وزاد الحال سوءًا مع الأوضاع الخانقة التي خلفتها جائحة كورونا.
الأمر نفسه ينطبق على السينما، فالبلاد تكاد تكون خالية تمامًا الآن من دور العرض السينمائي، التي تحولت بفعل الفساد والسمسرة إما إلى مبانٍ مهجورة، أو إلى دور أنشطة تجارية أخرى لا علاقة لها بالعمل السينمائي. السينمائيون، على الرغم من النشاط السينمائي الملحوظ -وهو حالة خاصة متعلقة بشروط أخرى لا علاقة لها بالدولة- كانوا يأملون على الأقل في إعادة إحياء مؤسسة الدولة للسينما، وهي المؤسسة الرسمية التي كانت ترعى الإنتاج السينمائي، وتشرف على دور العرض السينمائية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، ما قبل حكم البشير.
وهكذا يمكننا رصد واقع الكُتاب، وما يواجهونه من معاناة في النشر والعمل والترويج لما ينتجون، والفن التشكيلي الذي يفتقد رواده إلى صالات عرض تُقدر ما ينتج من فن رفيع في هذا المضمار، ويمتد الأمر إلى كل ضروب الثقافة، من دون أن نتعرض إلى الثقافة في معناها العام والشامل، بما يعنيه من تمثيل وترميز لمفاهيم الثورة حين إنزالها على المستوى الشعبي والمجتمعي، فما زالت ثقافة أحادية تبث على القنوات الفضائية والإذاعية، وإن شذ شيء فإنما يأتي ذلك في شكل مهرجاني بهرجي مرتبط بالسياسي العابر أكثر منه بالثقافي المتجذر.
مبادرات خاصة
دشنت الكاتبة الجنوبية السودانية، إستيلا قايتانو، مبادرتها «اصنع فرقًا بكتاب»، في ظل واقع ثقافي مغيب تمامًا من الناحية الرسمية، المبادرة ركزت على أحد الأقاليم المهمشة التي خرجت من الحرب، وأعني إقليم دارفور، والقصد منها تفعيل الدور الشعبي في تأسيس وتنشيط المكتبات وفعل القراءة في مدن الإقليم. استطاعت إستيلا في خلال مدى زمني قصير جدًّا، واعتمادًا على وسائل التواصل الاجتماعي فقط، أن تجمع -هي وفريقها من المتطوعين- أكثر من مئة ألف كتاب، وبدأت فعليًّا في تأسيس مكتبات في مدن مثل نيالا، وزالنجي، ومناطق أخرى من إقليم دارفور.
مبادرة أخرى، أو هي عدة مبادرات، أطلقتها صاحبة مؤسسة نرتقي للنشر الطبيبة الشابة إسراء الأمين، فمن خلال مركزها الثقافي حديث التأسيس، تمكنت من جذب عدد كبير من الشباب للمشاركة في ورش ودورات متعلقة بالكتابة، والتحرير والتدقيق اللغوي، إلى جانب النشر للأصوات الجديدة، وإقامة معارض الكتاب في الهواء الطلق، وهو ما حرك شيئًا من الجمود الثقافي في العاصمة الخرطوم.
«منتدى الرواية السودانية» مبادرة أخرى أطلقها الروائي والقاص محمد الخير حامد، تزامنت مع حالة الإغلاق التي أعقبت وباء كورونا؛ لذا اتخذت من وسائل التواصل منبرًا أساسًا لها، بيد أنها استمرت من بعد ذلك في فعل نقدي دقيق ومتواصل، راكم عددًا كبيرًا من الأوراق النقدية التي قرأت عددًا موازيًا من الأعمال الروائية، في حراك نقدي جاد لم تشهده البلاد من قبل.
هناك أيضًا مركز الفال الثقافي، الذي تتحرك إدارته في مجال الورش الكتابية وسط النساء بشكل خاص، وهو حراك موازٍ للحراك الذي تقدمه الشاعرة والروائية المقيمة بالنمسا إشراقة مصطفى عن طريق منصتها الثقافية «فنون بنات مندي»، وهو حراك لا يقتصر فقط على الورش، بل يعمل على دعم وتفريغ الكاتبات الشابات ونشر أعمالهن، هذا إضافة إلى أنشطة أخرى تحاول كسر الجمود الرسمي للواقع الثقافي باجتراح مبادرات خاصة تعمل على تفعيل وإحياء هذا الواقع.
أخيرًا، ربما، التفتت الحكومة بشكل جاد للواقع الثقافي في البلاد، فالوزارة المعنية بالثقافة وجهت الدعوة إلى عدد كبير من المثقفين والمفكرين والكتاب السودانيين، لعقد مؤتمر السياسات الثقافية، الذي بدأ الإعداد له بشكل جاد عن طريق تكوين عدد من اللجان التي تشرف بدورها على إعداد الأوراق التي ستقدم في هذا المؤتمر. فهل ستعود الثقافة إلى موقع الاهتمام وتدخل في دائرة التثوير والتفعيل؟
بواسطة منصور الصويم - كاتب سوداني | مارس 1, 2020 | مقالات
«لا لست أنا الحجر الذي يُلقى في الماء ولكني البذرة التي تبذر في الحقل»
الطيب صالح
تشتغل هذه القراءة على «التغيير»، وتتخذ منه مفهومًا يحيل إلى «الفعل الثوري» المكتمل، ومحورًا ينبثق منه ما يوحي بالحركة والتبدل والاستمرارية، الذي يعني بدوره القطع التام مع «القديم – الماضي – المتصور – الفاسد والساكن»، كما يشير إلى الاستمرار في الفعل التغييري وامتداده في الزمان والمكان من دون توقف، وبتعبير أدق التغيير هنا يعني الاقتلاع النهائي وإحلال الجديد المغاير.
والمحاولة هنا، للربط بين الفعل الثوري والفعل الأدبي، وما ينتج عنهما من مفاهيم آفاق –متغيرة– في كل من النطاقين الثوري والأدبي، تأخذ حيويتها من حيوية الثورة السودانية الأخيرة، التي اجتثت بفاعليتها «التغييرية – الثورية» نظامًا مهيمنًا وسكونيًّا يأبى على التغيير أو الاستعداد لتقبله، وأبدلته بنظام متغير ومتجدد تفترض فيه الحركية «التحسينية» المستمرة. أي أنها –الثورة السودانية– فعل ثوري تغييري مستمر إلى أن تتحقق جميع أهدافها في التغيير المنشود. وبهذا المعنى يصبح الاشتغال على أعمال الطيب صالح السردية من زاوية التغيير هي محاولة لرصد اللحظات الثورية الدقيقة الفاصلة في بعديها الفردي والمجتمعي حسبما اقتضت شروط النص الروائي- القصصي، وهو الشيء الذي أحاول تطبيقه على هذه الأعمال بالتركيز على دور التغيير في تطور ونمو الشخصيات السردية في أعمال الطيب صالح الروائية والقصصية.
تغيير أم تحول؟
بإجراء عملية مسح سريعة لشخصيات الطيب صالح السردية، في رواياته وقصصه القصيرة ومروياته السردية الأخرى؛ سنكتشف أن السمة الغالبة على أكثر هذه الشخصيات هي سمة التحولات – النفسية الاجتماعية، أكثر من سمة التغيير – الثورية التي ارتبطت بشخصيات محددة، سنتناول بعضها في هذه الورقة. وسنلحظ من خلال تناولنا لشخصيات الفعل التغييري أو الفعل الثوري، أنها لا تنفصل في فعلها هذا عن شخصيات التحولات، بل إن أكثرها ذو ارتباط إلهامي – إيحائي بهذه الشخصيات، فموقف الشخصية المتحولة في هذه الأعمال أسهم بقدر ما في حفز الشخصية الثورية للتحرك جهة التغيير وممارسته كفعل ثوري أحدث هزة عنيفة داخل المجتمع، أو ضرب بقوة هزت التكوين النفسي – الفردي لهذه الشخصية أو تلك.
مصطفى سعيد.. ملهم التغيير
كان بإمكان مصطفى سعيد «الشخصية المركزية في رواية موسم الهجرة إلى الشمال»، أن يحدث تغييرًا ثوريًّا فارقًا في البيئات التي تحرك في مجالها، سواء أكانت داخل السودان أو في أوربا – إنجلترا، كما كان بإمكانه أن يحقن الوعي والتثوير في شرايين كل من عرفهم بدلًا من أن يحقنهم بـ«جرثومة» الموت والهلاك. وبالرغم من أن مصطفى سعيد شخصية إشكالية معقدة وفصامية، فإنه مرّ بثلاث محطات مهمة على الأقل، كان جديرًا أن يتوقف عند إحداها ويحدث تغييرًا جذريًّا في صيرورة حياته، إلا أنه بدلًا من ذلك اختار «تحولات» صغيرة ومؤقتة لم تمكنه من حرق الماضي بكل مآزقه ومآسيه وبناء مستقبل جديد مختلف ومغاير.
المحطة الأولى التي أرى أنها كانت جديرة بقلب كيان مصطفى سعيد وتثوير حياته الكئيبة هي تلك اللحظة التي اكتشف فيها أنه مجرد «أكذوبة»، وذلك داخل قفص المحكمة أثناء وقائع محاكمته بجريمة قتل زوجته الأولى الإنجليزية «جين موريس»؛ ففي اللحظة التي كان محاموه يحاولون فيها الدفاع عنه وإظهاره بمظهر «الإفريقي» المتحضر لا «المتوحش» انتصارًا لرؤيتهم الاستشراقية، اكتشف مصطفى سعيد زيف وعيه وضآلة موقفه، وأنه لا يعدو أن يكون مجرد صورة مشوهة للآخر –المستعمر الذي كان يظن أنه ينازله ويحاربه في عقر داره حين صرخ «جئتكم غازيًا». فهو القائل: «هذا المصطفى سعيد لا وجود له، إنه وهم، أكذوبة. وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة» هذه لحظة تعرٍّ نادرة، إلا أن مصطفى سعيد أضاعها باستغراقه أكثر في تعقيدات شخصيته المغرورة والمأزومة، ولم يتحرك قط تجاه محو «الأكذوبة» وإحلال «الصدق- الحقيقة» مكانها، وتلك عملية تغيير ثورية إن فعلها لأحدثت انقلابًا كاملًا لمجرى حياته وحياة الذين ينجذبون إلى بؤرته المغناطيسية المدمرة، لكنه لم يفعل.
اللحظة الثانية التي أتيحت لمصطفى سعيد وأضاعها، هي لحظة خروجه من السجن ومواجهته نفسه في صقيع –جليد تلك البلاد التي «تموت من البرد حيتانها». وهي في رأيي لحظة وجودية فارقة، تكشف عن أنه لا معنى لحياة مصطفى سعيد الماضية: «يتشرد في أصقاع الأرض من باريس إلى كوبنهاغن إلى دلهي إلى بانكوك وهو يحاول التسويف»، المدهش أن هذه اللحظة الوجودية النادرة– الضياع والتشرد- تأتي في الرواية عابرة وسريعة ومختصرة ومضاعة؛ كأنها تعبر تمامًا عن فشل مصطفى سعيد في الإمساك بأهميتها وتطويعها لإحداث التغيير المطلوب وتحقيق الأفضل له وللآخرين، بيد أنه كان منقادًا للمأساة!
اللحظة الثالثة والمفصلية التي عبرت مستر مصطفى سعيد تحققت بعد عودته إلى السودان واختياره قرية نائية للسكن وقضاء بقية حياته. هنا أحدث الرجل تحولًا محدودًا ومؤقتًا، وغامضًا! إذ اكتفى بحبس ماضيه «التنويري» بين جدران غرفة غريبة على المكان – القرية في محاولة منه للتحايل على هذا الماضي فيما يشبه الحنين الموارى بستائر ثقيلة تحجب عن الآخرين المعرفة، وذلك من دون أن يقدم على نقد هذا الماضي أو مراجعته ومن ثم القطع أو التصالح معه حتى يتسنى له التحرك بحرية صوب نقطة التغيير الحقيقية وليس دائرة التحول المتوهمة التي ظل يدور داخلها إلى أن أخذته دوامتها المتلاطمة إلى الأبد. نعم، أحدث مصطفى سعيد تحولًا في القرية وضخ بعض المعرفة والوعي بين أفراد مجتمعها الصغير، نظم الأشياء، وأدارها بشكل علمي «هو الذي أشار علينا باستغلال أرباح المشروع في إقامة طاحونة للدقيق. (…) وهو الذي أشار علينا أيضًا بفتح دكان تعاوني. الأسعار عندنا الآن لا تزيد عن الأسعار في الخرطوم» موسم الهجرة إلى الشمال. لكنه –على الرغم من الأفكار الاشتراكية- فإنه لم يسعَ قط إلى إبدال الوعي القديم– الساكن لدى هذا المجتمع وتغييره إلى وعي متقدم يسهم في نقل القرية– المجتمع إلى مربع آخر، وإن حدث ذلك لتفادت القرية المأساة التي سيكون لمصطفى سعيد نصيب منها، سواء بتخاذله وجبنه عن «المنح» أو من خلال تلك الشحنة الهائلة من الوعي التي وهبها شخصًا واحدًا، وأدت إلى تغييره وتدميره معًا. تلك الشخصية هي حُسنة بت محمود، التي غالبًا تلقت تلك الجرعة من الوعي الهائل – المدمر دون «وعي» أو قصدية مباشرة من المتحول السلبي مصطفى سعيد!
الزين.. طاقة متحولة
إنْ كانت هناك شخصية مضادة لشخصية مصطفى سعيد، وتمثل معكوسها في كل شيء فبلا شك ستكون هذه الشخصية هي شخصية الزين المبروك بطل رواية «عرس الزين». فبينما نجد أن مصطفى سعيد يحرق بنيران مأساته كل من يقترب منه، يفعل الزين العكس تمامًا لمن يقتربون منه؛ إذ يهبهم «المبروك» الحيوية والسعادة وينعش آمالهم في الحياة بعد يأس «أصبح الزين رسولًا للحب ينقل عطره من مكان إلى مكان، كان الحب يصيب قلبه أول ما يصيب ثم ما يلبث أن ينتقل منه إلى قلب غيره» عرس الزين.
تموقع نظرية «التحليل الفاعلي» للبروفيسور الشيخ محمد الشيخ، شخصية الزين في موقع مثالي بين شخصيات الطيب صالح الأخرى؛ إذ يمثل الزين وفقًا لـ«التحليل الفاعلي»، بنية الوعي الخلاق في مقابل بنيتي الوعي البرجوازي والتناسلي. واحتلال الزين لهذا الموقع المثالي يتحقق -وفقًا للنظرية- استنادًا إلى شخصيته المعطاءة بلا حدود، الشخصية التي تقدم الآخرين على رغائبها الذاتية وتسعى جاهدة لمساعدة وإسعاد الجميع. هذه الصفات الخلاقة تجعل من الزين شخصية محورية في عملية التحولات التي تحدث في قريته ود حامد، بيد أن أثره الإيجابي هذا لا يتجاوز مرحلة التحول لينتقل إلى مربع التغيير الثوري الشامل، وربما يعود هذا إلى الطبيعة التركيبية لهذه الشخصية؛ كائن بسيط وطيب وأقرب إلى الدرويش. أسهم الزين في تغيير رؤية أهل القرية نحو جيرانهم الأغراب والمستضعفين «العتقاء والأعراب»، كما أسهمت تحولاته الشخصية في تحويل شخصية سيف الدين من رجل ماجن وداعر إلى رجل ملتزم ومسؤول، وأخيرًا تحول الزين نفسه إلى شخصية «منتمية» لا تنفصل عن المجتمع، ولا تنفصل في الوقت ذاته عن مكوناتها الخلاقة. بذرت شخصية الزين الفاعلة، في أرض الثبات التي تتحرك فيها شخصيات رواية «عرس الزين» –والروايات الأخرى– بذرة تغيير كبرى، ظلت فقط بانتظار من يرعاها جيدًا لتنمو وتزهر وتحدث التثوير المرتجى.
شخصيات أخرى متحولة
قبل الانتقال إلى مربع الشخصيات المتغيرة، والثائرة بين شخصيات الطيب صالح السردية، يجدر بي الإشارة إلى شخصيات أخرى، حملت جيناتها السردية مؤشرات التغيير لكنها اكتفت فقط إما بلعب دور محايد، أو إحداث تحول طفيف في بنيتيها الذاتية والمجتمعية. من هذه الشخصيات، الشخصية المحورية في كل أعمال الطيب صالح، وأعني الراوي محيميد، ابن القرية الذي تلقى تعليمًا حداثيًّا مختلفًا، وامتهن مهنة تنشئية وتربوية تمكنه من التأثير في الآخرين، وبالتالي حقنهم بدرجات الوعي المفترضة من رجل مستنير مثله، إلا أنه آثر السلامة واتخذ موقف المراقب والراصد المحايد، الذي يتابع – ينقل الوقائع كما هي دون أدنى محاولة للتأثير، وقد واتته فرصة التغيير الكبرى حين احتك بمصطفى سعيد، وخبر قصته الغريبة؛ وحين تورط في رعاية ابنيه، وأحب في تخاذل وجبن زوجه – أرملته -حُسنة بت محمود– التي ترجته لينقذها من مصيرها المأساوي بالزواج منها، لكنه آثر الهرب: «لكنني الآن أسمع صوتًا واحدًا فقط، صوت بكائها الممض. ولم أفعل شيئًا. جلست حيث أنا بلا حراك وتركتها تبكي وحدها لليل حتى سكتت». موسم الهجرة إلى الشمال. الشخصية الأخرى التي يمكن الإشارة إليها وإلى حالة التحول الكبير التي طرأت عليها دون أن تحدث تغييرًا ثوريًّا معتبرًا، هي شخصية سعيد عشا البايتات، أو سعيد البوم؛ فالرجل بمثابرته وصبره ودهائه تمكن من قلب موقعه في المجتمع تمامًا، فبدلًا من احتلاله قاع المجتمع موسومًا بلقب «البوم»، الذي يعني «الطيب، العبيط، السلبي.. إلخ»؛ ارتقى الرجل ليحتل – عبر المال والدهاء – موقعًا متقدمًا في صدارة المجتمع مصاهرًا في ذلك ابنة ناظر المدرسة شخصيًّا، في اقتران غريب بين التخلف والحداثة «ناظر شنو؟ أنا فاضي في الناظر ولا حتى في العمدة. أنا عندي القروش، علي الحرام في اليوم العلينا دا إن درت بت العمدة آخدها». بندرشاه – ضو البيت. وعلى الرغم من أن سعيدًا انتزع انتزاعًا لقبه الجديد «عشا البايتات» الذي يعني الفارس حامي النساء، فإنه في حقيقته وعمقه التكويني ظل كما هو «سعيد البوم»، فلم يترك أثرًا كبيرًا!
شخصيات التغيير
سأتناول في المساحة التالية، ثلاث شخصيات أساسية من شخصيات الطيب صالح السردية، في رأيي أنها مثلت نقلة تغيير ثورية كبرى بين شخصياته الأخرى، وقدمت نموذجًا مثاليًّا لما يحدثه التغيير من قطع مع الواقع القديم، والواقع الجديد الذي تحدثه بثورتها أو ثوراتها المفاجئة، التي تحدث انحرافًا غير متوقع في المسار البنائي للعمل السردي بأكمله.
ثورة أولاد بكري.. التغيير المنظم
من المفارقات التي تستحق التوقف، أن أكبر عملية تغيير أحدثتها شخصيات الطيب صالح السردية، هي ثورة أبناء أخت محجوب «أولاد بكري» ضد خالهم محجوب! والمفارقة تكمن في شيئين، الأول أن من ثاروا عليه «محجوب» مثّل في زمن من أزمنة قرية ود حامد صوت الاحتجاج والتغيير والثورة ضد الظلم. أما الشيء الثاني فيأتي من وصف أولاد بكري لخالهم محجوب بالدكتاتور الذي كتم أنفاس العباد لمدة ثلاثين عامًا، تحكم خلالها هو وشلته في كل شأن، أقصوا الآخرين وأفسدوا ما أفسدوا. وهو توصيف يكاد ينطبق على الثورة السودانية التي أطاحت بدكتاتور جثم على صدر الشعب لمدة ثلاثين عامًا، تحكم خلالها هو وعصابته في شؤون السودان وأهدروا موارده وأفسدوا فسادًا عظيمًا، إلا أن حال محجوب «الدكتاتور المصلح» يختلف كثيرًا بالطبع عن حال الفاسد عمر البشير.
ثورة أولاد بكري ضد خالهم محجوب، في رواية «بندرشاه –ضو البيت»، تعطي نموذجًا مثاليًّا لفاعلية وسائل التغيير الجماعية الحديثة، التي يمكن إجمالها في التنظيم، والحشد المبني على الحوار والإقناع، والاجتماع الديمقراطي– التصويت «… كلام أولاد بكري بدأ يؤثر في قلوب الناس وتكون لهم حزب معارض أخذ يقوى ويشتد وقاموا بجمع التواقيع لعقد اجتماع عام للجمعية التعاونية وهو أمر لم يحدث منذ تكوين الجمعية». بندرشاه – ضو البيت. وعلى الرغم من أن جذور الصدام بين محجوب وأبناء أخته تعود إلى نزاع عائلي بحت حول «قطعة أرض»، فإن هذا الصراع تطور مع الوقت وخرج من حيزه الضيق ليتحول إلى ثورة ناجحة أطاحت بمحجوب ومجموعته وغيرت موازين العلاقات تمامًا في القرية الصغيرة ود حامد «محجوب بعد ما يربو على ربع قرن من السلطان المطلق، وجد نفسه وجهًا لوجه أمام شعب ود حامد يقاضونه الحساب». بندرشاه – ضو البيت. وأكثر ما يؤكد ثوريةَ أولاد بكري، ويدلل على التغيير التام الذي أحدثوه بذواتهم ثم بمن حولهم، هو موقفهم من «صلة القرابة»؛ إذ لم تؤثر هذه الصلة الأبوية القبيلية أدنى تأثير في مساعيهم نحو التغيير والإطاحة بـ«خالهم»، وتجاهل موقف والدتهم العاطفي الذي ترجمته في شكل سيل من الشتائم قذفتها بهم أمام الجميع بقصد تعريتهم والتبرؤ منهم حتى يرعووا ويوقفوا فعلهم الثوري. إلا أنهم مضوا بثورتهم إلى النهاية وكأنهم يهتفون بإصرار مرعب: «تسقط بس».
ضو البيت – بندر شاه
النموذج الثاني للشخصيات المتغيرة، التي أتناولها في هذه الورقة، وأرى أنها أحدثت فرقًا ثوريًّا في مسارها البنائي بين شخصيات الطيب صالح السردية؛ هي شخصية الغريب في رواية «بندرشاه – ضو البيت». فبعكس الغرباء، السائحين، الزائرين، الغزاة، الأسرى، والباحثين عن المجد؛ انسلخ غريب الطيب صالح «بندرشاه – ضو البيت»، من ثقافته القديمة وترك انتماءه القديم خلفه لينتمي إلى هذه البلاد ويصبح واحدًا من أهلها في أخطر عملية تغيير يمكن أن تحدث لشخص ينتمي ثقافيًّا إلى حضارة أكثر تقدمًا بحسب الرؤية الاستشراقية التي ينتمي إليها. و«الاستشراق»، كما طرحه «إدوارد سعيد»؛ هو الموقف المتوقع من شخصية مثل بندرشاه – ضو البيت، وبناء على هذا الموقف تنبني مواقفه الأخرى تجاه الآخرين الذين استضافوه أو أنقذوه «السودانيين – الأفارقة – العرب – العالمثالثيين – المتخلفين»، لكن الذي حدث عكس ذلك تمامًا، إذ أحدث الصدام الحضاري المفترض بين الوافد الغريب والمجتمع الجديد نتيجة مختلفة تمامًا، بتبنيه للثقافة الجديدة وتصالحه مع المجتمع والتضحية بثقافته القديمة وحضارته المتفوقة مثلما تظهرها كتابات الرحالة – المستشرقين – الغرباء الآخرين.
ربما، أراد الطيب صالح في هذه الرواية بخلق هذه الشخصية أن يكمل مشروعه العظيم في خلخلة المفاهيم الاستشراقية وتفكيك الأوهام الكولونيالية؛ مشروع أسس له في روايته الأشهر «موسم الهجرة إلى الشمال» ورسخ دعائمه بالدفع بشخصية بندرشاه من ظلام البحر إلى نور الحياة، وإن استعرنا مصطلح إدوارد سعيد عن «الكتابة المضادة»، وحورناه قليلًا لمثل ضو البيت «الشخصية المضادة» لشخصيات «المستشرقين» التقليدية بتقبله الآخر واندماجه الفاعل في المجتمع دون إسقاط استكشافي واستيلائي على هذا الآخر. «..عاش بيننا مثل الطيف ومضى مثل الحلم، عشرة مواسم لا غير، خمسة أعوام بحساب السنين، عمل فيها ما لم يعمله الناس في العمر كله، خير الدنيا انهمر عليه كأنه يقول للشيء كن فيكون». بندر شاه – ضو البيت. وربما أراد الطيب صالح أيضًا بتقديمه لـ«ضو البيت» بذاكرة كأنما هي صفحة بيضاء، إثر فقدانه ذاكرته؛ أن يشير إلى أن الإنسان بعيدًا من التصورات المسبقة عن الآخر، هو الإنسان سواء أكان هنا في خط الاستواء، أم هناك وراء البحار من حيث أتى الغريب «بندرشاه – ضو البيت».
حُسنة بت محمود.. عنف التغيير
يمكنني القول بكل ثقة: إن حُسنة بت محمود – زوجة مصطفى سعيد، هي أكثر شخصيات الطيب صالح ثورية، وإنها أكثر الشخصيات التي حققت متطلبات التغيير، وأقدمت على ذلك بكل شجاعة وتضحية ونكران ذات. ما الذي فعلته حُسنة بت محمود؟ ومن أين استمدت هذه القوة الهائلة على التحدي والقتال إلى آخر رمق؟
أقدمت حُسنة بت محمود على فعل زلزل أركان القرية الوادعة على ضفاف النيل، فعل لم يتوقع أحد أن تأتي به امرأة من نساء «ود حامد» المسالمات المطبوعات على الخنوع والانقياد الأعمى لرغبات مجتمعهن الأبوي الصغير، فكل شيء هادئ هنا منذ مئات السنين، ولم يجرؤ أحد من قبل على خرق المألوف ورفض الأعراف والتقاليد والتصريح بـ«لا» أمام الجميع. تأثرت حُسنة بت محمود بزوجها الغريب وتغيرت واختلفت تمامًا عن نساء القرية، وكأنما وهبها مصطفى سعيد النصف المخفي من «وعيه» و«ثقافته» و«تمرده» و«ثوريته»؛ النصف الذي أراد له أن يكون مطمورًا يتحكم في إخفائه نصفه الآخر – المرتبك والفصامي المعقد.
حين مات مصطفى سعيد أو اختفى أراد الأب في مجتمع ود حامد الصغير – الأب البيولوجي والأب الجمعي – أن يعيد سيطرته وتحكمه في «المرأة – الأرملة» حُسنة بت محمود، وذلك بتزويجها كيفما اتفق وإن كان هذا الزوج يفوق والدها سنًّا ويقل عنها وعيًا وثقافة وإدراكًا للأشياء. المأساة التي نتجت عن هذه المحاولة القسرية في تزويج حُسنة من المسن ود الريس، كشفت عن شخصية جديدة حلت محل الشخصية القديمة، شخصية ثائرة وعنيفة ومصادمة، حُسنة أخرى غير التي يعرفونها. هذا العنف الدموي الذي لخصت به هذه المرأة حياتها كان بالإمكان تلافيه لو أن شخصًا موازيًا لـمصطفى سعيد ترك التردد قليلًا وجارى حُسنة في محاولتها الحفاظ على خصوصيتها المختلفة عن السائد، وأعني هنا الراوي محيميد، الذي تجابن وتخاذل عن نصرتها وهي التي ترجته أن يتزوجها وإن صوريا تفاديا للمأساة. وصف أهالي ود حامد حسنة بت محمود بالجنون: «(…) جنون بنت محمود ليس في الأولين ولا الآخرين». موسم الهجرة إلى الشمال، وذلك بعد أن أكملت فصول ثورتها – مأساتها بقتل ود الريس والتمثيل بجثته في عملية قتل أخرى رمزية للذهنية الذكورية التي حاولت إخضاعها وإيقاف «حالة التغيير» التي حدثت لها «كانا قد ماتا لساعتهما. كان الدم حارًّا يبقبق من قلب بت محمود وبين فخذي ود الريس. الدم ملأ البرش والسرير وجرى جداول في أرض الغرفة».
عجز أهالي القرية نساء ورجالًا بعقليتهم الذكورية المصمتة عن فهم هذه الحالة «التغيير – الثورة»، لذا وصفوا ما أحدثته حُسنة بـ «الجنون»، والجنون مرادف للثورة، مثلما الموت رديف للتغيير: يقول الثائر البوركيني القائد توماس سنكارا: «لا يمكنك إجراء تغيير أساسي دون قدر معين من الجنون. في هذه الحالة، يأتي الجنون من رفض التوافق مع الأوضاع، والشجاعة لترك الصيغ القديمة، والتقدم لاختراع المستقبل. لقد احتجنا لمجانين الأمس؛ كي نكون قادرين على التصرف بوضوح شديد اليوم. أريد أن أكون واحدًا من هؤلاء المجانين. يجب أن نجرؤ على اختراع المستقبل». وحُسنة بت محمود، بجنونها القاتل، اخترعت المستقبل.