بواسطة أماني خليل - كاتبة مصرية | يوليو 1, 2021 | كتب
في المبتدأ كان الموت: بأنفاس لاهثة تبدأ رواية «بودا بار» (منشورات ضفاف والاختلاف) للكاتبة اللبنانية لنا عبدالرحمن، بجريمة قتل. جمانة سيدة جميلة جدًّا، تقيم في حي الأمير في بيروت الغربية، بيروت التي قسمتها الحرب الأهلية في السبعينيات وتركت آثارها على لبنان والمنطقة العربية إلى اليوم، جمانة طُعِنت حتى الموت، ثم اختفت جثتها، كانت تعيش في بناية مع زوجها مروان وخادمتها لوسي، وقط أسود. هناك في حي الأمير حيث يلاحق جميع شخوص الرواية سوء الحظ والطالع، الجثة وجدتها المخدومة السيرلانكية التي حضرت بيروت للبحث عن لقمة عيش بعد أن هربت من بلدها بعد تورطها في قتل زوج اختها. يحضر الجار السبعيني يوسف ليجد الجثة اختفت. هنا تبدأ الراوية في رص شخوص الرواية أمامنا فيما يشبه بطاقات اللعب، برمزيات لا يخطئها القارئ.
جمانة ودورا ثنائية بيروت والشعب
الشخصيتان الرئيستان في الرواية هما جمانة ودورا، جمانة تمثل الجمال الصارخ والغامض، الجمال الذي يشبه جمال بيروت، جمانة المرأة التي تُقتَل في أول الرواية ونظل نبحث عن قاتلها للنهاية، امرأة يرغب فيها الجميع، يشتهيها الجميع، يرغب في امتلاكها وانتهاكها. في الفصل الثاني تتعدد أصوات الرواة، الجميع يحكي عن حبه لجمانة واشتهائه لجسدها؛ رجل الثلج، الوزير، الرجل الضفدع، الجميع يروي أيضًا روايته الخاصة عنها، سوزي الصديقة القديمة، الغريب.
لنا عبدالرحمن
تقول لنا عبدالرحمن على لسان الزوج مروان: «هالة الهشاشة التي كانت تسكن بها جمانة، هالة الهشاشة المهددة بكل صورها. مثل جمال مُستباح مثل حرير سخي يثير طمع التجار». سيدة حالمة تمضي نهارها في سريرها المتسع لأربعة أشخاص، تكتب وتسمع الموسيقا، لها طقوسها الخاصة والغريبة. وفي الليل تمنح جسدها لزوجها مروان الذي تحبه تارة وتبعده تارات.
أما دورا، ساكنة الحي التي انتقلت من أستراليا حديثًا، وتعمل في تقديم العون للاجئين، والتي تستضيف لوسي الخادمة السيرلانكية، فهي تحمل قلبًا رقيقًا، وروحًا معذبة، خرجت من علاقة حب فاشلة مع الشاب الإيراني آزاد الهارب من القمع السياسي في إيران بعد تولي العمائم الحكم في السبعينيات، ولا تخفى عنا رمزية شخصية آزاد بما تعبر عنه من علاقة لبنان الشائكة بإيران، ترغب في علاقة مستقرة معه، لكن آزاد له أفكاره الخاصة بعدما ترك وطنه واستقر في سيدني. علاقة طويلة ممتدة تركت أثرًا مدمرًا على دورا التي لا تستطيع الدخول بعد علاقتها بآزاد في علاقة أخرى؛ إذ لا تستطيع نسيانه، ثم تتفرغ لرعاية فرح، اللاجئة السورية التي تعيش في مخيمات اللاجئين.
فرح بما تمثله من جموع اللاجئين القدامى والجدد على لبنان وهو البلد الصغير الحجم والموارد، تمثل عبئًا هائلًا على الشعب/ دورا، لكن دورا لا تتخلى عنها حتى تبدأ حياة أخرى في المهجر الأوربي. وكأن الراوية تشير إلى استمرارية الشتات القدري للسوريين عقب الحرب التي أطاحت ببلادهم. وإذا كانت جمانة تمثل الجمال البيروتي الصافي والمنتهك، فدورا تمثل الشعب الذي يريد الحب والحياة، تمثل الضمير الحي في الرواية، دورا ابنة غزلان السيدة التي يشاع أنها تصنع العقاقير والأسحار، بنت الطبيعة البرية البكر.
فردانية تواجه الطائفية وتسعى للحياة
جميع شخوص الرواية لا نعرف هويتهم الدينية والطائفية وكأن هناك قصدية لتحييد الجميع في بلد مَزَّقَته الحرب الطائفية والصراعات الإقليمية، لكن هناك رغبة في سبر أعماق الإنسان بعيدًا من طائفته ودينه. الطبيب يوسف، الضلع الثالث في الرواية، طبيب سبعيني يعيش بالقرب من خط التماس (السوديكو– الأشرفية) الذي يقسم بيروت إلى شرقية مسيحية وغربية مسلمة، ينتقل بين الفرقاء المتصارعين في حقبة الحرب بحماية المتقاتلين في بيروت الغربية: «الطبيب يوسف كان يواجه مصيره بشكل شبه يومي حين يعبر الشارع الذي يفصل بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية ليخرج شظية من ساق مصابة، أو لينقذ مسلحًا على وشك الموت في الشرقية كان اسمه دكتور جو، وفي الغربية الحكيم يوسف وفي كلا المكانين ظل محبوبًا بشكل لا يمكن تصديقه، كان صديقًا للمسلحين في لحظات ألمهم، يحبون هدوءه، قدرته على تحمل فظاظتهم، بذاءاتهم، ومداواة جروحهم بلا لوم، لم يكن يوجه لومه لأحد مدركًا أن رحى الحرب تدور في طاحونة أكبر من سيطرتهم».
يوسف يربي وحيدًا حفيده يوسف الصغير، الذي قُتِل أبواه في عملهما الصحفي، وسلمه جدُّه الألمانيُّ ليوسف ليرعاه، يوسف الصغير يمثل جموع اللبنانيين المهاجرين للغرب للبحث عن نجاة شخصية قد يحصلون عليها أو لا. أما يوسف الكبير فيبقى رمزًا لِلِبنانيِّي الداخل، يزرع الحياة ويواجه تجار الموت. تعرض ديبة، تاجرة السلاح وناهبة بيوت القتلى والمهاجرين التي تملك بنايات في الحي، عليه نفسها، ولكنه بعد موت زوجته ينكب على تربية حفيده في بتولية ممتدة.
بودا بار أو لبنان يسع الجميع
في حي الأمير، حيث تقع أحداث الرواية، يقع مقهى «بودا بار»، فيه يلتقي سكان الحي، تندهش دورا من اسم المقهى. فاسم بودا اسم مقدس بما له من دلالة روحية، أما بار فمكان للرقص والشراب بدلالته الروحية، لكن في الرواية «بودا بار» مقهى ذو شرفات واسعة، تنطلق منه موسيقا بينك مارتيني، مزين بتماثيل هندية وصينية، له سقف بنقوش برتغالية وموائد من الخشب العريق، يمثل لبنان متعدد الثقافات والأعراق والأديان، لبنان الذي يسع الفرقاء والطوائف الذين يبحثون عن نجاتهم الشخصية ونجاة بيروت مدينة الجمال والهشاشة والموت.
بواسطة أماني خليل - كاتبة مصرية | مارس 1, 2020 | كتب
حين تحدثك السلطة بنفسها: من الوهلة الأولى لقراءة رواية «جنازة جديدة لعماد حمدي» للروائي وحيد الطويلة سوف يفاجأ القارئ بسلطة قاهرة تحدثه وتأمره، تفكر معه، وتحذره، السلطة هي صوت الراوي العليم الذي يستعمل ضمير المخاطب في سرد الرواية، هي سلطة غير صديقة ولا عدوة، لكن غاشمة متحكمة، تتماهى تمامًا مع طبيعة عمل شخصية البطل ضابط مباحث، الذي يجد نفسه في صراعات متتالية، صراعه الأول مع والده الضابط السابق الذي يرغب أن يمتهن ابنه مهنة ضابط المباحث، وألَّا يصبح فنانًا يرسم اللوحات كما يرغب، الضابط لا نعرف له اسمًا، يطلق عليه أحد جنوده لقب «فجنون». خريج المدارس الفرنسية، يقول الطويلة عن لسان الوالد لابنه «لو ترك أبناء الضباط المهنة للرعاع لتسلل الأوباش إلى حياتنا ولن نستطيع أن نعيش، ثم إن الزمن القادم هو زمن الضباط وأنا أعرف أكثر منك»!
«كم مرة استعمل الناس القلم أو الفرشاة لأنهم لم يستطيعوا ضغط الزناد»! فرجينيا وولف، في تصدير الرواية. السرادق قلب الحزن، الولوج إلى العالم السفلي: يغالب الضابط الفنان نفسه في هل يذهب لعزاء ابن ناجح وهو أحد كبار المرشدين الذين يقدمون خدمات متنوعة للحكومة، السرادق هو مكان ومركز الرواية ونقطة انطلاقها الثابتة، تدور الكاميرا في حركة بانورامية ليرسم الراوي لوحات إنسانية شديدة الدقة والرهافة للعالم السفلي للقتلة، تجار المخدرات، النصابين، المزورين، مقاولي أنفار الانتخابات، فتيات الليل، وشهود الزور الذين يذهبون لعزاء المعلم ناجح.
ناجح هو الشخصية المحورية الثانية في الرواية، شخصية شديدة الذكاء آسرة، أب يرغب في أن يكون ابنه ضابطًا، مسجل خطر، تاجر حشيش لكنه شخص وطني، لا يتاجر في الهيروين حيث يعتقد أنه مؤامرة إسرائيلية ضد شباب البلاد. يقدم خدماته للضابط، ويحل معه ألغازًا بوليسية وقضايا عديدة. يكشف ناجح للضابط سر مقتل أحد عمال المقاهي، العامل قتل بطريقة بشعة، لم يتبق منه إلا شبشب محترق، آثار الحريق تكشف كيف قتل الفتى من صديق له إثر خلاف مالي. ناجح أيضًا يساعد الضابط في كشف لغز الهجوم على أحد كمائن الشرطة، تعتقد الداخلية أن الحادث عمل إرهابي، لكن ناجح يكتشف أنهم مجرد لصوص ارتبكوا فأطلقوا الرصاص على الكمين! يحل ناجح القضايا المعقدة ويقدم الإجابات، يسلم الجناة واللصوص. يتهم أحد تجار المخدرات الضابط بتعذيبه، لكنَّ ناجحًا ينجح في تبرئة الضابط حيث يشهد لصالح الضابط صبيان ناجح.
الجميل المتبادل والمنفعة بين النقيضين، تشكل دانتيلا دقيقة جدًّا من المشاعر النفسية المتناقضة بين رجلين تحتم طبيعة وجودهما ومهنتهما أن يظلا متصارعين.
السرادق هو مكان الاختبار الحقيقي، هل كانت علاقة يحتمها العمل أم امتدت لعمق الرجلين؟ من أمتع فصول الرواية هو وصف تفاصيل تلقي العزاء في الجمهورية السفلية للمسجلين. لكل شيء أصول، لكل عزاء قدسية حتى لو كان القتيل خارجًا عن القانون يقول: «إذا كنت تتخيل أنك حين تدخل السرادق ستجد جهاز التسجيل به شرائط قرآن أو سي دي أو حتى فلاشة يو إس بي يبدلونها خلف بعضها البعض فأنت واهم، أنت أمام سرادق حقيقي كما أُنزل، من النوع الفاخر، به خمسة مقرئين لا يأكل الواحد منهم أقل من كيلو لحم لوحده بين الربع والآخر. كانوا يشيعون عن الشيخ عنتر والشيخ مصطفى وأبو العينين شعيشع أن كلًّا منهم يأكل ثلاثة كيلو لوحده وفي غرفة مغلقة. ثلاثة كيلوات وسط كل هذا الهبو الأزرق، وتخيل وحدك كيف ستكون التلاوة».
يتراص المعزون داخل السرادق، عماد مورد أنفار للانتخابات، يشكل روابط مشجعي الكرة، المزور الروسي الوسيم، أسعد النصاب الذي يزور تأشيرات العمرة للراغبين، الضابط المزور الذي ينتحل شخصية ضابط بأوراق مزورة وينجح في تبوؤ منصب وسرقة سلطة غير شرعية لسنوات. هناك أيضًا من هم بين الضباط والمجرمين، فئة هواة الداخلية محبي البوليس من فاتهم قطار الميري فقرروا التطوع له محبة وشغفًا.
الشخصية الأولى عبقرينو، مهندس الاتصالات الناجح الذي يساعد الضابط فجنون في حل القضايا، والثانية هي باسل الذي يتمتع بذكاء شديد يمكنه من انتحال شخصية فجنون نفسه من أجل الحصول على النساء، العلاقة مع هؤلاء المريدين أيضًا هي أحد جوانب الصراع التي يواجهها الضابط الفنان، ضابط يرفض والده أن يكون ابنه ضابط تشريفة يحرس جنازات، حين تمر جنازة الفنان عماد حمدي ويحرسها، يطلب والده أن يُنقل ابنه للمباحث، أن يكون ضابطًا حقيقيًّا يعمل من أجل العدالة ولو قدم لها حياته!
فجنون بين رحى العشق: تمر نساء كثيرات على حياة فجنون، جارات، صحفيات، خادمات، كل منهن تقتنص جزءًا من روحه ويسرق جزءًا من روحها، أبرز نسائه ضي الصحفية التي تكتب قصة من ملفات البوليس والتي حضرت لمكتبه بتوصية، ضي فتاة هشة رقيقة ضئيلة الجسد، تحب القطط يقول عنها «لا تعشق امرأة تحب القطط!». سوف تتوه في حكايات غريبة وأسماء أغرب، ستتبدل رائحتك، ربما يصبح اسمك سيمو أو زغلول حسب مزاج حبيبتك، تنادي عليك بأسماء قططها، وستعرف أن سيمو هذا عاشق رقيق، بالكاد يخمش بعينيه، يمد يدًا حانية تغطي عنق حبيبته، ويتراجع فورًا إن خمشته تدللًا أو تمنعًا، يقف في منتصف المسافة ولا يعيد المحاولة مرة أخرى، بل ينتظر إشارة واضحة، يرمي منديله وإن صدّته حبيبه يتمنع أيضًا ويحتفظ بكرامته، أما زغلول هذا أو زغلول الكبير كما يقال أحيانًا فهو ولا فخر الفحل الذي يقوم بتلقيح كل القطط، لا يمد يدًا حانية أو يرسل نظرة الغرام.
هناك الخادمة السارقة، التي تقوم بدور الأم والراعية، التي تكمن حتى تضرب ضربتها القاصمة، وبين مشاعر السيد صاحب المنزل والضابط الصارم ومشاعر الإنسان الفنان المرهف الذي يرغب أن يساعد امرأة في محنة يعيش الضابط في صراع آخر. هذه الصراعات يسطرها الراوي الذي يتحدث بصوت السلطة الغاشمة، ويتحول في الفصل الثالث عشر إلى صوت الماضي، ذاكرة الأحداث وأحيانًا إلى صوت الصديق الغائب.
هذه الصراعات والعلاقات الملتبسة تحسم في النهاية، المؤسسة لا تتحمل ضابطًا فنانًا، إما الفن أو البوليس، الرهافة أو الصرامة، الفرشاة أو الزناد، يوجَّه اللوم للضابط: أنت متهم بإقامة أكثر من علاقة مع مسجل خطر، تعرف المؤسسة الخدمات التي قدمها المسجل لها، تعرف تلك الخدمات المتبادلة، لكن يجب أن تنأى بنفسها عن حساسية تلك العلاقة، ألا تدفع ثمنها، أن تغسل يدها من درنها، يُسَرَّح فجنون، يأتي ضابط جديد مكانه ويحاول التنكيل بناجح ليثبت قوته، ويتربع على عرش سلطته. يصبح الضابط حرًّا يخطو بقدمه داخل السرادق رغم التحذيرات، أسقط من كاهله عبء منصبه، وانتصر لإنسانيته، ينهي لوحته التي رسمها الراوي لكل تلك الشخوص، يرسم مصائرهم، يغلق حكاياتهم المعلقة، ويقفل قوس حيواتهم المشتعلة.
الزمن يتحرك في القسم الأخير من الرواية، من زمن السرادق الثابت إلى زمن سائل متحرك، زمن يشبه ألوان لوحة تكتمل أمام عيون القارئ، كل لون منسكب يحدد مصيرًا لقصة صاحبها. في السرادق يقدم الضابط العزاء، ويقابله ناجح من دون حميمية، في الشارع يتفرق عبقرينو الذي ترك مهمة خدمة المؤسسة بعد أن ودع الضابط، وتفرق كل منهما في طريق، يذهب الضابط لحياته الجديدة، بفرشاته وأحلامه دون أن يخاف من أن يسأله أحد «أنت متهم بإقامة أكثر من علاقة».
بعد روايته «حذاء فلليني» التي كانت تدور عن القمع السياسي في أرض روائية مختلفة تمامًا، وبعد روايته «باب الليل» عن حكايات المقاهي في تونس يواصل الطويلة إثبات نفسه كحَكَّاءٍ لا يبارى. في «جنازة جديدة لعماد حمدي»، يلج وحيد طويلة أرضًا جديدة بأصوات سردية مدهشة، بحيوات وحكايات براقة مثل حبات الكريستال داخل مشكال ملون، ألوان لوحة مبهرة لا يستطيع أن يغمض عينه أمام إبهار تفاصيلها.