رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة الثلاثة»، و«كيف قسّم القروي الإوزة؟»، و«الرجل والحصان»، و«الذئب والعجوز»، وغيرها من الأعمال المميزة. كما أن تجربة القاص والمسرحي الشهير أنطون تشيخوف تضمنت أعمالًا للأطفال، مثل قصته الشهيرة «كاشتانكا» التي قرأناها في يفاعتنا. ولا ننسى الروائي الكبير مكسيم غوركي، الذي ترك بصمته أيضًا في هذا المجال.

الحكاية الشعبية أو «سكازكا»، كما يسميها الروس، تسجّل حضورها الخاص في الذاكرة الروسية، فترافق الأطفال منذ سنواتهم الأولى في البيت أو رياض الأطفال، وتنتقل معهم إلى المدرسة، فيصبحون ممثلين، يؤدون شخصياتها، ويحلقون معها في عوالم ساحرة. وإن قدّر لبعض هؤلاء الأطفال متابعة الدراسة في إحدى الأكاديميات الفنية الروسية، فإن تلك الحكايات ستكون بانتظار رؤيتهم الخاصة، لتجسيدها على خشبة المسرح.

وإذا كان الأدب الروسي يبدأ مع هذه الحكايات، فلتكن محطتنا الأولى في التعرف إلى بعض من صفحات هذا الأدب، مع الشخص الذي جمع هذه الحكايات، وأمّن للأجيال فرصة قراءتها بكل يسر وسهولة.

آليكساندر آفاناسييف: جامع الفلكلور

لم تمنح الحياة جامع الفلكلور والباحث الروسي، آليكساندر آفاناسييف، (1826-1871م) أكثر من خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الكتابة والعمل الوظيفي. جمع آفاناسييف الحكايات الشعبية الروسية والأساطير المشتّتة، حتى أصبح بمنزلة الكاتب الثاني لها، وأصبح أي اقتراب من تلك الحكايات، بقصد ترجمتها ونشرها في الكتب، يخضع لموافقة ورثته وضمان حقوقهم، وهو الأمر الذي واجهته شخصيًّا عندما بدأت ترجمة بعض تلك الحكايات من الروسية إلى العربية.

ولد آفاناسييف في عائلة تلقى ربّها تعليمًا عاليًا، ونقل حب العلم إلى أولاده، فبعد دراسته في مدينة فارونج، انتقل آفاناسييف إلى موسكو، حيث أنهى دراسة الحقوق في جامعتها، ثم بدأ العمل في أفضل المجلات الأدبية هناك، ونشر أولى مقالاته الأدبية في عام 1847م. تابع الرجل حياته الوظيفية والأدبية، ولم يبدأ بجمع الحكايات الشعبية حتى السنوات الأخيرة من حياته القصيرة، (توفي آفاناسييف ودفن في موسكو في عام 1871م).  قسّم آفاناسييف أعماله إلى قسمين: قسم للأطفال وآخر للبالغين. ونشر كتابه «حكايات الأطفال الروسية» في موسكو بطبعتين، الأولى في عام 1870م، والثانية في عام 1886م.  أصبح آفاناسييف محبوبًا من جانب أجيال متعاقبة من الشعب الروسي، وحفظ له الجميع حسن صنيعه. أذكر في عام 2016م، بمناسبة مرور مئة وتسعين عامًا على ولادته، أقيم معرض كبير عرضت فيه متعلقاته الشخصية والمنزلية.

ما يميز الحكايات الشعبية الروسية التي جمعها آفاناسييف ملاءمتها لكل الأعمار، وقدرتها على شدّ قرائها المختلفين. فحكاية مثل «كاشا من الفأس» -والكاشا نوع من الحبوب الروسية- تمتع الصغار والكبار معًا، ويحقق بطلاها، العجوز البخيلة والجندي الذكي، حضورًا طيبًا عند كل قارئ لتلك الحكاية السهلة والممتعة، والمغلفة بطرافة محببة.

إيفان كريلوف: ساحر الحكايات الشعبية

ستقف طويلًا أمام تمثاله المتقن في قلب الحدائق الصيفية في «سانت بيتربورغ»، تتأمله جالسًا يروي إحدى حكاياته، محاطًا بتماثيل لحيوانات وطيور. وستعرف فيما بعد أنهم أبطال حكاياته الشهيرة، مثل: اليعسوب والنملة والذئب والخروف والقرد والنظارات والغراب والثعلب، وغيرها من الشخوص. إنه إيفان كريلوف، المولود في موسكو عام 1769م، ضمن عائلة فقيرة، وفي ظروف صعبة دفعته للعمل في سن مبكرة والتعرف جيدًا إلى مشقات الحياة.

لم يملك كريلوف فرصة الحصول على تعليم جيد، لكنه ورث عن والده حبًّا كبيرًا للقراءة، وكانت التركة التي خلّفها له والده بعد مماته صندوقًا كبيرًا من الكتب أقبل عليه بتعطش للمعرفة وتعويض ما فاته تحصيله. ولأن عناصر الطبيعة تتضافر مجتمعة، لمساعدة الإنسان على تحقيق ما يريد، إن هو آمن به حقًّا، كما يقول الكاتب البرازيلي باولو كويلهو، فإن إصرار كريلوف على تطوير نفسه، قوبل بمساعدة الحياة له، فدعاه جيرانه الأثرياء لحضور دروس اللغة الفرنسية، التي كانت تعطى لأبنائهم، وهو ما قاده لتعلّم الفرنسية، والتحدث بها بطلاقة.

بالإصرار ذاته علّم نفسه العزف على آلات موسيقية متعددة، ثم انتقل إلى مدينة سانت بيتربورغ، وزار المسرح المفتتح فيها، وعرف تمامًا ما الذي يريد عمله، فبدأ الكتابة والنشر في المجلات المختلفة. وفي عام 1798م أسس مع أحد أصدقائه مجلة حملت عنوان: «بريد الروح»، وواظب على عمله بهمة كبيرة ليتجلى إبداعه الحقيقي في عام 1809م، وتزداد شعبيته إلى درجة أن كثيرين قارنوها بشعبية أمير الشعر الروسي بوشكين، والكاتب الكبير نيكولاي غوغول.

ما يميز الحكايات الشعبية التي تركها كريلوف، أنها موجهة للجميع، بغض النظر عن ثقافتهم ومستواهم التعليمي. والجدير بالذكر أن ثمانين ألف نسخة من إنتاجات كريلوف بيعت في حياته، وقد عدّ الأمر ظاهرة غير مسبوقة في روسيا. أما فيما يتعلق بحياته الشخصية، فيذكر أن كريلوف لم يكن مباليًا بمظهره الشخصي، ولم يلفت نظر النساء، ربما لذلك لم يتزوج، وتوفي في عام 1844م.

دانييل خارمس: الإيقاع الخاص في شعر الأطفال

كثير من الحزن يغلّف تجربة وحياة الكاتب والشاعر الروسي دانييل يوفافيتش، الشهير بدانييل خارمس، الذي فارق الحياة في عام 1942م، قبل أن يتم السابعة والثلاثين من عمره. لا يقتصر ذلك الحزن على قصر السنوات التي عاشها الشاعر المميز، بل يمتد ليشمل كل ما عرفه فيها من خيبات وصراعات، كان للسياسة اليد الطولى فيها. منذ عام 1920م، بدأ دانييل كتابة قصصه وقصائده في مجلات الأطفال، ومع الوقت بدأ الكتابة تؤمّن له مصدر دخل ثابت تقريبًا. في المدة بين 1921-1922م، غيّر اسمه إلى دانييل خارمس، وهو الأمر الذي لم يستطع أحد حتى الآن تأكيد سببه ومصدره. بعض الروايات تقول: إن الشاعر اختار كلمة «خارمس»؛ لأنها تلفظ في الإنجليزية «هارم»، التي تعني الضرر. رأي آخر يرى أن «خارمس»، أخذت من الكلمة الفرنسية «charme» التي تعني السحر، وهو ما لا نراه بعيدًا من إبداعات كاتبنا. أما الرأي الثالث، فيقول: إن دانييل اختار هذا الاسم لأن شخصية المحقق شارلوك هولمز، كانت الأكثر قربًا إلى قلبه.

في نهاية عام 1927م، شكّل بعض الكتّاب الروس رابطة لأدب الأطفال، وانضم خارمس لها. وقد ترك كتبًا للأطفال تميزت جميعها بالجودة. وكما قال عنه كثيرون فهو كاتب لا يعرف أن يكتب بشكل سيئ. قصائد خارمس، التي حظينا بفرصة العمل عليها في حصص مادة الإلقاء المسرحي، تتميز بإيقاع في غاية الجاذبية، وبطفولية تأسر الصغار والكبار معًا.

أعمال مثل: «حكاية غريبة جدًّا»، و«المدرسة المدهشة»، و«في الأول وفي الثاني»، و«من البيت خرج شخص»، و«العجوز»، وغيرها من القصائد والقصص التي تصمد في وجه الزمن وتحافظ على عفويتها وعمقها وإيقاعها الساحر. وكما يبدو خارمس في إحدى صور طفولته صائد فراشات، فإنه في تجربته الغنية، صائد حكايات وقصائد بذخيرة الموهبة والإصرار، والعلاقة الخاصة مع الكلمة. تلك العلاقة التي ظهرت في سن مبكرة، لكن لم يتح له ممارسة عشقه بالشكل الذي أراده إلا بعد إنهاء دراسته في المعهد التقني في لينينغراد.

في سن المدرسة ألف قصة ممتعة وقرأها على مسامع أخته ناتاليا البالغة من العمر أربع سنوات. وقد توفيت ناتاليا في سن مبكرة وشكّل رحيلها صدمة للشاعر المستقبلي الذي تعرض للاعتقال مرتين: الثانية كانت في أغسطس 1941م؛ لأنه قال: إن الاتحاد السوفييتي سيخسر في الحرب. ولتجنب عقوبة الإعدام ادعى أنه مصاب بمرض عقلي، واحتجز في عيادة نفسية حتى مات في الثاني من فبراير 1942م. نذكر هنا أن السينما الروسية قدمت في عام 2017م فِلْمًا عن حياته حمل عنوان «خارمس»، وأخرجه إيفان بولاتنيكوف.

تجارب معاصرة

تستمر أسماء جديدة في دعم مسيرة أدب الأطفال الروسي، ويبدو حملها ثقيلًا؛ لكونها تتابع مسيرة أدب غني شاركت في بنائه أسماء مهمة ضمنت له مكانته المميزة في قلوب وعقول الكبار والصغار. الملاحظ أن أغلبية تلك الأسماء هي أسماء أنثوية دخلت عالم الكتابة من أبواب مختلفة وفرضت صوتها الخاص. يلمع بينها نجم أكبر سنًّا وتجربة، ونقصد به سيرغي سيدوف، من مواليد 1954م، الذي عمل مدرّسًا في موسكو قبل أن يتفرغ للأدب ويقدم إبداعاته المشبعة بروح طفولية، وخيال حر، وطريقة كتابة سهلة. «كيف ظهر بابا نويل على الكوكب؟» واحدة من أكثر أعمال سيدوف شهرة. ويبقى قلق هذا الكاتب الأكبر متمثلًا في البحث عن رسام لكتبه، رسام يشبهه في الروح قبل كل شيء.

نينا داشيفسكايا: كاتبة شابة، ولدت في عام 1979م في مدينة تفير الروسية، القريبة من موسكو. أنهت دراستها الموسيقية في كونسرفتوار موسكو، وبعد مدة طويلة من العزف على آلة الكمان، بدأت عزفها في حقل أدب الأطفال، مقدمة أول كتبها تحت عنوان: «قرب الموسيقا»، وهو يتحدث عن التغيير الكبير الذي من الممكن للموسيقا أن تحدثه في حياة الطفل. نالت في عام 2011م جائزة أدبية مهمة عن أول رواياتها القصيرة. ويلاحظ أن الموسيقا هي الثيمة الغالبة على أعمالها، وتحظى هذه الكاتبة التي تكتب للأطفال والمراهقين بشعبية كبيرة عند الصغار والكبار على حد سواء.

تمارا ميخيفا: تبدو هذه الكاتبة مختصة بكتب الحيوانات وقصص المراهقين، ويعدّ كتابها «أطفال الدلفين» واحدًا من الكتب الرائجة والشعبية جدًّا في روسيا. تحلم تمارا، المولودة في عام 1979م، أن تهدي الأطفال خاصة، والقراء عامة، مكتبة تفيض بالكتب الطيبة والمشرقة. من الأشياء المميزة عند هذه الكاتبة، أنها تحافظ على الطريقة القديمة في الكتابة، فتضع أفكارها على الورق أولًا، ولا تنقلها إلى الكمبيوتر إلا عندما تصبح قصصًا مكتملة تقريبًا. كما أن شخصيتها، صوتها وأسلوبها في التعامل، تعكس روح الطفلة التي تسكنها.

ماريا بيرشادسكايا: كاتبة أطفال قادمة من عالم السينما. بعد أن أنهت دراستها للسيناريو في أحد معاهد السينما في موسكو، في عام 1995م، وعملت كاتبة سيناريو في أفلام وثائقية عديدة، بدأت تجربتها في كتابة مسلسلات الأطفال. وتعدّ اليوم واحدة من أفضل العاملات في هذا المجال، وعملها «فتاة صغيرة كبيرة»، يؤكد مدى تمكنها من أدواتها، ودخولها في أعماق عالم الطفل.

أدب الطفل في الوطن العربي.. بين حكايات الأطفال وروايات اليافعين

أدب الطفل في الوطن العربي.. بين حكايات الأطفال وروايات اليافعين

بعد قراءتي تلك الإحصائيات، التي تقول: إن كتّاب الأطفال يعيشون طويلًا، وربما يتمتعون بصحة أفضل من غيرهم، قفز إلى مخيلتي مباشرة اسم الكاتبة السويدية أستريد ليندغرين (1907-2002م)، أحد أهم الأسماء في عالم الكتابة للطفل، ووجدت الذاكرة متسعًا لشيخ الأدب الروسي ليف تولستوي (1828-1910م)، مستعيدة بعضًا من حكاياته الشعبية بمواضيعها المتنوعة، المناسبة للأعمار كافة، كما ضحكت طفولتي، وهي تنشد بعضًا من قصائد الشاعر سليمان العيسى (1921-2013م)، تلك القصائد التي كبرنا على إيقاعاتها السهلة، العذبة، وتناقلتها الأجيال بحماس ومحبة.

لا نستغرب أن يحظى كتّاب الأطفال برحلة طويلة مع الحياة، كونهم يعيشون في عالم خاص جدًّا، ويتعاملون مع مخلوقات لا تتوقف عن إبهارهم برحابة خيالها، فرادة دهشتها، واختلاف رؤيتها.

ولكن هل ينطبق الأمر على كتّاب الأطفال في وطننا العربي؟ وقبل ذلك هل يحقّ لنا القول: إننا نمتلك أدبًا للأطفال؟ يبدو السؤال صعبًا، وبخاصة أن الكثير من الأقلام التي كتبت للطفل، لم يتحول الموضوع لديها إلى قضية شاغلة، تهبها عمرها وروحها، بل بقي تجربة على هامش تجربة الكتابة عمومًا، وبقي كثير ممن رغبوا في الكتابة للطفل، أسرى طريقة كتابتهم للكبار، وبدا كأنهم بحاجة إلى من يذكرهم من وقت لآخر، أنهم يكتبون للأطفال، وليس للكبار.

شرفات الكاتب إلى عالم الطفولة

تبدو دور النشر الخاصة بالأطفال، ومجلاتهم الكثيرة المنتشرة في بلدان الوطن العربي، أهم نوافذ الكاتب لتعريف الأطفال بإنتاجاته، لكن هاتين النافذتين، كثيرًا ما تصيبان الكاتب بالإحباط، عندما يرى رئيس تحرير إحدى مجلات الأطفال الحكومية، يقتطع لنفسه أربع صفحات وأكثر في كل عدد، أو مشرفًا على ملحق للأطفال يصدر عن صحيفة عربية، يملأ الملحق بمواده، التي يخجل من سويتها مراهق في الرابعة عشرة من عمره. أما إن يمّم الكاتب وجهه شطر دور النشر، التقى مزاجيات أصحاب الكثير من تلك الدور، وغياب ما يمكن تسميته: الناشر المثقف، ليحتل مكانه ناشر لا يرى في الأمر أكثر من تجارة أثبتت أنها رابحة.

أكوام النصوص التي تصل إلى دور النشر -على حد قول المسؤولين عنها- يبدو أنها تركت تأثيرها السيئ في النص الجيد، فأصبح معظم ما ينشر دون المستوى المتوسط، إلى درجة تشعرك أن هناك اتفاقًا ضمنيًّا أن يكون النص متوسط المستوى، هو النص الغالب على ما يقدم. قضية إشكالية برزت في الآونة الأخيرة، تتعلق بموضوع حماية أفكار الكاتب، تلك الأفكار التي تتضمنها قصصه المرسلة إلى دور النشر، وغير الموافق على نشرها.

والسؤال هنا: هل هناك صعوبة في إيجاد آلية معينة، تشكل مرجعية للكاتب، ودليلًا على أحقيته بالفكرة أو النص، فيما لو رأى أحدهما أو كلاهما في طيّات كتاب، يحمل توقيع كاتب آخر؟ لا نظن أن الأمر بتلك الصعوبة، وهو مع ما أثرناه من نقاط، وأخرى لم نتطرق إليها، سيزيد الثقة في تجربة دور النشر، ويشعر الكتّاب بمزيد من الأمان والطمأنينة، الضروريين لاستمرار العملية الإبداعية، وربما يتوقف جلّ من أصادفهم من كتّاب الأطفال، عن ترديد الكلمات التالية: لا حلّ إلا في افتتاح دار نشر خاصة بي!

روايات اليافعين ومشكلة النص المسرحي

قبل سنوات، وفي إحدى ورشات الكتابة للأطفال في دمشق، قرأنا رواية لليافعين، لاسم مشهور في عالم الصحافة الأدبية، لكن تلك القراءة، سببت لنا الكثير من الإرهاق، ودفعتنا للتساؤل: هل نفتقد إلى هذه الدرجة كُتابًا محترفين في مجال الكتابة لليافعين؟ وما مفاتيح الكاتب عند التعامل مع هذه الشريحة العمرية الحساسة؟ وهل سنصل يومًا إلى التنوع المطروح في الغرب بالنسبة لسوق روايات اليافعين، التي تقدم كروايات بكل ما في الكلمة من معنى؟

مع الوقت ازداد الطلب على قصص اليافعين ورواياتهم، حتى إن بعض الدور أصبحت متخصصة بها، ولكن بقيت عوائق كثيرة أمام الكتّاب، من أهمها قائمة المحظورات الطويلة، وسعي كثير من الدور إلى تبني أعمال بسيطة في لغتها، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة عن أدب اليافعين الذي نريده، وبخاصة أن أجيالًا كثيرة قرأت أهم روايات الأدب العالمي والعربي في سن الرابعة عشرة، وتعلمت منها، ولم تفسدها الأفكار، التي ترى بعض دور النشر، أنها لا تصلح لليافعين.

من التجارب التي تستحق التوقف عندها، تجربة اللبنانية فاطمة شرف الدين، التي قدمت عددًا كبيرًا من قصص الأطفال، قبل أن تبدأ تجربتها مع كتابة روايات لليافعين، وتقدم في عام 2010م، رواية «فاتن»، التي ترجمت إلى الإنجليزية، تحت عنوان «الخادمة»، وفازت بجائزة أفضل كتاب في «معرض بيروت الدولي للكتاب» في دورة عام 2010م. عندما قرأت عن تحوّل الرواية إلى مادة دراسية في بعض مدارس لبنان، فكرت في موضوع الأعمال المسرحية الموجهة للأطفال واليافعين، التي تعتذر الغالبية العظمى من دور النشر عن تبنيها، بينما يمكن أن يسهم نشرها، في وصولها إلى المدارس، والدخول ضمن المنهاج الدراسي، فيقرأ الأطفال عملًا مسرحيًّا، ويؤدون دورًا فيه، فيصل الطفل إلى متعة التمثيل، متعة تغيير شخصيته الحقيقية، والدخول في لباس شخصية جديدة.

ومع المسرح تحضر السينما، فيمكن لقصص الأطفال الجيدة، أن تصوّر تلفزيونيًّا أو سينمائيًّا، لتكون مادة بصرية، أبطالها الأطفال، وتلبي حاجتهم إلى أعمال تشبههم.

محظورات دور النشر، وأخطاء التقييم

يطرح الكثير من كتّاب الأطفال، التساؤل التالي: من يحكم على سوية النصوص التي نقدمها إلى دور النشر؟ ما دمنا، في الأصل، نعاني ندرة في الأسماء التي تستحق أن تسمى ذات شأن وخبرة في مجال أدب الطفل، فهل يعقل أن تترك نصوصنا بين أيدي موظفين، كلّ إمكانياتهم إجازة في اللغة العربية، أو كتّاب مبتدئين، لا ترقى محاولاتهم لسوية أقل نصوصنا شأنًا؟

يحيلنا التساؤل إلى آخر: لماذا لا تستفيد دور النشر من الأسماء المهمة في هذا المجال، ليكون لهم رأي في مستوى النصوص المعروضة؟ كما أن كثيرًا من النصوص المرفوضة، تصل إلى دور أخرى، فتلقى ترحيبًا كبيرًا، وتحقق بعد صدورها نجاحات مهمة، وهو ليس بالأمر المستغرب، ولا ينتقص من قيمة أحد، فهناك دور نشر عالمية، رفضت أعمالًا كثيرة، ونشرها غيرها، ويحضرني هنا عمل روائي، حمل عنوان «مذاق التوت الأسود»، وهي رواية قصيرة للمؤلفة الأميركية دوريس بوتشنان سميث، نشرت في عام 1973م، في دار نشر مميزة، بعد رفضها من دور نشر كثيرة، بحجة احتوائها على أفكار لا تناسب الصغار، مثل موضوع موت إحدى الشخصيات. في الرواية يموت أحد الأطفال إثر لدغة نحلة في إحدى المغامرات الخاصة بالفتيان، ويعاني الراوي شعور الذنب بسبب خوض تلك المغامرات مع رفاقه. ننوه هنا أن موضوع الموت، هو واحد من المحرمات الكثيرة في أدب الطفل في بلادنا العربية، وكأن الأطفال والفتية لم يسمعوا بالموت قط، لا في الحياة الواقعية ولا على شاشات التلفاز!

يولد الطفل في وقتنا الراهن، وجهاز الكمبيوتر فوق رأسه، ثم يأتي من يريد أن يقصّ عليه حكايات، بالطريقة التقليدية التي استخدمها غيره قبل عشرات السنين. ربما لمثل هؤلاء الكتّاب، يطلق المفكر والأديب العراقي فاضل الكعبي، في كتابه العلم والخيال في أدب الأطفال، تساؤله المشروع: «هل يعقل أن نكتب لأبناء هذا الوقت باللغة والمنهجية والأسلوب والإيحاء والأجواء نفسها، التي كنا نكتبها لأبناء القرن الماضي؟».

بينما يجيب الروائي الكويتي طالب الرفاعي، عن سبب فقر المكتبة العربية بنتاجات أدب الأطفال، مؤكدًا أن الفقر الأساسي يخص كتب الأطفال العصرية، «للأسف، ما زالت المكتبة العربية لأدب الطفل، تدور في خانة الصياد والحمار والحمامة والديك والقرية، وهذه الأشياء على أهميتها ما عادت تمثل الواقع الحياتي الراهن. كما أنها تُقدم للطفل بطريقة بائسة محمولة على
الوعظ والإرشاد».

طموحات كاتب أطفال

يردد أحد أصدقائي من كتّاب الأطفال المجتهدين، حكاية الكاتب والشاعر الدنماركي، هانس كريستيان أندرسن (1805- 1875م)، صاحب الروائع الكثيرة، التي مرت على أجيال من الأطفال، دون أن تفقد شيئًا من ألقها و«طزاجتها»، مثل «بائعة الكبريت»، و«جندي الصفيح» و«عقلة الإصبع»، تلك الأعمال التي ترجمت إلى أكثر من مئة وخمسين لغة، واستوحى المخرجون منها مواضيع لأفلامهم، ومسرحياتهم، وأعمال الرسوم المتحركة، وأسّست جائزة باسمه، تعرف اليوم كواحدة من أرفع الجوائز في عالم جوائز أدب الأطفال، وتمنح مرّة كل عامين، لكاتب ورسام في احتفال كبير.

يزداد حماس ذلك الصديق، وهو يتحدث عن موضوع الطابع البريدي، الذي صدر حاملًا صورة أندرسن، ويحلم بيوم يحتل فيه أدب الأطفال مكانة كبيرة في بلادنا العربية، وتبرز أسماء، تستحق أن تصدر طوابع بريدية تحمل صورتها واسمها.

يشدني حماسه، وأشاركه فيه، لكني أعود لأفكر في المراحل التي يجب علينا قطعها، حتى نصل إلى ذلك اليوم، وإن نجحنا، وهذا ما آمله، سيأتي كاتب أطفال، ليقصّ للأجيال الجديدة، قصة كاتب، حلم برؤية صورته على طابع بريدي، وعمل بجهد حتى وصل إلى مبتغاه. الكثير من الأقلام التي كتبت للطفل، لم يتحول الموضوع لديها إلى قضية شاغلة، تهبها عمرها وروحها، بل بقي تجربة على هامش تجربة الكتابة عمومًا، وبقي كثير ممن رغبوا في الكتابة للطفل، أسرى طريقة كتابتهم للكبار، وبدا كأنهم بحاجة إلى من يذكرهم من وقت لآخر، أنهم يكتبون للأطفال، وليس للكبار.