بواسطة حاوره أشرف الحساني - ناقد مغربي | يوليو 1, 2021 | حوار
يُعَدّ المُفكر المغربي موليم العروسي في طليعة المُفكرين العرب، الذين زاوجوا في مشروعهم الفكري بين الكتابة النظرية المجردة وبين التخييل الإبداعي من خلال جنس الرواية، وإن كان العروسي في التجارب الفكرية أقل ظهورًا داخل الإعلام بالعالم العربي، فهذا أمرٌ يعود في الأساس إلى المجال الفلسفي الذي يُفكر فيه ويبحث ويكتب ويحاضر، والمُتمثل في موضوع الفن، بوصفه مفهومًا مركبًا يجمع في طياته العديد من المعارف والعلوم.
ففي الوقت، الذي تظل فيه المختبرات الفلسفية العربية تعيش وهمًا تاريخيًّا مُتمركزًا حول مفاهيم العروبة والفكر العربي والخطاب الديني وغيرها من الموضوعات، التي يرى العروسي أنها تقف في حدود القرن التاسع عشر، يطيب لموليم العروسي الإقامة في تخوم فكر ما بعد الحداثة، بوصفها مرحلة فكرية لاحقة عن الحداثة. ولأن العروسي أكثر المُفكرين العرب اهتمامًا بالفن وقضاياه المُتشعبة في علاقاته بالسياسة والجسد والأدب والفضاء العمومي، فقد كانت كتاباته منذ نهاية السبعينيات تُمثل مُختبرًا حقيقيًّا لبلورة خطاب فلسفي حول الصورة وتمثلاتها داخل مجال الفنون البصرية.
هذا الأمر، ساهم في تكريس العروسي في كونه مفكرًا وأكاديميًّا وباحثًا في الجماليات المعاصرة، إلا أن التفكير في علم الجمال، لم يجعل العروسي يتقوقع في خطابه الفكري، بقدر ما شكل علم الجمال الشرارة الأولى للتوغل في قضايا ظلت تعيش ضربًا من اللامُفكر فيه داخل المجال الفلسفي، مثل: الصورة والجسد والقلق والفضاء والموسيقا والثقافة الشعبية، وهي موضوعات منسية داخل الفكر العربي المعاصر، وبخاصة أن المختبرات الفلسفية تَعُدّ قضايا الفن وتاريخه ضمن حقل الأدب وليس الفلسفة أو التاريخ، حيث إن ما قام به العروسي داخل الثقافة المغربية، هو تفجير مكامن الوهم فيما نعُدّه حقيقة من خلال البحث في مكبوت النص الأدبي والموسيقي والتشكيلي، وجعل هذه المجالات المُكونة لتاريخ الثقافة المغربية تطفح إلى السطح وتزيح مفاهيم المركزية التاريخية التي ظل عبدالله العروي يُدافع عنها.
صدر لموليم العروسي دراسات فكرية وأعمال أدبية عدة باللغتين العربية والفرنسية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «ملائكة السراب»، و«قناديل الليالي العشر»، و«مدارج الليلة الموعودة»، و«فنانو دكالة: هبة الأرض»، و«الهوية والحداثة في الفن المغربي»، و«الفضاء والجسد»، و«إستطيقا وفن إسلامي».
«الفيصل» التقت المُفكر موليم العروسي وحاورته حول اهتماماته وعدد من القضايا:
● أنت من المفكرين العرب الذين استطاعوا في مسارهم الفكري المزج بين الكتابة الفكرية المجردة والإبداع الأدبي في جنس الرواية، لكن المُلاحظ، هو أن هذه الكتابة الروائية سرعان ما تتحول إلى ممارسة فكرية وتعود إلى منطلقها الأول وأعني الفلسفة.. كيف يُمكن في اعتقادك أن يغدو الأدب عبارة عن ممارسة فلسفية؟
■ يجب أن نعرف أن الأمر لا يختلف بين الفلسفة والكتابة، ثمة خطأ شائع مفاده أن الفلسفة هي المفاهيم، وينسى العدد الكبير من الناس أن النصوص التي وصلتنا من التاريخ، مثل النصوص الإغريقية، لو تأملناها جيدًا، فسوف نكتشف أدبًا. أفلاطون كتب فلسفته في محاورات لُعِبت أغلبها على خشبات المسارح، والفلاسفة الأوائل -مَنْ يطلق عليهم ما قبل سقراطيين- صاغوا فلسفاتهم في قوالب شعرية. أضف إلى ذلك أن غالبية المفاهيم الفلسفية والنفسية صيغت انطلاقًا من أعمال أدبية أو فنية خالدة؛ من ذلك عقدة أوديب أو السادية أو المازوخية، أو غيرها من المفاهيم التي لها اليوم موقع مهم في تفكير الإنسانية، وكذلك الأمر لأعمال شعرية أو موسيقية أو تشكيلية.
الأمر ليس غريبًا؛ إذ إن العمل الروائي أو الشعري يشتغل على مستويات عدة؛ أهمها التساؤل حول الوجود بما هو كذلك ومحاولة الغوص في النفس البشرية للعثور على أجوبة للأسئلة القلقة، وتأمل الكون والحياة لفك رموزها بغية الوصول إلى معنى ما للوجود. ما الذي تفعله الفلسفة والعلم والتقنية والطب؟ كلها تبحث عن الأشياء نفسها وإن كان كلٌّ بمقدار، لكن الفلسفة والأدب أقرب بعضهما إلى بعض أو قل هما وجهان لعملة واحدة لأنهما يشتغلان على المادة ذاتها؛ اللغة.
لذا أجبت عن هذا السؤال في السابق بالقول: «أنا حكواتي في الفلسفة، وفيلسوف في الإبداع».
● لماذا في نظرك ظلت العلاقة بين الفلسفة والأدب عربيًّا يطبعها الكثير من الالتباس وسوء الفهم على مستوى تطويع العلاقة المعرفية داخل النصوص المكتوبة فكرًا وأدبًا؟
■ ربما لا يعرف الكثير أن أول النصوص الفلسفية العربية (أي تلك التي تعتمد على السؤال الإغريقي) هي لفيلسوف عربي خالص هو الكِنْدي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، من قبيلة كندة الشهيرة، ويسود الاعتقاد أنه مترجم أو ناقل إلى العربية كتاب التاسوعات لأفلوطين الذي نسبه من طريق الخطأ أو عنوة إلى أرسطو، ويكفي تأمل لغة الكندي لمعرفة مدى ارتباط الأدب بالفلسفة. أظن أن تحول الفلسفة إلى خارج الذات ومحاولة إبعادها من التفكير في المصير هو الذي جعل العرب يسجنونها في قفص الأداة التي تستعمل للمنطق أو للتدريس فقط على شاكلة الفقهيات العديدة التي تدرس في الجامعات بالوطن العربي؛ إذ كُلّما حَوّلتَ الفكرَ إلى أداة دون الانخراط روحيًّا وجسديًّا فيه، أَبعدتَه منك، وحنطته ليستحيل بعد ذلك إلى فقه وقواعد تتردد من دون إبداع أو تجديد.
هذا ما حدث للفلسفة مبكرًا في العالم العربي والإسلامي، لقد حاربها الفقه، ومن باب المفارقات لقد تسلح بالفلسفة لمناهضة الفلاسفة، ولنا في كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» خير مثال، وما كان للغزالي أن يصول ويجول ويعد بديهياته مبنية على منطق العقل لو لم يكن مسنودًا من الفقهاء الذين كانوا اليد الطولى للسلطة السياسية في ميدان تدبير عقول الناس وسجنها داخل أقفاص عقدية ما زلنا نرددها إلى اليوم. الخوف من الإبداع ومن الأدب على وجه الخصوص هو الخوف من الحرية التي يمنحها هذا الفضاء، فضاء الرواية، فضاء الشعر، فضاء التشكيل والسينما، وكلما تقلص الخيال استطاع الفقيه أن يضع حدودًا للفكر بوضعه في خانة الخطأ والصواب، وسهلت مهمته.
الخروج يقتضي الانتهاء من اجترار المتون
● لعبت بعض المختبرات العلمية دورًا سيئًا في تكريس نوع من المعرفة الفلسفية، التي باتت مضامينها وكأنها تنتمي إلى فُلكلور عتيق يقف في حدود القرن التاسع عشر، وهو ما أنتج خطابًا فلسفيًّا إنشاديًّا لا يُساير التحولات المفاهيمية والفكرية التي ألمت بالاجتماع العربي.. كيف يمكن الخروج من شرنقة الخطابات التي تعمل على قوقعة الفلسفة داخل الخطاب الديني على حساب الخطاب الجمالي مثلًا؟
■ الخروج يقتضي الانتهاء من اجترار المتون، لو انتبهت لعدد الأطروحات التي يحصل بموجبها الطلبة على دكتوراه تمنحهم مرتبة الأستاذية لَرأيت أنها تدور حول نغمة واحدة: مفهوم معين لدى فيلسوف معين؛ الاختلاف في فلسفة فلان؛ الاعتراف في فلسفة علان. لا يمكننا بهذه الطريقة أن ننتج فكرًا، وإذا لم تكن الجامعة هي المحرك للفكر والإبداع الفكري فأين سوف نحصل على الإبداع الفلسفي؟ يتبارى الأساتذة والباحثون في قدرتهم على ضبط فلسفة فيلسوف معين من دون البحث عن الذي نستفيده من هذه الفلسفة؟ يبدو لي أن التدريس قائم على تلقين الفلسفة من أجل التلقين لشباب يتلقاها ويذهب بدوره يلقنها لمن هو أصغر منه سنًّا، وهكذا إلى ما لا نهاية.
● لكن عن أي حداثة نتحدث اليوم ونحن نقف على مستوى القراءة والتفكير والكتابة في حدود القرن التاسع عشر، ألا تعتقد أن ذلك أحد أبرز تمثلاتنا المعطوبة لمفهوم الحداثة داخل مجال البحث الفلسفي؟
■ بالطبع ما تقوله صحيح لأن التفكير في عالمنا العربي تفكير تقليدي، بمعنى أنه يسير بالآليات الفكرية التي أنتجها الفكر السابق على القرن التاسع عشر، على الرغم من أن جامعاتنا تدرس كل ما أنتج في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين. لكن عندما يتعلق الأمر بالتفكير في حالتنا ووضعنا نلجأ أو يلجأ المشتغلون بالفكر إلى آليات القرن التاسع عشر فتصبح بذلك علاقتهم بما أنتج خلال القرنين اللاحقين من باب الترف الفكري فقط.
● ما الحلول الممكنة التي يمكن أن نستند إليها فكريًّا والقادرة على تخليصنا من ربقة التقليد المعرفي، ومن التفكير الورائي الذي يرى في الماضي مجدًا له؟
■ شخصيًّا لا أدري، لقد فشلت أنا وأصدقاء لي في التدريس؛ لم نستطع التأثير في الطلبة. يكونون نبهاء متيقظين عندما يكونون معنا في الفصل، لكن بمجرد ما يحصلون على الشهادات ينضمون إلى زملائنا المحافظين الذين يتعاملون مع الفكر المكرس أي ما سميته بالفكر الورائي، فكر القرن التاسع عشر. هناك شيء ما في السيرورة التاريخية يجب أن يتغير لكي يضطر الفكر إلى طرح أسئلة جديدة وينعتق من عبوديته للنصوص.
● بهذا الفهم، كيف يمكن الدخول إلى مسألة التحديث والحداثة، لا على صعيد المبدأ، إنما كأجساد مفكرة قادرة على نسف القديم والإقامة في تخوم الحاضر؟
■ لا أظن أنه من الممكن. أظن أن مشروع التحديث يقابله إعادة إنتاج التقليد أو ما أسميه التقليدانية كعقيدة مغلقة، وهذا المشروع يخترق المدرسة والجامعة والتدين والمطبخ واللباس والموسيقا، بحيث يصبح التحديث نزوة ما تلبث أن تزول ويعود أصحابها لجادّة التقليد.
● على الرغم من مرور أكثر من قرن على الاحتكاك الفعلي للمغرب بمظاهر وصور الحداثة الأوربية، فإنه لم يستطع بعد تشرب مظاهر هذه الحداثة فكريًّا والعمل بها داخل حياته اليومية.. كيف يشخص موليم العروسي، المسار الفكري الذي قطعته الحداثة منذ بداية اصطدام المغرب بالقوات الأجنبية في منتصف القرن التاسع عشر؟
■ عكس بقية الدول العربية فالمغرب واجه الحداثة الغربية انطلاقًا من إرهاصاتها الأولى إبان النهضة، كانت النهضة الأوربية في مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، بل كانت في مدينة مازكان (مدينة الجديدة اليوم)، إلا أن المغرب ظل يفتخر بأنه لا يقبل حياة النصارى (هكذا كان يسميهم آنذاك)، لم يَقبلْ مِن كل مظاهر النهضة إلا السلاح، أي أنه كان يقبل الأواني دون المعاني كما قال فقهاؤه وما زالوا يرددون. وهناك تواطؤ شعوري أو لا شعوري بين الفقهاء والسلطة؛ لأن الفكر المحافظ يخدم مصالح الاثنين، وما زلنا إلى اليوم نأخذ بالأواني دون المعاني، ولعل الأمثلة التي سقناها فيما يتعلق بالدرس الفلسفي كفيلة بتوضيح أحد جوانب الموضوع.
العروي يكتب التاريخ من منطلق السلطة
عبدالله العروي
● لك رأي مخالف حول مفهوم التاريخ المغربي وتمثلاته في الجسد والصورة والمتخيل الجمعي، بالنظر إلى ما ذهب إليه المؤرخ عبدالله العروي في كون التاريخ لا تكتبه إلا النخبة.. إلى أي حد يمكننا الاطمئنان إلى مثل هذه الدعوة التي تختصر تاريخ ومسار شعب تقرح قلبه بعفن المرحلة، وبأسئلة جد قاحلة وداخل طبقة معينة دون أخرى؟
■ نعم، الأستاذ عبدالله العروي يكتب التاريخ من منطلق السلطة. إنه يكتب وكأنه مؤرخ السلطان، أي لا يهتم بغير الوثائق التي دونت في الدواوين والقرارات التي دونت كتابة، إضافة إلى كل هذا فهو سليل المدرسة السلفية المغربية التي تتبنى جانبًا من العقلانية، خصوصًا ذلك الذي يواجهون به ما يسمونه الشعوذة ويسميه هو اللاعقل أو اللامعقول.
● كيف اهتدى موليم العروسي إلى فكرة أن التاريخ لا يتحقق فقط داخل مفهوم المركز الذي يدعو إليه العروي، بينما راهنت أنت إلى جانب المفكر عبدالكبير الخطيبي على مفهوم الهامش وعوالمه اللامفكر فيها فلسفيًّا؟
■ كل منا أنا والخطيبي أخذ طريقًا مختلفًا، لكننا التقينا كما قال في إحدى شهاداته في كتاب نشره اتحاد كتاب المغرب تكريمًا لي في نهاية القرن العشرين. قال بالحرف: «لا أدري هل التقيته في الجامعة أم في متاهة، ولكنني كلما التقيته أجده في الموقف الفكري نفسه، موقف مثقف ينتبه إلى نبض الحياة وإيقاعها واندفاعها الإبداعي». هذا هو الكلام الذي تفضلت به في سؤالك. أنا جئت من النضال السياسي، وأعتقد أن الخطيبي كان له كذلك مسار اختلطت فيه السياسة بالتجارب الشخصية. من تجربتي السياسية فهمت أنه لا يمكن أن نفهم ما يسميه الماركسيون الشعب دون الانخراط في تجاربه بشكل كلي، وأن التفكير المجرد عدو للفهم، ولا يقبض على كل ما يمكن للإنسان التعبير عنه في نبض حياته.
● المنطلق نفسه (الهامش) شغل رواد الفكر الفرنسي المعاصر مثل: دولوز وفوكو وبارت ودريدا، لكن المُثير للدهشة والاستغراب أن العالم العربي بقي يتعامل مع هؤلاء الفلاسفة المعاصرين فقط كـ«أنساق» في تاريخ الفلسفة مع أنهم ثاروا على هذه الأنساق، لكن دون أن يُفكر المثقف في إمكانية التفكير في التماهي مع إشكالاتهم ومناهجهم المعاصرة من أجل تحرير الفكر العربي من سطوة مفاهيم التقليد والتأخر التاريخي والتصحر الثقافي؟
■ لا يتعامل معهم فقط كأنساق لكن كجُزُر معزولة، ولم يفهموا أن الفكر الفرنسي أو ما يسميه الأميركيون (French Theory)، ويعنون به فكر هؤلاء الذين ذكرت، فكر متشابك، فكلما فتحت كتابًا لجاك لاكان، أو رولان بارت، أو دريدا، أو فوكو، وجدت أنهم يحللون ويفككون بكل هذه الإستراتيجيات مجتمعة. ليس هناك تخصص أو اعتماد على بارت وحده، أو أي مفكر آخر، النظرية الفرنسية هي التفكير في هؤلاء مجتمعين وليس كلٌّ وحده.
قتل الآخر ومحوه نهائيًّا
● أنت من المُفكرين العرب الذين يرفضون استعمال مفهوم «الفكر العربي».. ما السر وراء هذا النقد للمفهوم؟ وما المنطلقات الإبستمولوجية والفلسفية التي تستند إليها في نقد مفاهيم الفكر العربي والعقل العربي؟
■ إذا كان لا بد من قبول هذ التحديد فلا بد من إعادة بنائه؛ لأنه إذا أردت أن أدمج الفكر المغربي في شيء اسمه الفكر العربي حتى أكون متوافقًا مع طريقة تفكيري، فلا بد أن أطرد منه كل ما ليس له علاقة بالعرب وبالتفكير العربي الإسلامي، من ذلك الثقافة الأمازيغية والثقافة الإفريقية والثقافة الكردية، والثقافة السودانية، وهذا هو خطر التوحيد القسري، إنه يحمل في طيات مشروعه إمكانية قتل الآخر ومحوه نهائيًّا، لا يمكنني محاولة فهم المجتمع المغربي والنظر إليه فقط من زاوية أنه عربي، لا يستقيم. أما مسألة العقل العربي فهي تحمل في طياتها جانبًا عنصريًّا جهويًّا، وجانبًا أيديولوجيًّا سياسيًّا، فالعقل عقل بشري له آليات إنسانية بشرية، والتفكير في حقل ما وبلغة ما لا يغير من طبيعة العقل، فهل العقل الصيني اليوم يشتغل كصيني أو كعقل كوني؟ لو ظل يشتغل بجهويته لَمَا اكتسح العالم. يجب أن نفرق بين الثقافة والحضارة من جهة، والتفكير العقلي. فكرة العقل العربي أحس أنها مقترح استشراقي.
أما جانبها الأيديولوجي السياسي فيكمن في كون السلطة البطريركية العربية تجد ضالتها في هذا المفهوم لأنه يحافظ على مكاسبها الاستبدادية، فإذا قلنا: إن هناك عقلًا عربيًّا، فبالضرورة هناك فكر عربي، وسياسة عربية، وحقوق إنسان عربية، وحرية عربية، ونساء عرب، وديمقراطية عربية، ينتمون لهذا المفهوم العام الذي هو العقل العربي الذي عنه تصدر كل المفاهيم؛ لذا قلت وما زلت أقول: إن مفهوم العقل العربي ما هو إلا دعامة للاستبداد.
● منذ بداية القرن العشرين ونحن نقرأ ما سمي داخل الأدبيات الفلسفية المعاصرة بـ«أزمة الفكر العربي» حتى أضحت العبارة أشبه بأسطوانة تتكرر إلى ما لا نهاية من بحث إلى آخر.. أين تكمن هذه الأزمة في نظرك؟
■ الأزمة في أن الهوامش في البلاد العربية بدأت تعبر عن اختلافاتها، مفهوم العقل العربي الذي تبنته الأنظمة أصبح سيفًا مسلطًا على الرقاب، وتحولت العروبة إلى عقيدة بعد تقليم أظافر الدولة العثمانية وخلق فكرة العروبة من طرف الغرب لمحاربة الرمز الديني الذي كان العثمانيون يحكمون به العالم العربي (الإسلام). أصبح ما يسمى الفكر العربي يجتر ما قيل ويحلل المؤلفات نفسها، ويضع عليها الهوامش حتى أصبح هذا الفكر أشبه بفكر الانحطاط أو هو تكملة له.
● لم يستطع الفكر العربي تجديد نفسه من الداخل من خلال طرح قضايا وموضوعات جديدة تتصل بحياتنا اليومية أمام هذا الطوفان البصري الذي اجتاح كياننا مثل الجسد والصورة والصمت والقلق والفضاء العمومي.. ألا تعتقد أن الأزمة تبدأ من هنا، وأعني عدم قدرة هذا الفكر على دحض كل الموضوعات التقليدية المتوارثة عن العصر الوسيط رغم مباهجه؟
■ عنما تشير إلى هذا الجديد في الفكر (الجسد والصورة والصمت والقلق والفضاء العمومي)، فيمَ يفيد مؤلف من القرن الرابع الهجري؟ فيمَ يفيد ابن رشد؟ فيمَ يفيد الفارابي؟ قد نعود إليه لنرى كيف تكونت نظرتنا إلى الحياة وكيف يمكننا تجاوزها؟ لكن أن نعود إلى الماضي لحل معضلات الحاضر فهذا شيء أظن من الواجب أن نعيد فيه النظر.
الفضاء العمومي وميلاد المجتمعات
● من المفاهيم الأخرى التي ظلت مُهمشة ومنسية داخل الفكر العربي نجد مفهوم «الفضاء العمومي».. كيف تقرأ هذا المفهوم في علاقته بالفلسفة كما تبلور ذلك لدى هابرماس؟
■ مفهوم الفضاء العمومي موجود قبل أن يهتم به هابرماس وقبل أن تهتم به الفلسفة، لقد لازم ميلاد الفضاء العمومي ميلاد المجتمعات الحديثة، نعرف أن الحداثة تميزت بفصل الفضاءات، وبخاصة الفضاء السياسي، والفضاء الديني، والفضاء العلمي الأكاديمي. وإذ يُعَدّ الفضاء الديني والفضاء العلمي خاصين، فإن الفضاء السياسي مشترك ويلجه الجميع. الفضاء العمومي هو كل الفضاءات المشتركة بين الناس، إنها الفضاءات التي يمكن التواصل فيها دون الخوف من أن يطولنا منع معين. لكن أهم شيء في الفضاء العمومي هو غياب التراتبية المجتمعية، أو على الأقل دورها في الحق في أخذ الكلمة. لكل الحق في التعبير عن رأيه شريطة احترام رأي الآخر؛ إذ المعنى الذي أخذه الفضاء العمومي معنى تواصلي وخصوصًا في الميدان السياسي والاجتماعي.
● إلى أي حد استطاعت الفلسفة داخل العالم العربي الانخراط بشكل كلي ومُكثف داخل الفضاء العمومي من أجل طرح الأسئلة وتحرير المُخيلة وإطلاق العنان أكثر للجسد؟
■ هي الفكرة نفسها التي ركزت عليها في الإجابة عن سؤالك السابق، لكي تتدخل الفلسفة يجب أن تكون الأجساد التي تحملها أو تتبناها تنتمي لعصر الحداثة، أي إلى العصر الذي ينعتق فيه الفرد ويتحرر من جميع السلط الخارجة عن ذاته ولا يفكر انطلاقًا مما يمليه أو يفرضه عليه غيره، عندها يستطيع الجسد أن ينبض بالحياة ويتفاعل مع الفكر.
يورغن هابرماس
● كان للفن دور كبير في اقتحام الفضاء العمومي وهو ما فتح لمفهوم الفن المعاصر داخل البلاد العربية في أن يغدو فنًّا قريبًا من الناس، كما ساهم في تحرير مخيلة بعض الفنانين الذين تجاوزوا في إبداعاتهم اللوحة المسندية.. إلى أي حد يُمكن عَدّ هذا الفعل ينتمي إلى فكر ما بعد الحداثة؟
■ الفن المعاصر ينتمي فعلًا لعصر ما بعد الحداثة، لكن هل الفن المعاصر ومنجزات فنانيه بالمغرب على الحال التي تصف؟ هو الذي يجب أن يقع فيه التدقيق أكثر، فتجاوز اللوحة المسندية وحده ليس كافيًا للقول بالفن المعاصر، الفن المعاصر كما تفضلت موقف من العالم وليس فقط تجميلًا أو إعادة إنتاج مجموعة وصفات، وهنا يمكن أن أشك في عدد كبير من المنجز الفني العربي المعاصر.
● المتأمل في مفهوم الفضاء العمومي لا يلبث أن يكتشف حجم التشابه مع مفهوم «الأكورا» قديمًا.. ما حدود التقاطع والتلاقي بين ذلك؟
■ الأكورا اليونانية مكان عمومي إذا رأينا أن «مفهوم العام» عند الإغريق كان يقتصر على السادة مع إقصاء العبيد وطبقات أخرى من المجتمع الإغريقي. وهنا تختلف الأكورا عن الفضاء العمومي الذي نشأ في عصر الحداثة.
● طالما عَدّ بعض المفكرين أن وسائل التواصل الاجتماعي غدت فضاءات عمومية لطرح الأسئلة، حتى لو لم تكُن عميقة وتكتفي بالجاهز والظاهر على سطح الساحة العالمية.. متى يمكن للفلسفة أن تتدخل في توجيه الخطاب وحث الناس على تغيير علاقتهم بهذه الوسائل، التي باتت تنتج نوعًا من البلاهة الثقافية؟
■ هناك بعض الزملاء سواء بالمغرب أو خارجه يتدخلون، كلٌّ بمقدار، في النقاشات الدائرة على فضاءات التواصل الاجتماعي، ولكن بما أن الفلسفة تُنَبِّه ولا تُوَجِّه فإنه يصعب جدًّا إسماع صوت الفيلسوف داخل الضجيج العارم الذي يجتاح هذه الفضاءات، الفلسفة تُسائِل البديهيات، ومرتادو وسائل التواصل يقتاتون ويحتاجون بديهيات، سوف يُتْعِبُ الفيلسوف نفسه بالخوض في مضمار كهذا، استعمال الإنترنت واللجوء إلى منصات خاصة ممكن، وقد يكون مفيدًا جدًّا لكن وسائل التواصل الشعبية يصعب التعامل معها.
ألا ترى أن ذلك قد أثر في الإنسان ككل، وحوَّلَ العلاقات الإنسانية والترابطات الثقافية إلى مجتمعات عالمية تعيش داخل شبكات وكهوف بصرية؟
داخل كهوف أكيد، كمغارة أفلاطون إن صح التعبير، بل إنهم يسيرون في ممرات طويلة، طرق سيارة لا يعرفون لماذا دخلوها، ولا متى سوف يخرجون منها؟
● أي ملامح ترسمها للعلاقة بين الفضاء العمومي والديمقراطية داخل البلاد العربية؟
■ لا يمكن للديمقراطية أن تنشأ وتقوم إذا لم يتحرر الفضاء العمومي، وتحريره واجب ليس فقط مما يسمى تقليديًّا بالسلطة، بل من جميع السلط والمؤسسات غير المدنية.
● موليم العروسي أول المُفكرين العرب الذين انتبهوا إلى أهمية مفهوم الفضاء العمومي داخل الأدبيات الفكرية العربية، ما قادك إلى تحرير كتابك المهم «الفضاء والجسد».. كيف وعيت في ذلك الوقت المُبكر أهمية المفهوم الذي أضحت المؤسسات في مختلف دول العالم، تولي له عناية فائقة أمام ما يشهده الواقع من شروخ وتصدعات؟
■ كما وضحت ذلك في جواب سابق، الهم السياسي وضرورة التعامل مع الناس من منطلق أنهم راشدون. إن انخراطهم في مشروعات تخصهم لا بد أن تكون محمولة على العاتق من طرفهم، هي التي جعلتني أنصت إلى نبض الحياة لديهم، وهذا النبض، وبما أنه يستحيل أن أتحدث إلى الناس فردًا فردًا، كان من الضروري أن أبحث عن أين أجده؛ نجده فيما يَنْتُجُ عن ممارساتهم وبخاصة تلك التي ينتجونها جماعة وبطريقة لا شعورية. وهنا كانت مدرسة ماركس الفلسفية وليست الأيديولوجية، مهمة لي.
المثقف النقدي وحركات الإسلام السياسي
● ماذا عن المثقف النقدي أي دور يمكن أن يلعبه في خضم حركات الإسلام السياسي، علمًا أن مفاهيم وأفكار وأطاريح غرامشي قد حُرِّفَتْ عن السياق التاريخي الذي ظهرت فيه لدرجة غدا التقليدانيون يستندون إلى هذه المفاهيم، ويحاولون تسويغها وفق مواقفهم ومعتقداتهم؟
■ لا بل اهتم التقليدانيون بأفكار ونظريات ماو تسي تونغ قائد الثورة الصينية. أحد دعاة الإسلام السياسي بالمغرب، عبدالسلام ياسين، كان يدعو أنصاره إلى استلهام طرائق ونظريات هذا القائد الشيوعي، ولكن دائمًا في إطار «الأواني دون المعاني»، ولم يكن يدري أن ماو كان يدعو إلى جعل الثورة تمر عبر الأجساد وليس أن تفرض على الناس، يجب أن يتحرر الفرد أولًا. أما المثقف اليساري ولا أدري من نقصد بهذا النعت، فهو إما تلاشى، وعدد كبير منهم تحولوا إلى أفكار ومبادئ غالبًا محافظة، أو بقوا صامدين في مواقف من القرن الماضي، وقلة قليلة ما زالت تنتج وتفكر بما أوتيت من قوة.
كريم مروة
● قدم مفكرون عرب خدمات جليلة إلى الفكر العربي المعاصر، انطلاقًا من المنهج الجدلي المادي الذي أخضعوا به نصوص التراث العربي الإسلامي.. كيف تنظر إلى هذه المساهمة التاريخية في إمكانية تجديد الفكر العربي، كما تبلورت لدى حسين مروة والطيب التيزيني وكريم مروة على سبيل المثال؟
■ صحيح ما تقوله، لكن -يا للأسف- والأمر هنا يعني كل الأسماء التي ذكرت، حدث لهم ما حدث للودفيك فيورباخ الذي حاول تجديد الفكر الديني، ونسي أن الفكر الديني أمر يهم أهل الدين، وأن دور الفيلسوف هو التصدي للفكر الجاهز والثابت وليس محاولة خلق دين جديد. هؤلاء الذين تسميهم الماركسيون هم من أسسوا ما سُمّي بالفكر العربي والعقل العربي، ومدوا الاستبداد بأدوات سمحت له بتجديد نفسه والإبقاء على جوهره.
● هل تعتقد أن ذيوع كتاب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» للمؤرخ المغربي عبدالله العروي، كان بسبب هذا المنهج الذي حاول تطبيقه على الاجتماع العربي بطريقة بدا فيها الكتاب يحتكم إلى شروط مادية واقعية وعينية بعيدة من كل أحلام سرمدية؟
■ يجب أن نعرف أن كتاب عبدالله العروي يوحي للقراء غير المتمرسين بالفكر الماركسي أنه اعتمد المنهج المادي الجدلي، لكن حقيقة الأمر أن الكتاب مجهود بسيط يحاول محاكاة فينومينولوجيا الروح لهيغل. فكما حاول هيغل تتبع تجليات الروح عبر التاريخ وعبر وسائط متعددة ليصل إلى تجليه المطلق؛ حاول العروي أن يتوهم أن هناك فعلًا أيديولوجية عربية تتجلى من خلال المكتوبات والروحانيات التي سمّاها عربية، واستنتج من خلالها ما استنتج. جاء الكتاب في زمن ضنين كان العرب فيه في أمسّ الحاجة إلى جَلْد الذات، فحدث ما حدث. إذا قرأت الكتاب اليوم، وخصوصًا في اللغة التي كتب بها أي الفرنسية، سوف ترى إلى أي حد كان الفكر العربي بئيسًا في ذلك الزمان.
● موليم العروسي، لنختم حوارنا بسؤال المرأة في علاقتها بالإبداع.. لماذا في نظرك لم يستطع التاريخ العربي إفراز بعض التجارب الرائدة داخل مجال البحث الفلسفي كما هو الأمر في الفكر الفرنسي والألماني مثلًا؟
■ هذا لا يخص المجتمعات العربية وحدها ففي فرنسا وألمانيا لم تظهر وجوه فلسفية نسائية إلا بعد نضال مرير، ولم يكن عدم ظهور أسماء نسائية راجعًا إلى عدم وجودهن، بل راجع لإصرار الأذن الأوربية على عدم سماع صوت النساء. أعتقد أن الأمر كذلك للعالم العربي، فبمجرد ما ترفع امرأة صوتها لتعبر عن رأيها حتى تتعدد التبريرات للتغطية على الصوت إياه. اسأل كم من سيدة تدرس بشعب الفلسفة بالجامعات المغربية والعربية على السواء، ألم تتقدم ولا واحدة لشغل منصب مدرسة فلسفة؟ ما زال العربي يفضل المرأة الرقيقة التي تعلو الحمرة وجنتيها عندما تكلم الرجل، ويصعب عليه تقبل المرأة التي تنظر مباشرة في عمق عينيه وتقول له: «لقد أخطأت، الصواب هنا».
بواسطة حاوره أشرف الحساني - ناقد مغربي | مارس 1, 2020 | حوار
للمفكر المغربي محمد نور الدين أفاية قوة فكرية صلبة، وقدرة هائلة على التنقل داخل موضوعات ومفاهيم فكرية متنوعة من دون أن يصاب باختلال منهجي أو فقر معرفي، ما جعله اليوم في طليعة المفكرين المغاربة الذين اتسمت أعمالهم بنوع من الدقة في اختيار الموضوعات، مثل المتخيل والصورة والتواصل والفضاء العمومي وغيرها من الموضوعات التي تبدو أقرب إلى مشاغل الفلسفة المعاصرة، إلى جانب اهتماماته الكبرى بقضايا وإشكالات لها علاقة وطيدة بالمتخيل في علاقته بالآخر داخل الثقافة العربية منذ العصر الوسيط إلى الآن.
صدر له في هذا الصدد العديد من الكتب، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «الديمقراطية المنقوصة»، و«أسئلة النهضة في المغرب»، و«الغرب المتخيل: صور الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط»، و«صور الغيرية: تجليات الآخر في الفكر العربي الإسلامي»، و«الوعي بالاعتراف»، وغيرها.
وفي مناسبة صدور كتابه الجديد عن المركز الثقافي للكتاب «الصورة والمعنى: السينما والتفكير بالفعل»، تحاوره «الفيصل» حول الكتاب نفسه وعدد من القضايا التي انشغل بها طوال العقود الماضية.
● لنبدأ هذا الحوار بكتابك الجديد «الصورة والمعنى» الصادر حديثًا ضمن منشورات المركز الثقافي للكتاب. بداية كيف يمكن للسينما العربية اليوم أن تصبح تفكيرًا بالفعل، وهو العنوان الفرعي المتحول الذي جاء ضمن صيغة العنوان «الصورة والمعنى: السينما والتفكير بالفعل»؟
■ «كيف يمكن للسينما العربية اليوم أن تفكر بالفعل؟» سؤال متعدد الخلفيات والمقاصد بلا شك؛ لأنه يطرح قضية الإبداع باعتبارها قضية فكرية وتجليًا لمستوى متقدم للفاعلية النظرية، وهذا الانشغال لم يكن غريبًا عن السينمائيين العرب ولا سيما المصريين منهم منذ أواسط الخمسينات، أما جيل العقود الثلاثة من القرن العشرين وبدايات هذه الألفية فإننا نجد العديد من الأعمال التي تسكنها قضايا فكرية ووجودية وإنسانية تعبر عن مستوى راقٍ من التأمل والتفكير بواسطة السينما.
فالسينما، كما هو معلوم، فن صعب وإشكالي، والمؤكد أن إنجاز فلم هو انتصار على كل العوائق السياسية والمجتمعية، وهي قاسية في حالتنا، كما على المشاكل المادية والثقافية والنفسية التي تسعف أو لا تسعف الفاعل السينمائي في بناء سروده ورسائله؛ ومع ذلك وجدنا وما زلنا نفاجأ بسينمائيين عرب تمكنوا من صياغة أفكارهم ومواقفهم بالرغم من مختلف أصناف الرقابات والمحرمات. ومن ناحية أخرى تشكل السينما تفكيرًا بالفعل منذ الفكرة الأولى التي تراود صاحبها، إلى عملية بناء السيناريو، وهو أمر ليس سهلًا على الإطلاق، مرورًا بكل المراحل المادية والإدارية والتواصلية لبلوغ لحظتي التصوير والإخراج اللتين تعبران عن قدرات الفاعل السينمائي على الترجمة البصرية للرواية الفلمية، إلى المرحلة الحاسمة المتمثلة في تركيب ما سُجِّلَ من صور ولقطات ومتواليات ومشاهد.
ومن الواضح أن كتاب «الصورة والمعنى»، على هذا المستوى، يدعو إلى النظر إلى العمل السينمائي بوصفه حقلًا إبداعيًّا يتجاوز الاهتمام السينمائي التقني ليتشابك مع أسئلة الذات والفكر والتاريخ والوجود؛ كما يسجل أن السينما العربية بمقدار ما كثفت هموم المثقف وانشغالاته لم يولِها هذا الأخير ما تستحق من عناية، وهو ما أحدث انفصالًا شبه تام عما تقدمه الأفلام العربية، باختلاف اختيارات أصحابها وتنوع حساسياتهم الفكرية والجمالية. وفي كل الأحوال إذا كان الكتاب يتناول بعض أسئلة السينما العربية، فإن قارئه سيلحظ أنه يتناول موضوعات الجماليات والكتابة السينمائية والفكر النقدي في أبعادها النظرية العامة، كما يتعرض بالقراءة والتحليل لأفلام غير عربية.
● تعيش الجامعة المغربية ومختبراتها سلفية ثقافية قاتلة للفن والجمال من خلال المراهنة على موضوعات لن أقول إنه أصبح لها طابع كلاسيكي داخل منظومة الفكر العربي، ولكن ستبدو بعيدة عما يجري حاليًّا من اهتمام بموضوعات مثل الصورة والجسد والمتخيل والفضاء العمومي وغيرها من المفاهيم، التي أصبح لها اليوم طابع المحورية في التناول والتداول. لماذا في نظرك عزوف هذه المختبرات عن مثل هذه المجالات المعرفية والفنية؟
■ أن تلحظ أن الجامعة المغربية تم تسييجها بنزعات أصولية وسلفية فذلك ما يدخل ضمن المعاينة الواقعية، ليس فقط على صعيد محاصرة الاهتمام بالإبداع والجمال، وإنما بالتغلغل التدريجي والمفكر فيه من طرف الجهات التي حركت هذه النزعات طيلة العقود الثلاثة الأخيرة ووطنتها في جل مستويات التفكير والسلوك واللغات والمواقف. هناك مقاومات دائمة لذلك ومناقشات حامية، والأمر ليس محسومًا على كل حال. وإن كنا نعاين هذا الواقع فذلك لا ينفي كون هذه الجامعة اهتمت بقضايا الفن والأدب والإبداع والنقد منذ ستينيات القرن الماضي، وشكل هذا الاهتمام مدخلًا من مداخل الانتهال من الفكر الحديث، سواء تحت تأثير الاجتهادات النهضوية العربية أو بواسطة الاحتكاك المباشر بممثلي التيارات الأدبية والنقدية الأوربية. ولا تنسَ أن أساتذة كبارًا مروا بالجامعة المغربية من العرب وغير العرب، وأن رولان بارت درس، ولو بشكل محدود، بجامعة الرباط، وأن مفكرين كانوا يزورونها من أمثال تودوروف ودريدا وغيرهما.
علينا الإقرار بكون الانشغال بالفكر البصري كان من بين انشغالات المفكرين المغاربة، ومنهم عبدالله العروي وبخاصة عبدالكبير الخطيبي الذي نشر دراسات عديدة في موضوعات الرسم والأبعاد البصرية للثقافة الشعبية، وألف بحوثًا لا تزال تشكل مراجع بالنسبة للمشتغلين بهذه الحقول. كما تشكلت منذ سبعينيات القرن الماضي نخبة للتفكير في قضايا الصورة والإبداع والجسد. أما عملية إدماج الجماليات في شعب الفلسفة فلم تبدأ، مؤسسيًّا وبرنامجيًّا، إلا في أواسط تسعينيات القرن الماضي في كليتي الآداب والعلوم الإنسانية في الدار البيضاء والرباط، وهو إدماج ساهم، وإن بشكل متواضع، في إطلاق بحوث ومناقشات انخرط فيها عدد لا بأس به من الشباب الباحثين والنقاد.
● هل بالفعل هنالك مشروع سينمائي عربي يتأتى للباحث من خلاله اجتراح مشروع فكري يقوم في منطلقاته المعرفية والمنهجية من السينما ليتشابك مع قضايا ومفاهيم فكرية كبرى تجد صداها أكثر داخل الفكر العربي؟
■ يصعب الحديث عن «مشروع سينمائي عربي» بهذه العمومية؛ لأن لكل بلد عربي سياساته في هذا المجال؛ وتبين الوقائع العربية مع تفكك ما يسمى بـ«النظام الإقليمي العربي» مدى صعوبة توافر أي شكل من أشكال التعاون والتكامل على صعيد الصناعة السينمائية. نشهد سينمات تتراجع وتتدهور دورتها الإنتاجية، كما هو حال السينما المصرية والجزائرية، وسينمات تتنامى، على الأقل كميًّا، كما هو شأن السينما المغربية، وبدأنا نعاين بدايات أعمال تجريبية خليجية سواء على مستوى الإخراج أو على صعيد تأسيس بعض صناديق دعم الإنتاج السينمائي، لكن الحديث عن مشروعات مشتركة فهي مع الأسف الشديد منعدمة أو قليلة الحصول.
أما بخصوص الشق الثاني من سؤالك المتعلق بمدى تفاعل الفكر بالسينما فيمكن القول إننا نجد قراءات ومتابعات نقدية، ونعثر على عروض لتيارات السينما العالمية، كما نلقى كتابات تأملية تحكي غرامها بالسينما، وترجمات. غير أنه إذا كانت السينما لم تحظَ بما تمتعت به حقول الإبداع الأخرى من طرف المفكرين العرب، فإن نقادًا وباحثين جعلوا من السينما موضوعًا دائمًا لتفكيرهم وكتاباتهم ومؤلفاتهم. هم قلائل بدون شك قياسًا بالعدد الكبير من «النقاد السينمائيين» الذين يكتبون في صحف ومجلات ومواقع، لكون من يمارس النقد بخلفية فكرية وجمالية مشتتين وتجد كتاباتهم صعوبة في الوصول إلى العديد من الأقطار العربية.
فكر يتجاوز الحدود
● اتصالًا بموضوع الفكر العربي، فاز كتابك «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية» عام 2015م بجائزة أهم كتاب عربي، التي تمنحها مؤسسة الفكر العربي ببيروت. هل أنت ممن يوافقون على هذا التقسيم الذي قد يراه بعض الكتاب «تعسفيًّا» على صيغة فكر عربي وآخر غربي؟ أم أن المسار الذي يحفره التفكير بشكل عام له أبعاد كونية لا تتقيد لا بالحدود الجغرافية ولا حتى بالسياقات التاريخية، التي قد تفرزها طبيعة تحولات ما داخل هذه المجالات الجغرافية التي قد ينتمي إليها فكر ما؟
■ سؤالك إشكالي وتصعب مقاربته باستعجال، ذلك أن الفكر المبدع هو فكر إنساني، كيفما كان مكانه وزمانه والثقافة التي انبثق منها، قد يكون له منشأ ومؤلف وسياق ولكن بُعده الإبداعي يجعله يتجاوز الحدود وينتقل من لغة إلى أخرى ومن نص إلى آخر. هناك فكر أوربي له تاريخ وأعلام ومتون كبرى، وشهد تطورات وقطائع، وامتد إلى أرجاء واسعة من العالم؛ لأنه كان يحمل انفتاحات فكرية جديدة كبرى؛ كما يمكن القول: إن هناك فكرًا روسيًّا أو صينيًّا أو أميركيًّا لاتينيًّا، أو عربيًّا لكن شريطة تفادي السقوط في نزعة جوهرانية تمنح هذا الفكرَ أو ذاك خصوصية لا تشبه أحدًا. فالفلسفة الأوربية الحديثة، بشهادة العديد من الدارسين النزهاء، انتهلت من العطاءات الفلسفية العربية الوسيطة ومنها استلهمت بعض أفكارها ونمط أسئلتها. لذلك فإن إقامة حواجز جغرافية أو فواصل نظرية في مجال إنتاج وتداول الأفكار ما بين القومي والكوني عملية غير منتجة.
● أتذكر جيدًا نقدك الصارم والمؤسس علميًّا لكتاب عبدالله العروي «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» ذات ندوة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء على خلفية عنوان الندوة، التي ارتأى منظموها أن تكون حول الآفاق المستقبلية وتأثير الكتاب في الفكر العربي المعاصر، في الوقت الذي يرى فيه العروي في أكثر من مناسبة أن كتابه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» أسيء فهمه، مع العلم اني أرى شخصيًّا العروي في كتابه، لم يخرج عن منطق التحليل إلى فضاء التنظير داخل أقسامه، مقارنة بأحد كتبه الأخيرة «الفلسفة والتاريخ». ما رأيك؟
■ عبدالله العروي أنتج مؤلفات مرجعية لا جدال في ذلك، وتلتقي كلها حول حاجة الفكر العربي إلى استيعاب مقومات الحداثة والانتماء إلى زمن العالم. وهو مفكر جسور، ظهرت قوته النظرية والسجالية منذ «الأيديولوجية العربية المعاصرة» الذي نُشر أولًا بالفرنسية سنة ١٩٦٧م، إلى آخر كتاب له حول «الفلسفة والتاريخ». يصعب وأنت تقرأ نصوصه ألا تستوقفك أسئلته ونمط تحليله للقضايا الفكرية والتاريخية والسياسية التي يعالجها؛ كما نجد في سلسلة «المفاهيم» (الأدلوجة، الحرية، الدولة، العقل، التاريخ) انفتاحات نظرية في منتهى العمق والأصالة. فالرجل ترك وسيترك آثارًا لن تمحى في الفكر المغربي والعربي، على الرغم من إحساسه شبه التراجيدي بأنه مفكر «غير مفهوم»، أو يحصل بين كتاباته ومن يكتب عنها ويناقشها «سوء فهم» مستديم. وهذا ما حاولت، أكثر من مرة، تبيانه عند مواجهتي نصوصه وكتاباته، سواء في كتابي «في النقد الفلسفي المعاصر، مصادره الغربية وتجلياته العربية»، أو في «النهضة المُعَلقة» الذي سينشر في الأسابيع القادمة ببيروت.
● تستمد كتابات عبدالله العروي قوتها من وقوفها على أرضية التاريخ، فهو لا يعترف في مجال العلوم الإنسانية إلا بهذا العلم الجامع، الذي يستمد منه كل مقارباته وتحليلاته، مقصرًا في المقاربة الأنثروبولوجية التي تنشأ من خلال ظواهر هامشية قد تسعفنا إلى فهم طبيعة التحولات التي تشهدها بنية العقل العربي. لماذا ذلك في نظرك؟ هل المقاربة التاريخية وحدها تكفي لفهم ما يجري داخل مسار التاريخ العربي؟
■ العروي مؤرخ مسكون بضرورة إدماج التاريخ في نظرتنا إلى الذات، إلى الآخر وإلى العالم، ولكنه لا يكتفي بالتاريخ لمعالجة القضايا النظرية أو الظواهر السياسية، وإنما يرى، كما أكد على ذلك في كتاب «الفلسفة والتاريخ»، أنه يمشي على رِجْلَين: التاريخ والفلسفة. والقارئ لكتاباته سيلحظ أنه لا يقتصر على هذين الحقلين المعرفيين، وإنما بحكم ثقافته الواسعة، يستدعي الرواية والسينما والشعر وعلم السياسة وغيرها من المجالات التي يستلهمها لتعزيز بنائه التحليلي أو نمطه الإقناعي. أما تحفظه الواضح من بعض الحقول البحثية، كما هو شأن الأنثروبولوجية، فيبدو أنه يجد تفسيره في احتكاكه الكبير بالأدبيات الاستشراقية والاستعمارية، وتبرمه الواضح مما يسميه بـ«الفلكلور» أو الثقافة الشعبية، أو بلغة الفلسفة من تهويمات «الحس المشترك».
● يرى الخطيبي أن فكر العروي يقدم توليفًا بين أيديولوجية ماركسية مبسطة أسماها العروي
بـ «الماركسية الموضوعية» ثم الأيديولوجيا القومية، وهما أيديولوجيتان في نظر الخطيبي تمتحان أبعادهما الفكرية من «تقليد ميتافيزيقي، أخلاقي وفكري، يحتاج بناؤه المفاهيمي إلى مساءلة وتوضيح جذري».
كيف يمكن أن نقرأ ذلك في نظرك اليوم عربيًّا أمام كل هذه التحولات التي شهدتها المنطقة العربية منذ 2011م إلى الآن؟
■ للاقتراب من سؤالك يتعين الانتباه إلى أن فكر العروي يتموقع ضمن التقليد الجدلي في الفلسفة الألمانية، ولا سيما في تعبيراتها الهيغيلية وكتابات ماركس الشاب؛ وخصوصًا ما يتعلق بأدوار الدولة في صنع التاريخ واستنبات مقومات الحداثة. في حين أن الخطيبي، وإن كان يقر بتأثره بالماركسية، إلا أن قاعدته النقدية استمدها من فلاسفة الاختلاف الفرنسيين، ومن دريدا بشكل أخص؛ فضلًا عن أن العروي وبحكم اقتناعه الراسخ بأهمية المعرفة العلمية في أي مشروع نهضوي كان يستبعد كل إحالة على المتخيل الجمعي أو الثقافة الشعبية، عكس الخطيبي الذي كان يرى في هذه الأخيرة خزانًا إبداعيًّا وتجليًّا للخيال وحقلًا خصبًا للتعبير عن الاختلاف والتعدد. لهذه الأسباب وغيرها كان من الطبيعي أن يحصل هذا الاشتباك النقدي بين المفكرين، وإن كانا مقتنعين، معًا، بالحاجة التاريخية إلى الفكر العصري وبإدماج قيم الحرية والعدالة والتقدم.
الفكر العربي والربيع العربي
● في السياق نفسه، تبدو المشروعات الفكرية العربية اليوم عاجزة أمام هذه التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي طالت العالم العربي، وبخاصة بعد ما سمي بموجة «الربيع العربي» داخل بعض الأدبيات الفكرية. كيف ترى وتشخص من موقعك كمفكر طبيعة الكتابات الفكرية المغربية، التي تناولت وقاربت «الربيع العربي» سواء بالسلب أو بالإيجاب؟
■ لا جدال في أننا نشهد اضطرابًا غير مسبوق في السياسة والتاريخ، وفوضى فكرية تشوه فعالية الفكر وتشوش على الاستعمال الأمثل للأفكار والمفاهيم، وبناء عليه كيف يمكن الحديث عن عجز أو قصور أو قوة ونجاعة «فكر عربي» اليوم؟ وانطلاقًا من أي موقع نصدر هذه الأحكام؟ هل يحصل ذلك اعتبارًا للتطور الداخلي للفكر العربي المعاصر، من حيث مرجعياته ومفاهيمه ومناهجه؟ أم نحكم عليه قياسًا إلى ما تشهده الساحات العربية من تفكك وانهيارات وتراجعات؟ لذلك يبدو لي من الأليق التزام درجة من الحذر والنسبية في الحكم على «المشروعات الفكرية العربية»، ولا سيما بعد ما حصل في أغلب الأقطار العربية بعد ٢٠١١م. وأنا مقتنع أن ما جرى ويجري حدث تاريخي كبير في منتهى التعقيد والتشابك بين إرادات وإستراتيجيات دول وجهات ومصالح ضخمة كانت وما تزال الجغرافيا العربية ضحيتها، تشكلت تعبيراتها الأولى بزرع الكيان الصهيوني في قلب الجغرافيا العربية، مرورًا بالثورة الخمينية سنة ١٩٧٩م، وحرب الخليج الأولى، ثم الثانية إلى الاحتلال الأميركي المباشر للعراق. ولعلك تعرف أن ما جرى للعراق من انهيار لدولته وتفكك بنيانه الاجتماعي سمح لقوى إقليمية، مثل إيران وإسرائيل وتركيا، بأن تفعل في الجسم العربي ما تفعل فيه من احتلال واختراق وتفكيك للأنسجة الديمغرافية والمذهبية، ونهب لثرواته وتهجير لسكانه وتشويه لتعدده البشري والثقافي الغني والاستثنائي.
لذلك فإنه إزاء ضجيج السلاح وقوة المؤامرات ووحشية التعامل مع الكائن العربي والاستخفاف من العمل الفكري، من جهات داخلية بسبب التسلطية والاستبداد، أو خارجية بحكم المصالح التي تحرك أصحابها، ماذا يمكن أن تنتظر من المفكر أن يفعل مهما كانت صدقية المشروعات الفكرية التي يقترحها على أصحاب القرار للخروج من المآزق والانسدادات التي تشهدها الكيانات السياسية في الجغرافيا العربية؛ بل إن هذا الذي سمي بالعالم العربي تحول إلى فسيفساء من الدول الهشة التي رهنت وجودها في غالبيتها لقوى دولية أو إقليمية، وانخرطت في حروب وفتن لا أحد يمكنه التكهن بمآلاتها.
أما بخصوص ما كتب حول «الربيع العربي»، وهي تسمية تبرمتُ من استعمالها منذ بدايات الحراكات العربية في ٢٠١١م، وهو ما تجده واضحًا في كتابي «الديمقراطية المنقوصة»، فإنني ألحظ أن عددًا كبيرًا من المثقفين والمفكرين انجرفوا، في البداية، وراء حماس انتفاضات الشباب والنساء ضد الاستبداد العربي، وأطلقوا بشائر تقول بالقطيعة مع سياسات الإذلال والخروج من التسلطية؛ إلا أن الوقائع والمكايد أطلقت على الساحات المنتفضة بُعبُعًا يختبئ وراء الدين والمقدس كان يتهيأ للانقضاض على مقدرات الأمور، سواء باسم مسلسل الانتقال السلمي للسلطة أو بقوة السلاح والقتل. ولا شك أن كتابات وتحاليل غزيرة حُرِّرت منذ ذلك الحين تتفاوت صدقية أفكار أصحابها ومعايناتهم للارتجاجات الكبرى التي شهدتها ولا تزال تشهدها البلدان العربية.
● لماذا في نظرك لم ينجح الحراك المغربي في ذلك الإبان كما حصل ببعض البلدان العربية من خلال الثورة على جميع المؤسسات السياسية والاجتماعية، حتى وجدنا أنفسنا أمام حكومة تدعي أنها إسلامية، وتستعمل هذا الرأسمال الديني في منازعتها السياسية اليومية؟
■ لا أدري إلى أي حد يمكن الحكم على الحراكات العربية بالناجحة أو الفاشلة؟ هل هروب بن علي وإزاحة مبارك وقتل القذافي وتفجير سوريا… يدخل في باب النجاحات أم في باب الكوارث؟ لذلك يصعب عليَّ اعتبار حراك ٢٠ فبراير في المغرب بكونه لم ينجح. لا شك أن شبابًا ونساء وشرائح اجتماعية خرجت في مدن مغربية عديدة للاحتجاج والمطالبة بتغيير السياسات وإقرار نظام يضمن العدالة والحرية والكرامة. وهي ممارسات احتجاجية ليست جديدة في المغرب كما تعلم، فمنذ أواسط التسعينيات والمدن والبوادي المغربية تعرف إضرابات ومظاهرات واعتصامات يومية تدربت السلطات على كيفيات تسييرها ومحاصرتها وأحيان قمعها؛ لذلك حين انطلقت شرارات الاحتجاجات في تونس ومصر، وتشكلت حركة ٢٠ فبراير في المغرب اهتدت الدولة إلى كيفية امتصاص زخم هذه الاحتجاجات من خلال تدخل استباقي بالدعوة إلى وضع دستور جديد، وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها، وتغيير الحكومة. وعليك ألا تنسى أن المغرب شهد منذ بداية الألفية انفتاحًا غير مسبوق في العالم العربي، كان من عناوينه محاكمة الحقبة السياسية السابقة على حكم الملك محمد السادس، الذي وجد «تناوبًا سياسيًّا» حصل فيه إدماج أهم حزب سياسي معارض للملكية، وانخرط في إقرار آلية «الإنصاف والمصالحة» لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي جرت في عهد والده، ودعا إلى وضع تقرير نقدي لسياسات التنمية البشرية، وإقامة مؤسسات للضبط والحكامة…إلخ. وهذه مقدمات ساهمت، بكيفيات مختلفة، في تحييد مخاطر الدعوة إلى تغيير النظام، كما حصل في بلدان عربية تميزت أنظمتها بكثير من الطغيان والتسلطية.
● إلى أي حد استطاع «الربيع العربي»، أن يؤثر في سياسات الأنظمة الدكتاتورية العربية، علمًا أن هذه الأخيرة لم تعرف أبدًا انتقالًا ديمقراطيًّا على الرغم من سقوط بعضها؟
■ الظاهر أننا نستعمل العديد من الكلمات من دون إدراك حمولاتها العميقة، ومنها كلمة الديمقراطية، أو الانتقال الديمقراطي؛ إذ لا مجال للحديث عن ديمقراطية من دون ديمقراطيين. والحال أن للديمقراطية ثقافة وتاريخًا ومرجعيات وتجارب، ولا يكفي الاتفاق على دستور وإجراء انتخابات، حتى لو كانت نزيهة، وضمان تداول على السلطة لادعاء الانتماء إلى نادي الديمقراطية؛ لأن هذه الإجراءات تدخل ضمن ما يسميه بعض فقهاء القانون بـ«الدستورانية» التي يمكن أن تسعف في إقامة أرضية ديمقراطية ولكنها غير كافية على الإطلاق لتحقيقها. فالديمقراطية تتبلور وتنضج بإقرار حقوق اقتصادية، بواسطة توزيع منصف للثروة، وسياسية من خلال توسيع دائرة الحريات والمشاركة، واجتماعية بإقرار عدالة اجتماعية، وثقافية بالاعتراف بالتنوع الثقافي الذي يعتمل داخل كل المجتمعات حتى لا تشعر بعض الفئات بالاستبعاد والظلم. ثم إن الديمقراطية هي حرية التعبير والنقد ومحاسبة المسؤولين. فالمسؤول في الديمقراطية هو الذي يُسْأَل عن نتائج سياساته سواء بالسلب أو بالإيجاب. هذا على الصعيد المبدئي؛ أما الانتقال فأمره أعقد؛ لأنه يستدعي توافقا وطنيًّا جامعًا للخروج من ثقل الاستبداد، وتحضير المرحلة التي تفضي إلى الديمقراطية المُوَطَّدة. وذلك ما يفترض قوى تحمل قيم المجتمع الديمقراطي وتناضل، حقًّا، من أجل استنباتها في الأذهان والوجدان والسلوك. وإذا استثنينا ما يجري في تونس من محاولات الانتقال العسيرة، فإن المشاهد التي نراها في مجتمعات الحراك، على اختلاف كيميائها السياسية والاجتماعية، تتفاوت ما بين مظاهر الخراب والتسلط، وما بين الارتباك والتحايل على الاستجابة لمطالب الحرية والعدالة والكرامة، وما بين الانتظارية والوعود المجهضة.
معضلة التعليم في المغرب
● يشهد المجتمع المغربي هذه الأيام سجالًا قويًّا حول بعض القرارات، التي التجأت إليها وزارة التعليم في بلادنا ومدارها الإشكالي حول «فرنسة» بعض المواد العلمية، التي كانت تدرس سابقًا باللغة العربية، وهو ما أثار غضبًا لدى بعض المثقفين المغاربة. هل في نظرك يشكل ذلك خطرًا على اللغة العربية داخل الأجيال القادمة؟
■ معضلة التعليم في المغرب ليست وليدة اليوم، وإنما شكلت منذ الاستقلال سنة ١٩٥٦م قضية حُشِرَت في خضم الصراعات السياسية على السلطة، وتحولت إلى حقل تنازعي حول الاختيارات الكبرى التي من خلالها يمكن إما الانخراط في النهضة والتقدم أو الارتكان إلى البنيات المحافظة لضمان استمرارية توازنات النظام. ويمكن القول، بدون تردد: إن المغرب أضاع فرصًا عديدة لوضع ميثاق تعليمي عصري، وهو يؤدي أثمانًا باهظة بسبب هذا الهدر، ولا يزال.
ولإنقاذ هذا القطاع الحيوي قررت الدولة، اعتمادًا على الدستور الذي وضع سنة ٢٠١١م بعد ما سمي بالحراك الاحتجاجي، تأسيس «المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي» لمباشرة وضع تصور جديد لإصلاح منظومة التعليم. وقد أنتج المجلس «رؤية إستراتيجية» تبدو لي أنها تشكل أرضية فعلية للارتقاء بالتعليم وبالناشئة المغربية، لكن المؤكد أن المشروع لم يوضع في الإطار المؤسسي الوطني الجامع المنتظر منه قياسًا إلى الرهانات الكبرى التي اقترحتها الرؤية على المجتمع السياسي والمدني المغربي؛ لأن الحسابات السياسوية والمزايدات الأيديولوجية للأغلبية الحكومية، وتخبط أصحاب القرار في تدبير هذا القطاع عومت جوهر الرؤية، وحَرفتها عن مقاصدها وأهدافها الأساسية، وذلك باختزال مشكلة التعليم في قضية لغة التدريس، والحال أن الأمر أعقد من ذلك. وتؤكد المشاحنات التي جرت حول هذا الموضوع محدودية تفكير النخب السياسية في الاتفاق حول المبادئ الكبرى للتعليم والتكوين، وإضاعة فرصة أخرى على المغرب لإقرار منظومة تعليمية تساعده على الخروج من الترتيب المتأخر في مؤشرات التنمية البشرية. وأحسب أنه من دون «تعاقد وطني كبير» حول التعليم، وتكوين قوي وسليم للجسم التعليمي، وإدارة تربوية ناجعة ومسؤولة، ومناهج وبرامج مستنيرة، وإقامة سِلْم مهني مستديم، لا يمكن التعويل على أي إصلاح حتى لو بعد المصادقة على «القانون الإطار». أما قضية اللغة والتربية فمقاربتهما تستدعي حديثًا مطولًا.
الفرانكفونية والهوية والحداثة
● هذا الأمر تزكيه وبشكل قطعي مقولة فرانسوا ميتران: إن الفرانكفونية ليست هي اللغة الفرنسية وحسب. وإذا لم نتوصل إلى الاقتناع بأن الانتماء إلى العالم الفرانكفوني، سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، يمثل إضافة، فإننا سنكون قد فشلنا في العمل الذي بدأناه منذ سنوات أمام هذا المرض الذي استبد بالثقافة العربية. من هذا المنطلق، كيف يمكن أن ننخرط في الفرانكفونية وأن ننسج معها سجالًا معرفًّيا ونقيم فيها دون أن ننتمي إليها من الجانب الهوياتي؟
■ لا تنسَ أن فرنسا احتلت المغرب طيلة ٤٤ سنة بدعوى حماية نظام المخزن وإجراء إصلاحات؛ وقد تمكنت خلال هذه المدة من صُنع مجتمع جديد من حيث بنياته الاقتصادية، ومؤسساته الإدارية، ومنظومته التعليمية، ولغاته وثقافته وعلاقاته الاجتماعية. لا شك أن المجتمع المغربي ونخبه قاوما محاولات الاستلاب والمحو. لكن تمكنت فرنسا من خلخلة كل مقدرات الوجود المغربي، وشكلت الآخر والنموذج بامتياز- علمًا أن فرنسا تقاسمت السيطرة على المغرب مع إسبانيا حيث احتلت هذه الأخيرة شماله وجنوبه، مع فارق أن الاستعمار الإسباني كان يعد نموذجًا متخلفًا- وأنتجت بذلك شرائح اجتماعية وقوى ارتهنت بمصالحها.
ولذلك لا تزال اللغة الفرنسية مهيمنة في العديد من القطاعات الاقتصادية والإدارية، ولها حضور بارز على الصعيد الثقافي والتعليمي. فهناك أدب مغربي مكتوب بالفرنسية منذ أربعينيات القرن الماضي إلى اليوم، والعديد من الأفلام المغربية تستفيد من الإنتاج المشترك مع فرنسا، بل نلحظ في السنوات القليلة الأخيرة تهافتًا غير مسبوق من طرف بعض فئات الطبقة الوسطى على تعليم أبنائهم في مدارس البعثة الفرنسية. وتحولت هذه اللغة ليس فقط إلى غنيمة حرب، كما سماها الأديب الجزائري كاتب ياسين، وإنما إلى عنصر مكون للنسيج الثقافي والرمزي والنفسي في المغرب، وذلك رغم كل المقاومات التي تعرضت وتتعرض لها من طرف قوى سياسية وتيارات أيديولوجية كثيرًا ما تحسب على الصف المحافظ، حتى لو وجدنا بعض مناهضيها من هؤلاء يسجلون أبناءهم في بعثاتها. بل ترتب عن هذا الواقع تقاطبات ومزايدات بل أوهامًا تقضي بالقول بأن اللغة الفرنسية وثقافتها تفتح وتشجع على الانخراط في الحداثة، في حين أن التشبت بالعربية معناه المحافظة وتعزيز النزعات الثراثية ونشر الإسلام السياسي. هذا معطى مفارق في المغرب له أبعاد سياسية وإستراتيجية كبرى، وله انعكاسات هوياتية وثقافية لا شك في ذلك؛ وأرى أن الفاعل السياسي، منذ الاستقلال إلى الآن، يتحمل مسؤولية كبرى في التخبط اللغوي الذي يشهده المغرب، وفي غياب تهيئة لغوية سليمة وملائمة للتنوع الذي تعرفه اللغات الرسمية وغير الرسمية في البلاد. والظاهر أن لا شيء محسوم أو يراد له الحسم على هذا الصعيد؛ لأن ما جرى من مشاحنات وسجالات حول لغة التدريس في التعليم يثبت هذه المعاينة.
وفي كل الأحوال لا مجال للتعويل على القوى المحافظة ووكلاء الإسلام السياسي من أجل تطوير اللغة العربية أو المساهمة في إقامة تعليم عصري، وأكدت أغلب التجارب هذا الأمر، كما أن الحديث عن هيمنة اللغة الفرنسية لا يجب أن يمنعنا من الملاحظة بأن الثقافة العصرية بالعربية لها حضور وتأثير ظاهر، وأن مالكي ناصيتي اللغتين، العربية والفرنسية، المقتنعين بالحاجة إلى توطين تعليم عصري وعلمي أقدر من غيرهم، حسب ما يبدو لي، على معالجة هذه الإشكالية من دون تشنجات أو تخندق أيديولوجي أو سياسي.