باحث سعودي يعيد بني إسرائيل إلى جنوب غرب الجزيرة العربية كتابه لا يخلو من ملاحظات ويقينية غرائبية
فاتحة
بين يدينا كتاب جديد، يطرح موضوعات قد استقر الأمر عليها دهرًا، حتى حرك مياهها كمال الصليبي بأطروحته «التوراة جاءت من جزيرة العرب» التي نشرها عام 1985م، ثم رد عليه فراس السواح بكتاب عنوانه «الحدث التوراتي والشرق الأدنى/ هل جاءت التوراة من جزيرة العرب، نظرية كمال الصليبي في ميزان الحقائق التاريخية والآثارية» الذي نشر عام 1999م.
وهذا الكتاب «يتناول عددًا من القضايا اللغوية والتاريخية والجغرافية المتصلة بالقرآن والتوراة ولهجات أهل السراة… من خلال دراسة مقارنة لنصوص التوراة..».
وهذا يعني أننا أمام ظاهرة كتابية جديدة يتخذ صاحبها من اللغة والألفاظ المقارنة سبيلًا لإثبات العلاقة الراسخة بين المكان «جنوب غرب الجزيرة العربية» وبين الرسالات السماوية من لدن أبي الحنيفية إبراهيم عليه السلام حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك عبر أبحاث علمية محكمة نشر بعضها في المجلات العلمية المحكمة داخل المملكة وخارجها. وفي هذا الكتاب محاولة «متطرفة» – نوعًا ما – من المؤلف يكشف فيها أسرارًا «في حياة نبي الله إبراهيم، وذريته إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، عليهم أفضل الصلاة والسلام، كما يكشف عن الواقع الحقيقي لأحداث قصص موسى -عليه السلام– وفرعون، وبعض ما تلا ذلك من أخبار بني إسرائيل…».
رؤية تحليلية
ومنذ المطالعات الأولية لهذا المنجز العلمي الجدير بالاحترام والمقبولية، نجد أننا أمام باحث سعودي، وأستاذ أكاديمي مميز، وذلك لجرأته على خوض مسألة غير قابلة للمناقشة، ليؤكد في مقدمتها: أن قبيلة بني إسرائيل ما هي إلا قبيلة عربية قديمة تلاشت كغيرها من قبائل العرب البائدة، «ص 7-9»، وأن الموقع الحقيقي لهم هو منطقة جنوب غرب الجزيرة العربية. وهذا يعني أن الدكتور أحمد قشاش يثني على مقولات الدكتور كمال الصليبي في كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، ولكن بمفهومها اللساني واللغوي، ودلالاتها المكانية!! كما يؤكد المؤلف أن النصوص العبرية التوراتية تشترك مع العربية في معظم ظواهرها اللغوية، وأن التوراة هي أحد الكتب المقدسة التي نزلت بلسان عربي قديم، وكانت نصوصها تعبر عن عادات العرب وفكرهم وتراثهم القديم.
ويخلص المؤلف أخيرًا إلى وجوب التفريق بين بني إسرائيل واليهود؛ فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام وبنوه شكلوا قبيلة عربية مسلمة وليس لهم علاقة باليهود. وأما اليهود اليوم فهم أجناس وأعراق شتى لا تمت إلى بني إسرائيل بصلة. ويوصي المؤلف -في نهاية مباحثه الثلاثة الأولية- بضرورة تدريس العبرية والسريانية والسبئية وسائر اللغات القديمة لطلاب أقسام اللغة العربية في جامعاتنا، وإنشاء أقسام خاصة بها، وتشجيع الباحثين في الدراسات العليا على دراسة هذه اللغات، فأبناء الجزيرة العربية هم الأصدق والأقدر على دراسة تاريخ جزيرتهم ونقوشها ولغاتها القديمة ص ص 185-188.
الذي يهمنا في هذه المداخلة أن نركز على المبحثين الأخيرين والموسومين بـ:
– ألفاظ جغرافية من القرآن والسنَّة النبوية «دراسة في الدلالة الجغرافية والتاريخية».
– طور سينين «قراءة دلالية جديدة». ففي المبحث الأول يستعرض المؤلف خمسة ألفاظ دالة على مواضع وردت في النصوص التوراتية، كما وردت في القرآن والسنة وهي «تهامة، وطوى، ومصر، ووادي النمل، واليَمّ». فعن تهامة يقول: إنها وردت في النصوص التوراتية أربعًا وثلاثين مرة، مرتين كما تنطق في العربية «تهامت»، وتسع مرات بلفظ «تهموت»، والباقي بلفظ «تهوم/ تهم». وكل ذلك دليل على المكان الجغرافي المعروف في جنوب غرب الجزيرة العربية من «تهم وتهائم» مستشهدًا في ذلك بمقولة الدكتور كمال الصليبي الذي يثبت أن «لفظ تهامة في التوراة يعني الشريط الساحلي المحاذي للبحر الأحمر من شبه الجزيرة العربية». ثم يذكر نصين من التوراة ترد فيهما أسماء مواضع وأماكن معروفة في تهامة الجزيرة العربية. فالنص الأول: ما جاء في أمثال سليمان في سفر الأمثال 8/27 وترجمته: «أنا بحقو الهوج المشرفة على تهامة». فـ «حقو الهوج» قرية كبيرة جنوب شرق صبيا ناحية هروب، و«حقو الهيجة» قرية أخرى جنوب غرب فيفا.
أما النص الثاني فقد جاء في سفر الأمثال 8/28 وترجمته: «عزوز عينوت تهوم»، وهي قرى عزيرة وعينات تهامة القريبتين من الليث، وجبال العزة والعين من ديار بني مالك جنوب شرق فيفا. ويصل في هذا المبحث عن «تهامة» إلى القول بأن «تهامة» المذكورة في التوراة هي «عَلَمٌ» على مكان وإقليم جغرافي بعينه، ما زال يعرف بـ «تهامة» منذ أقدم العصور في تاريخ الجزيرة العربية إلى يومنا هذا. وأن علماء أهل الكتاب كانوا يعرفون حق المعرفة المعنى الحقيقي لذلك اللفظ، ولكنهم تهربوا من ذكر ذلك الاعتراف به «لارتباط معناها الحقيقي بمكة التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها أقام إبراهيم من قبل وبنوه من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وهذا ما لا يقبله بحال علماء أهل الكتاب». ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار عن الأسفار التوراتية التي رجع إليها الباحث هل هي التوراة الربانية أم التوراة البشرية المحرفة؟! وهذا يعطينا مساحة من التأمل والتأكيد. ثم إن علماء أهل الكتاب من مصلحتهم إثبات أن جنوب الجزيرة العربية موطن لهم ولآبائهم، فلماذا لم يهتموا بهذه المسألة، وأثبتوا أن بلاد فلسطين والشام هي مهد ديارهم الأصلية؟!
وعن «طوى» يشير المؤلف إلى اختلافات العلماء في تأصيل لفظ «طوى» وشرح معناه، فمنهم من قال: إنه وادٍ بأرض فلسطين. وقيل: إنه وادٍ في أصل جبل الطور. وقيل: هو اسم رجل. وبعضهم أشار إلى أنه يعني الأرض المقدسة. وبعضهم يفسر «طوى» بأنه اسم وادٍ مبارك ومطهر، وبعضهم يقول: إنه موضع في مدخل مكة. ثم يحاول المؤلف الاستدلال على الموقع الحقيقي لهذا الموضع مرجحًا قول من قال: إن «طوى» موضع عند باب مكة وهو وادٍ مقدس ومبارك، ثم يدخل في استشهادات ومناقشات مستفيضة لتأكيد هذا الموضع، ففي النصوص التوراتية يكثر لفظ قادس أو قادش التي تعني مكة، مستشهدًا بما جاء في التوراة عن سيرة إبراهيم عليه السلام، أنه «خرج من حوران مهاجرًا إلى أرض الكنعانيين، ونزل بوادي شكم، ثم خرج منه إلى الأراضي المقدسة، فأقام بين قادش وشور»
فـ«قادش» هنا تعني قادس = مكة، و«شور» تعني جبل ثور الواقع جنوب مكة؛ لأن «شور» في العبرية تعني «الثور»!!
ومن هذا كله يصل إلى نتيجة مؤداها أن «طوى» ما هو إلا المكان المعروف شمال مكة، وهو الوادي المقدس، و«أن إثبات هذا الوادي في مكانه الصحيح يرد على شُبَهِ كثير من المشككين الذين يقولون: إنه لا يوجد في سيناء وادٍ يسمى «طوى»، فمن أين جاء به القرآن؟ ويعدون ذلك من الأخطاء الجغرافية في القرآن. وما كان لهم قول ذلك لولا أن المفسرين ذكروه في مؤلفاتهم دون مناقشة تصديقًا لكثير من الإسرائيليات المغلوطة التي حرَّفت الأسماء الجغرافية عن مواضعها جهلًا أو عمدًا…».
واللافت في هذا المبحث أنه يستعرض كثيرًا من المسميات والألفاظ حول مكة وردت في التوراة واللغة العبرية أثناء الحديث عن إبراهيم عليه السلام. وكل هذا ليؤكد الاستنتاج السابق أن «طوى» هو الوادي القريب من مكة المكرمة، وأنه هو الوادي المقدس الذي جاءه موسى عليه السلام. وهو بذلك يعارض من يقول: إن وادي طوى هو الموجود في سيناء!! وعن «مصر» يتحدث المؤلف «أولًا» عن اختلافات العلماء في تحديد هذا اللفظ، وأصل تسميته، وما قاله القرآن والمفسرون في مقارنة بما جاء في اللغة التوراتية، حيث تجمع تلك الإحالات على أن مصر هي وادي النيل المعروف اليوم.
ثم يقرر أن «الحقيقة الجلية الغائبة» أن مصر المذكورة في القرآن ليست مصر النيل، وأن المراد بذلك هي «المنطقة الساحلية الواقعة جنوب تهامة الحجاز، وهي سهول منطقة جازان وما اتصل بها من جبال السراة شرقًا، وهي تشمل كل المنطقة التي كانت تعرف إلى عهد قريب بالمخلاف السليماني وأنحاء من سراة عسير». ثم يسوق حججه العلمية التي يؤكد بها على ما ذهب إليه من خلال «أسماء الأماكن والقبائل والأحداث التاريخية» وذلك عبر «ثمان» محطات ووقفات بحثية يناقش فيها النصوص التوراتية، والنصوص العربية القديمة التي يمكن اختزالها في ثلاث حجج وهي:
أولًا- إن التوراة تذكر أبناء نوح عليه السلام، هم «كوش، ومصريم، وفوط، وكنعان، وبنو كوش سبأ، وحويلة»، وأن هذه الأسماء ألفاظ تطلق على أماكن وقبائل متجاورة في سهول تهامة والسراة من جنوب الجزيرة العربية، وتستعمل باللفظ نفسه،
أو بتحريف يسير.
ثانيًا- أن النقوش منذ أقدم العصور تذكر أن «مصر» موقع معروف في جنوب الجزيرة، وأن هناك عدة مواقع تعرف بهذا الاسم في منطقة جازان، وبلاد غامد، وعسير.
ثالثًا- أن قصة فرعون وموسى لم تحدث في مصر وادي النيل، وإنما في منطقة جنوب الجزيرة العربية، وتحديدًا في منطقة جازان وما اتصل بها من جبال السراة شرقًا وأرض الكنعانيين شمالًا، والمناطق كلها تقع على ساحل البحر الأحمر، وسهوله الجنوبية الغربية.
ومن كل ذلك يخلص إلى القول: «إن موقع مصر القرآنية، أو مصريم التوراتية هو جنوب غرب الجزيرة العربية، وكانت تشمل عددًا من القرى والحواضر والأودية الزراعية الواقعة على ساحل البحر الأحمر في منطقة جازان تحديدًا، وتمتد شرقًا حتى أشراف المرتفعات الجبلية من جبال السروات، وأن الجغرافيا الحقيقية لمملكة سليمان وداود -عليهما السلام- لم تكن إلا في هذه المنطقة التي رحل إليها بنو إسرائيل على عهد يوسف عليه السلام، ثم خرجوا منها في زمن موسى عليه السلام، وكانت تعرف حينئذٍ بـ«جاسان»، وتقع ضمن حدود أرض مصر القرآنية والتوراتية، وتخضع لسلطة الفراعنة، وهم ملوك العرب العماليق الذين كانت لهم السيادة آنذاك على معظم أنحاء الجزيرة العربية بدءًا بصنعاء حتى مكة ويثرب».
ويضيف المؤلف خلاصة أخرى: «أن مصر القرآنية «مصر يوسف وفرعون وموسى» لم تكن قط في أرض النيل أو مصر الحالية، وإنما في جنوب غرب الجزيرة العربية، وهذه المناطق التي لا تعتمد في ري مزروعاتها على أنهار دائمة الجريان، بل على أمطار موسمية، وتشح عامًا، وقد ينحبس عنها المطر لسنوات طويلة كالقحط الذي ضربها في زمن يوسف عليه السلام، وأشار إليه القرآن». وعلى رغم هذه النقاشات والحجج العلمية المقنعة والمتنوعة، إلا أن هناك بعض الثغرات التي يمكن أن يواجه بها المؤلف للتقليل من هذه الاستنتاجات الجديدة والصادمة لما تربت عليه الذائقة التفسيرية والتاريخية والدينية. ومنها مسألة البحر الذي تحول إلى ﴿طريقًا في البحر يبسًا﴾ –كما في النص القرآني– لموسى وقومه من بني إسرائيل المؤمنين، ثم أطبقه على فرعون وقومه، الذي لا يوجد مثله في منطقة جنوب غرب الجزيرة العربية!!
ومنها مسألة فرعون مصر الموجود اليوم في المتحف المصري والذي يقال: إنه هو الذي أُغرق في «اليمّ/ البحر» فنجاه الله ببدنه ليكون للناس عبرة.. فما الذي أوصله إلى الأهرامات المصرية ويخلَّد فيها بالطريقة «التحنيطية» التي لم تعرف إلا في مصر وادي النيل؟! وليس في جنوب غرب الجزيرة العربية؟! ومنها مسألة «التِّيه» التي عاقب الله بها قوم موسى الذين لم يجاهدوا معه، فأين هذه الأرض/ الصحراء وجنوب غرب الجزيرة العربية ﴿قرى ظاهرةً﴾ وباطنة كما يقول القرآن الكريم، ووديان وزروع وثمار وخيرات.
كل هذه المسائل وغيرها تفتح بابًا للحوار والمناقشة مع المؤلف الكريم. وعن «وادي النمل» تحدث المؤلف عن اختلافات الجغرافيين والمفسرين في تحديد موقع هذا الوادي، فقيل هو في بلاد الشام، وقيل خلف بلاد التِّبت، وقيل هو في اليمن، وقيل في شرقي الطائف، وهو الذي يؤكده المؤلف ويختاره بعد أن أورد مقولات بعض الإخباريين. ثم يتحول إلى ذكر مملكة سليمان عليه السلام، وأنها في اليمن قريبًا من أرض سبأ، ويستشهد لذلك بمجموعة من القرائن اللفظية والمسميات في أرض الجزيرة العربية، مؤكدًا في هذا الصدد على أن مسار الهدهد الذي تناقله الرواة ما بين فلسطين وبيت المقدس إلى بلاد سبأ اجتهاد خاطئ، فالمسافة جد طويلة «4000 كم ذهابًا وإيابًا» ولا يحتملها طائر الهدهد الذي «لا تزيد سرعته في الساعة الواحدة على 30-40 كيلًا»، ولهذا فمن المؤكد أن القضية تنحصر ما بين صنعاء ومأرب «أرض سبأ» حيث بلقيس ومملكتها.
وفي تناقض علمي غريب يثبت المؤلف أن مملكة سليمان في المخلاف السليماني حيث يقول: «وعلى ضوء ما تقدم أرى أن مقر تلك المملكة تحديدًا كان في سهول منطقة جازان، وهو ما كان يطلق عليه المخلاف السليماني…». ثم يورد المؤلف مزيدًا من القرائن والأدلة لإثبات المسألة السابقة، فربما مملكة سليمان في «عثَّر» القريبة من جازان والتي قيل: إنها «دار ملك قديم وعظيم»، وإن الجن المسخرة لسليمان كانت في إحدى المدن الساحلية في تهامة، وإن الحشرة التي قرضت عصا سليمان «الأرضة» «النمل الأبيض» الذي لا يعيش إلا في أرض رطبة دافئة وسهول تهامة هي المكان الأنسب.
ثم يصل إلى نتيجة مؤداها: «أن موت سليمان -عليه السلام- لم يكن في مدينة القدس بفلسطين، بل كان في مكان يتسم مناخه بالدفء والرطوبة طيلة أيام العام، حيث يمكن لتلك الحشرة أن تعيش، وليس هناك أفضل من بيئة منطقة جازان وما اتصل بها من سهول تهامة لنموها وتكاثرها». ثم ينتقل إلى قرائن جديدة لتأكيد الطروحات السابقة من نصوص التوراة، ليؤكد لنا أن وادي النمل المعروف حتى اليوم شرقي الطائف هو الوادي نفسه الذي ذكره القرآن مقترنًا باسم نبي الله سليمان عليه السلام.
وهنا نستنتج أن غاية الباحث الدكتور أحمد قشاش في هذا المحور هو إثبات أن مملكة نبي الله سليمان -عليه السلام- هي في جنوب غرب الجزيرة العربية، وتحديدًا في سهول منطقة جازان المعروفة بـالمخلاف السليماني. وفي هذا السياق تجيء قصة الهدهد مع بلقيس ملكة سبأ، والقرب المكاني بين المملكتين «السليمانية والسبئية». وهذا يعارض المقولات الجغرافية والتاريخية المتعارف عليها أن بلاد الشام وفلسطين تحديدًا هي موطن نبي الله سليمان عليه السلام!!
وعن «اليمّ» – يستعرض أهم التعاريف والمعاني اللغوية سواء في العربية أو العبرية لهذه المفردة، فهي تعني البحر، والنهر، والبحيرة، والبركة، والغدير. أو بمعنى آخر «الماء الكثير عذبًا كان أو مالحًا». ثم يشير إلى أن أهل السراة في الجزيرة العربية يطلقون «الجمَّ» على «اليم» على اعتبار أن العرب القدامى يبدلون حرف «الجيم» «ياءً» في بعض اللهجات. كما يشير إلى بعض المسميات المائية في تهامة عسير التي تحمل لفظة «اليم» و«الجم» على الأودية التي بها ماء جارٍ كثير أو قليل. وأن العبرية والتوراة تقصد بـ «اليم» الماء العذب في الأنهار أو البحيرات والمستنقعات.
ومن هذا النقاش حول اللفظة والمفردة، يصل إلى أن حرة كنانة في تهامة عسير إلى شمال جازان هي المنطقة التي عاش فيها موسى عليه السلام، وفيها من البحيرات التي ألقي فيها الطفل موسى وتابوته، وبقيت أخته ترقبه حتى وصل إلى الضفة الأخرى من البحيرة، وشاهدت بعينيها كيف التقفته امرأة من آل فرعون وانتشلته من الماء.
ثم ينتقل –في نقاشه هذه المفردة– إلى أن البحر الذي انفلق لموسى وقومه ما هو إلا «اليم» الموجود في «وادي الشقيق» في تهامة عسير وشمال جازان، ويعرف في المنطقة بوادي العبور، أو وادي موسى، أو وادي المجزاع.
ومن هذه المناقشات نستنتج أن المؤلف/ الباحث يثبت ويؤكد أن «اليم» المذكور في قصة موسى عليه السلام، و«البحر» الذي انفلق لقوم موسى، ما هو إلا إحدى البحيرات أو الوديان العظيمة في منطقة تهامة عسير حيث الكنعانيون «بنو كنانة». وهذا يفتح مزيدًا من الحوارات حول هذه الاستنتاجات اللغوية والجغرافية المخالفة للسائد والمألوف في كثير من الطروحات التاريخية والجغرافية والدينية لهذا الموضوع.
وفي ختام هذا البحث يصل إلى الاستنتاجات التالية:
– أن إبراهيم -عليه السلام- لم يكن أعجميًّا، بل كان عربيًّا لغة ونسبًا، وكذلك سائر الأنبياء من سلالته وذريته، وإليه ينتسب معظم قبائل العرب، وأن حياته وتنقلاته ومعاشه كانت ما بين جبال السراة وسهول تهامة من جنوب غرب الجزيرة العربية حيث مكة وما جاورها من سهول تهامة.
– أن لفظ «تهامة» المذكور في النصوص التوراتية هي علم جغرافي بالمعنى نفسه الوارد في النصوص العربية.
– أن «وادي طوى» المذكور في القرآن الكريم هو «وادي طوى» و«ذي طوى» المعروف حتى اليوم في أول الحرم في مكة المكرمة من جهة التنعيم.
– أن أرض «مصر» المذكورة في القرآن والتوراة ليست هي «مصر الحالية المعروفة» وإنما هي منطقة «جازان اليوم وما اتصل بها من جبال السراة شرقًا»، وأن «مصر» الحالية لم تكن تعرف الجمل في زمن النبي إبراهيم عليه السلام، بل عرف ذلك في جنوب الجزيرة العربية وسهول تهامة، ولذلك فمصر الواردة في القرآن تعني «مصر جازان وما يتصل بها من جبال السراة».
– أن «وادي النمل» هو الوادي المعروف شرق الطائف، وأن مملكة سليمان كانت في منطقة جازان وأنحاء من تهائم اليمن والسراة، وأنها الأرض التي ورثها بنو إسرائيل بعد هلاك فرعون وقومه كما جاء في النص القرآني.
– أن «اليمَّ» لفظ عربي أصيل مستخدم حاليًّا في لهجات أهل السراة وتهامة، وأن «اليمَّ» الذي عبره موسى وقومه كان أحد القيعان النهرية الكبيرة التي تخترق سهول تهامة إلى البحر الأحمر.
– أن التوراة نص عربي قديم، بل من أقدم النصوص العربية، وعليه يمكن قراءة النصوص التوراتية من خلال بيئتها العربية بعيدًا من الضبط المأسوري.
ومن كل هذا تتراءى لنا قدرة الباحث على التأويل المستفز للقناعات، والذهاب أبعد مما ذهب إليه كمال الصليبي، حيث أورد كثيرًا من الدلائل اللغوية والشواهد التاريخية والجغرافية «حسب مفهومها الواسع» للوصول إلى هذه المعلومات الجديدة.
وأما البحث الثاني الموسوم بـ «طور سينين/ قراءة دلالية جديدة». وفيه يطوف بنا الباحث/ المؤلف في مناقشات علمية جادة ومستفيضة، وعبر مبحثين رئيسين: خصص الأول منهما للتعريف بـ«طور سينين أو طور سيناء»، والإشارة إلى أقوال العلماء والمفسرين والجغرافيين في تحديد موقعه، والاختلافات البينة فيما بينهم.
وخصص المبحث الثاني لاستعراض عددٍ من الشواهد اللغوية والجغرافية والتاريخية، وصولًا إلى تحديد الموقع الحقيقي لجبل الطور، معتمدًا على ما ورد في ثنايا التراث العربي القديم. وقبل أن يدخل في صلب الموضوع، يشير في المقدمة إلى الأهمية الدينية لهذا الجبل، واختلاف العلماء والمفسرين والجغرافيين في تحديد موقعه، وتفسير لفظه مما يجعله في حاجة إلى دراسات جديدة وافية ومتأنية لمعرفة الحقيقة. كما يشير إلى ما استقر في الأذهان من أن الموقع الحقيقي للجبل هو جنوب صحراء سيناء، لكن الدراسات والأبحاث والجهود التي بذلت لم تستطع إثبات ذلك قطعيًّا لعدم مطابقة الوصف القرآني والتوراتي للمعالم الجغرافية المحيطة بهذا الموقع.
ثم يشرع في بحثه ومناقشته، مستحضرًا كثيرًا من المعلومات اللغوية والمسميات المحلية والاستدلالات الشعرية العربية، وما يقابلها من النصوص التوراتية. ويبدأ «أولًا» بالتعريف بطور سينين أو طور سيناء فيقول: إن «الطور» – في جميع اللغات «العربية والسريانية والنبطية والعبرانية والأكادية والكنعانية والآرامية» – يعني: الجبل. وجاءت النصوص التوراتية لتؤكد هذا المعنى، وكذلك لغة القرآن ومعانيه تشير إلى المعنى نفسه. وأن أهالي السراة وتهامة والحجاز في جزيرة العرب يطلقون «الطور» على «الجبل»، و«الأطوار» على «الجبال»، مؤكدًا هنا أنها لفظة مستخدمة قديمة وحديثًا.
كما يضيف المؤلف أن أهالي السراة وتهامة والحجاز لا يسمون الطور إلا على الجبل كثير الأشجار والأحراش النباتية. ثم يشير إلى كثير من المسميات الجبلية في أنحاء من أرض جزيرة العرب، وبخاصة الباحة، وتهامة قحطان، وسراة عسير، ووادي بيشة، وغيرها. وأما سينين فقد ذكر المفسرون واللغويون العرب والمسلمون أنها بمعنى «سيناء»، وطور سينين هو الجبل الذي كُلِّم عليه موسى. وقد جاء الاختلاف بينهم في المعنى: فهي تعني الحَسَن، والمبارك، والمرتفع، وكثير الشجر. كما جاء الاختلاف في الموقع فقيل: جبل في الشام، أو في فلسطين، أو في بيت المقدس، أو ما بين مصر وإيلة، أو في أرض مدين وتبوك.
وأما علماء أهل الكتاب، فلم يتمكنوا من التحديد المطلق لهذا الجبل/ الطور، على رغم دراساتهم وأبحاثهم الميدانية الواسعة. وجاء الاختلاف بينهم؛ فمنهم من قال: إنه جبل في صحراء سيناء، ومنهم من قال: جبل اللوز في تبوك، وقيل: أحد جبال بدر في غرب المدينة المنورة، وقيل: جبل النور في مكة، أو جبل شرق بلاد غامد!! ثم يصل المؤلف بعد نقاش وحوار لهذه الاختلافات إلى القول بأن جبل الطور هو الجبل العملاق الممتد من قمة جبل تهلل في سودة عسير إلى قرب القرعاء وتمنية من ديار شهران وقحطان. أو أنه جبل الطور المعروف غرب أبها، أو أنها جبال شنوءة التي تتصل بالطور من الناحية الشمالية الشرقية.
وهنا نتوقف عند تلك الشواهد الجغرافية والنقولات المكانية التي تمتد جغرافيًّا ما بين سراة عسير وتهامتها وربما يمتد من «جاسان/ جازان» إلى تخوم مكة المكرمة وما بينهما من حلي وغامد وبيشة وزهران، وهذا التعدد والاحتمالات المكانية يفتح أفق التساؤلات عن الموقع المحدد والمكان الأوحد كما نجده في بلاد الشام؟! مما يجعلنا أمام احتمالات لا تفضي إلى رأي نهائي، احتمالات تضعف ولا تعطي تأكيدًا جازمًا بأن المكان هو المذكور حقًّا، ويظل الاحتمال واهنًا!!
تعقيبات تقويمية
وبعد… فنحن أمام جهد بحثي مميز ومتفرد، لمؤلف باحث جاد ومتمكن من تخصصه وواعٍ بمآلات ما يطرح. وأن ما يقدمه من مباحث وطروحات ليست آراء قطعية أو نهائية، وإنما هي درس مقارن مناطه الاجتهاد، ومنطلقاته التجديد وعدم السير خلف السائد والمتفق عليه، وبذلك فما سجله في هذا الكتاب قابل للحوار والنقض والنقاش والرفض والمقبولية. كما أن الكتاب يتشكل من قسمين رئيسين: متن وهامش، وعلى رغم أهمية المتن وما يحمله من أفكار وطروحات، فإن الهامش قد يتفوق عليه بما يحمله من توثيق وتعليقات وتعريفات واستكمالات واستطرادات توضح المبهم، وتفصل المجمل، وتكشف المستور والمتواري بين السطور. وبذلك فهو «الهامش» لا يقل عن «المتن» عمقًا وفائدة ومعلومات!!
ولعل التساؤل هنا: لماذا لجأ المؤلف إلى هذه الثنائية «المتن – الهامش»؟! ألم يجد متسعًا في المتن لشيء مما أورده في الهامش؟! أوليست كل القضايا المحولة إلى الهامش أولى بها المتن؟! ومن جانب آخر يشي الكتاب وموضوعاته بسعة أفق المؤلف وعلو كعبه في مباحث الدراسات اللغوية المقارنة، متخذًا من لهجات أهل السراة، وبخاصة في جنوب غرب الجزيرة العربية وألفاظهم ميدانًا للبحث والمقارنة باللغات العروبية القديمة «السامية» والعبرية، وفي هذا ما فيه من الأسبقية المعرفية على الأقل في بلادنا السعودية. ومع كل هذه الإيجابيات للكاتب والكتاب، فلا ينكر أنه جهد بشري قابل للنقض والخطأ والتقوُّل، ولا بد من إخضاعه للمثاقفة الجادة والحوارية الساخنة، ومنها ما سأشير إليه في ثنايا هذا التعقيب الختامي.
ففي الأبحاث/ الدراسات الثلاثة الأول من هذا الكتاب يتضح البعد التخصصي للمؤلف حيث يقدم رؤية جديدة تستحق التوقف والقبول والحوار الهادئ المفيد. أما البحثان الأخيران، فهما موطن الإشكال حيث أدخل نفسه في مشكلة أزلية وهي وجود بني إسرائيل بين مصر وبلاد الشام كما تقول به الكتب السابقة، وبين جنوب غرب الجزيرة العربية وهو ما توصل إليه الدكتور قشاش في هذين البحثين.
وهو بذلك يفتح بابًا يستدعي فيه ما قاله الدكتور كمال الصليبي في أطروحته: «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، وما قاله الدكتور أحمد داود في كتابه: «العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود». متناسيًا في الآن نفسه، أو متجاوزًا ما قاله «فراس السواح» في كتابه المهم: «الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم» الذي يرد على أطروحة كمال الصليبي ومن سار مساره!!
ومما يؤكد وقوع الباحث في المشكلة هو عدم الجزم بما يتوصل إليه من قناعات، فنجد كلمة «ربما»، وكلمة «يحتمل»، وكثرة المسميات والألفاظ الدالة على مكان بعينه، وهذا يؤدي إلى التناقض والاحتمالات المتعددة التي لا ترقى إلى الواقع المنشود.
وفي هذا السياق يمكن مناقشة الباحث في مسألة النصوص التوراتية التي تعامل معها بيقينية غرائبية، فهل هي التوراة الحقيقية الربانية أم التوراة البشرية المعدَّلة والمحرفة؟ وهذا مدعاة الوقوع في الخطأ والقول بغير بينة مرجعية!!
وأخيرًا كنت أتمنى أن يرفق مع بحثيه الأخيرين بعض الخرائط الجغرافية التي يتبين من خلالها المواقع الاستدلالية على أن بني إسرائيل في جنوب غرب الجزيرة العربية، ولعل ما قدمه كمال الصليبي في كتابه آنف الذكر يسعفه بشيء غير قليل من ذلك، فقد أورد تلك الخرائط دلائل لما توصل إليه، وللعلم فقد أعاد إيرادها فراس السواح في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه.
كما يمكن للباحث الدكتور قشاش أن يضع لنا معجمًا تعريفيًّا بالأسماء والقبائل والأماكن التوراتية وما يقابلها بالعربية في لهجات أهل السراة وتهامة في جنوب غرب الجزيرة العربية، وبذلك يقدم للقراء ثبتًا معرفيًّا يؤكد مقولاته واستنتاجاته.
وعلى أية حال فنحن أمام جهد بشري دال على العلمية والموضوعية والبحث عن الحقيقة، وإن كانت أفكاره صادمة، وطروحاته محيِّرة للقناعات والثوابت المعرفية والتاريخية والدينية لدى دارسي التاريخ والحضارات الآثارية، ولا نملك إلا قبول هذه الآراء بحذر، وجعلها مادة قابلة للحوار والمدارسة والمثاقفة من دون اتهام للباحث، أو تصيد للهفوات والأخطاء وتضخيمها، فالحق ضالة كل باحث عنه من دون إفراط أو تفريط.