بواسطة سمير مُندي - ناقد مصري | يوليو 1, 2024 | كتب
مكان واحد، ولحظة زمنية واحدة هما موضوع رواية «العروس» لمؤلفها حمدي الجزار، الصادرة مؤخرًا عن دار «ديوان» بالقاهرة. أما المكان فهو بار ومطعم «العروس»، الذي يقع في شارع قصر النيل المتاخم لميدان التحرير صانع ثورات مصر الحديثة. وأما الحدث فهو ما جرى ويجري في الساعات الأولى، وحسب، من فجر اليوم الأول لعامٍ جديد آثر السارد أن يُبْقيه مجهولًا. غير أنَّ الميدان لم يحتضن هذه المرة، ثورة، أو يُرهص حتى بقرب قدومها. على العكس، فقد بدا هادئًا وخاويًا، اللهم إلا من بعض الشباب الذين يحتفلون، على طريقتهم، بحلول العام الجديد. الثورة الحقيقية كانت أحداثها تَترى خلف جدران «العروس». حيث يتحول العام الجديد إلى طالع سعدٍ لبعضٍ، بينما يتحول إلى مُرتقى صعبٍ لبعضٍ آخر.
عالم المال والأعمال
سوف تكون الساعات القليلة من أول يومٍ في العام الجديد، بالضبط منذ الدقيقة الأولى بعد الساعة الثانية عشرة كما سجلتها «ساعة مصر للتأمين»، حتى طلوع النهار، هي مدار التحولات والتغيرات التي يختبرها أبطال الرواية. سواء أكانت تحولات نفسية أو اجتماعية أو مادية. حيث نصبح شهودًا على الطريقة التي يُحول بها زمن قصير، يساوي لحظة، مصاير وعلاقات وحظوظًا. أما اللحظة فلحظة انقلاب، ينقلب فيها السيد عمر عبدالظاهر على قرارات الحاج مرزوق عشم الله، فيستولي، على غير رغبة هذا الأخير، على أكبر حصة من أسهم ملكية مطعم وبار «العروس»، فجمع في سلطته، بذلك، بين الانفراد بالقرار والإدارة.
حمدي الجزار
من الآن فصاعدًا سيعتزل الحاج مرزوق عشم الله حياة المال والأعمال ويتفرغ للعبادة وعمل الخير، ليأفل نجمه، ويلمع نجم صَنيِعته ومُستخدمه السابق السيد عمر عبدالظاهر. على حين يفقد الحاج فتحي أبو دُرقة، عين أعيان السيدة زينب وصاحب أشهر محل موبيليات، كرسيه في ملكية «العروس» ليحل محله ابنه طلحة، فيرث مجده ومكانته في حياة عينه. بينما يستولي حمو الترسة، على مكان العم برسوم الذي شغل وظيفة رئيس الطباخين لما يقرب من أربعين عامًا. أما سماهر الراقصة الشابة الفاتنة فقد حالفها الحظ مع مطالع العام الجديد، حين رقصت فأبهرت الحاضرين وصعدت، بذلك، أولى درجات سُلم المجد. وأخفقت هايدي كمال «مذيعة النشرات الإخبارية نصف المعروفة»، المتطلعة للشهرة والثروة والمجد في فك شفرة ثروت بك فاضل، وقنص فرصة عمل في قناته الجديدة. بينما تضل علامات الرغبة التي يرسلها ثروت بك فاضل طريقها إلى سامية بشندي التي تحولت في عينيه «إلى ثروة ثمينة… تتوق نفسه إلى تملكها».
إنه عالم مُتخم بالملذات لا يبالي إلا بالشهوات، يزدهر مع بداية عام جديد نجهله، من دون أن نجهل، مع ذلك، أنه عالم كل مكان وزمان. ومع حجب الروزنامة الزمنية حجب السارد نهاية روايته. ولم نعد، من ثمَّ، على بيّنة بمآل ما يجري من أحداث، وفُتحَ السرد، بذلك، على باب الاحتمالات غير المشروطة. أصبحنا وأصبحت لحظة «رأس السنة» الخاطفة القصيرة مفتوحة على الأبد. الثبات الزمني من ناحية، والأبد اللانهائي من ناحية أخرى عمَّقا الشعور بمتاهة تتصارع فيها الرغبات، من دون أن يندر أن يضل الحب فيها طريقه. إلى ذلك فالرواية التي لا تقول شيئًا عن الجانب السياسي تقول كل شيء عن الهدوء الذي يسبق عاصفة تَعدل، حتى حين، ميزان العدل المقلوب، وتستعيد إرث ساكن الصحراء مَهْبط الوحي والإلهام الحاج مرزوق عشم الله، رجل تحيط به غُلالة من السحر والغموض ترسم أسطورته الخاصة: «رجل تام، كامل بلا نقص، لا يتقدم به عمر، ولا يمر عليه زمان وأحوال، رجل صلب، ثابت كأكبر جبل على الأرض».
لحظة أخرى موازية
غير أن لحظة أخرى موازية كانت تجري في محيط «العروس» وتمتد زمنيًّا خارج جدرانه بالعودة إلى الماضي، أو محاولة استشراف المستقبل الغامض، فتهدئ قليلًا من طغيان هذا العالم المتخم. إنها قصة الحب والزواج الذي تكاد تنفصم عُراه في حالة، وتتصل في حالة أخرى. أما الحالة الأولى فحالة سامية بشندي التي تفقد بوصلة علاقتها بزوجها، وتتعرض حياتهما الزوجية لخطر الطلاق. وساوس تدور في رأس سامية، تدور وتلف وتنقطع قبل أن تدور من جديد، تمامًا مثل تلك اللمبات التي تُزين شجرة عيد الميلاد فوق باب المطعم «كلما اكتمل قوس القزح تلاشت ألوانه، وانطفأت اللمبات للحظات، ثم عادت بادئة من جديد». ومع كل لفة تُكتب في خيال سامية عبارة «أخذته مني خلاص»، «ماذا سأفعل أنا؟»، تُكتب وتُمحى من دون أن تُثبت شيئًا أو تَثبت لشيء. فتنقل السرد إلى فضاء زمني خفي، تُعَلق فيه بداية العام الجديد، بالتوازي مع تعليق نهاية الرواية. وبدلًا من انطلاق العام الجديد نجد أنفسنا في مدارات عوالم قارة في قلب الماضي. وأما الحالة الأخرى التي توشك أن تلتئم فيها العُرَى فحالة الدكتورة نانيس واصف أستاذة الموسيقا، وإبراهيم مطر النحّات اللذان يعيشان قصة حب يُحلقان فيها خارج حسابات عالم المال والأعمال، ويكابدان فيها، بحكم اختلاف الديانة، شرور التعصب.
في حضرة التفاصيل الصغيرة
وبين هذه اللحظة وتلك يجري زمن يُحسب بالساعات قوامه انتهاز الفرص، وزمن يُحسب بالتوتر قوامه القلق من المستقبل. وسواء أكنا بإزاء زمن الساعات، أو زمن الذاكرة فإن وتيرة السرد تتباطأ وتظهر التفاصيل الصغيرة مُكبرة تحت مجهر السارد، من دون أن تتباطأ، مع ذلك، وتيرة عبور الزمن وانفلاته. فيتوقف السارد مطولًا لوصف الأشياء والأماكن والأجواء المحيطة بالحدث، لينقل إلينا حرارة اللحظة المعيشة أو برودتها، أو فتورها أو عبورها بمنعطفٍ حاسم. ومع هذا الإلحاح على تكبير التفاصيل الصغيرة تتسع دائرة التأمل وتتعمق على نحو ما تتسع بقعة نبيذ سالت من فم زجاجة سقطت على مائدة ثروت بك فاضل العامرة…
هذا الاتساع والتحول على المستوى التزامني ظهر جليًّا عبر تداخل الأحداث وتوالجها بعضها في بعض. فاقتراب هايدي من سامية بشندي، على سبيل المثال لا الحصر، لتفضي إليها بعرضٍ صادم يُشْبَك بمشهد يقترب فيه السيد عمر عبدالظاهر من الوليمة، ربما لأن سامية تغدو، في عين هايدي، أقرب إلى وليمة أو قربان تستعد لتقديمه إلى ثروت بك فاضل: «وكانت هايدي تقول لسامية: إنها لا تعرف كم تحبها، ولا تعرف مَعزتها عندها حين اقترب السيد عمر من الوليمة». هذا الحضور الفاتن للأشياء والملذات يطرح المعنى جانبًا، ويفسح الطريق أمام وجود مادي يحتفي بذاته.
بواسطة سمير مُندي - ناقد مصري | يوليو 1, 2023 | جوائز
كل من سيقرأ رواية «نهاية الصحراء» للجزائري سعيد خطيبي، الصادرة عن دار «هاشيت أنطوان» 2022م، والفائزة، مؤخرًا، بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2023م، سيدرك الحبكة البوليسية التي تقوم عليها الرواية منذ البدء. فأحداث الرواية، ككل، تستغرق أربعين يومًا، هي المدة التي بدأت بلحظة العثور على جثة المغنية الشابة «زكية زغواني» الشهيرة ﺒ«زازا» مقتولة، ومُلقاة في المرج على جرفٍ وسط أعشاب الشيح، وانتهت بلحظة خروج المتهم بقتلها بشير لبْطم من السجن بعد اكتشاف الجاني الحقيقي. وبين البداية والنهاية يجري البحث عن الجاني وسط تخمينات وشكوك متضاربة. فكيف يمكن أن نقرأ هذا الوجه البوليسي للرواية؟ وهل هناك وجه آخر محتمل يمكن أن نقرأها من خلاله بخلاف هذا الوجه البوليسي؟
وفّر المؤلف، ببساطة ودون مبالغة، كل عناصر التشويق لروايته. بدءًا من كسب تعاطف القارئ مع المغدور بها «زكية زغواني» بتوعيته بالظروف القاسية التي نشأت من خلالها وشَبَّتْ. سواء على يد أسرتها، التي رأت في احترافها الغناء عارًا يجب التبرؤ منه، أو بفعل مجتمعٍ يصبح جمال المرأة فيه عذرًا للتنكيل بها. مع رفع درجة حرارة هذا التعاطف بإشاعة روح الأسف والحسرة على جمالها وشبابها وصوتها الواعد، وتهافت الرجال على كسب رضاها. يقول حميد مفتش الشرطة عنها: «كانت مثل نبع يتقاطر عليه العطشى في المرقص، بفضل سحر صوتها وخفة رقصها». أو ما جاء على لسان ميمون بلعسل صاحب فندق «نهاية الصحراء» من حديثٍ عن موتها الذي «أمات نصف قلبه». على إثر هذا وذاك أصبح القارئ في وضع الانتظار مترقبًا ومتوترًا بلحظة أساسية هي لحظة الكشف عن ملابسات مقتل زكية زغواني، وبسؤال مركزي: أي من الأبطال، يا تُرى، الذين ينحاز إليهم القارئ أو ينحاز ضدهم، قد يكون قتلها؟
ضاعف من مركزية هذا السؤال، وكثافة تلك اللحظة تقاطع شبكة العلاقات التي تحيط بالقتيلة وتداخلها بين من يتعاطفون معها من الرجال، ومن يشْمَتون بها من نساءٍ ينفسن عليها جمالها وحظوظها. وبقدر اختلاف استجابات الأبطال بين الكره والتعاطف، بقدر ما يرتفع وينخفض مؤشر بورصة التوقعات حول هوية الجاني. أطلعنا السارد العليم، الذي يتوارى بحذق خلف شخصياته، على دواخل هذه النفوس، وما يضطرب فيها من نقمةٍ وغضب مكتوم أو حيرة أو رضا. أصبح بمقدورنا، من الآن فصاعدًا، أن نلحظ عن قرب انفعالات الأبطال وشكوكهم، وتوجساتهم ولحظات ضعفهم الإنسانية في اجتماعها وتفرقها. وذلك بفضل تقسيم المؤلف روايته إلى أصواتٍ تتابع بتوالٍ محسوب لتدلي بأقوالها حول حدث الساعة. مع تدشين ما يشبه الروزنامة اليومية التي تؤرخ في أربعين يومًا لملابسات الأحداث وتطوراتها من خلال شخصية إبراهيم درّاس.
وبفضل توظيف ضمير المتكلم الذي يعزز من شعور القارئ بالفضفضة بحديث كل شخصية عن نفسها، وحديثها، في الوقت نفسه، عن غيرها من الشخصيات تَعمَّق شعورنا بالأجواء البوليسية التي تسيطر على الرواية؛ إذْ من شأن كل حديثٍ عن النفس أن يطلعنا على ما يضطرب في سرائر الأبطال من هواجسٍ وشكوك تطفو على سطح الوعي في خضم الحياة اليومية. فكأننا نستمع إلى اعترافاتٍ، أو ما يشبه الاعترافات. ولا سيما مع تقاطع شبكة العلاقات التي تحيط بالقتيلة وتداخلها، بما يجعل من بعض الشخصيات مرشحين لقتلها، ويجعل من بعضها الآخر مرشحين للشهادة بحكم معرفتهم بها أو انطباعاتهم عنها، أو ما شابه ذلك من احتمالات. ناهيك عن افتتاح الرواية بحدث العثور على جثة زكية زغواني وانتهائها بالكشف عن قاتلها، وهو ما يدمج وعي القارئ مباشرة في أجواء السرد البوليسي.
نص على نص
على أن هذه القصة البوليسية، أو قصة مقتل المغنية «زكية زغواني» ليست إلا استعارة لقصة أخرى أكثر عمقًا وأبعد غورًا، قصة الحب الذي لا ينتظره إلا الموت أو القتل في واقعٍ قاتم ومزرٍ يقوض الأماني والرغبات، ويعد بالخيبة والفشل. ولعل ما يرجح هذا المعنى ويدعمه أن الرواية أقرب إلى أن تكون نصًّا على نص. بمعنى أنها كُتبت في ضوء رواية «الشيخ» لمؤلفها الكاتب الإنجليزي إديث مود هول. وهي رواية محسوبة على روايات الاستشراق التي تُكتب في ضوء خيال خاص عن الشرق لا يخلو من نوازع استعمارية. والشاهد في قصة «الشيخ»، التي جرت وقائعها في صحراء الجزائر، هو قصة الحب الملهمة التي نشأت بين بطلة الرواية ديانا مايو والشيخ أحمد بن حسن الذي اختطفها خلال رحلتها في الصحراء.
سوف يلحظ القارئ كيف افتتح مؤلف رواية «نهاية الصحراء» روايته بشاهدٍ من رواية «الشيخ»، هذا نصه: «ارتضى بنهاية الحب، وأن لا مكانة له في هذه المسرحية التي تدور وقائعها في الصحراء». ويلخص الشاهد، كما هو واضح، مأساة مقتل المغنية «زكية زغواني» بما وضع نهاية لقصة حبها لبشير لبْطم الذي كان يتغزل بها بقصائد ورسائل خلقت قصة حب باتت مثار حسد الناس وغيرتهم. كما سيلحظ القارئ أيضًا كيف تتخلل رواية «الشيخ»، والفِلْم المأخوذ عنها حياة الأبطال فتلههم قصص حبهم الخاصة، وترسم لهم صورًا عن الحبيب أو الحبيبة المنتظرة.
تقول، مثلًا، «نورة» المحامية، التي اقتربت من سن العنوسة: «أحببت الممثل رودلف فالنتينو الذي جسد دور البطل… أحببت رجلًا ميتًا التقيت بوجهه في فيلم صامت». أو قول بشير لبْطم: «غفوت دقائق حلمت فيها بأحمد بن حسن بطل رواية (الشيخ) الذي حكى لي عنه إبراهيم درّاس، رأيته يمر أمامي فارع الطول، برفقة حبيبته ديانا، من دون أن يلتفتا إليّ. سرتني قصتهما فقد اختطفها وضحى بنفسه؛ كي يبعد عنها ظل أي خطر يهددها. أما أنا فقد اختطفت قلب زكية، أبعدتها عن أهلها، لكني لم أضحِّ بشيء من أجلها… كنت جبانًا مثل عنكبوت يبني بيته، ولا يعرف كيف يحافظ عليه». كما أن إبراهيم قدور لا يجد هدية أجمل من رواية «الشيخ» ليهديها إلى صديقه نبيل العائد توًّا من فرنسا.
لا بد أن القارئ سيتبين هذا المعنى، أيضًا، من خلال قصص الحب المبتورة وغير المكتملة التي تتصارع داخل الرواية. فهناك قصة حب زكية لبشير لبْطم التي انتهت بمقتل زكية ودخول بشير السجن ظلمًا بتهمة قتلها. أما ابنة خالته المحامية «نورة» التي أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عنه، فأحبت من طرفٍ واحد «كمال بلعطار» موظف الاستقبال. على حين تبادل «كمال» الحب مع زميلتها المحامية أيضًا «حسينة» شريكته في قتل المغنية. بينما أحب مفتش الشرطة «حميد» زكية دون أن يطمع في الزواج منها باعتباره زوجًا وأبًا. ويبدو الأبطال في لعبة الحب غير المكتملة هذه أقرب إلى دوال هائمة تبحث عن مدلالوتها دون جدوى.
ربط الواقع المحلي بالشأن العالمي
جرت هذه الأحداث على وقع تقلبات جزائر ما بعد الاستعمار بما يزيد بقليل على عقدين من الزمان، وما ارتبط به من تغيرات مكانية واجتماعية وسياسية. فنحن في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وبالتحديد عام 1988م. حيث تجري الأحداث في غضون أربعين يومًا، بين بدايات شهر سبتمبر، وأواخر أكتوبر. ومن ثمَّ فالمقارنة لا تبرح خيال الأبطال بين العهد الحالي، والعهد البائد. ولا سيما إذا اقترن ذلك بالحركة في المكان، وملاحظة التغيرات التي طرأت عليه بعد عز زائل. مثل قاعة سينما دنيا زاد التي «شُيدت قبل ستين عامًا وقد تحولت إلى ملحقة إدارية، بعد تجديد واجهتها بطلاء أبيض من دون تصليح زجاج نوافذها العلوية المهشم». أو فيلا الرومي «التي خلفها ثري فرنسي ولا أحد يعلم ما الذي يدور خلف بوابتها». أو المرج الذي كان متنزهًا طبيعيًّا للعائلات فأصبح وقد «تناثرت فيه أشجار، ونباتات برية مع أكوام قمامة هنا وهناك». أو حي أول نوفمبر «الذي اشتهر باسم غامبيتا قبل الاستقلال». أو سوق «تراباندو» أو السوق السوداء «التي تمتد بطول خمس مئة متر… يتزاحم فيها باعة سلع مهربة وأخرى مسروقة، وتتقابل محال وطاولات معدنية تعرض حاجياتها ولا يحمل أصحابها ترخيصًا لكن الشرطة تصرف الناس عنهم، يتهاوش فيها تجار ألبسة مستعملة مع زبائن ونشالين». أو التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت مع نهاية حرب التحرير وحظي المشاركون فيها بامتيازات مادية واجتماعية لم يحظ بها سواهم. على نحو ما استطاع ميمون بلعسل، مثلًا، أن يشتري فندق «نهاية الصحراء» من مُعمر فرنسي بعدما شاعت «اغتيالات الأجانب بُعيد الاستقلال»، وبفضل ما كدسه «من تبرعات المحسنين والأثرياء لحرب التحرير». أو تفشي ظاهرة السوق السوداء واحتكار التجار للسلع الأساسية، وهو ما أدى إلى غلائها واختفائها من الأسواق. أو تغير هوية المكان ككل بتغير أسماء الشوارع، أو تحول بعض الهيئات أو المستشفيات أو الفيلات، أو حتى أماكن العبادة عن هوياتها السابقة إلى هويات أخرى مختلفة.
يشْبك الكاتب، بمهارة، هذا الواقع المحلي بحياة الأبطال وقصصهم الشخصية دون أن يغفل عن شبكه بواقعٍ عالمي قوامه عالم الثمانينيات بأحداثه وتقلباته. بحيث نتمكن من أن نرى ونعرف في التفات الشخصيات إلى مشاغلها الشخصية التفاتًا إلى شؤون عامة، محلية وعالمية. على سبيل المثال ما يحلو للشخصيات أن تؤرخ به أحداثًا مهمة في حياتها بما يقع من أحداث ذات شأنٍ على الساحة العالمية. على نحو ما يربط إبراهيم درّاس يوم التحاقه بمدرسة البنين في غياب أبيه باليوم الذي مات فيه تشي غيفارا قائلًا: «لم أبال بغياب الأب سوى عندما التحقت بمدرسة البنين في الأسبوع الذي مات فيه تشي غيفارا وصادفت أطفالًا يأتون كل صباح مرافقين بأوليائهم فسألني أحدهم لماذا لا يصحبك والدك؟». أو الطريقة التي ربطت بها «نورة» بين اليوم الذي حصلت فيه على الدبلوم «قبل أيام من احتفاء الجرائد بتحرير رهائن أمريكيين في إيران». أو عندما تربط «الشيخة ذهبية» بين اعتداء أخيها عليها وبين سماعها لنعي أم كلثوم في الراديو: «بلغ أذني صوت مذيع الراديو ينعي أم كلثوم ونعيت ثقتي بأهلي». أو تأريخ ميمون بلعسل صاحب فندق «نهاية الصحراء» يوم اقترانه بزوجته بيوم اكتشاف الفرنسيين بئر بترول في حاسي مسعود «فعندما اكتشف الفرنسيون بئر بترول في حاسي مسعود اكتشفت بئر أنوثتها من دون أن تتم الخامسة عشرة من عمرها». أو عندما يؤرخ حميد مفتش الشرطة لبداية تسلمه لمهام عمله بحصول أنور السادات على جائزة نوبل للسلام.
بواسطة سمير مُندي - ناقد مصري | مارس 1, 2022 | مقالات
من الطريف حقًّا أن يعيد محمود درويش الكتابة في أحد أغراض الشعر العربي القديم التي أصبحت شبه مهجورة من الشعراء المعاصرين. ونعني به فن «الوصف». يصبح الأمر لافتًا في حالة درويش الذي ارتبط اسمه بشعر المقاومة الفلسطينية. ولم يعد من الممكن فك هذا الرباط أو حتى التخفيف منه، حتى لو أراد درويش نفسه ذلك. ويصبح لافتًا، من منظور آخر، طالما أن الخيال يَنْزع في «الوصف» إلى اللعب الحر الذي تقود فيه اللعبة اللاعب، فيستسلم الواصف، من ثمّ، للموصوف محاولًا تركه يتجلى أمام عينيه بهيئته وأحواله وصفاته.
وطالما أن «الوصف» ارتبط، في أغلب الأحيان بموضوعات تبدو بعيدة كل البعد من هموم الكفاح والمقاومة؛ كخمريات «أبي نواس»، مثلًا. هكذا قد تبدو قصيدة مثل قصيدة «وصف الغيوم»(١) غريبة على شعر درويش ككل، مقطوعة الصلة بخط المقاومة الذي تتمرس خلفه قصيدته. غير أننا لا نبالغ إذا قلنا: إن العكس هو الصحيح. فما يبدو في ظاهر قصيدة «وصف الغيوم» بوصفه تعليقًا لخط المقاومة، ينقلب في باطنها إلى مطاردة كبرى انخرط فيها درويش من أجل قنص معنى مُبتدع مفقود، يوازي في إبداعيته بكارة طفل سُلبت أرضه، وسُلبت طفولته.
اعتذار أم سخرية!
يفتتح درويش قصيدته باعتذار يعلن من خلاله أن وصف الغيوم «مهارة لم يؤتها». دون أن يكون بوسعنا، مع ذلك، أن نحمل دعوى الشاعر على محمل الجد؛ إذ لا يَتَأتَّى أن نصدق أن شاعرًا مثل درويش يفتقر إلى مهارة الوصف، أو ما سواها من مهارات الشعر، هو الذي جدَّد القصيدة العربية وطوّعها لأغراضه كافة. وطالما نعرف أن تجربة التجديد في الشعر العربي القديم قد اقترنت، في غير حالة، بالوصف(٢). وبالتالي فإن التسليم بأصالة شعر درويش وإبداعيته، يستلزم أن نسلم، بالتبعية، بإتقانه فن الوصف. ولو كان الأمر على هذا النحو، فلماذا صدّر درويش قصيدته باعتذارٍ كهذا؟ ولماذا آثر أن يثير شكوك القارئ في مهاراته التي يعرف قارئه أنها ليست محل شك؟
ربما يكون الاعتذار استباقًا لحكم جائر مُحتمل من قارئ لا يتوقع إجادة الشاعر إلا في ميدان واحد حاز قصب السبق فيه، مجال لم ينازعه فيه منازع، ألا وهو ميدان المقاومة بالكلمة. وما الاعتذار إلا مناورة هدفها التسليم بظنون الخصم في مفتتح القصيدة، ثم السخرية من خطلها وتسرعها مع نهايتها. ولا سيما أن الحكم المضمر الذي يستبقه الشاعر يحمل في طياته تسليمًا بأن الوصف قرين فراغ البال والانصراف عن الجد. وكأن القارئ يتعجب من الشاعر الذي نحّى جانبًا قضايا وطنه منصرفًا إلى ترف وصف الغيوم.
غير أن إشارة الشاعر إلى الوصف بوصفه «مهارة»، و«مهارة» لا يضطلع بها إلا الشعراء المتمرسون، ينفي عن الوصف شبهة أن يكون مجرد ترف أو تسلية. ما لم نقل: إن عبارة الشاعر «وصف الغيوم مهارة لم أُوتَهَا» لا تعني إلا عكس ما تقول: إن الوصف مهارة لا تَتَأتَّى إلا للمتمرسين من الشعراء. طالما أن الشاعر قد استبق مفتتح قصيدته باقتباس من شعر الشاعرة البولندية «فيسوافا شيمبورسكا» -المعروفة باقتدارها الشعري- تباشر فيه وصف الغيوم. وترك لنا، بالتالي، حرية أن نستنتج إعجابه بمهارة الشاعرة في وصف الغيوم، وأن نشهد له بالمهارة نفسها هو الذي ادعى، بمكر، أنه لا يملكها. وقد تُحمل عبارة الشاعر على محمل السخرية من القارئ، الذي قد يتصور أن شاعرًا مثله ليس ممن يمتلكون، حقًّا، مهارة وصف الغيوم. ومن أين له بمهارة وصف الغيوم هو الذي ظل طيلة حياته مشغولًا بقضايا شعبه؟!
وسواء أكان الشاعر معتذرًا أو ساخرًا، فإن الأمر سيان. طالما أن الاعتذار أو السخرية لا يعكسان، في حقيقة الأمر، إلا مكر الشاعر بالقارئ الذي قد يتصور أنه يستطيع أن يملي إرادته على الشاعر فيما يقول أو يكتب. أو ينكر عليه رغبته في وصف ما يشاء وصفه، حتى لو كان ما يرغب في وصفه مجرد «غيوم» عابرة لا تحظى باهتمام أحد. وطالما أن القارئ ليس بوسعه دفع إرادة الشاعر، فإن اعتذار الشاعر لا يجد معناه إلا في السخرية. يصبح هذا المعنى أكثر قبولًا إذا ما قرأناه في ضوء عنوان الديوان ككل الذي تنتمي إليه القصيدة «لا تعتذر عما فعلت». إذ يُرسي العنوان مبدأً، أساسًا، برفض اعتذار المرء، في العموم، عن أفعاله. وكما هو واضح من ابتداء العنوان بـ«لا» الصريحة والحادة في الرفض، فإن الشاعر لا يُبدي تهاونًا أو مرونة في التنازل عن مبدئه.
صيغة التعميم التي يعكسها العنوان من خلال ضمير «المُخاطب» غير المقصود لذاته، عززت أيضًا من معنى تجربة مريرة سابقة في الاعتذار ينقل الشاعر إلينا خلاصتها: «لا تعتذر عما فعلت». وبالتالي فالاعتذار يعني الشاعر قبل أن يعنينا نحن، أو يعني السامعين. فهو أولى منا وأجدر بألا يعتذر عما فعل. فكأنه يرفض، أولًا وقبل أي شيء، أي مزايدات قد تضطره للاعتذار عما فعل أو كتب. طالما أن الفعل هنا لن يكون إلا فعل كتابة. هذه الصرامة في رفض الاعتذار عن فعلٍ أو قولٍ أو كتابة الذي رفعه درويش إلى مرتبة مبدأ غير قابل للتفاوض لا يعكس إلا رغبة الشاعر في تعيين حدود لا يتخطاها القارئ، ومبادئ لا مجال للتفاوض حولها.
ميثاق مع القارئ
ولكن ما شأن هذه الخصومة بين الشاعر وقارئه؟ ولماذا يسيء الطرفان، الظن بعضهما ببعض إلى هذا الحد؟ الإجابة ليست صعبة على هؤلاء الذين يعرفون شعر درويش معرفة جيدة. فالذين يعرفون شعر درويش يعرفون أن القارئ طرف وشريك أساس في تدشين شعره بوصفه شعر مقاومة. وذلك منذ مفتتح ديوانه الأول، ومفتتح شعره ككل، «أوراق الزيتون» 1964م. ففي قصيدة «إلى القارئ» مفتتح الديوان، يبرم الشاعر ميثاقًا مع قارئه حول ما سوف يكون موضع اهتمام شاعرهم الجديد، وشعره الوليد. يقول درويش: «بايعت أحزاني وصافحت التشرد والسغب/ غضب يدي.. غضب فمي/ ودماء أوردتي عصير من غضب/ يا قارئي لا ترج مني الهمس/ لا ترج الطرب/ هذا عذابي.. ضربة في الرمل طائشة وأخرى في السحب».
يعلن الشاعر في حماس، كما نرى، أنه تقبل مأساته. بل بادر إلى اختيار ما لم يكن هناك بد من اختياره: الحزن، التشرد والسغب. غير أنه، ربما لإدراكه أن شعره يجافي الذائقة السائدة آنذاك، يبادر بالاعتذار للقارئ عما يمكن أن يبدو خذلانًا لتوقعاته بشعر يدغدغ المشاعر. مشيرًا إلى أن شاعرًا مثله، بما هو عليه وبما يعانيه، لن يستطيع أن يتملق هذه الذائقة أو يجاريها. إنه وبما هو عليه يعلن أنه لن يتفاوض حول وضعه المأساوي الذي يحتم عليه أن يقاتل بشعره وأن ينافح به من أجل قضيته وقضية شعبه.
محمود درويش
وعلى الرغم من أنه ترك الباب مفتوحًا أمام ما قد يستجد من ضرورات التجريب والتجديد(٣) بقوله: ﻓ«ضربة في الرمل طائشة/ وأخرى في السحب»، مقدمًا ما «يطيش» على ما قد «يصيب»، في هذه التجربة، إلا أن القارئ قد عَدَّ درويشًا لسان حال المقاومة الفلسطينية خاصة، والعربية عامة. ولم يشأ أن يقبل، في هذا الشأن، اعتذارات التجريب التي تمسك بها درويش في أكثر من سياق. ولا سيما أن شعر درويش في مراحله الأولى المحسوبة، نقديًّا، على الثورية الرومانسية قد تمكنت من رفع الغطاء عن مِرجل الهوية الذي يغلي في عقل وقلب كل مواطن عربي. وليس أدلّ على ذلك من قصيدة «سجل أنا عربي» التي عدّها القارئ الميثاق الحقيقي لشعر درويش الصاعد.
واقع الحال أن درويشًا لم يتخلّ طيلة الوقت عن حذره تجاه قارئه الذي يعدُّه مفوضًا للنطق بلسانه. حتى في الأحوال التي بدا فيها درويش كأنه يُخيب فيها ظنون هذا القارئ. على سبيل المثال إصراره على تخليص قصيدته من الخطابة السياسية والانفعالية الحماسية التي أدمنها قراؤه مخاطرًا بذلك بإمكانية فقدان ثقة هؤلاء القراء. يقول: «أزمتي في وقت مطالبة بعض قرائي وبعض جماهير شعري لي بأن أثبت في مكاني، في نصي الذي وجدوا فيه تعبيرًا عنهم. عندما خرجت من هذا النص كان هناك خطر بأن أفقد قرائي. لكنني اخترت ما رأيته صالحًا لشعري ومناسبًا لاعتباراتي الفنية، وكان خياري صائبًا بل عَكَس احترامًا لقرائي؛ إذ ليس من حقنا أن نتكلم بخفة عن الجمهور. الجمهور حقًّا من شرائح ومستويات ثقافية واجتماعية مختلفة، لكنه عندما يذهب إلى أمسية، عندما يمسك القارئ كتابًا، أو يقرأ نصًّا، فهو يعرف ماذا يفعل وإلى أين يذهب. تطور النص الشعري هو في الوقت ذاته تطوير للذائقة الشعرية»(٤).
ربما تلمح عبارة «لا تعتذر عما فعلت» إلى الميثاق الأول المُعلن والآخر الضمني غير المُعلن، ضمن ما تحمل من إشارات. ربما تحمل لومًا متأخرًا وجهه الشاعر لنفسه بشأن ما قدمه من تبريرات وعهود للقارئ حول تجربته الوليدة في مفتتح شعره كما أشرنا، ولا سيما بعد أن ازداد وعيًا بتجربته الشعرية وحرصًا على استقلالها وإخلاصها للتجريب وحده، هو الذي قال: «أنا لم أكرس نفسي في معنى»(٥). كل هذا وارد، إنما، من الوارد أيضًا، أن القارئ لم يحمل حذر درويش على محمل الجد. ولم يشأ أن يقبل منه إلا ما وافق دائرة الفهم التي كانت تحيط بأفق القارئ العربي آنذاك. بما تحمله في طياتها من أحلام المقاومة والكفاح من أجل التحرر والتحرير. من منظور هذا الفهم أصبح درويش ناطقًا بلسان هذه الأحلام ورمزًا لها. وتعيَّن، على الشاعر، من ثمَّ، أن يكافح، لا من أجل تحرير وطنه وحسب، إنما، أيضًا، من أجل تحرير شعره مما «ليس شعرًا»(٦) أو ما «هو لمصلحة خطاب آخر»(٧).
مطاردة الشعر الصافي
أصبح واضحًا، من ثمَّ، أن الشاعر وقارئه يتبادلان سوء فهم بخصوص مفهوم الشعر ووظيفته إن كان ثمة وظيفة للشعر. ليس من المستبعد، إذن، أن يحسب الشاعر حسابًا لسوء الفهم هذا، فيسارع إلى استباقه بالسخرية منه، أو التظاهر باللامبالاة تجاهه، ولا سيما أن «الوصف» قد يُحمل على محمل آخر بخلاف فراغ البال أو اللعب الحر. طالما أن هناك من يرى أن موضوعات الشعر، على اختلافها، يمكن أن تندرج كلها في باب الوصف. فالمدح، مثلًا، وصف لصفات الممدوح، والرثاء، بالمثل، تعداد لمناقب المرثي، والغزل وصف لجمال المرأة… إلخ.
وعلى ذلك يمكن تعريف شعر درويش، مثلًا، بأنه وصف لأحواله وأحوال بلده. ألم يكن ما جربه درويش، في نفسه، وفي بلده من محن تشبه «غيومًا» متلاحقة حاول درويش وصفها؟ ألم يكن شعر درويش، بتبدله من مرحلة إلى أخرى، تعبيرًا عن مطاردة اقتضت التبدل في مواجهة ما يتلاحق؟ درويش الذي وعى ذلك جيدًا تحدث عن الشعراء الذين يولدون دفعة واحدة، والشعراء الذين يولدون على «دفعات»(٨)، مؤكدًا أنه ينتمي لهذا النوع الأخير، وذلك من حيث إن الولادة المتكررة، طريقة في اصطياد ما يتلاحق من صور.
ربما لأجل ذلك رأى درويش أن الشعر «مطاردة»، «لكل حس صورة/ ولكل وقت غيمة». وربما لأجل ذلك وقبل افتتاح قصيدته مباشرة بادرنا باقتباس من شعر «فيسوافا شيمبورسكا» تؤكد فيه المعنى نَفْسَه: «لوصف الغيوم عليَّ أن أسرع كثيرًا، فبعد هنيهة لن تكون ما هي عليه، ستصير أخرى». فالشاعران اللذان يتقاسمان سماءً واحدة وكوكبًا واحدًا، يتقاسمان، بالمثل، معنى واحدًا يرى الشعر مطاردةً. يؤكد الشاعر، من هذا المنظور، على أصالة انتمائه للكون الكبير الذي يسبق انتماءه لمكان أو وطن من الأوطان. مثلما يؤكد أن ما يتصف به الوجود من عبور لا يدع مجالًا للثبات.
والمطاردة لازمة لزوم التغير والتبدل الذي تتفنن الغيوم في تصويره برسم عشرات الأشكال والمزج بينها على غير مثال من دون أن تعبأ بنموذج أو تعتدّ بنمط. فكأنها تُلقن الإنسان درسًا في صيرورة الإبداع التي يجب ألا تتوقف عند حد، أو تثبت على حال. يقول درويش: «لا شكل نهائي لهذا الكون/ لا تاريخ للأشكال…/ أنظر من علٍ، وأرى انبثاق الشكل من عبثية اللاشكل: ريش الطير ينبت في قرون الأيل البيضاء/ وجه الكائن البشري يطلع من جناح الطائر المائي/ ترسمنا الغيوم على وتيرتها/ وتختلط الوجوه مع الرؤى». لا يحدثنا هذا التكوين، الذي لا أول له ولا آخر، عن الكون المفتوح على كل الاحتمالات بلا قيد أو شرط وحسب. إنما يحدثنا، أولًا وقبل كل شيء، عن «الشكل» الذي يمكن أن ينبثق من «اللاشكل»، عن الصيرورة التي يكرر، بمقتضاها، الوجود سيرة وجوده. إن كان هذا هكذا، إن كان «لم يكتمل شيء ولا أحد»، فإن الشعر لا بد أن يكون على أُهبة الاستعداد لتغيير جلده باستمرار من أجل التقاط الترددات الكونية المتسارعة ومحاكاتها باصطناع التغير والتجديد الدائمين.
على أن الشعر نفسه غيوم. فلئن كانت الغيوم «فكرة بيضاء عن الوجود»، فإن الشعر، هو هذه المحاولة المستمرة لكتابة هذه الفكرة. ربما تساوي هذه «الفكرة البيضاء» مفهوم «الشعر الصافي» عند درويش. شعر يمتلك قدرات جمالية «تسمح له أن يحقق حياة أخرى في زمان آخر، ليكون ابن تاريخه، وليستقل في الوقت نفسه عن تاريخه وظرفه الاجتماعي»(٩). درويش الذي يعرف استحالة تحقيق هذه المعادلة الجمالية يوصي نفسه مثلما يوصي غيره من الشعراء بالاستمرار في «مطاردة» أو قنص «الشعر الصافي» أو «الفكرة البيضاء» على استحالته واستحالتها: «ليس هناك شعر صاف، ولكن علينا أن نصدق أنه موجود»(١٠).
الشعر الصافي غير موجود، ومع ذلك فإن المطاردة يجب ألا تتوقف. فربما من هذا المستحيل «اللاشكل» ينبثق «الشكل». مثلما تنخرط «الغيوم» في بروفات لا نهائية لوجود محتمل. يقول درويش عن القصيدة الغيمة: «والشعراء يبنون المنازل بالغيوم/ ويذهبون../ لكل حس صورة/ ولكل وقت غيمة/ لكن أعمار الغيوم قصيرة في الريح/ كالأبد المؤقت في القصائد/ لا يزول ولا يدوم..»
هوامش:
(١) وردت القصيدة ضمن قصائد ديوان «لا تعتذر عما فعلت». انظر: محمود درويش، الأعمال الجديدة الكاملة، ج1، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2009م، ص 93.
(٢) انطر مثلًا حديث طه حسين عن أبي نواس وكيف اقترن التجديد في الشعر لديه بالوصف، ولا سيما وصف الخمر. طه حسين، حديث الأربعاء، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014م، ص 415.
(٣) ملحوظة كاظم جهاد. انظر: كاظم جهاد: عزلة الشاهد: محمود درويش في مجموعاته الشعرية الأولى وقصائده الأخيرة، مجلة الكرمل، العدد 90، مؤسسة الكرمل الثقافية- مركز خليل السكاكيني الثقافي، فلسطين، 2006م، ص 87.
(٤) نقلًا من كتاب «نظم كأنه نثر». راجع: سليمان جبران، نظم كأنه نثر: محمود درويش والشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2016م، ص/79-80.
(٥) عبده وازن، محمود درويش: ولدت على دفعات، مجلة الكرمل، العدد 86، مؤسسة الكرمل الثقافية- مركز خليل السكاكيني الثقافي، فلسطين، 2006م، ص 14.
(٦) عباس بيضون، محمود درويش الغريب يقع على نفسه: قراءة في أعماله الجديدة، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2006م، ص 65.
(٧) المرجع السابق، الصفحة نفسها. في حواره مع عبده وازن يقول محمود درويش: «إن الشعراء يولدون في طريقتين: بعضهم يولد دفعة واحدة… ثم هناك شعراء يولدون «بالتقسيط» وأنا من هؤلاء الشعراء. ولدت على دفعات»، مرجع سابق، ص/8
(٩) عباس بيضون، كلام في الشعر، مجلة الكرمل، العدد 78، مؤسسة الكرمل الثقافية- مركز خليل السكاكيني الثقافي، فلسطين، 2004م، ص/ 182
(١٠) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
بواسطة سمير مُندي - ناقد مصري | يناير 1, 2021 | كتب
أصبح واضحًا، على الأقل حتى الآن، أن «كورونا» ليس مجرد وباء من ضمن جملة الأوبئة التي عرفتها البشرية عبر تاريخها. ارتقى «الفيروس»، في رأى بعضٍ، إلى مقام «تقويم» له ما قبله وما بعده. وذلك على إثر الانقطاعات الاقتصادية والصحية والسياسية التي أحدثها الوباء بين مرحلة وأخرى. فقد ترنحت تحت وطأته أنظمة اقتصادية وصحية وأيديولوجية لم يكن من المُقدر لها أن تتهاوى في المستقبل القريب. وضعنا الوباء، من منظورٍ آخر، أمام أنفسنا ودفعنا دفعًا إلى مراجعة حساباتنا. سواء على المستوى الشخصي، أو على المستوى العام. ودفع إلى دائرة الجدل من جديد بأسئلة، كنا قد توقفنا عن طرحها، ربما بفعل اليأس، حول مصير الثقافة العربية ومدى قدرتها على مواجهة التحديات. طالب الرفاعي، الكاتب والمثقف الكويتي البارز، يعيد طرح القضايا المفصلية التي خلقت أمراض الثقافة العربية وجعلت منها ما هي عليه. ويصوغ بوضوح وعمق أيضًا ما كشف عنه «الفيروس» من تحديات، واضعًا يده على جماع ما صنع وما يمكن أن يصنع «عالم ما بعد كورونا». وذلك من خلال كتابه «لون الغد: رؤية المثقف العربي، ما بعد كورونا» الصادر حديثًا عن منشورات المتوسط 2020م.
طالب الرفاعي
سؤال الكتاب الأساسي
يتوجه المؤلف بسؤال أساسي إلى جملة من المثقفين والكتاب العرب البارزين حول ما يمكن أن يكون عليه العالم بعد مرور عام من الوباء من مارس 2020م إلى مارس 2021م. شارك في الإجابة عن هذا السؤال 88 مثقفًا وكاتبًا وأكاديميًّا وسياسيًّا…، من مختلف أنحاء العالم العربي. في المقابل قدم الرفاعي تحليلًا وافيًا لآرائهم وشهاداتهم صاغ صورة واضحة للوباء ولواقعنا العربي والعالمي. وبالمثل صاغ الرفاعي صورًا لما يمكن أن يكون عليه المستقبل، اختلفت باختلاف آراء المشاركين وتنوع رؤاهم. ولن نحاول هنا أن نلخص ما انطوى عليه الكتاب من آراء وتحليلات واستنتاجات. فإن التلخيص يمكن أن يُخلّ بمسوغات هذه الآراء التي اختلط فيها الأدبي بالعلمي والبديهي بالعقلي. ويمكن، من ناحية أخرى، أن يفسد على القارئ تجربة قراءة الكتاب والاشتباك مع أفكاره وتوجهاته. ولن نحاول، بالمثل، أن ننقل للقارئ تفاصيل التصنيف الذي وضعه المؤلف لجملة الآراء التي تلقاها من مشاركيه، ما بين «فئة المتفائلين» و«فئة المتشائلين» إلى «فئة المتشائمين». وبدلًا من ذلك سوف نحاول إبراز ما يبدو، من وجهة نظرنا، أفكارًا غير تقليدية في هذا الكتاب المهم.
حدود المعرفة وسلطة الطوارئ
من أهم النقاط التي ناقشها الكتاب ما كشف عنه «الفيروس» من حدود المعرفة البشرية، ووصوله بها إلى نقطة نهاية، ولو إلى حين. فلم يعد بإمكان أحد الحديث عما يستطيعه العلم أو تقدر عليه التقنية من دون التحلي بشيء من الحذر والتواضع. وهو ما دفع بالمؤلف إلى التساؤل، مع مشاركيه، حول أسباب فشل المعرفة البشرية الهائلة أمام «الفيروس»: «أقام الإنسان أهرامات من النظريات والمعارف والعلوم والمبتكرات التكنولوجية والتسلحية والنووية والفضائية، فلماذا فشل في ردع فيروس ماكر؟». غير أن أهم ما تمخض عنه «الفيروس»، بخلاف هذا العجز العلمي، ما قد تقودنا إليه المعرفة من فنائنا وفناء هذا الكوكب، كما ترى بعض المشاركات.
إذ وضع «الفيروس» وجود الإنسان نفسه، بشكل ما، على المحكّ. وذكَّرنا بضعفنا القديم أمام سطوة الطبيعة التي يمكن أن تجردنا من هبة الوجود في لمح البصر. وهو ما يجعل من قضايا مثل قضايا «حدود العلم» و«أخلاقيات» توظيف التقنية مطروحة بقوة في هذا السياق. وحتى تسنح فرصة مراجعة جدية يرى بعضهم أن الحاجة باتت ماسّة إلى نوع من التضامن الذي تقتضيه وحدة المصير، ويفرضه العيش المشترك.
أثار الكتاب، أيضًا، جدلًا خصبًا حول سلطة «الطوارئ» ودورها في تغيير الواقع بصورة ربما تقطع خط الرجعة على ما كان قبلها. فبقوة «الطارئ» وإلحاحاته تشتد الحاجة إلى إنفاذ قرارات جذرية في مدة قصيرة، ربما لم تكن لتجد سبيلًا إلى النفاذ في الأحوال العادية. ومن المعروف أن الصين، مثلًا، سيطرت على «الفيروس» بفضل حزمة من القرارات السريعة التي مكنتها من ضبط حركة الأفراد وتقنينها. في حين لم تفلح بعض دول الاتحاد الأوربي، مثل إيطاليا وإسبانيا، في احتواء الوباء بالدرجة نفسها؛ لتأخرها في استباق حركة «الفيروس» بقرارات عاجلة.
يلفت المؤلف النظر إلى ما يكمن خلف حالة «الطارئ» هذه من خطر إمكانية «تأييد حالة الاستثناء» ودمجها، بالتدريج، في الحياة الطبيعية للأفراد. بحيث ينتزع «الطارئ» مشروعية وإلزامية القانون. أحد المشاركين أشار، بقلق، إلى أن الحرية يمكن أن تكون، مستقبلًا، ثمنًا مدفوعًا مقابل الحماية والأمن.
«الفيروس» انتكاسة جديدة للثقافة العربية
الثقافة العربية حاضرة في هذا الكتاب حضورًا يفرض نفسه كلما كان هناك تحدٍّ يطرح تساؤلًا ضروريًّا وملحًّا حول قدرة هذه الثقافة على مواجهته. بعضهم يرى أن الوباء قد كشف عن عِلّة هذه الثقافة واعتلالها بغياب النواة الصلبة التي يمكن أن نؤسس عليها خطابًا معرفيًّا يصوغ شخصيتنا في هذا العالم. «الفيروس»، من وجهة النظر هذه، ليس إلا «هزيمة حضارية لقوى إنتاج الشفاهية والغيبية والوعود الوهمية». أدونيس، ربما من المنظور نفسه، تحدث عن «حجر صحي عقلي» لا يزال العرب قابعين في زنزانته.
أما مؤلف الكتاب فيرى أن «الفيروس» قد يمزق «شعرة معاوية» التي ربما ظلت تربط العرب حتى الآن. بعد أن تعرض هذا الرباط لأكثر من زلزال في تاريخه، غير أن غزو العراق للكويت عام 1990م، في رأيه، كان علة العلل التي مزَّقت أواصر «القومية العربية» ووصلت بها إلى نقطة نهاية. إن تجربة الغزو وما تمخض عنها من نتائج، في رأى الرفاعي، لا يزال صداها يتردد هنا وهناك مؤشرًا على تغير «مدمر هزَّ ولم يزل يهز المنطقة العربية». ومع خيبة الأمل تسنح الفرصة لتسويق الغيبيات «لمواجهة مستجدات الواقع الإنساني اليومي».
قضايا أخرى
ناقش الكتاب، أيضًا، قضايا أخرى مهمة؛ مستقبل «العولمة» مثلًا، وما يمكن أن يطوله من تغيرات؛ «عالم القطب الواحد» الذي تقوده أميركا، وما إذا كان سيستمر أم سيتغير باتجاه الأقطاب المتعددة؛ الأدب والموضوعات التي يمكن أن تستأثر باهتمامه في الأزمنة القادمة: هل يمكن أن نجد أنفسنا، مثلًا، حيال ما يمكن تسميته «أدبيات المرض»؟ الاتحاد الأوربي وما إذا كان قد وصل إلى نقطة تحول في تاريخه؛ الدولة/ الأمة وما إذا كانت ستطفو على السطح مرة أخرى تحت وطأة ما تواجهه «التكتلات» من تحديات؛ الإنترنت وما إذا كان سيسيطر على عالم ما بعد كورونا، وأخيرًا: هل يمكن أن تكون «الصحة» الميدان الذي تتسابق فيه الدول في عالم «ما بعد كورونا»؟
بواسطة سمير مُندي - ناقد مصري | يناير 1, 2020 | كتب
في مجموعتها القصصية الصادرة حديثًا بعنوان «اسمي سليماني»، عن (مكتبة كل شيء- حيفا 2019م) تختبر الكاتبة الأردنية جميلة عمايرة أشكالًا مغايرة للكتابة تجمع في متصل واحد الرواية بالقصة القصيرة، مثلما تختبر وجوهًا متعددة للمعنى وللحقيقة، حقيقة سليماني بطل حكاياتها. وبقدر ما يمكن أن يكون لسليماني أكثر من حقيقة وأكثر من وجه، بقدر ما يمكن أن نعدّ «اسمي سليماني» مجموعة قصصية تتضمن عددًا من القصص القصيرة المتفاوتة الطول والموضوعات. والانحياز إلى قراءة الكتاب بوصفه مجموعة قصصية هو، بشكل ما، انحياز لفكرة المعاني المتعددة والمنظورات المتباينة. طالما أن كل قصة من قصص المجموعة تحمل عنوانًا مختلفًا ومعنًى مستقلًّا خاصًّا بها.
وإذا نظرنا إلى غلاف الكتاب، على سبيل المثال، فسوف تستوقفنا صورة لرجل لا يكشف الضوء إلا عن وجهه بخشونة ملامحه وحِدَّة نظَراته. أعلى الصورة مباشرة يستقر عنوان الكتاب: «اسمي سليماني». وهو ما قد يحمل القارئ على التفكير في أن العنوان ما هو إلا تقديم وإفصاح عن هوية صاحب الوجه. فكأن الوجه والاسم هما بمنزلة إجابة عن سؤال مُفترض حول هوية صاحبهما، يطرحه القارئ بمجرد مسحه للغلاف بصريًّا. غير أن وجود الوجه إلى جانب الاسم قد يشير، بالعكس، إلى نقص في الهوية يجري استكماله ببدائل تعويضية. طالما أن التأكيد القارَّ في حشد الصورة والنطق بالاسم في عبارة «اسمي سليماني» قد يأتي ردًّا على شكوك أُثيرت حول هوية صاحب الوجه، أو على الأقل انعكاسًا لعدم القدرة على احتوائه في تحديد ما. ومن ثم تقترح علينا الكاتبة أن نحاول التعرف إلى سليماني، لا من خلال وجه واحد، إنما من خلال وجوه متعددة، تسردها في قصص قصيرة، توازي كل قصة منها لحظة من لحظات شخصيته الملتبسة.
يتجلى هذا الالتباس، إن لاحظ القارئ، في الجوانب التي تبدو متناقضة في شخصية سليماني. فلئن كان سليماني، على سبيل المثال، جلادًا في عمله يأخذ موظفيه بالشدة والقسوة، أو خشنًا متسلطًا في معاملة زوجته. فإنه يجرب الضعف الإنساني عندما يقع ضحية لغيره، مرة على يد فتاة على شبكة الإنترنت، ومرة أخرى على يد أعز أصدقائه. وفي كلتا المرتين يتمزق إطار الاستغناء والاعتداد بالذات الذي يحيا من خلاله. يحملنا هذا التمزق على التفكير في وجه آخر لسليماني؛ سليماني الذي يفتقد الحب والصداقة الحقيقيين، سليماني رب العائلة الذي يعاني الشِّقاق الزوجي. هذا التباين بمنزلة مسافة تفصلنا عن حقيقة سليماني، مثلما تفصل سليماني عن نفسه.
حيرة سليماني
وليس من الغريب، بعد ذلك، أن تُختتم المجموعة بقصة تعكس حيرة سليماني نفسه في تحديد نفسه متسائلًا: «هل هذا اسمي؟ وفي اللحظة التي ولدت بها ولد معي؟ هل يخصني أنا وحدي دون سواي، أم إنه يعود لآخر لا أعرفه وأجهل من يكون؟ لا أتبين ملامح وتفاصيل وجهي الجديدة، هل هذه تعود لي، أعني لسليماني الذي كنت أعرفه منذ زمن طويل، أم لرجل آخر أراه الآن أمامي لأول مرة».
هذه المسافة تفصل أيضًا المسرود لها في قصة «مع صديقته» عن الحكاية التي تضطلع بسردها. تظهر المسرود لها في القصة بوصفها صديقة استراح لها البطل وقرر اصطفاءها لتكون مستمعته وساردة حكايته. غير أن الساردة المختارة سرعان ما تدرك عدم قدرتها على السيطرة على خيوط الحكاية. فسليماني، صاحب الحكاية وبطلها، لا يترك لها فرصة للعب دور السارد المهيمن على السرد. وبدلًا من ذلك يفسح البطل المجال أمام ساردته لتشغل دور السارد المحايد الذي يكتفي بنقل الحكاية وتدوينها، إن صح أن يكون هناك سارد محايد. لا تستطيع الساردة، من هذه الوضعية المُقترحة، أن تقرر أو تحسم أمرًا بخصوص سليماني. إنها، من هذا المنظور، مثل القراء تمامًا، تتخبط في التفسيرات. تصغي لتعرف، لتفهم، لتصوغ صورة ما عنه، صورة تقول لنا، في نهاية المطاف: هذا هو سليماني، أو هكذا هو سليماني. غير أنها غير قادرة على عبور هذه الفجوة التي تفصلها عن بطلها. يظل سليماني، من حيث هو كذلك، غامضًا وملتبسًا ومستعصيًا على الظهور. تقول الساردة: «أدركت بأنها لن تستطيع مجاراته، وقد أيقنت أنه هو من يملك مفتاح السرد ومن يتحكم بسير الشخوص وتحركاتهم داخل نصه، وفرض الأحداث التي يحلم بها فيطرحها من خلال رؤيته ومفهومه واستبعاد من لا يطيقه بسهولة مربكة ودون أن يتسبب بإراقة نقطة دم واحدة». إذن سليماني هو وحده القابض على قانون السرد. سليماني نفسه يحيل حياته على حياة أخرى صنعها الآخرون «حياة يجيدها الآخرون ببراعة». إنه وبتعبيره لا يشبه نفسه في شيء، ولا ينتمي للرجل الذي تعكس المرآة صورته عندما يقف أمام المرآة. فلا سليماني ولا ساردته بمستطيعين الجزم بشيء، وما يسود هو منطق الاحتمال الترجيح وحسب.
حكاية بطلها شخص واحد
يستجيب العمل، من منظور ثانٍ، لمعنى الرواية من حيث الحبكة والسرد. فالقصص، على اختلافها، حكاية بطلها شخص واحد اسمه سليماني. والإلحاح على سرد أحوال مكانية وزمانية مختلفة يغشاها سليماني أو يعانيها كما تشير عناوين وموضوعات القصص: سليماني «في المقهى»، أو «في البترا»، أو «سليماني مع صديقه»، و«مع صديقته»، هو، في النهاية، إلحاح على حال واحدة، حال التشتت والتمزق التي يحياها البطل. يحملنا على هذا الفهم منطق الحكاية العجيبة الذي تنطوي عليه رواية «اسمي سليماني». صحيح أن قصة سليماني ليست قصة عجيبة بالمعنى الذي نعرفه في هذا النوع من الكتابة، ولكنها عجيبة بالمعنى الذي تلحُّ فيه على أحوال مفارقة لبطل يرصدها السرد بعبارات مثل: «ثمة سبب لا يدركه سوى سليماني نفسه» ومن وجهة نظر «سليماني ومفهومه» «الأمر يخص سليماني وحده، ووحده سليماني من يملك تسمية أشيائه». إنه عالم سليماني الخاص والمدهش الذي يقارب في تقلبه تقلب أحوال مغامر في مغامراته العجيبة. وعجيب، من ناحية أخرى، بالمعنى الذي يجرب فيه سليماني، الرجل الآتي من عالم «الأبيض والأسود» كما يسميه، القوة السحرية والخارقة للإنترنت. فسليماني رجل تجاوز سن التقاعد بقليل، يتأمل أحداث حياته وسط تحولات وتطورات تقنية دفعت ذاكرته إلى مقارنة ماضيها المادي البطيء بحاضرها الافتراضي السريع. ماضي الإبرة والخيط، وشنطة المدرسة القماشية، وصندوق البريد الخشبي، في مقابل حاضر الإنترنت الافتراضي، الذي يتصفح سليماني مواقعه العجيبة بضغطة زر واحدة تشبه البساط السحري في مفعولها.
وسواء قرأنا «سليماني» بوصفها مجموعة قصصية أو رواية، فبالإمكان القول: إن السرد في انتظامه وتنافره تهيمن عليه، كما أشرنا، لحظة واحدة هي لحظة تشتت وتفرق؛ ليتخذ السرد، في هذه الحالة، شكل دائرة مركزُها البحث عن الذات. وتصبح كل قصة، بالتالي، بمنزلة مشهد أو حدث تستدعيه الذاكرة بحثًا عن إجابة للسؤال: من أنا؟ أو من أكون؟ هذه المشاهد والأحداث بمنزلة تكثير ومضاعفة لمعاناة واحدة وزمن واحد، معاناة وزمن سليماني.