أمجد ناصر: الهوَس بالصورة وتمجيد الوحدة
وضع أمجد ناصر قدمه على دَرج الشعر نهاية السبعينيات من دون توجُّس وارتياب. كانت قدمه تعرف إلى أين ستصل؛ لذلك اتسم عمله الشعري الأول «مديح لمقهى آخر» عام 1979م بالنضج، فهو يمنح قارئه الإحساس بأن صاحب هذا المديح يملك وعيًا بالكتابة، وخبرةً بجغرافياتها. كأنما كتب الكثير وأخفاه، ليخلص إلى هذه النصوص التي تخففت إلى حد كبير من اضطراب البدايات، بالرغم من أن كاتبها كان في الرابعة والعشرين حين دفع بالكتاب إلى المطبعة. خلا «مديح لمقهى آخر» من النزعات الوجدانية وبكائيات الحب، وانصرف صاحبه إلى ما يخرج عن هذا الإطار. فعوضًا من أن يكتب عن حبيبته سيكتب عن مدينته، وبدلًا من أن يخاطب امرأة سيختار أن يخاطب جبلًا.
اختار أن تكون العتبة نصًّا شعريًّا عدميًّا لقسطنطين كفافيس، يلخّص فيه تجربة الحياة برمتها، لكن بنظرة يائسة ترى الخرابَ مبتدأً ومنتهى لعبور الكائن على هذا الكوكب. وتحت ظلال هذا اليأس سيكتب أمجد ناصر قصيدته التي لا تبشر بشيء، بقدر ما تقف شاهدةً على هذا الوجود الجارح للإنسان. وسيكون المقطع الأول في الكتاب دالًّا على رؤية الشاعر وسبيلًا إلى ما يتحرك في دواخله: «لن أغتصب ملامحي بدعوى التفاؤل/ ولكنّي سأنشر ألواح صدري للطيور/ القادمةِ من البحر، أو الصحراء/ وأنفثُ حزمةً من الدخان الحيّ، وأَهدأ». عمومًا يقف الكتاب على هشاشة الكائن وشقائه، والإحساس بالضيق الوجودي، والموت كحقيقة طاغية.
قارئ «مديح لمقهى آخر» سيكتشف أن أمجد ناصر نجا باكرًا من الغيوم التي كانت تملأ سماء القصيدة العربية خلال السبعينيات، وسيتأكد له ذلك مع «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» 1981م، غير أن النبرة الفجائعية ستظل حاضرة: «إنني صالحٌ للعزاء في أيّ وقت/ لا وقتَ يلائم حصادَ القمح/ إلى الشمال من هذه الوحشة». ثمة دائمًا إحساس بالمسافة التي تفصل الشاعر عن المجتمع الذي يعيش فيه، وعن تفكيره الجمعي: «لن أتوهم فتوحاتِ العرب»، هناك تخفف من البطولة الجماعية: «من هنا مرّ شعبي/ عاريًا وضامرًا يسحب خلفه/ نهرًا يابسًا/ وصقورًا كهلة». وبالمقابل ليس هناك انبهار بالعالم الآخر: «لن أعتقد أن باريس مربط خيلنا».
يواصل الشاعر في «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» طرح أسئلته، ذات الطابع الوجودي في الغالب؛ إذ يحاول باستمرار إيجاد تفاسير وتأويلات لما يعتمل في ذاته من مشاعر متضاربة. ويصير الجسد المنطلق الأول لهذه الأسئلة: «ما جدوى الأيدي/ بالنسبة لنا نحن الذين/ لا نحسن الرقصَ أو النّحت؟»
سيشرع أمجد ناصر انطلاقًا من هذا العمل في الانتصار لشعرية الأشياء والتفاصيل، عبر التقاطه لعناصر الحياة اليومية القريبة منه، وتوظيفها داخل الشعر: «خذ أيضًا/ حزمة الأوراق الملوَّنة/ فما تزال تصلح لإشعال الحطب/ وأدوات الحلاقة تلك التي على الرفّ/ وسترة الجلد/ وأيضًا زجاجات النبيذ المطمورة في القشّ/ لا تأسَ/ فأزهاركَ تنبت الآن/ في أصيصٍ آخر».
في «رعاة العزلة» 1986م تبدو الذاتية طاغية على معظم النصوص، وحاضرة بالضمائر الثلاثة: المتكلم، والمخاطَب والغائب؛ إذ يعمل الشاعر على تصريف هواجسه وتأملاته بنفس غنائي، في اشتغال على العزلة كثيمةٍ أساس، وذلك عبر صور شعرية وامضة تتعاقب في جمل وتراكيب لغوية قصيرة. فكرة المنفى تبطِّن قصائد الكتاب، ولذلك تبرير موضوعي، فأغلب هذه القصائد كُتب خلال إقامة الشاعر بنيقوسيا. سيجد القارئ نفسه أمام مشاهد من يوميات الغربة، وسيصغي إلى الشاعر وهو يرفع صوته تمجيدًا للوحدة. الحنين مدخل كبير لقراءة هذا العمل، فثمة عودة صارخة إلى الطفولة والشباب الأول، وإلى تفاصيل الحياة البدوية وطقوسها: «رائحة الحطب القديم/ الحطب المخزَّن في الحظائر/ ما زالت تعبق في ثيابنا(…) الغسيل المحتشد أمام البيوت/ الأولاد المعفَّرون بالتراب/ الشاي المنعنع في المساءات».
حياة جماعية
ويأتي «وصول الغرباء» 1990م امتدادًا لتجربة الشاعر في «رعاة العزلة»، غير أن مساحة الحزن في هذا العمل ستكون أكثر شُسوعًا، ومثلما يشي العنوان، فنحن لسنا أمام نصوص ذاتية أو منكفئة على ذاتيتها، بل أمام انعكاس لتجربة حياة جماعية. فالشاعر هنا ينقل لنا، في العديد من النصوص، مشاهدَ من حيوات كائنات يتقاسم معها الأحاسيسَ ذاتها؛ أحاسيس الغربة والحنين والحيرة واللاطمأنينة، أحيانًا يتحدث عنها، وأحيانًا يخاطبها، وأحيانًا أخرى يتقمص أرواحها (غرباء، وأصدقاء، وجيران، وضيوف، ومسافرون، وعازفو أنفاق، وملوك الحيرة…). أما الشكل الذي احتوى هذه التجارب فكان القصيدة الواصفة المليئة بالتفاصيل.
في «سرّ من رآك» 1994م جنوح إلى الإيروتيكا، وتفاعل جارف مع العالم الحسّي. سيضيف الشاعر إلى حاسة البصر التي وظفها في أعماله الشعرية السابقة، ذات الطابع المشهدي، حاستين جديدتين هما الشم واللمس. في نص «الرائحة تُذكّر» تحضر الرائحة شكلًا ومضمونًا. فهي ثيمة الكتابة، وهي أيضًا وسيلة لبناء النص واستدراج صور شعرية متعاقبة: «الرائحة تُذكِّر بأعطياتٍ لم يرسلها أحد/ بأسرة في غرق الضحى/ بثياب مخذولة على المشاجب/ بأشعة تنكسر على العضلات/ بهباء يتساقط على المعاصم/ بأنفاس تجرب مسالك جديدة إلى مرتفع الهواء». يمكن أيضا الانتباه إلى توظيف الشاعر لحاسة التذوق: «بحلاوة اللسان/ اكتشفت ملوحةَ المخبوء».
يعود الشاعر في عمله «مرتقى الأنفاس» 1997م إلى التاريخ، مستعيدًا لحظة الغروب لمرحلة مشرقة في التاريخ العربي؛ إذ يتقمصّ دور الأمير أبي عبدالله أحيانًا، وأحيانًا يخاطبه، وهو يقف شاهدًا على سقوط غرناطة. هذا العمل الشعري هو نموذج متفرد لكتابة الانهيار. النص ضاجّ بالحنين والرثاء والندم وخطاب الهزيمة والإحساس بالخذلان. وعبر قناتَيِ السرد والوصف الأثيرتين لديه يضعنا الشاعر أمام صور درامية متعاقبة: «وبيدين سلمتا السيف والمفتاح/ أمسكتَ نايا ورحتَ تجرح أشباحا/ تتكاثر في النعاس (…) هجران راسخ في الطُّرق/ الهواء خاثر/ المصائر تفوّض أمرها/ لمشيئة الأفول».
في مجموعته الشعرية «كلّما رأى علامة» -التي كُتبت أواسط التسعينيات وصدرت لاحقًا- يبدو الاحتفاء واضحًا بالقصيدة الشذرية؛ إذ يلمسُ القارئُ هذه الرغبةَ في محاكاة قصيدة الهايكو والتقاطع معها. يُسمي الشاعر أحد نصوص المجموعة «أنفاس الهايكو»، حيث تلتقي أنفاس هذه التجربة الشعرية مع أنفاس المرأة التي يخاطبها الشاعر. النص مركب من عدة قصائد قصيرة تمثلتْ روحَ الهايكو، عبر اعتمادها على نظام الأسطر الثلاثة في الغالب، والتقشف اللغوي والتكثيف في بناء الصورة، في احتفاء بثيمة واحدة «الأنفاس». غير أن الشاعرَ أخذ معه بلاغته العربية جهة الشرق الأقصى؛ ليمزجها بتجربة أدبية لها خصوصيات مختلفة. فالهايكو نص أدبي يهرب باستمرار من البلاغة، ويقوم على المشهدية الواقعية. وتناغمًا مع «أنفاس الهايكو» تأتي معظم النصوص المتبقية مكثفةً، أقصرها ينتهي في سطر واحد، وأطولها لا يتجاوز الصفحة.
خليط كيميائي متجانس
منذ الثمانينيات يزاوج أمجد ناصر في كتابته بين الجملة القصيرة المقفلة، والجملة الطويلة المفتوحة إيقاعيًّا ودلاليًّا، مستفيدًا مما منحته قصيدة النثر من انسيابية في بناء الجملة الشعرية، وتخفُّفٍ إن على مستوى الموسيقا أو التركيب. في مختبره الشعري سيضع أمجد الشعرَ والسردَ على منضدة التجارب، لا ليجعل الثاني رديفًا للأول، أو شكلًا خارجيًّا لكتابته، بل كينونة متماهية معه. هذا الخليط الكيميائي المتجانس هو ما سيمنح قصيدة أمجد ناصر روحًا منفتحةً وجسدًا مندفعًا وقابلًا للتمدد.
لكنه في عمله «حياة كسرد متقطع» 2004م سيذهب بالسرد إلى حدوده القصوى، مركزًا في بناء النص على الجمل الطويلة بكامل توابعها، أو الجمل الكبرى المركبة، متجاوزًا القواعد العامة لقصيدة النثر التي ظلت متداوَلةً على مدار سنوات طويلة في العالم العربي، استنادًا على تنظيرات نقدية فرنسية. في قصيدته «رُقُم طينيّة» المهداة إلى ليلى الشماع يتعمد أن يستهل نصه بجملة شعرية سردية من أربع وعشرين كلمة، يفصل بين جزأيها ظرف مبهم: «رأيتُها أولَ مرةٍ في ساحةٍ شعبيةٍ بعمانَ حيثُ تختلطُ أصواتُ معاوني سائقي الحافلاتِ بباعةِ اليانصيب بدمدمةِ الأرواحِ الغابرةِ في المدرّجِ الروماني».
وفي قصيدة «نجوم لندن» سيختم النص بجملة أطول، تتكون من اثنتين وخمسين كلمة: «في لندن التي أقيم فيها الآن بقناع شخص وهمي فارًّا من نبوءة أمي التي يرن فيها اسمي الأول كذكرى مفزعة «يا يحيى لن تعرف نفسك الراحة» من الصعب، على كل حال، أن يستلقي المرء على سطح بيته القرميدي المائل ويعدّ نجومًا هجرت مواقعها». وعلى الرغم من هيمنة السرد في هذا العمل الشعري، فإن الصورة حاضرة بشكلٍ لافت، لكنها صورة ذات إطار كبير، وأحيانًا صورة واحدة عديدة الأجزاء. ستكون المشهدية هي الإطار العام الذي يطبع نصوص الكتاب. ربما هذا ما سيجعل الشاعر سعدي يوسف ينتبه إلى العامل البصري عند أمجد ناصر، فحين توقف عند نص «فتاة في مقهى كوستا» عدّها قصيدة صورة بالأساس: «قصيدة فتاة في مقهى كوستاريكا يحق لها بأن تتباهى بأنها قصيدة صورة. ليس ثمت من كلام في النص». لقد عدَّها سعدي «إنجازًا فنيًّا باهرًا، عنوانه: التخلي عن الكلام».
الكتاب عمومًا هو تصوير للقطات من حياة الشاعر في لندن، بأماكن متنوعة، حيث المقهى، الشارع، الكنيسة، الجسر، الساحة، المحل والمقبرة. ثمة بالمقابل استعادات للقطات أخرى من المكان الآخر، ومن الماضي تحديدًا، فضلًا عن التوقف في أكثر من نص عند الأم الراحلة، والأب والجدة والأصدقاء، بحنين ممزوج بالشجن، مع التأسف على انصراف العمر.
استطاع أمجد ناصر منذ البدء، رغم توجهه الأيديولوجي ونشاطه السياسي، أن يجعل السياسةَ ممراتٍ صغيرةً في أرض الشعر الشاسعة، لا جدرانًا وتلالًا تحدُّ رؤية الشعر. لم يفرد في تجربته الشعرية حيزًا كبيرًا للكتابة المباشرة عن فلسطين، لكنه في المقابل فعل ذلك على أرض الواقع. كانت المسألة إليه انخراطًا ميدانيًّا، لا قضية أدبية فحسب؛ لذلك انضم إلى النازحين الفلسطينيين بلبنان باكرًا، لا بوصفه شاعرًا، بل فدائيًّا. وفي حقل الثقافة والإعلام اختار أن يعمل في جريدة «الهدف» التي أسسها غسان كنفاني. وفي زمن الحصار عمل مع الإذاعة الفلسطينية.
في الشعر كما في السرد، منذ أول كتاب حتى آخر كتاب، كان السفر وتعدد الإقامة موضوعة للكتابة عند أمجد ناصر، وسببًا لها؛ لذلك سمًّاه الشاعر عباس بيضون «السندباد البري». هذا الترحال، أو الإقامة بين جغرافيات متعددة، لم يكن حكرًا على شاعر بعينه، بل كان قدر جيل من الشعراء العرب، توزَّعت حياتهم بين بلدان بعضها عربي، وبعضها في قارات أخرى. لم تكن هجرة الشعراء لأسباب سياسية أو اقتصادية فحسب، بل كانت في معظم الحالات رغبة داخلية، منتهاها البحث عن هواء آخر، تحت سماء أرحب. الإحساس بالضيق شيء متجذر لدى الشاعر باستمرار، فالذي راهن على كسر القواعد المتداولة للكتابة الشعرية، يحمل في داخله رهانًا موازيًا على كسر الحدود الجغرافية، ومن ثم تشسيع مساحات الحياة.