الشعر في الزمن الافتراضي والعودة لزمن الترحل
ليست مصادفة نسوقها على سبيل الطُّرفة أن نقارن بين الشعر المنشور على منصات التواصل الاجتماعي والمعلقات قبل ظهور الإسلام، من حيث طريقة تفاعل المتلقي معها. في زمن العولمة والحداثة الفائقة، هناك عودة لحالة تَرَحُّل، تجعل تداول الشعر يعتمد على وساطة الفضاء الاحتمالي والرسائل المشفرة كهربائيًّا وإلكترونيًّا في عالم غير منظور، مثلما كانت العرب تتداول الشعر الجاهلي شفاهيةً عبر قصائد تترحل من راوٍ لآخر، من مضارب قبيلة لأخرى، من دون أن يلتقي السامعُ الشاعرَ صاحبَ القصيدة، أي بقدر ضئيل من التفاعل الملموس. يُرْوَى أن العرب في الجاهلية كانت تعلق طوال القصائد على أستار الكعبة -أي على جدرانها- واليوم ينشر شعراء العالم كله -بمن فيهم شعراء العربية- قصائدَهم في العالم الافتراضي، على الجدار الافتراضي لمنصة التواصل الاجتماعي «فيس بوك».
فرضيتي أن عملية إذاعة الشعر في الحالين تخلصان إلى محاولة التواصل بين أفراد وكيانات لا يرى بعضها بعضًا، أو لا يعرف بعضها بعضًا (عبر نقر صفحات على الحاسوب، أو عبر الرواية عن شاعر في غياب جسده)، وأن تلك المحاولة تتم في سياق ترحُّل مستمر للكلمات والدالات في فضاء لا متناهٍ (العالم الكهربائي الإلكتروني الافتراضي، أو الصحراء). وتتوسل محاولات التواصل في الحالين بكيانات افتراضية أو معنوية غير معينة، وإن كانت توسط في سعيها هذا عوامل مادية. الآن يمثل الحاسوب، أو صورة «جدار» فيس بوك، وسيطين ماديين «ينقلان» الشعر، كما كان التفاعل في الأسواق، وأستار الكعبة، وجدارها مساحات ملموسة تحمل الشعر في زمن المعلقات. في يومنا هذا، يترحل الشعر في العالم الافتراضي والفضاء الطوباوي لشبكة المعلومات، بين الأسماع والأبصار، مثل المعلقات حين كانت تتنقل بين الأسماع والصدور: من أستار على جدار قديمًا، إلى شفرات على جدار الأثير الافتراضي في يومنا هذا.
مواقف البلاغة قديمًا وحديثًا
كتبت في موضع آخر عن الفضاء الطوباوي كما يتمثله الشعراء في إحالاتهم إلى منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيس بوك، حتى إن مصطلح «شعراء الفيس بوك» صار متداولًا وذا مدلول حقيقي. والحق أن كثيرًا من شعراء العربية اليوم يعتمدون على هذه المنصة الافتراضية اعتمادًا أساسيًّا لنشر شعرهم. لكني أتناول هنا الشعرَ وتداوله من حيث هو إعادة إنتاج وإعادة اختراع لمواقف خطابية وبلاغية في إنتاج الشعر تعود إلى ما يزيد على خمسة عشر قرنًا مضت، أي منذ العقود الأولى لميلاد الثقافة العربية كما عرفها الحجاز. ليس المقصود هنا هو الكتابة عن فيس بوك، بقدر ما هو التأمل في توازيات مدهشة بين موقف الإنسان أمام جدار ذي أهمية رمزية في القرن الخامس الميلادي، وموقفه أمام «جدار» الفيس بوك الافتراضي في القرن الحادي والعشرين، وكذلك التمعُّن في دور الشعر الحاسم في كلا الموقفين.
إن تعليق القصائد على أستار الكعبة أو على جدارها يشبه «التعليق» على المنشورات المطروحة على منصة التواصل الاجتماعي، وكذلك يشبه نشر الشاعر لقصيدته على صفحة افتراضية، أو على «جدار»، حسب المصطلح الأميركي الذي صاحَبَ ظهور فيس بوك. وجه الشبه هو أن تداول القصيدة في الحالين يتم عبر إيداعها من دون وسيط أو حاجز في مكان عام: الحرم في الجزيرة العربية في حالة المعلقات، في القرنين الخامس والسادس للميلاد، والفضاء الافتراضي في العالم كله في حالة الفيس بوك الآن. يستدعي النشر التقليدي في الكتب مجموعة من الوسطاء: فلا بد من ظهور الكتاب عبر مطبعة، في سوق للنشر، متجسدًا في مكتبات، ولا بد من مستهلكين للثقافة ومتلقِّين يبذلون مجهودًا في القراءة والتأويل. اما النشر على جدار الكعبة أو على جدار فيس بوك فيستدعي أقل قدر من المجهود وأقل حجم من الوساطة بين المتكلم الناطق بالشعر والمُخَاطَب (بفتح الطاء) المُبَلَّغ بالشعر، حتى إن كلًّا من الشاعر والقارئ تكفيهما بضع ضغطات ونقرات على الحاسوب ليتواصلا.
المناجاة على الملأ
تستدعي صورة الشعر على الجدار مفهومَ المناجاة. وفقًا للروايات التي وصلتنا عن الممارسات الخطابية في بدايات الحضارة العربية بمكة في القرن الخامس الميلادي، فإلى جانب إلقاء الشعر وتعليقه على الأستار، كان الطواف حول الكعبة مصحوبًا بالمناجاة. فكان زائر مكة يستشعر المركزية المقدسة للمكان وقربه من دائرة الآلهة القديمة، وبالتالي كان يتواصل مع تلك الدائرة، إما بشعائر يؤديها البدن مثل الطواف وذبح القرابين، أو بمخاطبة تلك الآلهة سرًّا أو جهرًا، وتلك المخاطبة هي ما أعنيه بالمناجاة. من المعتاد أن نتصور المناجاة بوصفها حديثًا يدور داخل النفس، وبواسطة الذهن لا اللسان، بمعنى أن المناجاة لا يسمعها أحد، وأنها تتوجه سرًّا إما من النفس إلى ذاتها، أو من النفس إلى الدائرة المقدسة. لكن الحقيقة أن هذا التصور يفتقر في رأيي إلى الدقة. إن تدقيق مصطلح المناجاة يفسر التوازي الذي أزعمه بين مناجاة زائر مكة للآلهة الجاهلية ومناجاة السابح على صفحات الإنترنت مخاطبًا نفسه.
لغويًّا، تُشتَق «المناجاة» من مادة «نجو» التي هي أيضًا قريبة من مادة «نجأ». يشير «نجا» فيما يشير إليه إلى قطع فروع الشجرة أو سلخ الجلد من البدن. أما «نجأ» فتشير إلى التمعن في البصر. نجأَ شيئًا تعني أَحَدَّ النظر إلى ذلك الشيء. أزعم إذًا أن المناجاة ليست حديثًا في السر إلى الذات أو إلى دائرة المقدس. إنما هي: أولا- حديث خفيض الصوت إلى الذات أو إلى المقدس، لكنه حديث يمكن أن يسمعه الآخرون. والدليل على ذلك مئات المرويات التي تخبرنا بالتفصيل عن نجوى شخصيات عديدة في التاريخ العربي. ثانيًا- المناجاة حالة انسلاخ الذات وانشطارها إلى أكثر من ذات، مثلما ينشطر الفرع عن الجذع، والجلد عن البدن. ثالثًا- المناجاة ليست فقط إسرار الذات بكلام إلى مخاطب آخر، أو إلى شطر آخر من الذات، بل هي أيضًا تمعن في النظر، في توجيه البصر إلى ذلك الشطر أو تلك الذات المغايرة. من هنا يتضح التوازي بين مناجاة الشاعر نفسه، متوجهًا بالخطاب افتراضيًّا إلى حبيبته ونفسه معًا، أو مناجاة الزائر متوجهًا إلى الأصنام، وبين مناجاة الشاعر نفسه على فيس بوك.
يقبع الشاعر وحيدًا أو متوحدًا قبالة شاشة حاسوب أو هاتف، ويدق في صمت لوحة المفاتيح، لكنه في الحقيقة لا يناجي نفسه وإنما يُشهِدُ الحاسوب على مناجاته. يبدو الأمر مناجاة للنفس في الظاهر، لكن واقع الأمر أن الشاعر يكتب على لوحة «على مسمع» أو بمعنى أصح على مرأى مفترض ممن هم قريبون منه في الفضاء الاحتمالي. تمامًا مثلما كان زائر الكعبة يناجي الأصنام فيسمعه الزوار الآخرون. أي أن عملية المناجاة الافتراضية القديمة كانت تقتضي حضور آخرين (بشر) وأغيار (جان، أصنام، شياطين الشعر). اليومَ يمتزجُ دورُ الآخرين من البشر والأغيار من الشخصيات الغيبية، فكلا الدورين اليوم ينتمي إلى العالم غير المرئي، عالم الغيب. إن الشعر المكتوب في الفضاء الافتراضي يخاطب بشرًا لا يراهم الشاعر. كما لا يدري الشاعر إن كان تفاعل هؤلاء المُخَاطَبين سلبيًّا مثل تفاعل من يجاور شخصًا يناجي صنمًا، أم تفاعلًا نشطًا مثل تفاعل جان ينقل المنطوقات ويحورها، أم تفاعُلَ مستخدمٍ لشبكة المعلومات يعيد مشاركة قصيدة أو يحورها أو يضيف إليها تعليقًا. المؤكد عندي هو أن سياق تداول الشعر إلكترونيًّا اليوم يعيد خلق ظروف أشبه بظروف العصور الأولى للتعبير الفني باللغة العربية في الجزيرة.
تمثلات إلكترونية لموقف الشعر المعاصر
يكتب الشاعر المصري إبراهيم البجلاتي في قصيدة لم ينشرها سوى على الفيس بوك: «كلما دخلت على صفحتي «أو» حائطي/ يقول لي «مارك»:/ وماذا يدور في رأسك؟/ أجبته كثيرًا/ لا شيء يدور في رأس يدور/ الآن أحب أن أقول له:/ وماذا عن الحياة الداخلية للنبات؟».
يبدو هنا كأن شيطان الشعر الجاهلي قد تحول في القرن الحادي والعشرين إلى مُخاطَب أعلى، لا يهمس بالشعر بل يستثيره بأسئلته. فيخرج الشعر كإجابة عن سؤال، ثم كحوار هاجس مع المُخاطَب المتخيَّل المُجَسَّد تحت اسم مارك (زوكربيرغ) مؤسس منصة فيس بوك. يخاطب البجلاتي زوكربيرغ وكأن الأخير مَلَك الإنترنت أو الوسواس الخناس: كلاهما ينقل الأفكار والخواطر في لمح البصر، أو يبث الهواجس والهلاوس وينشرها. وكلاهما يهتم «بما يدور في رأس» الشاعر.
في الثقافات العربية نزعة تجسيدية تشخيصية ممزوجة بميل للسخرية تصور منصة فيس بوك وكأنها لعبة تحت سيطرة شخص واحد، وهو رئيس شركة فيس بوك، وكأنه مدير صفحة على تلك المنصة يتابع بنفسه كل تفصيلة تنشر. وفي مقابل الكم الكبير من التعليقات التي تشير إلى «مارك» (زوكربيرغ) أو تخاطبه شخصيًّا بالعربية، لا نجد نظيرًا لهذه الظاهرة بمثل تلك القوة في اللغات الأوربية. لكن في الأسطر السابقة لإبراهيم البجلاتي إخراج بصري لفكرة المناجاة كما طرحتها. فالشاعر يواجه «حائطه» على الفيس بوك ويشعر بخواء فكري («لا شيء يدور في رأس يدور»)، وهو يشارك قُرَّاءَه الافتراضيين هواجسَه وكأنه يهمس بها لزوكربيرغ، مثلما يناجي الزائرُ صنمًا من وراء ستار، أو يتبادل حديثَ وساوس مع شيطان نفسه، في مكة في القرن الخامس قبل الميلاد، فيسمع الناس شعره في الأسواق ومضارب القبائل.
مواجهة الجدار الاستعاري كتجسيد لمنصة في الفضاء الافتراضي تشبه موقف الشاعر أمام ضميره أو شيطان شعره، لكن بمفردات القرن الحادي والعشرين. يقول البجلاتي بعد مناجاته زوكربيرغ: «في مواجهة الزمن/ الآن يقولون لنا:/ الزمن لم يعد موجودًا/ الزمن لم يكن موجودًا قط/ الزمن اختراع».
يتحول الصوت الشاعر من مناجاة القوة الخفية في الفضاء الافتراضي متجسدةً في زوكربيرغ إلى مناجاة قارئه وهو يقف في مواجهة قوة كونية أخرى، الزمن. لكنّ خلافًا لما تطرق إليه شعراء العرب قديمًا من الإشارة إلى الدهر أو الزمان، يصف الشاعر المعاصر لحظة غياب اليقين في مسلمات الوجود الأساسية، حتى مسلمة وجود الزمن، بقوله: «الزمن لم يكن موجودًا قط». إن الشك المطلق إحدى علامات عالمنا ما بعد الحداثي، وتعلق الشك بالزمن يزيد ما بعد الحداثية تلك. فما بعد الحداثة تنقض مرويات تأسست عبر العقود، أي في مدى الزمن، حول الهوية القومية أو تفوق الحضارة الغربية. ومن ثم، يتأسس نقدها ونقضها على شيء من التحسب تجاه سلطة الزمن، وعلى النتيجة التلقائية لنقد الزمن: الاحتفاء بالمكان والفضاء كعامل مادي أكيد، يمكن تأسيس يقين ما عليه. ربما لهذا اختتم الشاعر تلك الجولة من التأملات والمناجاة الحائرة بتساؤل عن عنصر مادي متجذر في المكان: «وماذا عن الحياة الداخلية للنبات؟»
إن الشعر في موقف الشاعر أمام الجدار الافتراضي يعود بنا لوهلة لموقف الشاعر أمام جدار الكعبة، في بدايات تشكل اللغة العربية. ومبدأ العودة لموقف «أولي» يغري بالتأويل -الذي هو حرفيًّا عودة بالمعنى إلى حالة «أُولى». يتجسد هذا التصور في قصيدة لشاعر مصري آخر هو أحمد أنيس، يصف فيها سطرًا شعريًّا أساسًا بكونه يصلح «كبوست على فيسبوك». أما السطر الذي يؤسس عليه قصيدته -وهو في الواقع موجز لأساس قسم كبير من الشعر منذ صاغ البشر شعرًا باللغة- فهو ببساطة: «لست بخير/ سبعة أحرف تفي بالغرض». نشهدُ هنا عودةً لمبدأ اللغة: الأحرف، ولامتزاجها بالأرقام السحرية والمقدسة (سبعة)، بل مصادفة استخدام الشاعر للفظ «الغرض» الذي يعود لبدايات نظرية الشعر العربي، حين فصَلَ النقاد مضامين الشعر كأغراض. تخلق هذه العودة توازيًا في الثانية نفسها بين بدايات الشعر بالعربية في القرن الخامس الميلادي وحال الشعر في قرننا هذا، أمام أدوات حاسوبية تعتمد -لا الحرف- ولكن النقطة على الخط، والثنائية الرقمية (القبول والرفض، أو واحد وصفر) التي تأسس عليها بناء لغة الحاسوب وبنية الفضاء الافتراضي.
إن الذاكرة البشرية التي بنت الشعر على الحرف تسترجع لا شعوريًّا تلك «الأولية» السحرية لطاقة اللغة، التي تمنح الشعر تأثيره الفائق، حين تقف أمام جدار الفيس بوك أو ستار/ شاشة الحاسوب. فتبدو كأنها تدرك -لا شعوريًّا أيضًا- أن الفضاء الافتراضي مثل صحراء «مبنية» على ذرة من رمل، أو شعر مبني على حرف؛ إذ هو فضاء مبني على نقطة، وشفرة مبنية على رقم. لكن الشعر كذلك -بالطبيعة- مسرح المفارقة، فهو ليس مجرد مساحة تُراوِح فيها الذاكرة البشرية بين زمنين يفصل بينهما ستة عشر قرنًا، بل هو منصة تتأملُ فيها الذات قصورَها والهوات الفاصلة بين شوقها للأصول الأولية لطاقتها اللغوية والدلالية في رمل الحروف، وبين تَوْقِها إلى لحظات ذروة الفاعلية الدلالية والانتشار الأوسع عبر الحروف الرقمية الافتراضية، بالفضاء الأزرق، في يومنا هذا. تلك المساحة الفارقة والمفارقة معًا، على حد قول أحمد أنيس: «تكفي لفضح حجم التناقض/ بين سحر الحروف وعجزها/ أو بين عجزك وسحر اللغة».
ختام مؤقت وافتراضي
تتبدل حياتنا الإلكترونية في الفضاء الافتراضي الأزرق بسرعة يصعب معها التنبؤ بتأثير تلك الحياة في شكل الشعر وفاعليته وأهدافه وأنماط استهلاكه في الأعوام القليلة القادمة. المؤكد هو أن «الشعر الإلكتروني» أو «الشعر الافتراضي»، أي المكتوب مباشرة على منصات التواصل الاجتماعي، ينتشر في أرجاء العالمين المادي والأزرق في اللحظة نفسها التي يدق فيها الشاعر زر «انشر». وهو شعر يكررُ بتنويعات معاصرة مواقفَ وفعالياتٍ دلالية وشعرية تعود إلى لحظة نشوء اللغة ومولد مبدأ الشعر، وكأنه يمحو فكرة الزمن. وتأمل النموذج الأولي لموقف الشاعر العربي القديم أمام ستار أو جدار ذوي قيمة رمزية، في حالة مناجاة، يتيح لنا تأويلًا مفارقًا للموقف البلاغي للشاعر العربي المعاصر، ولعناصر ذلك الموقف من كتابة رقمية على جدار افتراضي تحاكي المناجاة، وإن كانت تنشر محتواها على الملأ.