السودان وتحديات المرحلة
السودان اليوم على أعتاب مرحلة انتقالية جديدة، هي الخامسة منذ نيله الاستقلال. أولى مراحل الانتقال كانت عقب خروج المستعمر، وثلاث جئن عقب الإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية؛ عبود والنميري والبشير، وأخرى بعد التوقيع على اتفاقية السلام الشامل بين حكومة البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان. وكل مراحل الانتقال هذه توصف بالحرجة؛ لأنها مليئة بتحديات ومهام جسام، يمكننا تصنيفها مجموعتين:
المهام المتعلقة بمعالجة التدهور الناتج من السياسات والممارسات الخاطئة الموروثة من الحقبة السابقة للمرحلة الانتقالية. أما مرحلة الانتقال الراهنة/ الخامسة، فإن الأولوية القصوى هي وقف الحرب الأهلية ومخاطبة جذور أسبابها لبسط السلام الشامل. ومن المهام الأساسية الأخرى:
أولًا- تنفيذ كل التدابير التي تحقق قومية أجهزة الدولة واستعادتها من براثن دولة الحزب إلى دولة الوطن، بما في ذلك تصفية مواقع تحالف الفساد والاستبداد، وإبعاد كل القيادات الفاسدة من مواقع المسؤولية، ورفع الظلم وجبر الضرر عن ضحايا انتهاكات النظام السابق، ويشمل ذلك ضحايا التعذيب والمفصولين سياسيًّا وتعسفيًّا من الخدمة المدنية والعسكرية، ومحاسبة كل من ارتكب جرمًا في حق الوطن والمواطن، وذلك وفق القانون بعيدًا من التشفي وروح الانتقام.
ثانيًا- تنفيذ برنامج اقتصادي إسعافي؛ لرفع المعاناة عن كاهل المواطن، ووضع لبنات مشروع اقتصادي تنموي لإنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي.
ثالثًا- إطلاق مبادرة العدالة الانتقالية ومبادرة للمصالحة الوطنية بين كل المكونات والتيارات السياسية والاجتماعية.
رابعًا- استعادة توازن علاقات السودان الخارجية.
خامسًا- عقد المؤتمر الدستوري بمشاركة كل المكونات السياسية والقومية والجهوية لتوافقها على إعادة هيكلة الدولة السودانية بما يزيل التهميش ويحقق تطلعات هذه المكونات، والتوافق على الثوابت الواجب تضمينها في الدستور الدائم.
سادسًا- إجراء التعداد السكاني.
سابعًا- إجراء انتخابات على المستوى المحلي لضمان تدفق الخدمات، وإعداد قانون انتخابات مجمع عليه لإجراء الانتخابات العامة في نهاية المرحلة الانتقالية.
المجموعة الثانية من مهام المرحلة الانتقالية، تُعنَى بمخاطبة القضايا المصيرية/ التأسيسية المؤجلة منذ حقبة الاستقلال، قضايا بناء وتأسيس دولة ما بعد الاستقلال الوطنية السودانية. إن واقع التعدد والتنوع الثري الذي يميز السودان، من حيث الأعراق والقوميات، والأديان وكريم المعتقدات، والثقافات واللغات والحضارات، ومستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي…، هذا الواقع الغني، له القدح المعلى في تشكيل وصياغة هذه القضايا المصيرية/ التأسيسية، التي تشمل: أولًا- تأسيس شكل الحكم الملائم الذي يحقق اقتسامًا عادلًا للسلطة بين مختلف المكونات القومية والجهوية في السودان، ويحقق ممارسة سياسية معافاة في ظل نظام ديمقراطي تعددي. ثانيًا- توزيع الثروة وبرامج التنمية على نحو يرفع الإجحاف والإهمال عن المناطق المهمشة، والأولوية هنا لمناطق التوتر العرقي والاجتماعي، وذلك في إطار المشروع الاقتصادي العلمي الذي يراعي عدم تدهور مواقع إنتاج الفائض الاقتصادي، في الأطراف، وعدم استنزاف مركز ومصدر الخبرة العلمية، في المركز.
الهوية وعلاقة الدين بالدولة
ثالثًا- إدارة التنوع والتعدد الإثني والديني والثقافي وتقنينه، وصولًا إلى حسم قضية الهوية وعلاقة الدين بالدولة. إن تنفيذ هذه المهام هو المدخل لكسر الحلقة الشريرة بتجلياتها المعروفة في متوالية حكم مدني ديمقراطي، وحكم عسكري دكتاتوري، التي تعكس جوهر الأزمة السودانية المزمنة، حيث العجز والفشل، منذ فجر الاستقلال حتى الآن، في التوافق على مشروع قومي لبناء الدولة السودانية. وكل مراحل الانتقال الأربع السابقة اتسمت بالفشل الذريع في إنجاز هذه المهام، فلم نَبْنِ دولة ما بعد الاستقلال الوطنية، بل فرطنا في وحدتها بانفصال جنوبها وتأسيسه جمهورية جنوب السودان.
هنالك عدد من التحديات المهمة والخطيرة تواجه المرحلة الانتقالية الراهنة، تستوجب وضعها في مقدمة الأولويات والتعامل معها بكل الجدية المطلوبة، وإلا شكلت مدخلًا مريحًا للانتكاس بثورة الشعب السوداني المجيدة. أولى هذه التحديات أن انتصار الثورة يظل جزئيًّا وغير مكتمل ما دام توقف عند الإطاحة برأس سلطة تحالف الاستبداد والفساد، أو غطائها السياسي، في حين أنه لا يزال جسد هذا التحالف باقيًا ينخر في عظام الثورة وينسج خيوط غطاء سياسي بديل؛ لينقض ويحكم من جديد بقوة الدم المسفوح. حتى إذا لم يتمكن جسد هذا التحالف من استرداد السلطة، فلن يهمه أن تدخل البلاد في نزاع دموي شرس، سيكتسب الديمومة بفعل عدد من العوامل الداخلية والخارجية. فداخليًّا، من الصعب على تحالف الفساد والاستبداد أن يبتلع ضياع ما راكمه من ثروات ضخمة خلال ثلاثة العقود الماضية. وهي ثروات لم تُجنَ بكدح عرق الجبين أو بتدوير رأس مال متوارث، إنما باستغلال يد السلطة في نهب موارد البلاد وأحلام مستقبل شبابها.
وفي ظل حقيقة أن هذه الثروات لم تُمس حتى اللحظة، ويجري استخدامها في التحضير الجدي للانقضاض، وأن الجرائم البشعة التي ارتكبت في الثلاثين عامًا الماضية ثم إبان حراك الثورة، لا تزال من دون مساءلة أو عقاب، وفي ظل وجود قوى ضمن هياكل السلطة الانتقالية الحالية، تدين بالولاء لتحالف الفساد والاستبداد، وتسعى للانتقام من الشعب ومن ثورته؛ يمكننا الدفع بقوة منطق حديثنا حول إمكانية انقضاض هذا التحالف على الثورة. ويعزز من هذه الإمكانية، استقطابات المحاور الخارجية وحربها بالوكالة على أرض السودان. فبعض هذه المحاور يواصل تمتين علاقاته مع مجموعات واسعة تتشارك الرؤى وعموميات الفكرة؛ لخلق غطاء سياسي جديد يعمل على الاستفادة القصوى من جسد تحالف الفساد والاستبداد الذي لا يزال متمكنًا في مفاصل الدولة، تمهيدًا للانقضاض على الثورة، في حين تجتهد محاور أخرى، مضادة، للانتصار لمصالحها، معلنةً انحيازها للثورة، لكنها تستخدم كثيرًا من التكتيكات التي يمكن أن تضر بهذه الثورة.
التحدي الخطير الآخر هو غياب الرؤية الموحدة وسط قيادات الثورة تجاه الواقع السياسي الراهن الذي أفرزته الثورة، وتجاه موازين القوى في البلاد، ودور المحاور الخارجية المشار إليها آنفًا. فبعض هذه القيادات يدرك أن تحقيق كثير من شعارات الثورة يصطدم بتعقيدات جدية في الواقع، وأن الموقف السليم ليس في التنازل عن هذه الشعارات، بل في القناعة بأن تحقيقها لا يمكن أن يتم بضربة لازب، إنما عبر ممارسة التكتيكات الذكية التي تمنع نمو تحالف الثورة المضادة وتماسكه، وفي الوقت نفسه تعمل على تقوية عود قوى الثورة حتى تتجاوز هذه التعقيدات. لكن بعض قيادات الثورة الأخرى ترى في هذا الموقف تخاذلًا وتهاونًا تعتقد أنه سيهزم الثورة.
أعتقد بقليل من الهدوء ونبذ التشنج، وبرفض التخوين والاتهامات الجزافية وسط قيادات الثورة، وبالتقييم الموضوعي لدور الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الثورة، وبمزيد من التركيز على الأولويات وعدم الغرق في الخلافات الشكلية، وبالتمسك بمبدأ أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأن الوطن فوق الجميع ويتهدده خطر داهم؛ أعتقد أن التقيد بهذه المعاني وهذه المبادئ هو المخرج إلى بر الأمان. وفي هذا الصدد، علينا، وبخاصة من هم في موقع القيادة، الانتباه من خطر الوقوع في فخ الشعبوية الضارة، فنغير من مواقفنا بحسب الشعارات المطروحة في الشارع، في حين القائد الحقيقي، كما تعلمنا من التجارب والدروس، هو من يحس بنبض الشارع فيحوله إلى موقف يتماهى مع هذا النبض ويعبر عنه، مستخدمًا ملكاته القيادية في التحليل ودراسة الواقع وكيفية التعامل معه حتى يتحول ذلك النبض إلى مواقف ملموسة.
جيوش وعدد من الميليشيات
تَحَدٍّ ثالث، وهو أيضًا خطير جدًّا، يتمثل في أن السودان حاليًّا فيه أكثر من خمسة جيوش وعدد من الميليشيات المسلحة، إضافة إلى ما تواتر من أنباء حول بعض الميليشيات الموجودة خارج السودان، واستعداداتها لدخول البلاد لنصرة هذا أو ذاك في صراعات السلطة. هل نغمض أعيننا عن هذه الحقيقة، ونواصل التعامل مع قضية السلطة، كأن هذه الجيوش غير موجودة، أم نبحث في كيفية التعامل الحكيم معها حفاظًا على استمرار السلمية ومنع تكرار تجارب ليبيا وسوريا واليمن؟
أخيرًا، ونحن ندشن اليوم مرحلة الانتقال الخامسة في البلاد منذ نيلها الاستقلال، وبعد أربع مراحل أخفقت في أن تنجز مهامها وتحقق أهدافها، يستوجب علينا جميعًا؛ القوى السياسية والمدنية والمسلحة، وقوى المجتمع المدني، التعامل مع مرحلة الانتقال الخامسة هذه بوصفها قضية مصيرية وأساسية تخاطب جوهر ما يمكن أن يحقق أملنا في بناء الدولة السودانية الحداثية والمستقرة، لا أن يُكتَفى بقصر التدابير الانتقالية على مجرد التغيير السطحي والشكلي، وحصره في إعادة توزيع كراسي السلطة بين القوى التي كانت تعارض النظام البائد. إن القول بنجاح هذه المرحلة الانتقالية أو تلك، لا علاقة له بالمناصب والمحاصصات، إنما يقاس بتنفيذ مهامها الأساسية. والنجاح في تنفيذ هذه المهام يضمن الحفاظ على وحدة بلادنا والسير بها نحو مرافئ التقدم والرقي، في حين الإخفاق هو أساس الحرب الأهلية وتفتت الوطن. وأي مشروع للتغيير، مثل الذي تطمح إليه ثورة الشعب السوداني، لا يضع هذه الرؤية نصب عينيه، سيظل مجرد وهم يحرث في البحر.