بواسطة عبيدو باشا - ناقد لبناني | سبتمبر 1, 2021 | مسرح
الكلام عن التقنية (العرض الرقمي)، استعمالها، ضرورة استعمالها بالمسرح العربي، دخول في نمط آخر، لا نقاط استدلال واضحة بعد في الطريق إليه. فورة كلام، لا يعلم أصحابه أن كلام الفورة هو غير كلام الانتقال. الأخير أدوار. الأخير ولاية، ولايات متداخلة في ولاية واحدة. تغير في السمات، لن يحدث إلا إذا امتلك أصحابه ثقافات عالية وتقانة عالية وحاضنات حداثة، لا حاضنات حديثة. حاضنات حداثة بهَمٍّ حداثويٍّ، ما يتطلب العلم والتخطيط والقيادة بطرق عقلانية، يقوم عليها قادة لا طوفان كلام ولا غمرة كلام.
لن تقوم التقنية بالمسرحية، بالمسرح ببلاد العرب، بتحولاتها الجذرية في بنية السلطة، إلا بالعمل الموازي أولًا. واختبار العمل الموازي ورفع الأنقاض عن المنصات المسرحية. الكلام عن التقنية وتوظيفها في المسرح، يشير إلى تفاقم الطابع الاستبدادي، لدى من يستوجبها. إنه رجفة خفيفة في جناح الطائرة، ما دام طارحوه لا يمتلكون أسباب التحول ولا شروطه. ويوافق بعضهم على أن المسرح لم يحظَ سوى بالجوع، ثم بالموت من الجوع. كجلال خوري، أحد أبرز المنظرين المسرحيين، الذي رأى أن المسرح هو السجن الأكثر ألفة.
الكلام عن التقنية، كلام يفيض على قدرة المسرح العربي. كلام تذييل لا كلام تفعيل. كلام لا يتبين قادته، إذا ما سُيِّرَت الأمور بشكل طبيعي لاتخاذ قرار القفز من الدعوة إلى التوجيه. التقنية ظل يعبر في شريط، من ضعف القدرات القتالية باللغة العسكرية. جزء من تهور؛ لأن المسرحي العربي لا يزال يكتب مسرحياته بقلم الرصاص، لا بالألوان العامرة في العروض.
استدراج لا يحرك سكون المسرحيين؛ لأنهم يدرون أنْ لا صحة في الكلام عن أن التقنية المسلحة بالافتراضات الحديثة، جزء من أناقة المسرح. إنها جزء من تأنق المسرح لا أناقته. خلاصة الحرب، أن التجهم يلخص المسرح الجاد، وأن عوامل هزيمة هذا المسرح هي في هجوم التجهم على الجدية، وفي نشر الشبهات حول الأخيرة.
لا يزال المسرح في المعمعة، مع جنوده وحشوده وكتبه وصباحاته ومساءاته. تمترس في حرب استنزاف، لم يستطع أحد فيها طي صفحة لصالح صفحة أخرى. لا نزال على المشارف. لا نزال عند أول البلاغ، بالرغم من إنتاج مسرحيات رفعت درجات المسرح درجات أخرى، في حين أحاط ضعف القدرات بمسرحيات أخرى؛ لأن توضيح توقيع التقنية في المسرح، اختراق الجوهر للجوهر لا اختراق الشكل للشكل.
لم يعد الخيال جناح المسرحي، ما عوض عن غياب جسارة المسرحي ببلاد الغرب، حين وجد في كل مسرحية كتابًا لا بد من إحراقه، حين ينتهي من كتابته؛ لأنه غرق في عاداته، بعد أن أغرق نفسه في قراءة الكتاب الواحد على مدى العمر الواحد. إما كتاب ستانسلافسكي «إعداد الممثل»، أو «أورغانون» بريشت، أو إخراج التغريب من عاتق بريشت إلى عاتق درونمات، باستبدال تغريب الأول بتبعيد الثاني.
الكتابة بالطباع
يكتب المسرحي ببلاد العرب بالقلم الرصاص؛ لأنه لا يزال يكتب بالطباع. الطباع طبع متلون، طبع واحد، لون واحد. من فرط الغباء ألا يحمي المسرحي مسرحه من أصابعه القديمة. من فرط الغباء، أن نحمي أو ندعي حماية المسرح بالتقنية ولا نزال لا نميز بعد بين جندي وضابط، بين دبابة ومدرعة وعربة عسكرية. سكن المسرح في التكنولوجيا، لن يجيء بأكثر مما نتوقع؛ لأنه لا يرقى إلى نفسه… لأن المسرح الرقمي لا يستطيع أن يحاجج ولا أن ينافس في مجالات التأثير. لا لأن طريقه صعب. لأن لا طريق له. ذلك أنه يبدو كمن يغني في صالون المنزل، ما يجعل صوته في خياله كصوت أم كلثوم.
لا يزال المسرح معلقًا على أعلى سواريه، مع من سحبه وجعله واقعًا، من روجيه عساف والفاضلين الجعايبي والجزيري ومحمد إدريس وتوفيق الجبالي وصلاح قصب وجواد الأسدي وحكيم حرب وإياد الشطناوي وعشرات الأسماء، الأحياء منهم والأموات.
ثمة تجاذب عنيف بين القائلين بالأصالة والتأصيل، والقائلين بالتطور والتحديث، والتيار المندفع نحو الصورة أو الموسيقا أو المتصاعد بالنص. تضع هذه التوجهات الفئة الصغرى، في انعكاسات طروحاتها السلبية على المسرح؛ إذ تبدو وقحة وهي تحكم على الكتاب والممثلين والمخرجين بالموت، لمجرد استخدام هذه التقنية من خلال تبسيط الطرح، لا من إخضاعه إلى التجربة والنقاش كجزئية في لعبة المسرح، وكمصدر وحيد له.
لا نقامر حين نخطط بالقلم الرصاص. لمَّا أن المسرح مقامرة. لا نغامر حين يُكتب المسرح بالقلم الرصاص، بعد أن جرى العمل بالألوان المائية والأكليريك والألوان الزيتية. عرب وجدوا بالمسرح قلاعهم وأسلحتهم بلغة مبلولة بحرائق الشك، وهم يدرون أن المحارب يقدر أن يغير سلاحه إلا أنه لا يقدر أن يغير قلبه.
الآن، يتقاسم كثيرون من المسرحيين ثلج المسرح بالكاسات، حين يقف بعض المسرحيين على الحقيقة الواضحة: إن وضع البريد الإلكتروني على بطاقة دعوة أو على ملصق مسرحية لا يصنع مسرحًا جديدًا، خلف دخان قطار التجربة السالفة. لا شيء بهذا الطرح سوى الزهو. لا يصنع الزهو مسرحية، لا يصنع الزهو مسرحًا.
استثمار مستقبلي
الكلام عنى التقنية، غير الكلام عن التكنيك؛ ذلك أن ثمة من لا يزال يرى أن المسرح مساحة مفتوحة، وأن التفكير بالتقنية يحوله إلى مساحة مظلومة، لا مساحة منسية. ثمة من يؤمن بالمسرح الفقير، ثمة من يؤمن بأن حجم المسرح من حجم اقتصاده. ثمة من يعتقد أن المسرح منشأة جاهزة، تستطيع أن تقضي فيها وقتًا ممتعًا. المسرح موسوعة، لا يشكل متنفسًا لسكان المدن فقط. بل هو استثمار مستقبلي يتطلب القيام بتدعيمه بأسباب الخلاص، من المُراوَحة أمام حفظ المصوغات والأشكال وإعادة إنتاجها بالإدارة لا بالإبداع.
المسرح فوق حجم التوقع، فوق حجم التوقعات. لا يحضر إذا قدمته في تحف المسرح المعمارية، ولكن بالدخول إليه بالجرأة والمغامرة والاكتشاف. وضعه في دليل التقنية، وشيطنته إذا لم يبدأ العمل بها، إنما يصدمه ويصدم العاملين فيه.
ثمة قيم ثقافية بالمسرح من الإضاءة إلى هندسة الصوت والسينوغرافيا والدراماتورجيا. إنها ليست مغاسل ولا حاميات لجوانب التدهور في المنشآت أو العروض. إنها آثار على طريق الوصول إلى أهمية المسرح في حياة البشر. لا يدور المسرح على مركز فارغ. وهو لا يخشى الفراغ؛ لأن أبطاله يصنعون من الفراغ شهواته. بيد أن مثاليته، هو ضد المثالية، لا تقوم على الفرص المصممة لأجله، كالإضاءة وهندسة الصوت؛ ذلك أنها قديمة العهد. بعض يفضلها على قدمها، بعض يتركها تذهب هباءً حين يستعملها بتسطيحاتها، بعض يدرجها مشروعات لا يكتمل المسرح بدونها. إنها فرص، على رقعة شطرنج المسرح تثيرها الجماعات بحيث لا تحصرها بالفائدة العقارية البسيطة، لمَّا تحولها إلى إنجاز له انعكاساته الإيجابية على المشروع الأساسي. الأساس هو المسرح، الأساس هو المسرحة.
التقنية (المسرح الرقمي) غير التقنية (الإضاءة وهندسة الصوت وهارمونيا الاستعمالات في وحدة موحدة في السينوغرافيا أو منطقة الأحداث وتدريع الشخصيات في الدراماتورجيا). لن تهيمن الأولى على الأخرى. لأن المقصود بالمسرحة ترسيخ شبكة من الأشكال في وسيلة لا قطب فيها سوى القوة الصناعية والطموحات الاستعمارية للأمم، في عهد الإمبريالية الظافرة، صاحبة فكرة المعروض المركزي على حساب ثمار النمو في المسرح.
لن يطبع المسرح الرقمي المشهد، كما تؤكد التجارب السابقة أن التقنية المساعدة، لا المسيطرة، لم تهمل منذ قديم المسرح؛ ذلك أن التقنية جرى استعمالها في المسرح اليوناني، كما جرى استعمالها في مسارح العشرينيات والخمسينيات من القرن الماضي مع بيسكاتور وبريشت. ثمة من يرى في الحاسب الآلي معقلًا لا يقتحم. ثمة من يرى فيه وفي العروض المشغلة على أنظمته سلطة بحجم فوارق اجتماعية واضحة.
وطن اسمه المسرح
المسرح العربي ليس بيتًا. المسرح العربي بيوت. المسرح في العالم العربي. لا المسرح العربي؛ لأن المسرحيين العرب لا يعملون على نهج واحد، ولا على فكرة واحدة، ولا على منهجية اتفقوا عليها، لكي يعملوا عليها. كلٌّ يودعُ مسرحه عند تخومه. كل في مساره الخاص. هذا ليس عيبًا. بالعكس. غير أن الكلام على مسرح عربي، كلام على أقراص مهدئة لا على وجبة واحدة مغذية. هذا ليس عيبًا. بالعكس. هذا جزء من ثراء المسرح، من ثراء المسرحي؛ لأن المسرح ورشات تسكت المنبهات القديمة، الأحادية، لصالح وجود الظلال الأخرى. كل ظل شرفة. كابوس المسرح أن يستغني، أن يغادر رُوحه الكوسموبوليتية. رُوح الأوطان، تخلقها وتعيش فيها، بوطن واحد اسمه المسرح.
يبقى المسرح إناء أعمى من دون الممثلين. لن يزهر مسرح من دون بشري، من دون ممثل. لا بحضور التقنية ولا بغيابها. الممثل لذة المسرح. لا لذة بغيابه، بل حِدَاد. تذوي المسارح من دون الممثلين. ممثل مهيأ لتحمل الضنك والأوجاع والحوادث، بحيث يدفع إلى اضطرام الحياة على خشبة المسرح وفي عقول الناس وقلوبهم. إنه الأساس والظل والرائحة واللون. وردة المسرح، أو من يصنع وردة المسرح.
لا يولد المسرح إلا من جسد الممثل. لا يولد المسرح إلا من روح الممثل. هذه هبته الممنوحة. هذا دواؤه الأصلي، إشارته المشعّة، فكرته، بعيدًا من أشباح التقنية المبهمة وزيف العقل بالكلام عن التقنية.
كل من يتكلم عن التقنية ببلاد لا يزال الفكر الزراعي الموسمي يتحكم فيها، ليس إلا ماقتًا للمسائل البشرية. الكلام عن التقنية في المسارح العربية محض خداع. وقت ضائع بالمسرح الضائع. هذا كلام تجربة.
لن تتغير سمات المسرح. أزهرت السينما ولم تتغير ملامح المسرح. أضحت التطورات التقنية، في مختلف المجالات، بين الحلم والحقيقة، ولم تتغير ملامح المسرح. ثم إن التقنيات في الأساس، مسجلة في صفحات القدر الذهبي للمسرح منذ القرن الماضي، ولو لفعتها غشاوة بعضهم. أكرر: بيسكاتور، لم يقدم كوكتيلًا مخفوقًا، حين استعمل الآلة في مسرحه. بريشت استعمل الفانوس السحري في مسرح تغريبه. لم يَرَيَا ذلك من التحديات العجائبية ولا من أسرار الأكوان غير الدنيوية. كريغ عنده مقارباته. آبيا كذلك. التقنيات ليست مجازًا أو بحرًا طفيفًا في المسرح. يكفي الرجوع إلى التاريخ لإعادة اكتشاف الأمر. سينما شابلن ليست سينما. سينماه كاميرا على مسرح. مسرح تقني، مجازف، جوَّاب.
المسرح ضد إدارة التوحش. المسرح الرقمي باطون مسلح على طريق المسرح العام. المسرح ليس فاهم دروس. المسرح مقدم دروس. لا يذعن لشيء؛ إذ تذعن له كل الأشياء.
بواسطة عبيدو باشا - ناقد لبناني | يناير 1, 2020 | الملف
لا يزال الاعتقاد سائدًا لدى كثير من المسرحيين، بأن المسرح بهلوان برِجْل واحدة، بهلوان يمتلك غابة من الدهشات، على الرغم من أنه بهلوان على حبل وأنه برِجْل واحدة لا برِجْلين. منذ أن أدخل السيد نابليون بونابرت المسرح إلى مصر مع الحملة الفرنسية، ومنذ أن أدخل السيد مارون النقاش المسرح إلى العالم العربي عبر لبنان، منذ ذلك لم تهدأ الزوابع حول هذا الفن العجيب. مضى مارون النقاش بالمسرحيين إلى المسرح بالأوبرا بوڤا. ما قدمه من رصيد الأبناك في إيطاليا. مسرح مثقوب بالأوبرا؛ لكي لا نقول مصلوب على الأوبرا. مثقوب أو مصلوب، وجد المسرحيون مسرحهم بالأوبرا النقاشية، وجدوا طفولاتهم غير المنقحة بالأوبرا، حين استعاروا منصتها وحين راحوا يغنون على هذه المنصة بإيقاع مؤلم. وجدوا، لأن المسرح عند العرب لم يولد من مراحل انتقال المجتمعات من أشكال علاقات متشابكة إلى أشكال علاقات أخرى، أوسع وأكثر تبادلًا للأدوار.
هكذا لم يجدوا السعادة منذ أن رندحوا أغانيهم على المنصات المسرحية؛ لأنهم قدموا المسرح كسجن لا كقميص مفتوح على كل أنواع العصف البارد، على كل أنواع العصف الساخن. بمحض قراراتهم لم يقرؤوا المسرح ولا بالمسرح، حين وضعوا المسرح في محفوظاتهم، ووضعوا المحفوظات في دوائر مصافحة المستحيلات لا تواضع المصافحات الطيبة. أخاف الأمر الأبطال على المنصات وبالكواليس وبدوائر الإنتاج؛ لأن الأخيرين لم يجدوا في المسرح بيوتهم ولا أشباه بيوتهم، حين وجدوا بالمسرح مستشفى ضخمًا تُشبِهُ غُرَفُه طبقاتِ الأوكارديون، مستشفى بأرض متخيَّلة وبسقف متخيَّل. مسرح اضطرابات رُوحية واغترابات روحية. وجدوا المسرح كالأمعاء لا تستيقظ إلا على آلام الأمعاء. لعلهم أرادوا أن يزركشوا حضورهم بالصعوبات الكبرى والانشغال بالجمل المخيفة. هكذا كووا حضورهم على الخشبات بعد أن كووا الخشبات بحضورهم.
المسرح، من هذه الزاوية، سرقة العرب النظيفة. سرقة العرب المقصوصة من بساتين المسرح بالغرب. لا بأس، لولا أنهم وجدوا بالمسرح طبقة واحدة لا طبقات. سرعة البديهة والخبرة والكهولة، كهولة المسرح ببلاد المنشأ، حيث بات المسرح محتاجًا لطبيب وممرضة وخدم وكاهن ومرشد نفسي. المسرح طبقات، لمَّا أن المسرح بالعالم العربي طبقات، محض أغراب يقف الواحد منهم على الآخر بدون توازن وبسهولة؛ لأن الوقوف وقوف على نقطة واحدة لا على نقاط. المسرح بالعالم العربي لا المسرح العربي؛ لأن المسرح مسارح يتجادل بعضها أحيانًا، ولا يتجادل في كثير من الأحيان. مسارح تضغط على حضورها، بدلًا من أن تسأل عن أي شيطان فتح باب المسرح، ثم لم يلبث أن تركه مفتوحًا، بعد أن شعر بالقوة والثقة. لم يبلغوا براهين الغرب بعد أن تعلقوا بأفكاره. هكذا: وجدوا بالمسرح ما لا يدهش، ما لا يسعد، ما لا يفيد؛ لأنهم لم يرتدوا إلى ألوان حياة عاشوها حتى الأمس وسوف يعيشونها حتى الغد. فائدة المسرح أيديولوجية عندهم. المسرح أيديولوجيا عندهم.
لم يفهم الكثيرون أن التسلية مدماك من مداميك المسرح، مرتكز من مرتكزاته. حيث راحوا يروون أسفار سيليا إلى كاليفورنيا وأسفار لافينيا إلى باريس. للتغيير علاقة بالأسفار، أسفار السكان المحليين على متون الشكوك لا أسفار الآخرين على الأرض الأخرى، على قواعد أنهم لا يعلمون ما يريدون من أسفارهم. وأن السفر، جزء من السفر تسلية لا إحساس الصعوبة بالسفر ذاته. تركوا التسلية وهم يصطنعون وجوهم بأسفار المسرح. حين نسوا التسلية نسوا الأفعال المسرحية؛ لأن لا أفعال بعيدة من التسلية.
سوف يفهمون ماركس ولينين بالمسرح. لن يجدوا إلا العسر جراء الأمر. سوف يفهمون كانط وسارتر وتفكيك دريدا وأشغال فيتاز، من خلال الضغوط لا من خلال خدمة المفقرين من أشغالهم ولا من خلال البحث عن خلاص. لم يجدوا إلا العسر؛ لأنهم تصرفوا بالمسرح كما يتصرف الموظفون الكبار بالمصارف والإدارات العامة. لم يجدوا إلا الجمل والأفعال الضريرة؛ لأن من يفهم التفكيك يفهم التركيب. سوى أن من فهم التركيب فهمه كوَبَاء فَتَّاك. تفكيك من دون تركيب، أقرب إلى سلوك الممرض بالتمريض. لا تفكيك من دون تركيب. جملة سهلة بعيدة من عملياتها. جملة تضحك، مضحكة لمن لا يراجع الفروق بين الفضول والمرح بارتياد عالم الفن، بارتياد عالم المسرح. جملة تحدث بالجحيم أو تحدث بالمأساة بعيدًا من التناغم بين المسرحي والمسرح، مسرحه. غياب التناغم يأكل المعاني من وضع الأيدي الصغيرة والكبيرة بالمسرح من دون مزج بين الدراما واللعب. تضاؤل حضور اللعب أبعد المسرح من منابعه الأولى، أبعد المسرح من غنى المسرح، من غناه.
الحلم بالتجارب
لعل المسرحيين في العالم العربي ما عادوا يتذكرون ماضي ما قام عليه المسرح مذ ناموا على خشب المسرح الضار، بعد أن توقفوا طويلًا أمام تجارب الثورة البلشفية. تجارب لم ترغب في زرع الكآبة وهي تواكب أعظم ثورات القرن العشرين. تجارب مؤمنة بالثورة إلا أنها غير جافة. الحلم بهذه التجارب جفَّف العديد من التجارب بالعالم العربي. تجارب مايرخولد ومايكوفسكي وبوبوف وستانسلافسكي. وقوف المسرحي العربي أمام هذه التجارب أو المراوحة أمامها حوَّله إلى مسرحي يشتم المارة وهو يدعوهم إلى الدخول إلى صالات مسرحه. حوَّله إلى مسرحي بين اليقظة والحلم. حوَّل المسرح إلى شكل لم يولد. حيث لا يزال المسرحيون يرون المسرح في نومهم فقط. يرونه كالحلم بالنوم الثقيل، حتى إذا استيقظوا وجدوا أن أَرَقَهم يفيض في واحدة من المفارقات المدهشة. كثير من النوم وكثير من الأَرَق. ذلك أنهم ملؤوا المسرح بالوقت الصلد لا بالطرقات الطيبة، طرقات لا تجد بإيمان المسرحي العربي بالمسرح إلا وباء يجلس على دكك المسارح، على عروض المسرح ومسودات المسرح وعروض المسرح المبيضة المسودات.
يقف المسرحيون عند زنوج المسرح، يضعون المسرح في موازين القياصرة، من لا يرون بالمسرح إلا سمكًا نيئًا لا إخوة له. ذهب الجميع إلى أبعد من سوء الحظ، بعد أن تناسوا أن معيشَ أصحاب متاع المسرح من مايرخولد إلى ماياكوفسكي وبريشت وفايس وجاري ومن لا إخوة لهم ومن لهم إخوة، معيشٌ على مفهوم أن من تقنَّع لا يستطيع الهرب من مسؤولياته ولا من أخطاء ماضيه. واحدة من الأخطاء أن يحول المسرح إلى عيادة لا ما يبث الطاقة من خلال اللعب العادي واللعب الجذاب.
سحر المسرح من اللعب، من تشابك اللعب بحيوات البشر وخصوصياتهم ودراماتهم وقضاياهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. تعريف الثقافة باللعب لا بتعرية التشوهات وحدها أو الإضاءة على إيقاع الحياة السريع وهزاته وارتدادته. المسرح فن الجماعة باللعب. سحر المسرح من اللعب. السحر، السحر، السحر. لا الأيديولوجيا وحدها. انتحر ماياكوفسكي وجُرَّ مايرخولد إلى المعتقلات السيبرية حيث قضى محكوميته الستالينية. وذبح النظام زوجته، كما يذبح الأعداء الأعداء. فرطت الشراكة بين مايرخولد وستانسلافسكي لأنها لم تقم على الغش ولا على الكذب. لم يستوِ البيوميكانيك والإيهام والبقية تعرف البقية.
النظام وحده ما وجده المسرحي العربي ببئر المسرح. وجدوا النظام، وحين وجدوه أسطروا المتعة بحيث تظهر كرأس خُرافة مقتولة. الأسطورة بلغة الجد والأيديولوجيا. مسرح بلا أيديولوجيا عند المسرحيين العرب مسرح طقسي لا علاقة له بالحواس، كما هو عند آرتو. طقسه منشور عقلي، كتب باللغة الأم عند رجال المسرح بالغرب وبالارتجال الكلاسيكي غير الحسي. لا الترفيه وحده ولا التسلية هو النوع أو النمط المطلوب. الأخيران من القضايا المهمة، إلا من خلال حرية المسرح وحرية المسرحي. لا من يرغب في صوغ المسرح على الآذان بالجوامع وصدى أجراس الكنائس من أصحاب اللِّحَى الزرقاء، من لا يرغبون في معادلة الجد واللعب إلا بطرف الجد من طرفي المعادلة. هكذا، لن يكبر طفل المسرح من دون شقيقه. لن يكبر الجد من دون اللعب؛ لأن المسيرة بطرفيها. الضوء من العتمة والعتمة من الضوء. ترسم الأشكال الظلال، حين تعيد الظلال الأشكال. دفع الواحد للآخر: روح المسرح.
تجهم المسرح من تجهم المسرحي
لا مسرح بلا متعة، لا مسرح بلا تسلية. عنوانان لأية مسيرة إبداعية. ملتقى الخليفتين. مصدر بعيد من جَوْق الفرقة. حين تجهم المسرحي تجهم المسرح أوقف طرق سيره. المتعة كالتسلية، ليست إلا حياة هددتها العادات الموروثة بالمسرح. بعيدًا من التسلية، بعيدًا من اللعب جوهر التسلية ( تسلية المسرحي والمشاهد) أضحى المسرح كورق دفتر تتهدده عادات الأقلام. حين نظر فيلار إلى دمار الحرب العالمية الثانية، وجد بالدمار ملوحة زائدة على طبق الحرب غير الخادع. مَهْرج حضور المسرح بمهرجان أفينيون المسرحي. المدينة التاريخية بجنوب الجمهورية الفرنسية. مَهْرج: المهرجة من مهرجان. المهرجان لعب وتسلية بلا نسيان. لم يجد الرجل الكبير، صاحب فكرة المسرح الوطني الشعبي وإنشاء المسرح هذا (TNP) بالمهرجة، لم يجد باللعب، لم يجد باللعب والتسلية قشرة خدعة المسرح على صفيح بارد أو على صفيح ساخن. وجد الإجادة، البراعة باللعب. وجد باللعب رائعته كما وجد بالمسرح الهاجع بفكرة اللعب أصل المشاع، من تراجيديا اليونان إلى الكوميديا ديلاآرتي. بينهما فنون تكفي لإيجاد الشعر فيهما وبالفنون المكتشِفة ذاتها.
المسرح لعب لا قطار سيبيري يترك خلفه دخانه الكثيف. حين ركب المسرحيون العرب المسرح كقطار سيبيري، خلطوا المفاهيم بين الرجال الطائرين والرجال الطارئين. يكفي هذا للإفصاح عن الفروقات الكبيرة، بين الرجال الطائرين بالمسرح الأوربي والرجال الطارئين على المسرح في بلاد العرب. لم يجد المسرحيون العرب أمامهم سوى أن يمجدوا عفاف الأيديولوجيا وهم يعملون بالمسرح كما يعمل موظفو السينما بصالات السينما: إجلاس الجمهور بكنباته. خدمٌ يقدمون خدمة وظيفية، من دون أن يستطيعوا قلب الأمر إلى توظيف المسرح بالحياة، لا إجهاضه بالحياة وإجهاض الحياة فيه؛ إذ يُظهِّر الحياة كالساعة بدقاتها القاتلة حين يتقصد ألَّا يلامس إلا مواضع البؤس. أضحى المسرحي حينها كرجل الإسعاف والمسرح سيارة إسعاف بعيدًا من القطار السيبيري.
هكذا بدا أن الأقدام تمشي والجسد في ثبات، أن الجسد يمشي والإحساس في ثبات، أن العقل يمشي والجهاز العصبي يراوح على عكازين من سقوط الأمر الواقع على الأمر الواقع. حدث الأمر، منذ وجد العربي بالمسرح جسدًا معطوبًا حين لا يستطيع أن يؤدي أدواره التنويرية. الأدوار التنويرية، مباشرة على الرأس. التنوير لا بالمسرح وحده. التنوير شريط يحمي العظام، شريط لا يأكل العظام. حين جاء المسرح على فكرة التنوير، لم ينضح بالفطرة ولا بوعول أعياد الميلاد بطيرانها فوق المفهوم الاصطلاحي للطيران. لم ينضح إلا بالشوك والسكاكين. شغور كبير، شغور عظيم. شغور على أصوات الطبول، أصوات تسبق انطلاق الرصاص. برأس المسرح ألف بندقية وألف مبضع جراح، مذ دهمه العرب بتعاويذ الأيديولوجيا أو تعاويذ الانطفاء.
لا يتذكر المسرحي أن الضجر خالق الفنون الأولى والفنانين الأوائل. هكذا، اندغم بتدابير المشقة على الدوام. الإسلام يسر لا عسر والمسرح عسر لا يسر في بلاد اليسر والعسر بالكتب المقدسة. بغياب التسلية، لم تبق إلا ظلال المسرح البهلول بالمسرح. المسرح داخل المسرح، لعبة المسرحي بالمسرح. مسرح الوثيقة، مسرح ضد كل شيء مفبرك، كل شيء مغفل. لا مسرح دبابات ومدافع وجمارك. البيوميكانيك واحدة من ألعاب تعليم الجسد كيف يمكنه أن يصبح بعد نظرة بزاوية حادة أو زاوية لا تشبه شفرات الحلاقة. الخلق لعب، كل ما هو خارج اللعب خيانة للخلق. لم يجد المسرحي بالمسرح إلا المساحات الشاغرة، مساحات فرار اللعب من المسرح. لا شكوك، طالما أن المجد رحلة المسرحي بالمسرح. المسرح قلعته، المسرح سلاحه. لا بأس، ما دام المسرحي لا يطلق النار على المشاهد بالمسرح/ سلاحه وقلعته. لا كلام على «مسرح النخبة » أو «المسرح المخبري» أو «النخبوي»؛ لأن الكلام على هذا المسرح، كلام بلا لعب.
المسرح الشعبي أو الشعبوي، مسرح مبلول بنار أبواب جهنم؛ لأنه يعتمد الأيديولوجيا المضادة من دون أن يعتمد المقالات والألعاب والرحلات الأشبه ببرامج المباريات. شعبية كرة القدم من قوة كرة القدم على تقديم نزلات التسلية الكبرى من خلال اللعب، ولو أن كرة القدم لم تَجْنِ حقولها إلا من فرط القدرة على تنظيم عالمها، قريبًا مما يتمناه الشجر والبشر. يخطئ المسرحي حصانه، ولا يخطئ لاعب كرة القدم فرسه. غورديولا أشهر من كوبو. ميسي لا يكذب على الجمهور وهو يقدم مفهومه لكرة القدم، كما يقدم بيكاسو مفهومه للفن التشكيلي وأحسن. جمهور كرة القدم في مباراة واحدة، تستطيع أن تضع جمهور عرض مسرحي أمامه في حاوية.
الكلام على رسالة المسرح، حصر المسرح بحمله الرسائل، خفة على خفة بكلام كورال المسرح الحزين. يبقى الكلام بتقسيط الكلام، حيث إن القفز فوق الأرقام والطروحات والطموحات الجهمة بالمسرح لا تنقصه لوازم التنظيف قدر ما يلزمه قبض المسرحي على كل تقويمات المسرح، على كل تقنياته. لا يعود الأمر إلى وضع تسعيرة أو أخرى. ولا وضع الأقفال على صنف أو منهج. ولا اتخاذ وضعيات القناصة على سطوح البنايات. الأمر أمر أن يفتح المسرحي حضوره بالمسرح، أن يقدم نفسه كمسرحي، يقرأ المسرح بعيدًا من الغلاة والمبشرين. يقرأ المسرح وحضوره بالمسرح بعيدًا من أخطاء المصارعين.
لا أشكال بلا فكر
كل كاهن مسرح سوف يصيبه المسرح برصاص النسيان؛ لأن المسرح تذكرة المسرح، بعيدًا من الأقفاص، وبأصباح مودة اللعب على المنصات. بنت المسرح الأثيرة أو ابن المسرح، من يمتلك حواس المسرح لا أسلاكه المرتفعة على الجنبات، جنبات المسرح. لا أشكال بلا فكر، لا تخمين ولا ثرثرة بهذا الكلام. الفكر غير الأيديولوجيا. الفكر فضاء من الأجنحة، في حين أن الأيديولوجيا مسدسات مصوبة إلى جبين المسرحي، تقوده إلى الضلال وإلى سلوك الطرق المثقوبة بالذرائع والتلعثم باستدراج التقديرات الخاطئة. العودة إلى الأشكال القديمة، ذهاب مؤقت إلى لعب الأسلاف، من قدموا نمرًا لم يلبث أن غلبها التطور، أن أفناها.
الحكواتي والمداح والراوي ومسرح خيال الظل ومسرح الشاطئ وصندوق الفرجة. الفرجة كاسبر المسرحي العربي، أو شبحه الطيب المحلق بفضاءات الصالات. شبح مقذوف بالفضاء لا يستطيع أحد الإمساك به. الكلام على تنوير، الكلام على رسالة المسرح، جرح من جروح المسرح الكبرى؛ إذ إن ثمة ما لم يمرض في اللقطات الأشد فتكًا في المسرح. الفرجة ليست سيركًا، الفرجة ليست سعالًا في حنجرة ولا تسول العضلات للقوة من الأقوياء والمجروحين؛ الفرجة جمال، لغة، تسكع بالذكاء الأقصى، حين يدع المسرحي البريد يتسكع بالذكاء الأقصى. فرجة تغرد كعصفور عند غصن صباح لا علاقة له بالخذلان.
هكذا، حين يقذف المسرحي المسرح بالرسائل والقيم الجاهزة، يوقعه في منطقة اجترار الكلام والنصح، ما يعرفه العربي عن ظهر قلب من خلال الرئات المتعفنة للأنظمة والسلطات القائمة على فكرة إعادة إنتاج الأيديولوجيا السائدة. أيديولوجياتها. بدا السوفييت لا يصلحون لشيء بعد حكم مديد لمن زرع الفكر بالأيديولوجيا وزاد على ذلك زراعة الأيديولوجيا بقاذفات الشك. حين سقط النظام، ظهر السوفييت كأنهم يجولون بأيام العطل في مشاهد تفيض بالبهاء.
مئات الأعمال الخارجة من مرحلة الإنهاك، من تسول المسرح الأيديولوجيا المجترة. أعمال مسرح وروايات وقصص قصيرة وأفلام سينمائية. يبقى المسرحي مرعوبًا من أن يشار إلى مسرحه كما يشار إلى السيرك؛ لذا يرى أن الكلمات تبقى صالحة بعديد وجوهها، يقبض عليها بيديه الاثنتين ويشدها إلى صدره، خوفًا من فرارها من نوافذ المسرح. أغلق المسرحي على الكلام في مسرحه، بحيث خذل لغة الكلام ولغة المسرح؛ لأن بالكلام لغة لا مكتشفة بعد بالمسرح ببلاد العرب.
هكذا راوح المسرح والمسرحي أمام الكلام؛ لأنه خشي على الدوام من أن تضيع الرسالة بإحكام اللعبة المسرحية قبضتها على الكلام لا العكس. هكذا، أصبح المسرح راعي الكلام بعيدًا من حقول قطن المَشاهد وما يحدث بالمشاهد. هكذا، وقع المسرحي في قلة الحيلة. هكذا، ضيق المسرحي الهواء على كل شيء بالمسرح إلا الكلام. هكذا، نسي المسرح شؤونه، حين رقص في ساحات الكلام، مهمشًا أصول المسرح. هكذا، نسي الممثل شؤونه. نسي؛ لأن المسرحي أوقعه بالثرثرة وأوقع جسده بالموت، حين راوحت روحه بين أبيض المسرح وأسود المسرح، بعيدًا من درجات الألوان بين اللونين. المسرح بالكلام افتراض مسرح، افتراض واضح.
النص طائرة المسرح العمياء
وإذ خرج بعض صعاليك المسرح لكي يخرجوا لقطاتهم مما يمتلكون من نصيب بالحديث، أكَّدوا أن الخطوات محسوبة؛ لأن ثمة مسرح نص. النص طائرته العمياء وسط أحوال الطقس المتقلبة؛ لأنه يخشى أن يضع رأسه في حرائق المسرح. تخشبت أجساد الممثلين حين شاهدهم الجمهور يقفزون على المنصات كحيوانات الكونغر. أو يثبتون في جيوب أمهاتهم : نص كجيش بلا خطط. جيش لا يمتلك من صفات الجيش إلا مكافآت السفر والقهقهات في مقاهي الفنادق الفارعة.
للأخطاء القدرة على الاستمرار. لا تزال الأخطاء ملكة المسرح؛ لأن المسرحيين لا يمتلكون دفاتر تمارينهم وهم يضعون الماكياجات على الأخطاء هذه. لا شيء إلا الاستدراجات البليدة، البائدة. استدراجات الندبات النافرة، كما ينفر جدول ضائع على صفائح الأرض المتراكبة. لم يمتلك المسرحي صفائح الأرض المتراكبة. لا يمتلك إلا سطح الأرض. تسطيحُ واجترار الرغوات. كل مبتذل صامد؛ لأن المسرحيين لا يزالون يوبخون الألق وهم يوثقون شؤون المسرح بعيدًا من السجلات والسجالات الناطقة بهموم وشؤون المسرح/ الأساس. إن المسرح على المنحدرات؛ لأن المسرحيين أغدقوا على المسرح كل أصناف الخلط، إذ لم يفرقوا بين اللغة والكلام، وبين الكلام واللهجة، وبين الإعادة والمعاد، وهم ينظرون إلى الخلف ليروا ظهورهم المخفية، بدلًا من أن يروا مستقبل المسرح أمامهم.
اللغة أوسع من الكلام بكثير. من يغفل الأمر يعوق عمليات المسرح المليئة باللقطات. لكل لقطة تفاصيلها. من يغفل الأمر يعوق المسرح، لا رحالة المسرح، عن القفز فوق كل ملغز، والقفز فوق العجرفة والقحة والتماس الغضب كما يلتمس هلال الشهر الكريم. ينصهر الغضب بعظام المسرح، ولمَّا يحدث الانصهار يقع التفريق بين اللغة على الورق وبين أصول اللغة. سوف يعلن المسرحي خوفه من الإفلاس، حين يردد أن النص هو دليل المسرحي إلى السحر، إلى الفرح. تبديل بنطال بآخر؛ لأن النص جزء من نص المسرح، لا المسرح بأمه وأبيه.
اللعب يرمم المذاق والمسرحة عرس المسرح. كوبو وكريغ، لم يتكلما بلسانين مشقوقين، حين لعبا على إغاظة الممثل أو تدعيم حضوره بحضور الدمى وباستعمال الستائر في بيت مسرحي لا نزال نذكره حتى الآن. أو باللعب بالمساحة المنسقة بين أرض الصالة وآخر حدود ارتفاع منصة اللعب. المسرح لعب أولًا:.jeu لعب على صعيد الآداء أولًا، ثم الإبقاء واستخدام الأدوات والمفردات واستثمار الحالات النفسية والجسدية والإضاءة والديكور وكل ما لا يظلم العرض المسرحي وتكامل العرض.
اللعب هو الانزلاق الطازج إلى المسرح. تستطيع أن ترى الموت والحياة وكل ماكر على المسرح، إلا أنه يبدو ناقصًا بعيدًا من اللعب المسرحي. يبدو كالأقدام الناقصة. «النو» تزييت العجلات بين الحياة والموت، عبر اللعب. لعب طقسي؛ لأن بيت المسرح بيوت كثيرة. إكرام الميت باللعب بين العالمين. يغيب المسرح بغياب اللعب؛ لأنه ليس جدران المسرح وأبواب المسرح وكواليس المسرح. اللعب وجبة المسرح الأولى. من دون لعب، لا مسرح. لا مسرح من دون لعب؛ لأن المسرح ليس وجبة جاهزة. وحده اللعب يلهب المسرح بالمسرح. ساعتان أو ثلاث ساعات، أقل أو أكثر، بلا لعب، تحول المسرح إلى خشب يابس، خشب ناشف. «البراد أند بابيت» (خبز ودمى) لعب بالدمى ضد الحرب الأميركية في فيتنام، مسرح الأندر غراوند، ومسرح الكاراج والماخور مع جوليان بك وجوديت مالينا، لعب على التذكُّر، تذكُّر يوسع اللعب من دون قبعات ولا كؤوس.
لعب بروك أجمل ألعابه في «المهابهاراتا» و«منطق الطير». لعب بروك في «بستان الكرز» جمله السكرانة بتصميم المسرح على هندسة المساحة في (البوف دي نورد) مع ميشال بيكولي. لعب يفهم أصول السهر من دون تضييع الأناقة. لم أشاهد لعبًا حلالًا كما شاهدت في «بستان الكرز». وجدت أريان منوشكين في مسرحياتها الأولى الأنفاق إلى اللعب الخزفي، بالأخص في مسرحيتيها عن الثورة الفرنسية «١٧٨٩م» و« ١٧٩٣م» قبل أن تضع أعمالها الأخرى في مقابر السنوات المسرحية، مع «طبول على السد». الشكسبيريات عندها لعب على العري الطارئ في مسرح شكسبير وتفجير اللغة بعيدًا من الاستقطاع الزمني وقريبًا من الاستقطاع.
يفوت المسرح روائعه وزوابعه بغياب اللعب. نهاية اللعب نهاية السهرة. الاحتفال سهرة ولا مسرح بلا احتفال، حتى بغياب الاحتفالية على شطرها ورجزها السليمين. يبسط المسرح خده للخيال مع اللعب. لا يحشو المسرح بفصاحة اللغة (غير اللغة المكثفة شبكات العلاقات بين الناس) والأيديولوجيا والأفكار اليقينية وصور الفدية (شيء بشيء) واستباحة القياسات على الملاطفات غير الصافية بين النقاد والمسرحيين (بعض النقاد، بعض المسرحيين) على أدراج جبر الخواطر بالصالات. لم تثبت فرقة مسرح الحكواتي اللبنانية أقدامها على حبال المسرح وحبال الوقت المختلف إلا من خلال الخروج من تصميم المسرحيات بأيدي أطباء المسرح وممرضات المسرح. فُهِمَتِ اللعبة باللمس، وُوكِبَت القصص باللعب. «أيام الخيام» مكسرة صحون المسرح القديمة، الكاتبة نصوصها على حدة الأعصاب لا حدودها، خرجت من أكمام المسرح القديم باللعب الصافي. لعب فقأ الدمامل في مطابخ التجربة الحرة. لم تجئ باللعب؛ لأنها اكتشفته على جدران مسرحها، بعيدًا من جاذبية الرايات والكذب والجاذبية، جاذبية لا تكمل مهامها إلا بسيادة التوازن بين العروض والتنظيم.
اللعب صور المسرح الملونة
وحده اللعب ضد الكذب. اللعب صادق كالرصاص. اللعب صور المسرح الملونة. فرقة الحكواتي الفلسطينية كفرقة الحكواتي اللبنانية. لم ينسطل فرانسوا أبو سالم بالجاذبية القديمة للمسرح؛ لأنه وجد فيها كل التوضيبات القديمة الفوتوغرافية. وجد حلوله باللعب؛ لأنه وجد حرارة المسرح باللعب. حازت «جحا بالقرى الأمامية» حاجاتها إلى دفن الشك باللعب. لم يجرِ جلال خوري جراحة دقيقة لكي يفتح فم المسرح المشلول. فتح الفم باللعب. مسرح بالمسرح، الطعنة الأولى لمسرح الإيهام والجدران الأربعة. لولا اللعب لسقط قلب المسرحية في جورب صاحبها. تسرب غاز اللعب بالمسرحية بحيث أضحت محمولة على كلام الناس/ الجمهور لا على فائض العقل بالمسرح. «إسماعيل باشا» لمحمد إدريس واحدة من أيقونات المسرح؛ لأنها طارت بريش اللعب ولم ترَ بعيون ونظارات أصحاب الألبومات القديمة. «ونَّاس القلوب» كإسماعيل باشا و«فلوس الكاز». مسرحيات توفيق الجبالي، أحد أبرز الأصوات العربية، لم تخطف الناس إليها إلا لأنها لم تساوم على اللعب. يقال : تلعب المسرحية. يقال: لعبت المسرحية. لعب بالليل؛ لأن لعب الليل غير لعب النهار. لكل سريره في نُزُل المسرح، إلا أن اللعب سرير المسرح. اللعب كبريت المسرح. تجربة «المسرح الجديد» تجربة ضد العظام المتجمدة باللعب. اجتمع الفاضلان، الجعايبي والجزيري، ومحمد إدريس وجليلة بكار ورجاء بن عمار وتوفيق الجبالي وغيرهم على فكرة أن ثمة ما يستحق المفاجأة على المنصة، غير ما يراه الجمهور.
لم يندرجوا في لعبة بيع البطاقات كما تباع أوراق اليانصيب، حين وجدوا أن اللعب رهانهم الرابح بعيدًا من أوراق اليانصيب. همزوا خيولهم الطرية بعيدًا من شراشف مسلسلات المسرحيات القديمة ومسلسلات التلفزيون وبيجامات العجزة، إلى المكان الآخر: اللعب. كما فعل الطيب الصديقي (المقامات) وجواد الأسدي (العائلة طوط) وروجيه عساف (من حكايات العام ٣٦) ويعقوب الشدراوي (يا إسكندرية بحرك عجايب) و(إعرب ما يلي) ورفيق علي أحمد (الجرس)، وصلاح قصب، وفواز الساجر، وفؤاد الشطي وغيرهم. وجد هؤلاء في اللعب فحل المسرح. وجدوا فيه المسرح. استعادوا مسارحهم؛ إذ استعادوا ذهب المسرح: اللعب. لعب من أجل المسرح، لعب ضد فائض العضلات وانحدار التجارب. لكل انحدار سبب بالعقل، على ما يقول أحد الشعراء. المسرح منتج مسرحي بلا لعب. استعمال الألواح والأخاديد، لعب بالمسرح، لعب على المسرح. إدخال تجارب جديدة، يستطيع المسرحي الأمر هذا حتى آخر العمر.
لم يتوقف التجديد بالمسرح. أصبح البوق جديرًا بالحضور، لا لكي تسمع الثرثرات الخاسرة. أصبح القناع جديرًا بالحضور على نية أن يضحي بمقدور القناع أن يرمم حضور الوجه في المسارح الضخمة وعلى منصات ذات الدرجات والطبقات الكثيرة. تضخيم صوت الممثل، تضخيم وجه الممثل. لا يزال مهندسو وفنانو المسرح منذ ذلك الوقت منشغلين بالعمل على تطوير الأجهزة الصوتية والاهتمام بنوعية الصوت، وهو ما سمح للمسرحيين بالانتقال من المسارح المفتوحة، مسارح الهواء الطلق والمعابد إلى المسارح المقفلة، ثم أصحبت الإضاءة واحدة من أكثر الأدوات اعتبارًا، أصبحت من الأساسيات المحددة للإمكانيات والتقييدات التقنية في الهندسة المعمارية للمسرح. بدأ التحكم في الإضاءة ثورة بالمسرح، بدأ التحكم في الصوت ثورة بالمسرح. لا تستطيع الفظاعات أن تغفو حزينة أو أن تنام حزينة. قام ليون ديسومي، خلال عصر النهضة في إيطاليا، بطرح نقاش حول احتياج التراجيديا إلى مستوى منخفض من الإضاءة مقارنة بإضاءة الكوميديا. ثم اتفق مع إنغينيري على أن الخشبة ستبدو أكثر وضوحًا وإشراقًا إذا عُتِّمَت أكثر.
الشموع أولًا، بعدها الغاز والثريات من أجل درجات مختلفة من السطوع. ثم البروجوكتيرات؛ أدى الأمر إلى تأقلم مهندسي المسرح أو فناني المسرح مع تسخير العناصر في خدمة تواصل الإنسان بالمسرح. التواصل، التواصل، التواصل. لا تواصل بلا لعب، بعد التحكم في المكنات والمكونات. اللعب عنوان تفادي الفشل في حفز الخيال. كل الأمور شائكة بعيدًا من اللعب. لا لعب، إذن هندسة السرطان بالمسرح. لاحماس بلا لعب. لا فهم فعلي بلا لعب. لا حزن، لا فرح، لاقوة، لا قوى، لا نوايا. إيلام الخيال بغياب اللعب. لا يزال المسرحي يتسلق فراغاته مذ حاول أن يصلح حضور المسرح بعيدًا من روح المسرح: اللعب. قراءة بالأسباب بلا وقوف أمام غياب الجوع إلى اللعب، وهو ما سمح بامتلاء الفراغات بكل ما هو كاسر. تعبت الشهوات حين غاب اللعب. ذلك أن غياب الأصل غياب لعصب
المسرح، لجهازه العصبي.
غاب اللعب بين القرنين، القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين. وحين غاب، راوحت الأعمال المسرحية بين التهور والسماجة. سماجة المسرح الاستهلاكي أو التجاري أو الشعبي أو الشعبوي، تهور المسرح الاختباري أو التجريبي أو الثقافي. قلب المسرح ضعيف، قلب المسرح جبان بلا لعب. لا يتقافز المسرح بالسعادة بغياب اللعب. حين غاب اللعب، غاب المسرح في الرمل، غاب المسرح في رماله المتحركة. هكذا، لم يعد المسرح يولد في مذوده. لم يعد الإنسان يولد على المسرح، لم يعد المسرح شاهدًا على المسرح. شد جان باتيست عربته لكي يقدم ما لا علاقة له بالتضحية فقط؛ لأن الرجل جر عربته إلى اللعب الشبيه بالترانيم. مسرح القرون الوسطى أعظم المسارح؛ لأن لا أثر إغريقي في مسرح القرون الوسطى. مسرح لعب وتبادل حاجات بعيدًا من هوميروس وفرجيل ودانتي وجوائز المسرح ودراسات المسرح. مسرح حياة. المسرح / الملك / الحق.
تغييب اللعب
مجالس بعيدة من مجالس المسامرة، مجالس يحضرها النبلاء وبطانة الملك والملك. مسرح لا يحجب الصراع بين القوى؛ لأن تظهير الصراع لا يحدث بغياب اللعب. حين غيَّب المسرحي اللعب عن المسرح، وقع المسرح بالمظاهر الخادعة. الاعتراف بالصواب والخطأ عاهة بالمسرح، إلا حين ترى باللعب. منذ وجد اللعب وجد التمثيل. كل كلام آخر إمعان بالغطرسة، غطرسة المسرحي لا غطرسة المسرح. اعتمد أبو خليل القباني على الممثل اعتمادًا كبيرًا، عده العنصر الأساسي بالعرض. الممثل لاعب. ركز على الحركة ومفهوم الحركة وقيمة الحركة والجسد، اعتمد على فواصل من الإيماء أو البانتوميم. شعر وغناء فردي وجماعي كحال مسرح مارون النقاش. رقص وأداء. دخول غير مبرر وخروج غير مبرر. شخصيات أحادية الأبعاد. خلت مسرحياته من الشخصيات المتماسكة المتنامية ذات الأفكار العميقة. قصص شعبية وعوالم خارقة بعيدة من العقل والمنطق بأكثر المسرحيات. لم تمهد الأحداث المسرحية سوى للرقص والغناء. أشياء مستقاة من التراث. مسرحه منحول عن مسرح النقاش، لا أكثر نضجًا مما نظن. جوع إلى اللعب. لعب بالأسلحة والنياشين والأزياء والأحداث الحزينة والمغتبطة. النبل في اختيار العناوين، كعنوان مسرحية القباني «أنس الجليس» أو مسرحية النقاش «البخيل». لا خفة باللعب. رُبَّ جِدٍّ جَرَّهُ اللعبُ. هذا من المعاجم والقواميس، كمعجم المحيط. عالم كامل على المسرح، عالم من دون شجر العائلة. يسمح اللعب بألا نفهم بقية المسرح بالخطأ.
لا جدوى من ترتيب النوايا إلا بالانطلاق من الإشارة الأساس بالمسرح. اللعب. تتكرر كلمة اللعب، من تكرار نكرانها بالمسرح من المسرحيين، حين بلَّلوا المسرح بالمشاجرات والضحالة، ضحالة لم تلبث أن تصغر وتصغر من هندسات المسرح على وحدات الجلوس الإضافية، بحيث أكلت الخطوات والأجنحة والشك الجميل بصالح المُكنات والمَكنات وأغراس اللعب المتيبسة. اللعب مشروع المسرح الدائم، اللعب عمل ضَارٍ، مضيء، خطر إذا لم يفهم حضوره، إذا لم يُفهم. اللعب قارة المسرح الشاسعة المفقودة. لعب وعر. لا يدرك اللعب إلا كبار المسرحيين، حين عَدَّ الكثيرون اللعب من العصر الحجري للثقافة. أو وجدوا في اللعب موجز تاريخ المسرح المزيف.
اللعب مسالك، جبال وأنهار، بحيرات، سهول مترامية، بطاح ضارية البرد ولاهبة القيظ. اللعب وحش المسرح الكاسر، المقتول بفكرة المزاوجة بين اللعب والترفيه وحده. التحكم بالأرضية لعب، رفع منطقة المئزر وخفضها، عملية تهدف إلى الحصول على حفرة الأوركسترا. توظيف المناظر، ربط الجمهور بالأداء، تصميم السينوغرافيا والديكور وخلق المصاعد ورسم المنصات كدوائر أو مربعات ومستطيلات أو اللعب من دون منصة. كل شيء من الأشياء هذه لعب. المشهد المسطح والمشهد المنظوري لعب. من دون لعب، المسرح سفينة سوف تعوفها الأملاح، بحيث يسقط أبطالها بعروض الموتى لا الأحياء. داريوفو ملك اللعب، فرانكا راما كداريوفو. سُمِّيَ شيطان المسرح؛ لأن الرجل تجاسر على كل شيء من خلال اللعب. اللعب بيت المسرح الطيب لا كوخه البائس. لعب لا يخشى آلهة المسرح المرعوبة من اللعب المحشود بالطفولات المدهشة، الدهِشة.
المسرح نقاء لا جفاء ولا بلاء. لا يطفو دَقَل مكسور إلا على المسرح. المسرح ضد البروق الخسيسة؛ لأن المسرح لعب ولعب، لا تعذيب للآخر، لا تعذيب للمشاهد، للجمهور، بكل مقترض غير مفهوم. عودة المسرح والمسرحي إلى اللعب، عودة تتكفل بالرزق لا الاسترزاق والرزقة. لن يسلق أحد التفاح مع رؤوس الخيل إلا بالمسرح ببلاد العول. حين غاب اللعب غابت المتعة. لا مسرح بلا إمتاع. عودة اللعب عودة المتعة. اللعب لهب المسرح، ناره وريحه وجماله المشاكس. حين يعود المسرحي إلى اللعب يعود إلى المسرح. يعود المسرحي إلى المسرح، يعود المسرح إلى المسرح. بعدها يزخر المسرح بالحدود والغابات الأخرى. العودة إلى الأرض الباكرة ضرورة. بلاها: لا شيء، لا شيء، لا شيء.