واقع المهرجانات المسرحية العربية.. غياب الدعم المادي وتكرار المشاركين وطغيان النمطية في مواضيع الندوات
مهرجانات مسرحية ضخمة. مهرجانات مستقرة. مهرجانات متنقلة. وأخرى صغيرة غير منتظمة في تواريخ إقامتها. مهرجانات حلت وأخرى أفلت. مهرجانات اندثرت وغابت من الذاكرة الثقافية العربية وتحضر فقط في المناسبات أو الشهادات كنوستالجيا. وأخرى أعيد بعثها بأسماء جديدة. مهرجانات مسرحية متشابهة، مستنسخة، مكررة. مهرجانات محترفة، هاوية. مهرجانات متنافسة على استقطاب أهم العروض المسرحية وبعض الفاعلين في المسرح العربي
وحتى العالمي.
مهرجانات فاعلة تقام في بلدان لا توجد بها أحيانًا حتى قاعات مسرح، وإنما قاعات سينما أهلت وكيفت كي تكون فضاءً مسرحيًّا بامتياز. مهرجانات توجد في بلدان لا تملك حتى معاهد فنون مسرحية. لكن الكثير من الفضاءات فيها تتحول، مع كل فعالية، إلى فضاء للفرجة والمعرفة والتلاقح والتبادل الثقافي. الحقيقة أنه لا يوجد هناك إحصاء دقيق ولا جرد تفصيلي لعدد المهرجانات المسرحية التي تأسست وتوزعت على خارطة الوطن العربي منذ ستينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا، وهذا لغياب قاعدة بيانات محكمة، يمكنها إرشادنا في رسم صورة دقيقة عن واقع هذه «المؤسسات الثقافية» الكثيرة والمتنوعة وطبيعتها ذات الصبغة المحلية أو الوطنية أو العربية أو الدولية التي تهدف في عمومها كما يقول المخرج العراقي سامي عبدالحميد إلى«إبراز الوجه الثقافي في البلد والاعتزاز بالتراث الفني وتنشيط الحركة المسرحية».
من الصعب جدًّا تتبع دوافع تأسيس هذه المهرجانات التي هي حلم مشترك لكل المسرحيين من أجل خلق فرص للتعرف إلى تجارب وخبرات صناع المشهد المسرحي العربي والعالمي. والعمل على استجلاء وفهم أفضل للإشكاليات المسرحية الكبيرة التي تتناولها العروض من جهة والندوات والملتقيات والورشات من جهة أخرى. تأسست هذه المهرجانات في مجملها بإرادة سياسية على أساس أنها تُعَدّ من الآليات الفعالة والمؤثرة داخل بنيات المجتمع وكيان الدولة، وهي «مرآة تعكس هموم المسرح العربي وطموحات أبنائه». فأغلب المهرجانات تموَّل من طرف الدولة ممثّلة في وزارات الثقافة والإعلام (الجزائر، تونس، مصر، العراق، سوريا، الأردن، سلطنة عمان، الكويت، السعودية، السودان) وربما نستثني هنا مهرجان الهيئة العربية للمسرح ومهرجان الشارقة من دولة الإمارات، اللذين ينظمان بدعم من سمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي أمير الشارقة.
في الجزائر مثلًا أُنشِئتْ مهرجانات مسرحية عدة، ومنها: «المهرجان الوطني للمسرح المحترف» سنة 2005م؛ بدعم سخي من وزارة الثقافة الجزائرية، وبأهداف معلنة، منها المساهمة في ترقية الثقافة الوطنية، وتشجيع وتطوير فنون المسرح من مختلف الجوانب الإبداعية. وكذا تشجيع التجارب الرائدة والأبحاث في مجال المسرح، وتنظيم لقاءات في مختلف مجالات المسرح، والعمل على تطوير المنافسة المبدعة بين رجالات المسرح على اعتبار أن المهرجان هو مشروع حضاري يقرب المسافات والحدود، ويجمع المسرحيين العرب على اختلاف مشاربهم وأيديولوجياتهم وأفكارهم، فيصيرون لُحمةً واحدة همُّها الوحيد والأوحد خدمة المسرح، وتكريس صورة مختلفة للجزائر الجديدة الخارجة من دائرة الدم والكراهية والانتقام والخوف إلى دائرة السلم والأمن، والجمال، وبالتالي إعادة ربط الصلة بين المدينة والمسرح وجعلها فضاء تشاركيًّا واقتصاديًّا مفتوحًا. يبدو هذا المهرجان في ظاهره مهرجانًا وطنيًّا لكن بالعودة إلى برنامجه العام نجده مهرجانًا عربيًّا. فإضافة إلى مشاركة فرق جزائرية نجد حضورًا مكثفًا للفرق المسرحية العربية في (الإمارات– السعودية– مصر- قطر- سلطنة عمان- تونس– المغرب- لبنان– فلسطين– الأردن– الكويت– السودان– ليبيا- ودول إفريقية وأوربية وأورومتوسطية). وقد كرَّم المهرجان قاماتٍ عدةً من المسرح العربي والجزائري، كما نُظِّمتْ ورشات تكوينية للشباب المتعطِّش لمعرفة أبجديات العمل الدرامي، وأشرف على تأطيرها الكثير من الخبراء العرب..
حضور وديناميكية
لعبت المهرجانات والفعاليات والملتقيات المسرحية وما زالت دورًا مميزًا في خلق حركية مسرحية مشهودة في العقود الأخيرة لا ينكرها أحد، ويمكن تعميم هذا الحكم على جل المهرجانات في الوطن العربي؛ إذ ساهمت في خلق وسط حيوي للتبادل والتعاون الفني والجمالي بين مختلف الخبرات المسرحية العربية، من منا لم يرغب في المشاركة في أحد المهرجانات العربية: مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة، أو مهرجان المسرح العربي، أو أيام قرطاج المسرحية أو المهرجان الدولي للمسرح بالجزائر، أو مهرجان أيام الشارقة المسرحية، أو أيام طنجة المشهدية أو المهرجان العربي للمسرح وغيرها من الفعاليات المسرحية هنا وهناك، بغرض الاطلاع على الجديد، من أفكار ونظريات، ومن تصورات جمالية وبصرية؛ ليستفيد من فكر وثقافة الآخر.
ونلفت الانتباه إلى القدر الكبير الذي ساهمت به المهرجانات الوطنية في الجزائر وتونس والمغرب ومصر والعراق ودول الخليج، ودورها الكبير في اكتشاف جيل جديد من المبدعين والمبدعات الشباب على مستوى التأليف والإخراج والجماليات البصرية والكوريغرافية، وعلى مستوى التمثيل والأداء، وخوض غمار التجريب المسرحي بعبقرية مواكبة لمتطلبات العصر، ويمكن الاستشهاد هنا بما قدمه محمد العامري وحسن رجب من الإمارات، ومحمد شرشال من الجزائر، وأسماء الهواري من المغرب، وجعفر القاسمي من تونس، وإدريس النبهاني من سلطنة عمان. في هذا الصدد يقول الدكتور حسن رشيد: «إن المهرجانات تخلق حالة تحفزية لدى المبدع الحقيقي، سواء من خلال التأثر بما قدمه الآخر عبر الخشبة أو عبر ثقافة الآخر في الندوات والمحاضرات، فلا يمكن أن يعيش المبدع بمعزل عن الآخر».
معاهد مسرحية للتكوين المتواصل
الصور قاتمة للمهرجانات المسرحية العربية لأسباب كثيرة؛ منها: ما تخلفه بعض لجان التحكيم من كوارث بسبب نتائج مشكوك فيها تكرس الكثير من الكراهية وتفعل الإقصاء؛ إذ تحولت المهرجانات بسببها من إداة استقطاب للممارسين إلى إداة تفرقة وتشتيت، وهو ما أثار حفيظة الناقد اللبناني عبيدو باشا، مثلًا، الذي تحدث بغضب عن نتائج لجنة التحكيم في الدورة الرابعة من أيام قرطاج المسرحية؛ إذ «طغى الصوت السياسي على الصوت الإبداعي». هذه الممارسات دفعت ببعض المهرجانات العربية إلى إلغاء نظام الجوائز كأيام قرطاج المسرحية ومهرجان الأردن المسرحي، لكن بعد سنوات تراجعت عن هذا الخيار الذي كان مجحفًا في حق صناع المسرح. ما يجب التفكير فيه هو آليات جديدة تساعد على إنصاف الأعمال المشاركة في المهرجان. كما يرى بعض أن هذه المهرجانات لم تستطع «خلق مسار ثابت للممارسة المسرحية في الوطن العربي»، لكن على الرغم من هذه السوداوية فعلينا أن نعترف بدور هذه المهرجانات وبخاصة مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة – مصر، والمهرجان الوطني للمسرح المحترف بالجزائر، وأيام قرطاج المسرحية بتونس، ومهرجان دمشق المسرحي بسوريا، ومهرجان بغداد المسرحي بالعراق، ومهرجان المسرح الأردني، وأيام الشارقة المسرحية بالإمارات، ومهرجان المسرح العماني بسلطنة عمان، ومهرجان البقعة بالسودان، ومهرجان المسرح العربي الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح الشارقة. هذا الدور مؤثر على مستويات عدة؛ لأنه ساهم بشكل فعال في مجال التكوين أو التدريب المسرحي أو نظام الورش لأنها فضاء تفاعلي حيوي لتقاسم المعرفة (نظريًّا وتطبيقيًّا) وهي فرصة كبيرة ونادرة للهواة والمحترفين على حد سواء للتعمق أكثر في التقنيات المسرحية.
ما يلاحظ أن غالبية الفرق المسرحية في الوطن العربي تأسست من دون دعم مادي أو معنوي. ولقد دفع مؤسسوها الثمن غاليًا، وشقوا، كما يقول المخرج الجزائري مصطفى كاتب، «الطريق من دون تكوين مسبق». لقد كان تكوينهم يرتكز إلى الممارسة والتجارب الشخصية؛ لذا فإن هذه المهرجانات التي تأسست هنا وهناك في غياب معاهد فنون مسرحية، أو ملحقاتها قد أصبحت فعلًا خزانًا للتكوين المتواصل والموازي.
الندوات التطبيقية: ورشة مفتوحة
تجدر الإشارة إلى الندوات التطبيقية أو ما يصطلح عليها الجلسات النقدية التقييمية بعد مشاهدة العروض المسرحية مباشرة، التي نعدّها ورشة تكوينية خاصة، وهذا ما لمسناه شخصيًّا خلال حضورنا الكثير من المهرجانات: مهرجان أيام الشارقة المسرحية، ومهرجان المسرح العربي، ومهرجان المسرح الأردني، ومهرجان المسرح الكويتي، والمهرجان الوطني لمسرح الهواة مستغانم بالجزائر، ومهرجان المسرح العماني، التي يحرص منظموها على برمجة هذه الندوات. ونعتقد أننا جميعًا ثمرة لهذه الورش النموذجية التي استطاعت أن تصنع جسورًا بين المختصين والمهتمين وبين المحترفيين والهواة، وذلك بإيصال المعرفة المسرحية وتطويرها بعيدًا من الإسهابات النظرية المنفرة والدخول في صميم التطبيقات. لكن الورش في المهرجانات العربية عمومها تبقى متشابهة ومستنسخة، ولم تخرج كما يقول الراحل قاسم محمد عن «درسها الفني المتداول من الأساليب، بل يوجد تكريس لما هو متوارث وما هو في متناول الأيدي وتحت النظر من المفاهيم السائدة في المناهج والآليات والإعداد والتدريب لرواد ومتدربي هذه الورش؛ معلمين ومتعلميين». إن تزايد الورش داخل المهرجانات هو ظاهرة صحية لا شك في ذلك، وبخاصة التركيز على فئة الهواة والشباب، وذلك، كما يقول أحمد أبو رحيمة، «بحثًا عن وجوه جديدة يمكن لها أن تثري الساحة بحضورها الشاب والحيوي في المستقبل القريب».
لا نجد في القوانين التأسيسية لغالبية المهرجانات بنودًا تنص صراحة على التكوين المسرحي. وقد حاول بعض مديري المهرجانات العربية، ومنهم الراحل أمحمد بن قطاف التحايل على هذه القوانين المجحفة بإقامة ورش تدريبية على أساس أنها لقاءات فكرية، وهكذا وجد فراغًا قانونيًّا واستقدم الكثير من الخبراء العرب تحت بند المشاركة في المؤتمر الفكري أو لجان التحكيم، ومن ثمة الاستفادة من خبراتهم في التدريب المسرحي لجيل جديد أصبح فاعلًا في الحركة المسرحية العربية، وبجدارة هو نتاج الورش التدريبية للمهرجانات.
خفوت وهج المهرجانات ونمطيتها
مهما قيل عن المهرجانات من أنها مضيعة للمال العام، وأنها مجرد تسلية ومكان لعقد الصفقات والمشاريع، إلا أنها منحت الباحثين والفنانين الكثير إلى درجة أن هناك من يراها مؤسسة ثقافية كبرى يستفيد منها بوصفها:
– أبواب مفتوحة على المشاريع المسرحية الرائدة والعمل على محاكاة مواطن النجاح وتجنب مواطن الإخفاق والفشل. وبذلك تنفتح العقول المبدعة على الإبداع المسرحي.
– نوافذ تطل على العروض والأعمال المسرحية العربية والعالمية فتكون بمنزلة كاميرا ترصد المستجدات من خلال مشاهدة قدر هائل من الأعمال المسرحية المتباينة شكلًا ومضمونًا وموضوعًا وجمالية.
– فضاءات للقاء أجيال من المبدعين المسرحيين الذين يجمعهم عشق المسرح بالدرجة الأولى، وهو الأمر الذي يجعل الرواد أحيانًا يرغبون في تكوين الشباب ونقل خبراتهم لهذه الشريحة بكل التخصصات المسرحية، أو أن يحدث هذا التكوين بصفة تلقائية. وبذلك يوجدون في عوالم يتماهى فيها الإنساني بالفني.
– تساهم في تعميق أهمية الإبداع والفن والجمال مع تدعيم إستراتيجية التلقي، من خلال الأعداد الهائلة للجمهور المهرجاني الذي يَفِد عليها طلبًا للمتعة، وبذلك تتربى ذائقته الجمالية.
– تجمع بين الفائدة والمتعة إضافة إلى كسر حاجز النمطية وملء رئتي المبدع بأُكسجين الإبداع، وهذا ما يحفزه على ركوب الصعاب وتحسين مردوديته الفنية والمسرحية بغية الفوز بسحر المسرح وجاذبيته وجبروته.
– تخلق المهرجانات جسورًا من ديناميكيات العمل مع كل أطياف المسارح.
تواجه بعض المهرجانات المسرحية العربية العريقة في السنوات الأخيرة إشكالات عدة، على غرار مهرجان أيام قرطاج المسرحية ومهرجان القاهرة التجريبي… وذلك عائد، بحسب عدد من المتابعين، إلى عدم إثراء تلك المهرجانات بإضافات جديدة تكون في مستوى تطلعات المسرحيين العرب، ناهيك عن كون الوجوه نفسها من الضيوف تتكرر حتى يبدو للمتابع كأنه في مهرجان واحد، مع العلم أن هذه الظاهرة قد تداركَتْها بعض المهرجانات المسرحية العربية، مثل: مهرجان أيام الشارقة، ومهرجان المسرح العربي، ومهرجان المسرح العماني؛ اذ صارت تحرص على تجديد الوجوه المشاركة راصدة الشباب ذوي التجارب الفتية في شتى التخصصات. إضافة إلى ما تواجهه بعض المهرجانات وبخاصة مهرجان أيام قرطاج ومهرجان القاهرة التجريبي، من أوضاع مادية ضاغطة، تؤدي إلى استضافة عروض ضعيفة لا تشبع رغبة المسرحيين العرب الذين يصابون بخيبة أمل. كما أن الندوات والملتقيات التي تنعقد يسودها تكرار المواضيع والإشكاليات فتصبح بلا جدوى. كما قد يعود ذلك الخفوت والنمطية إلى ما يعم الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية من أمراض تفشَّت، فأتت حتى على الإبداع المسرحي العربي.
ممارسة غير مهرجانية
بحكم مشاركتنا في عدد من المهرجانات العربية، نشير إلى بعض السلوكيات التي تسبب حرجًا كبيرًا لإدارة المهرجانات، فالكثير من الضيوف العرب الأعزاء ومن الأسماء الثقيلة يأتي للمشاركة فيقدم ورقته أو مداخلته ثم يختفي تمامًا. لا يحضر فعاليات الندوات الفكرية ولا الندوات التطبيقية، بل أحيانًا لا يشاهد حتى العروض المسرحية ويكتفي بالجلوس في المقاهى الملحقة بالفندق، يدخن ويثرثر ويعيد حكايا أمجاده ويكرس وقته للسياحة والتجوال باسم المهرجان. هذه الأسماء تجدها بعد المهرجان تتبجح وتشرح وتنظر…، وهي في حد ذاتها أحد أسباب فشل هذه المهرجانات وتراجعها.