«تاريخ العيون المطفأة» لنبيل سليمان.. تاريخ العين المبصِرة
تبتدئ ملحمة «جلجامش» المعروفة بعبارة «هو الذي رأى». الرؤية أكثر من كونها حقيقة عيانية، إنها حياتية، جوانية، وموقع الكائن في الوجود. إنها لحظة حِدَادية معمَّمة لا مفر منها، سارية المفعول إلى يومنا هذا، وستستمر ما بقي دهرنا. وربما كان الناقد والروائي السوري نبيل سليمان أدرك حقيقة من هذا القبيل، وبلسان فني، في أحدث رواية له «تاريخ العيون المطفأة» الصادرة عن دار مسكلياني- تونس، عام 2019م التي تقع في 340 صفحة ونيّفًا. العنوان لا يخفي لعبته المركَّبة: ما هو تاريخي، وليس من تاريخ مسند، رغم وجود وقائع متخيلة، وليست بغريبة عنا، وما هو فني، ليس من نتاج الفن المحض وحده. رواية عنكبوتية، مكلِفة، مرهقة، كابوسية، لكنها تقول عالمًا قائمًا من حولها، وعلى طريقتها، وهو ما يجعل الحياة جديرة بالعيش، رغم فجائعية سرديتها؛ إذ ليس من رواية، إلا وتكون نصيرة حياة، فهي من جنسها.
تؤكد هذه، بوصفها نبتًا أدبيًّا مدى أهليتها لتكون شاهدة عيان على أدق التفاصيل، وكما يقول الناقد الأدبي ألكسندر جيفن بتعبير لمّاح، وضّاح عن أن الأدب هو السلاح النهائي لحرية الإنسان، هكذا نتلمس مخاض الألم وفرحة رؤية شاهدة عيان على تفسخ زماني -مكاني اجتماعي- سياسي معلوم.
وعبر راويته كان ظل الروائي الذي يستغرق مساحات وفضاءات جغرافية وتاريخية واسعة. عبر ثالوث مدن متخيلة، وهي حيلة سرعان ما تعلِمنا بسخريتها القائمة على المفارقات (بلاد بر شمس، كمبا، قمّورين. ص 7)، ممنوحة نِعمًا، لكنها لا تقدّرها، فكان الانقلاب الكارثي والمرعب: عمى أهلها إجمالًا. إنه انتقام مكاني، وتأريخي زماني إذًا! في قولة الراوي الشعبي المعدَّلة (كان، لا ما كان، وغير الله ما كان. ص 7 )، ما يحفز فينا إرادة اليقظة: ما الذي دفع به إلى هذه اللعبة، وهو يكاد يعدِم جل ما هو معهود في الحياة؟
لعلها الحياة وما يصنَع بها وفيها بالذات، حين يطاح بالنعمة الكبرى، وهي متعدية الدلالات: البصر. كما لو أن البصر ينتقم، حين يُري ما لا يراد أن يُرى، فكان الإعدام الذاتي (نعم، يا سادة يا كرام. البصر هو اسم العلة، وليس العمى. ص 7)، أي الحياة هي العلة وليس الموت، ويحل الموت، حين يجري تصريف الحياة دون اعتبار لأهميتها.
البلاد الثلاثة بأسمائها المعلنة تعيش أدواء، وخرابات «من صنع أيدي أهلها» تلك عاقبة الطبيعة. والروائي يلعب لعبته، رغم أنه في متن اللعبة، حيث أي معنى لحياة، حين نقرأ المقرَّر الروائي بصدد كمبا، كمثال (فهي البلاد التي انقلب فيها الأخ على أخيه، والابن على أبيه، والحفيد على جده. ص 11).
أسماء أشخاص خلاف حقيقتها: سلامة حاتم، الشيخ حميد، فخر النساء، مولود، لطيف، آسيا، معاوية… إلخ. العمى هو القاسم المشترك الأكبر، رغم أن ثمة عينًا هي التي توزّع المهام، وترصد الحركات، وتسمّي الأشياء المتخيلة بأسمائها: عين الراوي الذي يختبئ وراءه الروائي.
ثمة لوحات «عينية» ونزيلة ما لا يصدّق، عبر أداة التشبيه: كالمقدمات، كالمتون «التي استلمت مجمل النص الروائي»، وكالخواتيم التي واجهت قارئها بخمسة أسطر منقطة دون حرف واحد، كما لو أنها متروكة له. وفي «المتون» ثمة ثمان وأربعون لوحة «ولا ندري ما دلالة الـ«48»، هل لها صلة بأولى هزائم العرب الحديثة «1948»؟ وكما هو ثالوث أداة التشبيه «كالمقدمات»، وقد أطبق على عالم الرواية بالكامل، كما لو أن سردية ما كان، أنجبت مالًا هو كائن ومعيش.
الرواية لا تستشرف بنا في دوامات يبابها ما هو خارجي صادم، إنما ما هو داخلي كذلك: فثمة توأمة خراب مستفحل. وللداخل مداخل كبرى. ويظهر أن الرواية تتناص مع رواية «بلد العميان» لجورج ويلز، و«العمى» لساراماغو، والثانية بشكل أكبر، وهذا طبيعي في دنيا الروايات، سوى أن نبيل سليمان منح روايته حضورًا محلّيًّا جديرًا بالثقة.
ثمة الكثير يسبب العمى في روايته (عمى يولّد عمى… ثم: القضاء، اقتصاد الشفط واللهط، المراكز الأمنية التي يصح أن يقال فيها: الوباء الأمني؟ وماذا عن وباء الفساد؟ ماذا عن وباء هؤلاء الذين نصَّبوا أنفسهم ناطقين باسم الله من أي دين كانوا؟ ص 307). ثمة ما يقربنا من المباشرة أحيانًا لحظة الإشارة إلى أخبار المظاهرات ومواقعها ومناخاتها، وقد تموقعت في متن الرواية هنا وهناك: عربيًّا، قبل كل شيء، كما يمكننا التعيين (البصر هو المظاهرات السلمية…البصر هو الشباب الذين خرجوا في تلك المظاهرات ونظَّموها وقادوها، والعمى، بالتالي، هو من أجهضوها بأي وسيلة كانت، بالقمع، ركوب الموجة من أجل كرسي الحكم…. ص311).
جرس الإنذار الأكبر في الرواية حين يعمى معاوية نفسه، وهو صاحب سلطان، وكيف أرعبه عماه المفاجئ، وهو الذي كان يحاول إبصار الناس اصطناعيًّا، أي ما يكون زيفًا (فزلزلت المكتب صيحته والرعب يتآكله: عميت يا معاوية 1.ص 340).
يبقى كل شيء في عراء أكثر من معنى، لكنه الخراب الذي يسمّي شخوصه، وأجواءه من خلال صنعة الكتابة.
مما لا شك فيه أن المؤلف هو أول قارئ لعمله، كما يقول بيار ماشيري، ولا بد أن روائينا كان يعيش هذه الحالة، لكنه في كتابته يكون الآخر، وقد أضفى على «كان يا ما كان» بدعة التجاوز، تأكيدًا على صلاحية الصيغة، وقابليتها للتعديل، وكون الماضي بحمولته السياسية، الثقافية، والقيمية يطرح نفسه كثيرًا، فكان هذا الاعتماد والطراد.
أما خاتمة رواية ساراماغو «العمى» التي تركّز على (بشر يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون)، فتحل بصيغة أخرى هنا، تبعًا للزمان والمكان لدى روائينا نبيل سليمان، فثمة بشر عاشوا نعمًا، وفي بيئات تستحق العناية بها، لكنها خانوا «وصايا النعمة» فكان المنقلب، وضمنًا: داء السياسة المتعلق بالكرسي هنا وهناك، ولا بد أن الذي سطَّره نبيل سليمان في «تاريخ العيون المطفأة» سيشكّل تاريخًا مضافًا إلى حقله الإبداعي، ونقلة نوعية في بنية الرواية العربية، وتأكيدًا فعليًّا، على أن الإبداع، وضمنًا: الروائي، بلا ضفاف، حتى في أكثر الأزمات استعصاء.