خالد زيادة: الفكر الغربي فقدَ إيمانه بكونيّة الحداثة نعى أوربا التنوير والأفكار الكبرى
يحمل المفكّر والمؤرخ اللبناني خالد زيادة رايةَ العودة إلى تراث النهضويين العرب الكبار في أواسط القرن التاسع عشر، والانطلاق منه كمنصّة لاستئناف مشروع التحديث القومي من جديد، خصوصًا أن رموز هذا المشروع من أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وبطرس البستاني وعلي مبارك، كانوا قد بسطوا، بوضوح، أفكار الحرية والمواطنة والعدالة والدستور.
ثم إن فكر هؤلاء الرواد ومن جاء بعدهم، يمكن أن يشكّل في رأي زيادة مرجعية تنويرية حقيقية وقارّة، مع الأخذ في الحسبان هنا كل التطورات التي حصلت خلال قرن ونصف القرن من الزمن؛ يساعدنا في ذلك طبعًا أن هؤلاء الرموز، لم يجدوا تناقضًا بين إيمانهم ومعتقداتهم وبين تبنّي الحداثة الأوربية، في وقت سابق لاستخدام الدين في السياسة أو استخدامه في العداء للحداثة. بوجيز العبارة، مشروع هؤلاء الرواد التحديثي تلخِّصه -بحسب د. زيادة- عبارة خير الدين التونسي القائلة: «إن التمدن الأورباوي تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوربا من ذلك التيار، إلا إذا أخذوه، وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق».
وتزداد يقينيّة الدكتور زيادة بدعوته الإحيائية القومية هذه بعد اقتناعه بأنه لم يعد يرى في أوربا مصدر أفكار تنويرية كبرى تقدمها للعالم، بل على العكس، باتت تطغى دعوات الحرب على الإرهاب فيها (وفي الغرب عمومًا) على قيم الحداثة والليبرالية.. وهو لأجل ذلك ألّف كتابًا بعنوان: «لم يعد لأوربا ما تقدّمه للعرب». وله مؤلفات فكرية ونقدية أخرى مهمّة جدًّا، معظمها صدر في القاهرة وبيروت معًا، لكون زيادة كان سفيرًا للبنان في مصر وفي الجامعة العربية أيضًا، ومن أبرز كتبه نذكر: «الكاتب والسلطان.. من الفقيه إلى المثقف»، و«المسلمون والحداثة الأوربية»، و«الخسيس والنفيس»، و«العلماء والفرنسيس»، و«بوابات المدينة والسور الوهمي».
ومن ترجماته، هو الخبير بالدراسات العثمانية، نذكر الكتب: «جدول التنظيمات الجديدة في الدولة العثمانية»، و«نقد حالة الفن العسكري إلى القسطنطينية»، و«ثلاث رحلات جزائرية إلى باريس»، و«سفارة نامة فرانسة لمحمد جلبي»… وغيرها. تجدر الإشارة إلى أن كتابه «الكاتب والسلطان.. من الفقيه إلى المثقف»، كانت قد انعقدت حوله في القاهرة ندوة شاركت فيها ثلّة من كبار مفكّري مصر وكتّابها، منهم: يحيى الجمل، والراحل السيد ياسين، وجابر عصفور، ومصطفى الفقي، وصلاح فضل، وفريدة النقاش، وسمير مرقص، وشوقي جلال، وحلمي النمنم، ونبيل عبدالفتاح، وجورج إسحاق، وأنور مغيث وغيرهم.
التقينا الدكتور خالد زيادة في بيروت، بعد عودته متقاعدًا من العمل الدبلوماسي في القاهرة وكان لنا معه هذا الحوار، الذي بدأناه بالسؤال:
● إلى أي حد يمكننا القول بوجود فكر عربي معاصر؟ فأجاب:
■ حين نتساءل عن الفكر العربي المعاصر، فإن أذهاننا تذهب مباشرة إلى أسماء وليس إلى تيارات. ثمة نشاط فكري في المغرب يستند إلى المنهجيات الغربية وخصوصًا الفرنسية، إلا أننا لا نجد نشاطًا مماثلًا في مصر أو المشرق العربي، على الرغم من بعض الأسماء اللامعة؛ ففي المشرق سادت في الحقبة ما بين الحربين العالميتين التيارات الأيديولوجية القومية والاشتراكية التي طغت على التفكير المنهجي وحالت دون بروز تيارات فكرية نقدية.
وفي مصر، ازدهرت الليبرالية من أحمد لطفي السيد إلى طه حسين، رغم تحولاته التي لم تحجب صوته الحر. كما عرفت مصر نشاطًا في ميدان الفلسفة الجامعية مع أسماء معروفة قدمت للطلاب والقراء تعريفات منهجية حول تاريخ الفلسفة والفلسفة الحديثة. وبشكل عام، فإنّ الفكر العربي الحديث قد استند إلى المرجعيات الغربيّة أو إلى مرجعية التراث الفكري العربي. وفي ستينيات القرن الماضي، برز بعض دارسي الفلسفة الذين أرادوا صوغ أفكار فلسفية مستمدة من الشخصانية أو الوجودية، لكنها كانت محدودة الأثر وقصيرة الأجل. كما برزت محاولات لاستنباط تفكير عربي من المرجعيات العربية الكلاسيكية، فكُشف عن تراث المعتزلة كتيار ديني عقلاني، كما كُتبت دراسات عدة حول ابن رشد، بوصفه فيلسوف العقلانية، وكذلك ابن خلدون الذي أثارت مقدمته دراسات كثيرة وخصوصًا حول مفاهيم العصبية والعمران وأطوار الدول.
هذا النشاط الفكري الذي عرفناه سابقًا يُعزى إلى الإعداد الجيد الذي كانت تقدمه بعض الجامعات العربية، وإلى الإيمان بمشروع فكري عربي، إلا أن ذلك كله سرعان ما تلاشى، مع تدهور مطّرد للتعليم الجامعي، وخصوصًا الإنسانيات والاجتماعيات. والتضييق الذي فرضته وتفرضه الأنظمة الأحادية على المناهج.
المشهد الفكري الراهن، لولا بعض الأسماء، يدعو إلى الإحباط، خصوصًا أن النتاج الفكري الرصين لا يصل بشكلٍ كافٍ إلى القراء. كذلك فإن المناقشات والحوارات الفكرية المعمّقة متوقفة، والمستوى الجامعي متدنٍّ.
لا بدّ إذًا من إعادة الاعتبار لتدريس الإنسانيات والاجتماعيات، وبشكل خاص تدريس الفلسفة حتى يتسنى بناء جيل قادر على التفكير الحرّ.
● في كتابك «لم يعد لأوربا ما تقدمه للعرب»، تطرح أهمية العودة لإنتاج مشروع نهضوي خاص بالوطن العربي، بعيدًا من التقليد واللهث وراء الآخر، فأوربا حسب قولك، لم تعد منتجة للأفكار الكبرى التي أنتجتها وأثّرت من خلالها في الشعوب كافة، ولذلك لا محيص من العودة لتراث النهضة والإصلاح عندنا؛ كي نؤسس مشروعًا فكريًّا وحضاريًّا جديدًا.. لا بأس، ما الذي يجعلك ترى أن تراث النهضة العربية، لا يزال مرجعًا صالحًا يمكن الركون إليه والتعويل عليه في بلورة نهضة حضارية عربية جديدة؟
■ حاولت في كتابي: «لم يعد لأوربا ما تقدمه للعرب» القول: إن أوربا التي كانت مصدر الأفكار الكبرى منذ عصر التنوير في نهاية القرن الثامن عشر، لم تعد كذلك اليوم. وأظن أن آثار هذا الأمر تبدو جليّة في كل التطورات التي حدثت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين؛ إذ تطغى الدعوات إلى الحرب على الإرهاب في الغرب على قيم الحداثة والليبرالية، وانتشار الشعبويات القومية الفقيرة الخيال والانعزالية على الانفتاح ونشر قيم الديمقراطية. وفي زمن الحرب الباردة؛ في خمسينيات القرن العشرين حتى منتصف الثمانينيات منه، كان الصراع العالمي بين أفكار الليبرالية الغربية والاشتراكية، وكانت أنظمة الاستقلال في آسيا وإفريقيا قد تبنّت أشكالًا من اشتراكية الدولة، بمعنى أن الفكرة الاشتراكية كانت لا تزال فاعلة، لكن ذلك كلّه انتهى اليوم، لتحلّ محلّه شعارات «صراع الحضارات» و«حوار الحضارات»، وهي شعارات فضفاضة لا مضمون لها.
كانت أوربا في عصر العقلانية قد أنتجت الأفكار التي عمّت العالم، وكانت الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789م، هي التي أطلقت أفكار الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، وقدمت أنموذج الدولة الدستورية التي تفصل بين السلطات، وتنشر التعليم في أوساط المواطنين. هذا الأنموذج أخذت به دول أوربا في زمن الدولة القومية، ووصلت أصداء التجربة الفرنسية إلى عالمنا العربي وخصوصًا مصر ولبنان وتونس. ومن يراجع الأفكار التي تنطوي عليها مؤلفات بطرس البستاني ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، في أواسط القرن التاسع عشر، يجد أنها قد بسطت بشكل واضح أفكار الحرية والمواطنة والمساواة.
وباختصار، فإن فكر هؤلاء، ومن جاء بعدهم، ينطوي على مشروع تحديثي تلخصه عبارة خير الدين التونسي الثاقبة: «إن التمدن الأورباوي تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوربا من ذلك التيار إلا إذا أخذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق». وعبارة خير الدين واضحة، لجهة تبنّي الحداثة في شؤون الحياة العامة، وهي التي شرحها الطهطاوي وعلي مبارك في مؤلفاتهما أيضًا.
واليوم نجد أن مشروع التحديث الذي أطلقه النهضويون لم يتحقق، وإذا كانت المرحلة الأولى في النصف الأول من القرن العشرين قد شهدت بروز أفكار الوطنية والحرية والدستور، فإن النصف الثاني من القرن العشرين، ومع الأنظمة الأحادية، قد شهد تراجع المواطنة لجهة الولاءات الفئوية والمذهبية، وتراجعت الحياة الدستورية، وانخفضت مستويات التعليم، وتدهور الاقتصاد …إلخ، إزاء الخواء الفكري الذي نعيشه، فإن مشروع التحديث الذي أطلقه النهضويون يمكن أن يشكل منصّة للانطلاق لبناء مشروع تحديثي يأخذ في الحسبان كل التطورات خلال سحابة قرن ونصف القرن من الزمن. وبمعنى آخر، فإن أفكار النهضة يمكن أن تشكّل لنا مرجعية، خصوصًا أن هؤلاء النهضويين لم يجدوا تناقضًا بين إيمانهم ومعتقداتهم وبين تبنّي قيم الحداثة الأوربية. في وقت سابق لاستخدام الدين في السياسة أو استخدام الدين في العداء للحداثة.
إخفاق الراديكالية العربية
● هل مات مشروع قوميّة الثقافة العربية، أم إن ثمة عروبة جديدة بزغت أو ينبغي أن تبزغ من قلب إخفاق التجارب العروبيّة السابقة، التي غلب عليها طابع الارتجال والشعبوية السياسية وتسلّط الدكتاتوريات الاستبدادية كما شهدناها مع العسكر العربي في أكثر من بلد عربي؟
■ ينبغي أن نُقرّ بأن مشروع الراديكالية العربية الذي تمثل بحزب البعث والناصرية قد انتهى إلى فشل كبير. لم تستطع الراديكالية العربية التي رفعت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية أن تحقق واحدة من شعاراتها، فلا الوحدة تحققت ولا تحرير فلسطين أنجز. أما الاشتراكية، فإنها أدّت إلى ظهور طبقة جديدة من المنتفعين بالسلطة حلّت محلّ مالكي الأراضي والصناعيين وكبار المحتكرين… إلخ. عدا ذلك، فإن أنظمة القومية العربية كانت معادية للديمقراطية، كرّست نظام الحزب الواحد والرأي الواحد وانتهكت القوانين والدساتير. كل ذلك نجد آثاره فيما آلت إليه الأوضاع في العراق وسوريا واليمن وليبيا.
هنا أيضًا ينبغي العودة إلى مطلع القرن العشرين، إلى العروبة الإصلاحية المنفتحة التي قادت الحركات الوطنية في المشرق، والتي عبّرت عن تعدّدية وانفتاح، وأطلقت حياة سياسية قائمة على تعدّد الأحزاب والممارسة الديمقراطية من خلال انتخاب المجالس التمثيلية. لقد شهدنا في النصف الأول من القرن العشرين مشاركة واسعة لكل أطياف «المواطنين»، بغض النظر عن الانتماء الديني أو الجهوي. وتطورت فكرة المواطنة التي أصبحت انتماء حقيقيًّا كرّسته المدرسة الرسمية والمؤسسات الإدارية والسياسية.
ما نحتاجه اليوم هو عروبة منفتحة وتعددية تقوم على نقد العروبة الاندماجية والأحادية، ونقد وتجاوز التجارب التي أدّت إلى كوارث عسكرية كما في عام 1967م، وأفضت إلى الحروب والتدمير الذي نشهده. كانت الأنظمة العسكرية أقرب ما تكون إلى أنظمة احتلال، حيث تحتل عصبةٌ من الضباط البلادَ وتستأثر باقتصادها، غير آبهة بإفقار المواطنين، بل تَعْمِد إلى فك روابطهم، بإرجاعهم إلى انتماءاتهم الأوليّة ما قبل الوطنية. إن جذور هذه الجماعات العسكرية ترجع إلى زمن تسلّط المماليك في القرن الثامن عشر على أجزاء كبيرة من العالم العربي، فكان المماليك الغرباء هؤلاء يصادرون السلطة ويتحكّمون في البلاد والأهالي من دون أي قانون أو شرعية… وباختصار، تطرقت في كتابي الذي ذكرت إلى نموذج التسلّط المملوكي، الذي هو نموذج وجذر للسلطات العسكرية التي حكمت العديد من البلدان العربية. لا بدّ إذًا من تفكيك هذه الأنظمة بالكشف عن أصولها وجذورها، من أجل بناء عروبة تعدّدية وحديثة.
● ما رأيك في قول بعض: إنّ العروبة الجديدة الجامعة هي رؤية ثقافية تعددية في المقام الأول، مهمتها إطلاق مسار حضاري يشمل سائر الفئات والعناصر البشرية على امتداد الوطن العربي الكبير؟.. وهكذا فإن معادلة الاستنهاض بفكرة العروبة الثقافية ينبغي أن تسبق الاستنهاض بنظيرتها السياسية.. أليس كذلك؟
■ أعتقد أن كل مشروع سياسي لا بدّ أن ينبثق من رؤية ثقافية؛ ذلك أن أسس العروبة كما نفهمها، هي عروبة ثقافية ولغوية، وليست عرقية.
وينبغي أن نعيد الاعتبار للأفكار بصفتها العامل الرئيس في التغيير والتطور.
ولا شك في أن انبثاق فكرة العروبة في نهاية القرن التاسع عشر، استند إلى تراث ثقافي ولغوي عريق. لهذا السبب، فإن العروبة التي ظهرت على أيدي اللبنانيين، أولًا بأول، قد رجعت إلى تراث اللغة العربية، ثم الأدب العربي لتبني عليه فكرة عروبة حديثة؛ ذلك أن اللغة الفصحى كانت أداة لاستيعاب الحداثة الفكرية ومثال على ذلك «دائرة المعارف» للمعلم بطرس بستاني؛ إذ إن اللهجات العاميّة كانت عاجزة عن استيعاب قيم الحداثة؛ لذا فإن الفصحى هي التي تبنّت قيم القانون والدستور والحرية والعدالة والمساواة… إلخ.
ومع صعود العروبة السياسية، نهضت الآداب العربية وخصوصًا في النصف الأول من القرن العشرين، ونهضت الثقافة العربية المشبعة بقيم الحداثة (من جبران والريحاني إلى العقاد وطه حسين). ومن الأمور التي تدعو إلى التأمل والتفكير، أن اللغة العربية تراجعت مع صعود الأصوليات والسلفيات، التي تتجاهل التراث الثقافي والأدبي الكلاسيكي، وتعادي الثقافة العصرية. والعروبة الجديدة لا بدّ أن تنهض على أفكار التعدّد ونقد الأحادية. بل إن هذه العروبة ليست إلا مشروعًا سياسيًّا يحتمل تعدّد الأنظمة على غرار أوربا الموحدة، ويقبل التنوع الإثني والديني، وينهض على علاقات مع الجوار المتنوّع أيضًا، فنحن في وسط ثلاث قارات وتعدّد تجارب وثقافات. من جهة أخرى، لا بدّ لكل مشروع عروبي من أن يأخذ في الحسبان الجانب التنموي: من التعليم إلى الاقتصاد وردم التفاوت بين المناطق والبلدان. يملك العالم العربي طاقة بشرية شابة، وإن الاستثمار المستقبلي يكون بالتعليم الذي يرفع في الوقت نفسه مستوى الإنسان ومستوى الإنتاج.
● دكتور خالد، الحقيقة أننا نعاني غيابَ ثقافةٍ نقدية تحديثية قادرة على خلق فكر اجتماعي، من مهمته إعادة التجديد في كل شيء.. فحتى الآن لا تزال قلاع التخلّف عندنا قائمة في أصولها الاجتماعية ومنطلقاتها الفكرية وتجسيداتها الاجتماعية والنمطية والأخلاقية؛ ما تعليقك؟
■ أنتجت الأحداث في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة، ثلاثة أمور هي على جانب كبير من الأهمية: أولًا: سقوط مشروعية الأنظمة الأحادية الاستبدادية أو ما تبقّى منها. ثانيًا: إثبات إخفاق مشروع الإسلام السياسي، أو بمعنى أدق تسييس الإسلام. ثالثًا: إن الطاقات البشرية الشابة في العالم العربي لا تنفد، وهي في ازدياد وستطالب بحقها في التعليم والتنمية والحياة الكريمة. بهذا المعنى، فإن ما حدث في السنوات السابقة (منذ 2011م حتى اليوم) ليس إلا إرهاصات لسلسلة من أحداث وانتفاضات يبدو أنها لن تتوقف. فالمشهد الراهن شديد التعقيد والتبدّل. أما التغيير المنتظر (نظرًا للركود الذي عاشه العالم العربي خلال نصف قرن سابق) فلا بدّ أن تحدثه أجيال متعاقبة خلال السنوات المقبلة. هذا التغيّر لا بدّ أن تحدّد وجهته ثقافة نقدية، تجابه الجمود والتبعية. وعلى سبيل المثال، فإن الضغوط وقعت وتقع على المؤسسات الدينية (مثل الأزهر) من أجل تجديد برامجها وخطابها. وقد استجاب الأزهر في المؤتمر الذي عقده نهاية شهر شباط- فبراير/ أول آذار- مارس 2017م، بدعوته إلى مؤتمر تحت عنوان: «المواطنة والتعدّد» تبنّى فيه الدولة المدنيّة. وهذه خطوة إلى الأمام. ولكن التعويل ليس على المؤسسات ذات الطابع الرسمي أو الديني فقط، فالشأن المتعلق بالإسلام، هو شأن كل المسلمين الذين يعيشون ما يتعرض له الدين الحنيف من اتهامات. من هنا ضرورة نقد جذري لمقولات الإسلام السياسي كمهمة أساسية يقوم بها رجال الدين، وبشكل خاص غير رجال الدين. وربما تكون هذه نقطة لانطلاق تفكير نقدي يترافق مع نقد السلطوية والأحادية.
لقد سقطت السلطوية الأحادية، كما أظهر الإسلام السياسي فشله، ومع ذلك لم يجر حتى الآن النقد الضروري لكلتا المنظومتين: الاستبداد والأصولية. وهذه هي المهمة الكبرى التي تواجه المثقفين الآن من أجل بناء فكر نقدي جدّي وفعّال.
● عربيًّا، هل بتنا نعيش نهاية أوهام الحداثة؟ ثم أين هي نخب التحديث العربية الآن؟ لماذا خَفَت صوتها، وخصوصًا في ظروف تاريخية نحن بأمسّ الحاجة إلى سماع ما تقوله، والوقوف على آرائها وأدوارها الفاعلة والمتفاعلة على الأرض؟
■ لا أتبنّى تعبير «أوهام الحداثة»، فالحداثة أمر تاريخي وكوني. وهي مشروع للمستقبل، على الرغم من كل الكلام عن «ما بعد الحداثة». جابهت الحداثة مجموعات من التحدّيات العميقة، فقد برزت في وقت مبكّر الآراء الناقدة للحداثة مع انطلاق الصناعة (روسو والعودة إلى الطبيعة)، ثم مع نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر، وأحدثت الحرب العالمية الأولى شكوكًا بالحداثة والعقلانية. وأرخى ظهور التيارات القومية الفاشية التي تسبّبت في الحرب العالمية الثانية، بشكوك حول الحداثة ومشروعها. لكن إذا ذهبنا إلى عمق المسائل المتعلقة بالحداثة، نجد أن الفكر الغربي فقدَ إيمانه بكونيّة الحداثة، وكونيّة أفكاره.
كتب هانتنغتون: «إن الغرب متميّز وليس كونيًّا في موقف انعزالي عن العالم. وشهدنا في سنوات الرئيس أوباما سياسة مبنيّة على عدم التدخل الذي يستند إلى فلسفة تقول: إن ما يجري في العالم من صراعات هو بسبب أنظمة ومعتقدات الشعوب التي تشهدها أرض هذي الصراعات». ومن جهة أخرى، فإن التحديث في العوالم غير الأوربية، قد جابه ممانعات وتحديات، وجُوبِهَ بذرائع من نوع الخصوصيّة الثقافية والعادات والتقاليد. وأعتقد أنه من المفيد العودة إلى جورج بالاندييه، الذي أعود إليه في مناسبات عديدة، خصوصًا أنه شرح كيف أن البنى التقليدية قادرة على احتواء جوانب من التحديث وإفقادها فاعليتها.
حدث في عالمنا العربي- الإسلامي، الفصل المتعمّد بين الحداثة كنظرة إلى العالم تتجاوز الأفكار والبنى التقليدية، وبين التقنيات التي هي نتاج التطور الفكري والعلمي. ومن الملاحظ أن بعض دارسي العلوم، والطب، والرياضيات وغيرها، بفصلهم العلوم الدقيقة عن أصولها الفكرية، لا يرون غضاضة في انتمائهم إلى حركات سلفية ترفض الجوانب الإنسانية الأخرى وسياسة الحداثة والتحديث.
ومنذ وقت مبكّر، فإن الاتجاه الإسلامي (الإخوان المسلمون في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الفائت)، كان يشدّد على انتقاد الأفكار الغربيّة والمدارس الفكرية والفلسفة وعلم النفس والتاريخ، ومع ذلك لا يمانع من التعامل مع السياسات الغربية؛ إنّ فصل التقنية عن أصولها العلمية والفكرية التي أنتجتها، هو ما أفقدنا الانخراط الحقيقي في حداثة نكون مسهمين في صناعتها وليس مستهلكين لها وحسب.
تفكيك نظرية المؤامرة
● عودة إلى كتابك المهم: «لم يعد لأوروبا ما تقدّمه للعرب»، تقول فيه: إن المعيار لولادة فكر عربي جديد يكمن في تجاوز الأيديولوجيات المعادية للغرب والتخلّي عن نظريات المؤامرة على العرب والمسلمين، ولا يتحقّق ذلك إلّا بنشوء جيل ثقافي يتمتّع بالاستقلال في الرأي، قادر على قياس المصالح التي تربطنا بسائر الأمم، ويعيد النظر بكل الأسس الاقتصادية والتربوية والسياسية التي تحكم حاضرنا… لا بأس، ولكن كيف للعرب أن يتعاملوا مع مصالحهم الإستراتيجية حين تتضارب مع مصالح الغرب الإستراتيجية، الذي لا يعرف، في المحصّلة، إلّا الهيمنة عليهم، وخصوصًا عندما يظهر لديهم أيّ نبتٍ لاستقلال حضاري حقيقي وجدّي يواجهون بواسطته مشكلاتهم البنيوية والتحديّات التاريخية الكبرى التي تجابههم؟
■ إحدى كبرى المشكلات التي تساور الوعي الثقافي الشائع تكمن في ثنائية الشرق والغرب ذات التنويعات العديدة: إسلام – مسيحية، تقدم- تأخر، إيمان- كفر، وقد تبنّى الفكر السياسي العربي، أن المؤامرة الغربية على العرب والإسلام مستمرة منذ ألف سنة ويزيد. ومن هنا الازدهار للأدبيات والشعارات حول الحملات الصليبية القديمة والحديثة. وقد أسهم في ذلك الفكر القومي، كما أسهم فيه الفكر الإسلامي الأصولي. كانت خطابات البعث والناصرية تستند إلى عمود فقري هو المؤامرة، من سايكس بيكو إلى وعد بلفور؛ وقد فاقم الأمر إقامة دولة إسرائيل التي اعترفت بها أوربا والولايات المتحدة الأميركية؛ كما اعترف بها الاتحاد السوفييتي؛ إلّا أنه وفي زمن الحرب الباردة، تحالفت القومية العربية مع الاتحاد السوفييتي وصبّت غضبها على الغرب.
إن ولادة فكر عربي جديد، لا بدّ له إذًا من تفكيك نظرية المؤامرة التي تضخّمت إلى درجة المرض، فصار كل ما يفعله الغرب، إنما يستهدف الإسلام وعقيدته والعرب ومشروعاتهم. لا بدّ إذا من تفكيك نظرية المؤامرة حتى نستطيع أن نتبيّن أخصامنا وأعداءنا الحقيقيين وليس المتوهمين. إن مصالح الدول شأن واقعي لا يمكن إنكاره، وكلّما كنت ضعيفًا، ازددت رضوخًا لمصالح الآخرين.
إن منطق السياسة هو معرفة المصالح وإقامة التحالفات من دون أفكار مسبقة، والأفكار المسبقة المتوهمة، هي ما ينبغي أن نتخلّى عنها، حتى نتمكّن من أن ننتج أفكارًا معاصرة أو حديثة تمكننا بدورها من أن ندرك عالمنا الذي نعيش فيه ونتفهمه.
إن ما نسميه مؤامرة هو سياسات ظاهرة لا لبس فيها. فالولايات المتحدة تدعم إسرائيل بلا مواربة، ولم نستطع إزاء ذلك أن نبني مواقف ثابتة تجنّبنا الهروب إلى الأمام. لقد أصبحنا نقول الشيء وعكسه، نتّهم الغرب بالمؤامرة، في الوقت نفسه الذي نتهمه بالتخلّي عن مبادئ حقوق الإنسان وإدارة ظهره للمجازر والمآسي التي تحدث هنا وهناك.. وهنالك. إذًا، لا بدّ لنا من سياسات تقوم على قياس المصالح، قادرة على التعامل بواقعيّة مع أطماع الدول، فالأطماع قائمة والمصالح كذلك، ولكن علينا أن نبني سياسات قادرة على مجابهتها.
● لنتحدث عن فكرة استخدام الدين في السياسة، يبدو أن أحزاب الإسلام السياسي شوّهت الأمور، وأساءت إلى تراث الإصلاحيين الإسلاميين النهضويين الذين عرفت معهم المنطقة بداية بزوغ إسلام تنويري يتلاءم ومتطلبات الحداثة والتحديث؛ من أمثال محمد عبده والأفغاني والكواكبي وابن باديس… إلخ؛ ما تعليقك؟ وما مستقبل الإسلام السياسي في طبعته الجديدة حسب رأيك؟
■ استخدام الدين في السياسة ليس حديث العهد، بل يرجع إلى نهاية القرن التاسع عشر. ويمكن أن نرصد ثلاثة اتجاهات مبكّرة أرادت، كل لأسبابها، استخدام الدين في السياسة. الاتجاه الأول: بدأ مع الدولة العثمانية في زمن السلطان عبدالحميد الثاني، الذي كان دعا إلى «الجامعة الإسلامية» بقصد حشد المسلمين إزاء التدخلات الغربية. الاتجاه الثاني: مثَّلَه علماء ورجال دين من أمثال الأفغاني والكواكبي، فقد أراد الأول أن يحشد المسلمين ضد الغرب، وهو أول من استنبط لغة العداء للغرب واتهامه السياسات الإنجليزية بالصليبية، «وإنها تريد فناء هذا الدين»… أما الكواكبي فأراد استخدام الدين ضد السلطة الحاكمة والاستبداد.
الاتجاه الثالث: استخدام الدول الكبرى الإسلام والمشاعر الدينية من أجل أغراضها السياسية، وقد بدأ ذلك في نهاية القرن التاسع عشر، حين كانت بريطانيا وفرنسا تبحثان عن شخصية إسلامية عربية لتبرير الثورة على السلطان العثماني. وفي المحفوظات الدبلوماسية الفرنسية والإنجليزية العائدة لبدايات القرن العشرين الكثير من الوثائق التي تتحدّث عن خلافة عربية.
هذا يعني أننا أمام تاريخ من التدخلات، الذي تطور خلال ما يزيد على قرن من الزمن، بحيث يمكننا أن نتعقب الاتجاهات الثلاثة وطرق اشتغالها، فالسلطات الحاكمة التي ورثت الدولة العثمانية، أرادت استخدام المؤسسات الدينية الرسمية خدمة لأغراضها. أما الاتجاه الذي مثَّله الأفغاني والكواكبي، ومن بعدهما محمد رشيد رضا، فقد أثمر ولادة جماعة الإخوان المسلمين، وما تفرّع عنها لاحقًا من حركات سيو/ دينية. أما التدخلات الغربية في الإسلام، فيكفي أن نذكر تشجيع الولايات المتحدة الأميركية التيارات الإسلامية في تركيا، وذلك للوقوف في وجه الشيوعية، بعد الحرب العالمية الثانية، ثم استخدام الجهاديين في الحرب الأفغانية. من هنا، فإن المسؤوليات في استخدام الدين في السياسة متعدّدة ومتداخلة، فحين نتحدث عما ارتكبته أحزاب الإسلام السياسي، لا يمكن أن نغفل الاستخدام المفرط من جانب الدول الكبرى للإسلام والمشاعر الدينية في خدمة سياسات السيطرة.
وأعتقد أن الرائد الأول للإصلاح الإمام محمد عبده، هو الذي أدرك مبكرًا ضرورة فصل الدين عن السياسة والسلطة، حين قال بوضوح أنْ لا سلطة لأحد على المسلم في إيمانه. وبهذا المعنى فإنه كان يدعو إلى الإيمان الفردي، وتحرير الفرد المسلم من الوصاية، ومن ثَمَّ تحرير المسلمين من الأغراض السياسية.
الإسلام لا يتناقض مع الحداثة
● لماذا تبدو ثقافة المجتمعات الإسلامية عامة (بالمعنى السوسيولوجي طبعًا وليس الديني) عاجزة عن الارتقاء إلى الحداثة السياسية، حتى في وجهها غير الغربي؟
■ لديّ إجابة مناقضة للأطروحة التي تتقدّم بها في سؤالك. فالمجتمعات الإسلامية ليست عاجزة في أي مجال من المجالات. لا أريد أن أتحدث عن ماليزيا وإندونيسيا… ولكنني أريد أن أتحدث عن الفضاء العربي وخصوصًا المصري والسوري واللبناني. ففي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، تصدّى للعمل العام أشخاص تأثروا بإصلاحية محمد عبده أمثال كرد علي وعبدالقادر المغربي وسواهما في المشرق، وسعد زغلول (الذي كان تلميذًا ومعاونًا لمحمد عبده) في مصر، وقد استوعب قادة الحركة الوطنية في المشرق، وفي مصر، ولاحقًا في الجزائر والمغرب، أن الإسلام لا يتناقض مع الحداثة. وقد شهدنا خلال ما يقرب من نصف قرن انفتاح المسلمين على العلوم الحديثة وبناء مؤسسات الدولة والتحديث الاجتماعي، ويكفي أن نستعيد الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الفائت حتى يتأكّد لنا ذلك.
أما ما حدث بعد ذلك من نكوص، فيرجع إلى أسباب عدة؛ منها سياسات الإقصاء التي مارستها الأنظمة الأحادية، وكبت الحريات، ومطاردة الأفكار… إلخ، وكلها أمور أسهمت في تغذية الإسلام السياسي الذي ظهر كأنه المعارض الوحيد للتسلّط.
● يلفتني فيك كمفكر ومؤرخ أنك كاتب روائي أيضًا، وأن ثلاثيتك: «مدينة على المتوسط» تؤرّخ لطرابلس، المدينة اللبنانية التي عرفت ازدهارًا عظيمًا وكثافة بشرية أكبر من بيروت في حقبة معاصرة.. ومن هنا كانت معالجتك لتأثير التطوّر العمراني على واقع التقاليد الاجتماعية فيها وفيما أحدثته وتحدثه من متغيّرات سياسية واجتماعية صراعيّة بالضرورة؛ ما تعليقك؟
■ إن ميولي الأدبية، إذا جاز التعبير، ترجع إلى قراءاتي المبكّرة حين كنت لا أزال على مقاعد الدراسة قبل الجامعية. ويبدو أنني احتفظت بهذا الميل في نفسي، على الرغم من اشتغالي في مسائل التاريخ والاجتماع. ولهذا السبب، فإن «الثلاثية» التي كتبتها عن مدينة طرابلس، والتي هي أشبه بسيرة مدينة. كُتبت بأسلوب روائي، ولكنها في الوقت نفسه استندت إلى معطيات تاريخية ومنهجيات علم الاجتماع، ولهذا السبب فإن الثلاثية، وخصوصًا الجزء الأول منها «يوم الجمعة يوم الأحد»، قُرئ بوصفه عملًا روائيًّا، كما قُرئ من جانب طُلاب الاجتماع والتاريخ والعمارة؛ وقد تُرجم إلى خمس لغات أوربية بعد صدوره بقليل.
أما الرواية التي كتبتها بعنوان: «حكاية فصل» فهي عمل يلتزم بأسلوب العمل الروائي، ولكن يستند إلى مراجع تاريخية؛ والفكرة الرئيسة التي أريد أن أقولها هنا، هي أن السرد الأدبي يسمح للكاتب بالدخول في مساحات لا تتيحها الدراسة الأكاديمية.
وبمناسبة السؤال، أقول بأن لديّ أكثر من مشروع روائي أرجو أن يتاح لي الوقت لإنجازها جميعًا.