عزلة أوربا وحروب العرب المريرة
العالم يتقدم ويتطور. مقولة صحيحة لا غبار عليها؛ فسِمَة الزمان التقدم للأمام، والتطور هو سمة التغيُّر في الماديات، لكن لا ننسى أن التطور يمكن أن يكون سلبيًّا أيضًا، وليس بالضرورة أن يصف معنًى إيجابيًّا. والحديث الآن عن أوربا يوافق هذا الكلام، فأوربا الآن في عزلة نسبية فيما يتعلق بانفتاحها على العالم. وعلينا ألا ننسى أن العالم العربي حدثت فيه تطورات من النوع السلبي أيضًا، فالانشقاقات والنزاعات والحروب التي عانتها وعاشت فيها المنطقة في العقود الأخيرة فقط، جعلتها غير قادرة على الاستقرار.
عزلة أوربا وانكفاؤها على نفسها قابَلَها عزل للعالم العربي في الوقت نفسه، فلم يعد لأوربا صداقة أمينة مع العالم العربي سياسيًّا ولا مصداقية اجتماعية، كما لم يعد للعالم العربي أي «تلويحة» معارضة فعالة أو رد فعل مؤثر حامٍ أو مشارك على الأقل في الحاسم من القرارات العالمية.
* * *
أوربا تلك القارة العظيمة التي كانت شعاعًا حضاريًّا في القرن الأخير على الأقل، يأفل نجم إشعاعها تدريجيًّا في السنوات الأخيرة حيث يرتد هذا الإشعاع إلى الداخل أو إلى الذات الأوربية، وهذا ليس بعيب على الإطلاق لكن المبالغة في تلك الذاتية وتجاهل التواصل الطبيعي مع بقية دول العالم، خصوصًا هذا التواصل المعنوي الذي لا يصب في مصالح اقتصادية فقط، أدى إلى خلق عدم استقرار نسبي في الموازين المعنوية لكافة دول العالم.
من وجهة نظر خاصة لشخص يعيش في أوربا منذ ستة وثلاثين عامًا وفي وسط أوربا تحديدًا، في قلب النمسا، أرى أن الأمور تسير بحسابات جزئية قصيرة الأمد، توفر للمواطن الأوربي أو مواطن الاتحاد الأوربي راحةً وهميةً وتخديرًا مؤقتًا على حساب الاستقرار العالمي. لو بدأنا نتابع ما يحدث مع الصين، على سبيل المثال، من جانب أوربا كحراك سياسي شبه انفصالي عن أميركا تحديدًا وكاقتصاد مصلحي ممنهج تخطوه أوربا في السنوات الأخيرة؛ سنتأكد من تغليب المصلحة الذاتية الأوربية وأن الأمر هو شعور بالخوف أكثر من كونه انفتاحًا حقيقيًّا، فالعزلة الثقافية بين الصين وأوربا ما زالت قائمة، أما الانفراجات الآنية فهي تحدث على الجانب الاقتصادي أكثر.
من أين ينبع هذا التغيير؟
ينبع أساسًا من سياسات ترمب التي تسعى لتحجيم الحلفاء الأوربيين ومحاولة تأكيد أن السياسات الأميركية هي القوة الحقيقية والوحيدة في العالم، وأنه على أوربا أن تظل بقيادة أميركا تابعًا وحليفًا مؤيِّدًا، وقد أثبتت السنوات الماضية وبخاصة إبان حرب الخليج الثانية أن هذه الولاءات العمياء قد كبدت أوربا خسائر معنوية أكثر من الاقتصادية حول مصداقيتها لكنها سرعان ما ردمت عليها وبحثت عن حلول جديدة. وما زلنا لا ننسى سعرة الدول الأوربية في تقسيم مشاركات إعادة الإعمار في حرب الخليج الثانية، بل كان هناك إمعان في التخريب المقصود أثناء الحرب في آبار البترول كمثال، مع الثقة في أن كل هذا الإعمار سيتم لاحقًا من جيوب ودم الشعوب المغلوبة على أمرها، ولا ننسى هنا قول الرئيس بوش: «من ليس معنا؛ فهو ضدنا!» فانجرَّت أوربا في طرفة عين لتقف صفًّا واحدًا خلف سياسة بطش شديدة المكر والتغول.
والارتباط الأميركي الأوربي عبر التاريخ الحديث لا يمكن تجاهله، فأميركا في معظم أحوالها تضع مصلحتها الاقتصادية دائمًا في المقدمة -وهذا ليس بعيب أو محل انتقاد- لكن ما عدالة الوسيلة المستخدمة؟ قبل عام تقريبًا انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني وهددت تركيا بالخروج من حلف الناتو وانسحبت من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وقبل عامين تقريبًا قرر الرئيس ترمب الخروج من اتفاق باريس للمناخ، هكذا ببساطة. كانت هذه هي الشرارة التي أعلنت فيها أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية بشجاعة تحسب لها، أن هذا الأمر لا يتسبب في خطر على أوربا وحدها وإنما هو خطر يهدد العالم، وأنه لا بد من إعادة الحسابات في أوربا من جديد، ومن رأيها أن أوربا في حاجة أكثر مما مضى للاعتماد على نفسها. كان هذا التلميح أو التصريح بمنزلة شرارة البدء في التوجه للاستناد على قوى أخرى حاضرة وفاعلة، وبالطبع كان نجم الصين هو الصاعد، فبدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمبادرة فرنسية -تُحسَب لأوربا بشكل غير مباشر- قام من خلالها بفتح قنوات التواصل مع الصين. بدأ ماكرون بمديح للسياسات الصينية التي تقف مع اتفاق باريس للمناخ، متجاوزًا أن الصين فعليًّا هي الدولة رقم واحد في العالم من حيث انبعاث الغازات المسببة لارتفاع المستوى الحراري للكرة الأرضية.
بهذا أصبحت ألمانيا وفرنسا هما القاطرة الأساسية مزدوجة الجرّ لبقية دول الاتحاد الأوربي السبع والعشرين (بعد خروج المملكة المتحدة) نحو الشراكة الصينية، ولا سيما أن الصين قد بدأت بالفعل تدشين أول قاعدة عسكرية في جيبوتي، وهذا يعني أن الثقل الاقتصادي يتحول إلى طريقه المعتاد عبر السياسي للثقل العسكري، من أجل الهيمنة مستقبلًا على أي اضطرابات اقتصادية في أي مكان. الاستناد على الصين فيه سبع فوائد كما نقول، فالصين قد توغلت في آسيا وتغولت في إفريقيا بشكل لم يسبق له مثيل، وها هي تدفع حصانها بثقة وتراهن عليه ليكون في المقدمة. ومشروع الصين العملاق (طريق الحرير الجديد)، الذي دشنه الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2013م، لإنشاء طريق بطول 12 ألف كيلو متر يمتد من شنغهاي حتى لندن، يهدف بشكل أساسي لتعزيز التواصل ورفع معدلات التبادل التجاري من خلال هذا الجسر البري البحري الذي سيقلل تكاليف النقل والإمداد ويخفض الوقت والتكلفة، فضلًا عن أن هذه الطريق الجديدة سينتفع بها أكثر من خمس وستين دولة في ثلاث قارات هي آسيا وإفريقيا وأوربا، أي لمصلحة أربعة مليارات نسمة أو ما يقرب من 60% من إجمالي سكان العالم. وقد بادرت الصين باستعدادها لضخ مبلغ 124 مليار دولار للمشروع بنسبة 61% من القيمة الإجمالية التي تبلغ 200 مليار دولار من أجل مشاريع البنية التحتية من طرق وموانئ وسكك حديدية وخطوط كهربائية وشبكات إنترنت وأنابيب نفط وغاز في كل الدول التي تقع في نطاق هذا المشروع الكبير.
ومن ناحية أخرى فإن هذا الأمر من شأنه أن يغيّر من موازين القوى العالمية في غير صالح الولايات المتحدة، بعد عقد أو أقل من عقدين، وهو الأمر الذي لن تفوته الولايات المتحدة بهذه السهولة؛ مما قد ينبئ بحرب جديدة قادمة بعد الاقتناع بأن تلك الحروب الصغيرة التي ضعضعت دولًا كثيرة في كل مكان حول العالم، لم تخلق استقرارًا طويل الأمد سواء لها أو للعالم.
الهجرة إلى أوربا
مأساة اللاجئين من دول غير أوربية برزت في أوربا في السنوات الأخيرة بشكل لم يكن مسبوقًا، وقد تصدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للأزمة وفتحت ألمانيا الأبواب كمضيف مستقبل لأكثر من مليون طالب لجوء في عام 2015م، وهو ما جعل شوكة المعارضة الداخلية تشتد عليها. بعدها بعام وعدت الألمان بإيجاد حل أوربي يضمن خفض هذا التدفق من المهاجرين، ودعت في هذا السياق إلى فكرة فرض حصص إلزامية لتوزيع المهاجرين على دول الاتحاد الأوربي؛ فتسببت من جديد في إثارة الامتعاض من كثير من دول الاتحاد الأوربي. مبدئيًّا كان الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند قد وافق على هذا المشروع الألماني، لكن رئيس الوزراء مانويل فالس رفض الفكرة، وعَدَّ فرنسا خارج نطاق التأييد لهذه الآلية ولهذا الطرح بل أكد أن أوربا لم تعد قادرة على استيعاب أو استقبال المزيد من المهاجرين، فتخلت فرنسا عن مؤازرة فكرة ميركل في هذا الأمر، والأكثر غرابة في الأمر هو أن دول شرق أوربا -التي ما إن انفتحت الأسوار لها حتى دخلت الغرب بأعداد غير مسبوقة- كانت أول من عارض الفكرة جملة وتفصيلًا بحجة مقنعة للمواطن الأوربي وهي: «أمن أوربا». هذا الموضوع الحساس الذي يستقبله كثير من المواطنين الأوربيين بكل حفاوة ورضا؛ بل صار الحصان الذي يمكن المراهنة عليه في سباقات الانتخابات بشكل متكرر. فأشارت رئيسة وزراء بولندا بياتا شيدلو إلى ضرورة الانعطاف نحو وجهة جديدة تحت اسم «الأمن الأوربي»، وذكّرت بحادثة اعتداءات باريس وقضايا الاعتداءات الجنسية التي وقعت ليلة رأس السنة في كولونيا بألمانيا. إضافة لذلك هناك من رأى أن آلية الحصص ستتسبب في زيادة الحافز على الهجرة بدلًا من وقفه. حسب قول وزير الخارجية السلوفاكي ميروسلاف لايشاك.
وبينما كانت خطة ورأي المستشارة الألمانية ميركل أكثر إنسانية وبعد نظر من خلال آلية فرض حصص إلزامية للدول الأوربية لاستقبال المهاجرين، مع ضرورة مكافحة مهربي المهاجرين في تركيا، ومحاولة المساعدة في تحسين ظروف الحياة في مخيمات اللاجئين السوريين في كل من تركيا ولبنان والأردن، للحد من تدفق المهاجرين.
وجهات النظر تصاعدت بالاعتراض من مختلف الجهات حتى من أميركا نفسها ومن روسيا، وكلها في الأغلب تصب في نقد سياسة ميركل، فحددت كثير من الدول سقفًا لاستقبال اللاجئين، وحذرت دولٌ أخرى من فتح الحدود وتسريب اللاجئين.
تطور أوربي وأحوال العرب
تطورت الأوضاع في أوربا كثيرًا في الخمسين عامًا الأخيرة سياسيًّا واقتصاديًّا وجغرافيًّا، بإزالة كثير من الحدود، وبعمل أكبر وحدة دول في العصر الحديث شملت حتى الآن سبعًا وعشرين دولة في الاتحاد الأوربي. وأتذكر أنني عشت يوم إزالة الحدود بين المجر والنمسا قبل ثلاثين عامًا وتحديدًا في السابع والعشرين من يونيو من عام 1989م. ولم تمرّ أكثر من خمسة أشهر على هذا الحدث حتى سقط حائط برلين في التاسع من نوفمبر من العام نفسه، معلنًا عن لحظة مفصلية في تاريخ أوربا. في حين العالم العربي في نصف القرن الأخير، وعلى سبيل المثال، تكاد لا تخلو دولة منه من مشاكل إقليمية حدودية أو مشكلات جوار؛ حروب مريرة على مدار سنوات طويلة مع دولة غير عربية بين العراق وإيران من عام 1980م إلى عام 1988م خلّفت وراءها ما يقرب من مليون قتيل وخسائر مادية تجاوزت أربع مئة مليار دولار أميركي، وكانت تلك هي حرب الخليج الأولى التي تلتها حرب الخليج الثانية، مشكلات وحرب عقيمة طويلة بين شمال السودان وجنوبه أدت في عام 2011م إلى انقسام السودان دولتين، واجتياح العراق الكويتَ في عام 1990م، والحرب الأهلية الجزائرية أو العشرية السوداء في الجزائر التي بدأت في عام 1992م، وغير ذلك من مشكلات حدودية مستمرة في المغرب، والتهاب الثورات العربية في تونس ومصر، والاضطرابات التي حدثت في ليبيا والسودان واليمن، ومشكلة سوريا المزمنة، وتدفق اللاجئين. وأولًا وأخيرًا مشكلة فلسطين التي لم تجد حلًّا حتى اليوم. كل هذا حدث في عقود قليلة، في الوقت الذي تتضامُّ فيه أوربا، وتحاول أن تجد حلولًا لها.
في هذا المضمار المرهق ماديًّا ومعنويًّا للعالم العربي كانت مساعدات أوربا مركزة بشكل أساسي في مدِّ دولنا العربية بما تحتاجه في هذا التطور السلبي المتصاعد، بكل ما يلزم وما لا يلزم من أسلحة ومعدات حربية. تسابقت الدول العربية في شراء ما هو حديث لها وقديم عند تلك الدول الأوربية. دفعت الدول العربية المال والدم في اللحاق بركب التسليح الشرير الذي لم تَجْنِ من ورائه سوى التراجع والتخلف. أما في إطار التواصل بين أوربا والعالم العربي فقد تراجع بشكل ملحوظ، وصارت قوانين الاتحاد الأوربي ملزمةً لكل دول الاتحاد، فأصبحت الأولوية في العمل أو التسهيلات لمواطني هذه الدول بشكل أساسي. ودخلت أوربا تدريجيًّا في عزلة مختارة؛ هذه العزلة الأوربية لها أيضًا بعض المبررات المنطقية الآنية لكنها على الأمد الطويل ليست في المصلحة العامة.
العزلة التي فرضتها أوربا على نفسها سيصعب التخلص منها مرة أخرى في وقت قصير. فرصة عالمنا العربي أصبحت أيضًا أصعب بكثير؛ لأن هذا الاتحاد الأوربي مهما كان فهو في عصبته أكثر متانة واستقرارًا من أوضاع الدول العربية في مجموعها، ولم يستطع العالم العربي أن يقدم بدائل مقبولة أو يدخل في اقتصاد متكافئ مع هذا الاتحاد أو حتى في نِدِّيَّة اجتماعية لو جاز لنا هذا القول.
من ناحية أخرى يلعب الإعلام أيضًا في أوربا والعالم الغربي دورًا مهمًّا في تشكيل ذهنية المواطن الغربي، وقد أصبح سلطة لا يستهان بها. وهو إعلام مؤثر بصورة قوية. أما الإحساس الأوربي منذ بداية الألفية الثالثة ففيه كثير من الزهو والاستعلاء واستطاع أن يجتاح إعلاميًّا كثيرًا من المناطق المستضعفة في العالم. ومع تصاعد اليمين الشعبوي في أوربا وكون فكرة الحرب قد صارت لا تخيف الأجيال الجديدة التي لم تلمسها الحروب من قريب أو بعيد والتي تتجاهل التاريخ وتسعى نحو مد الجغرافيا، فهم يعدُّون -وأنا أتكلم هنا عن الجيل الشاب الجديد في أوربا- الحرب أمرًا يسيرًا مضمونًا وليس أكثر من مجرد مباراة رياضية، يظنون أن فريقهم فيها هو الغالب بلا شك، في حين الجيل الأكبر سنا هنا في أوربا فقد طرقت آذانه مطارق اليمين حتى أصيب برهاب الأجانب (xenophobia) الذي استفحل كالوباء في عصب أوربا؛ أما اليسار الليبرالي والأحزاب الاجتماعية فلم تعد تستطيع حفظ التوازن أمام سطوة الإعلام اليميني، وهو ما أدى إلى خسران الكثير من المقاعد على مستوى البرلمانات وعلى مستوى المدني والاجتماعي وخصوصًا المنظمات غير الحكومية المعروفة باسم: NGO أو (Non-governmental organization).
تزايد العزلة الاجتماعية في أوربا
على المستوى الفردي تشير آخر الإحصائيات إلى تزايد العزلة الاجتماعية في أوربا في الآونة الأخيرة، فأكثر من 7% من الأوربيين لا يجتمعون حتى لو مرة واحدة في السنة بالأصدقاء والأقارب، وهو لم يعد أمرًا يسبب المخاطر النفسية فحسب بل له عواقب أخرى أو توابع، ثبت علميًّا أنها تزيد من أمراض القلب بنسبة 29% وترفع من السكتة الدماغية بنسبة 23%، فالشعور بالوحدة أو العزلة يزيد من الإحساس بالاكتئاب والإجهاد ويؤدي في كثير من الأحيان إلى التفكير في السلوك الانتحاري.
هذه العزلة الاجتماعية تفاقمت في السنوات الأخيرة، وتشير دراسة استقصائية إلى أن نصف مليون شخص في المملكة المتحدة وحدها، ممن هم فوق سن الستين، يقضون اليوم بمفردهم دون أي تفاعل اجتماعي، وكذلك يشابه الوضع في ثلثي الدول الأوربية، حيث يوجد أكثر من 10% من الأشخاص فوق سن الخامسة والستين ليس لديهم أصدقاء ولا يزورهم أحد أو يلتقون أحدًا على الاطلاق. والأمر لا يتعلق فقط بكبار السن بل يسري مؤخرًا أيضًا على الشباب، وتشير الدراسات إلى تنامي العزلة بين الشباب وأنهم يسعون لتعويض هذا الاحتياج عن طريق التواصل عبر الشبكات الاجتماعية؛ تلك الشبكات التي تسهم في زيادة الإحساس بالعزلة والوحدة، وهناك الآن محاولات حثيثة تدق ناقوس الخطر وتنبّه إلى أن الوضع يتخذ منحًى مأساويًّا خطيرًا، ويتسبب في فقد التواصل الاجتماعي الصحي، وتنحو المحاولات والدراسات لتعزيز الروابط الاجتماعية الحقيقية المباشرة لكسر الحواجز التي تحول دون التواصل الاجتماعي البشري الطبيعي القديم.
الحديث أيضًا من جانب آخر عن عزلة مسلمي أوربا يتفاقم بشكل غير مباشر ضمن العزلة الأوربية، فمن ناحية، هناك من يرى أن هناك صعوبة في اندماج المسلمين الأوربيين في مجتمعاتهم الأصلية، فهم لم يعودوا يشعرون بالانتماء للدول التي ولدوا ونشؤوا فيها، ومن ناحية أخرى لم يستطيعوا الاندماج التام مع تلك المجتمعات الأوربية التي وفدوا إليها. وتميل بعض السياسات في كثير من الدول الأوربية إلى محاولة إزاحة تلك الجاليات إلى «غيتّو»، وتُعَدّ فرنسا هنا من أكثر الدول تورطًا في هذا الاتجاه، ولم تستطع أن تتوصل إلى إيجاد سياسة موفقة في استيعاب هذه الثقافة التي تعدُّها غريبة تمامًا عنها.
كل هذه الأمور، من سياسات تتدرج في الانعزال الذاتي إلى جانب عزل بعض الجاليات داخل البلد الواحد، ومحاولات الانتقال من معسكر غربي إلى آخر شرقي، ثم إلى معسكر في أقصى الشرق، ثم محاولات تغليب المصالح الذاتية على مصلحة العالم أجمع، والمشكلة البيئية خير مثال حيث إنها لا تخص بلدًا بعينه فالاحتباس الحراري قضية عالمية وليست أزمة محلية، ثم مشكلات التسليح غير المتوازن وضياع العدل والمساواة لحقوق الدول والشعوب، وخلق مجتمعات موازية، وتصعيد الإرهاب وخلقه، وتأجيج الصراعات في المناطق البعيدة بشكل دموي، وتصعيدها في أوربا بشكل معنوي لصالح القوى المتسلطة والاتجاهات السياسية، ثم صعوبة توافق العالم المتدين مع العالم العلماني وغياب التسامح الديني؛ كل هذا قد يحوّل الأمر في النهاية إلى كارثة بشرية غير مضمونة العواقب، ويهدد بتلاشي الحل السلمي المناسب في الوقت المناسب، بعد أن تتجاوز المخاطر الخط الأحمر بلا رجعة.