الإعصار الشعبوي… بحث في النقد الثقافي والنقض المعرفي
يقترح الدكتور هشام شرابي بديلًا لمصطلح «الخطاب» الشائع لترجمة كلمة Discourse بمفردة «المقال»؛ وذلك لربطها بكتاب ابن رشد «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال». غير أن كلمة «الخطاب» التي شاع استعمالها هي التي تحتل موقعًا مركزيًّا في النقد الثقافي. وعندما يفكر الباحث بتحليل دلالات «الإعصار الشعبوي» الذي يجتاح العالم الغربي، تبرز النزعة الشعبوية populism التي تستنفر عواطف الجماهير التماسًا لتأييد العامة للغةٍ تلجأ في خطابها (مقالها) إلى واحدية أيديولوجية المنزع، تنتصر للبلاغة والبيان على حساب العقلانية والحوار، وتخاطب عواطف الناخبين بدلًا من عقولهم، وترفض التعددية الثقافية multiculturalism لتعول بذلك على الكلام اللاحواري، وعلى التلقين بالتكرار بدلًا من التعلم سبيلًا إلى الفهم.
وبعبارة أخرى تصبح الشعبوية الموجهة ضد الآخر المختلف بمنزلة تعزيز لأسبقية الكلام على الكتابة: الكلام بلاغة والكتابة حقائق وأرقام. وأما ما يدعى بالقولبة أو «التنميط السلبي» negative stereotyping فهو أداة الشعبوية في التعمية والتجهيل. كما أن تفنيد إدوارد سعيد للتنميط السلبي الذي يشغل موقعًا مركزيًّا في مشروعه الرامي إلى تفعيل ما أدعوه بـ«النقض المعرفي» فيمكن تقصي بعض جذوره في الحكاية الآتية:
لا تاريخ بل سيرة: في أثناء زيارة قام بها إلى أوربا الشاعر والفيلسوف الأميركي رالف والدو إمرسون (1803 – 1882م)، التقى المؤرخَ الأسكوتلندي توماس كارليل (1795 – 1881م)، وكان اللقاء بداية مراسلات كثيرة بين الطرفين. وقبل مضي قرابة عقد على اللقاء كتب إمرسون مقالة حول التاريخ ادعى فيها أنه: «ليس ثمة من تاريخ بالمعنى المتداول، بل هناك كتابة سيرة فقط biography». وكان بذلك كما يبين النقد الثقافي قد تجاوز زمانه عندما رأى أن التاريخ عبارة عن رواية قصة، رواية فردٍ لسلسلة أحداث، سرعان ما التقطها آخرون وعولوا عليها بسبب جمال سردها والقوة الخطرة التي تنطوي عليها الكلمة. فإذا كان الأدب تاريخًا، والتاريخ أدبًا، فإن من المنطقي القول: إن السرد الشعبوي للأحداث، صار ممكنًا فهمه لأنه اعتمد الخطابة أسلوبًا استعاض به عن العقلانية الرامية إلى الكشف عن الحقيقة.
يلخص باحث غربي معاصر الصورة الإعلامية التي يحملها الغرب عن العالمين العربي والإسلامي على النحو الآتي: «جهل الغرب بالعرب والإسلام يشبه جهل سجين يسمع إشاعات حول الأحداث الجارية في الخارج، ويحاول أن يصوغ ما يسمعه بمساعدة آرائه التي كونها مسبقًا». ما حقيقة هذه الصورة ذات البعد الشعبوي؟ وكيف تبدو من خلال منظورها التاريخي؟ وإلى أي حد تؤثر في صياغة صورة العربي والمسلم في مرآة الإعلام الغربي المعاصر؟
ثمة جواب تقليدي، غير مقنع في معظم الأحيان، يسمعه المحاور العربي من محاوره الأوربي، كلما برزت مشكلة تتعلق بالصورة السلبية التي تقدمها أجهزة الإعلام الغربي عن العالمين العربي والإسلامي: «هناك نقص في المعلومات». ومن الطبيعي أنه لا يوجد الآن، في عصر الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، أي نقص حقيقي في المعلومات، وإنما هناك عملية نَمْذَجَة وقَوْلَبَة مستمرة للرأي العام الغربي، تحاول تقديم صورة جاهزة ومسبقة الصنع. ما جذور هذه الصورة المسبقة الصنع؟ بل ما جذور هذه الجاهزية الشعبوية المشبعة بالانحياز؟
تعود هذه الصورة تحديدًا إلى القرون الوسطى، ولا بد من أجل رصدها من استعادة قرون من المجابهة والتعايش بين التقاليد الغربية والشرقية. غير أن أهمية دراستها تكمن، للغربيين خاصة، في أنها تجري في مرحلة أصبح معها من الضروري على حد تعبير باحث مهم هو ر. و. سذرن: «الالتفات إلى دراسة المجتمعات التي تقع خارج أوربا الغربية، وبخاصة تلك التي مارست تاثيرًا في تطور الغرب». ويستدرك هذا الباحث الذي أشار إليه إدوارد سعيد بتقدير استثنائي في كتابه الشهير «الاستشراق» قائلًا: «هذه الفكرة ليست جديدة بطبيعة الحال، بيد أنها فكرة لا يتعين عليها أن تناضل ضد صعوبات داخلية عظيمة فحسب، وإنما ضد نزعة المحافظة المسيطرة على التقليد الأكاديمي القائم».
والحال أن دراسة العرب والمسلمين من خلال علاقتهم بالمسيحية الغربية في القرون الوسطى كانت موضوعًا للأبحاث الجادة خلال السنوات القليلة الماضية فقط؛ ذلك أن الإسهام العربي والإسلامي في تطور الفكر الغربي وتأثيره في الغرب ما زال موضوعًا بكرًا تقريبًا. وما زالت هناك نقاط كثيرة مظلمة تحتاج إلى أن تكشف وتضاء ويعاد تقييمها.
ولعل أحد الأسباب التي دعت «سذرن» إلى الاهتمام بهذا الموضوع، فضلًا عن حب الاستطلاع الأكاديمي، أن المشكلة العملية الرئيسة في وقتنا الحاضر هي مشكلة وجود أنظمة فكرية وأخلاقية يجاور واحدها الآخر ويعاديه، وقد مر على سيطرة الغرب وإحساسه بالتفوق على كل صعيد، ما يَنُوفُ على ثلاثة قرون لم يوجه إليه خلالها أي تحدّ حضاري ذي شأن. وهذه المسألة تجعل الغربيين قليلي الالتفات إلى تجربة التحدي التي عانتها أوربا الغربية خلال القرون الوسطى، حيث كان الإسلام الحضاري المشكلة الأساسية التي جابهتها المسيحية آنذاك. هذه التجربة تاريخية، ومن ثَمّ فإنها متعددة المراحل، وقد لاحظ سذرن في كتابه «آراء الغرب في الإسلام خلال القرون الوسطى» إنها راوَحتْ بين ما يدعوه بـ«عصر الجهل» وبين ما يدعوه بـ«لحظة الرؤية»، مرورًا بما يدعوه بـ«قرن العقل والأمل».
وتكاد محاولة المؤلف برمتها أن تكون تاريخًا دقيقًا وشاملًا، وإن كان مختصرًا، لجهل الغرب بالعرب والإسلام، وهو يشبه بجهل: «سجين يسمع إشاعات حول الأحداث الجارية في الخارج ويحاول أن يصوغ ما يسمعه بمساعدة آرائه التي كونها مسبقًا». وفي تقدير سذرن أن ما أسماه بـ«عصر الجهل» يمكن تعليله بأسباب متعددة لعل أهمها أن المسيحية الغربية والإسلام لم يمثلا نظامين متمايزين دينيًّا فحسب، وإنما كانا يمثلان مجتمعين مختلفين حضاريًّا من جميع الوجوه. فخلال الجزء الأعظم من القرون الوسطى:
«كان الغرب يشكل مجتمعًا زراعيًّا وإقطاعيًّا ورهبانيًّا… في الوقت الذي كانت قوة الإسلام تكمن في مدنه الكبرى وبلاطاته الثرية وطرق مواصلاته الطويلة».
كما أن الاختلاف الكبير بين العالمين اللاتيني والإسلامي يكمن في: «الاختلاف بين النمو البطيء في العالم اللاتيني مقابل النضوج المبكر في العالم الإسلامي». ولكن هناك، فضلًا عن الاختلاف في الأساس الاجتماعي، الاختلاف الذي يحتفي به سذرن، وهو الذي يتصل بالتراث الإسلامي، فهو يشير بوجه خاص إلى أن المقارنة بين فهارس الكتب في الغرب والشرق تخلق انطباعًا مؤلمًا لدى الغربيين. بل إن التباين في حد ذاته: «كان بمنزلة القنبلة لدى الباحثين اللاتين في القرن الثاني عشر الميلادي عندما فتحوا أعينهم على هذه الحقيقة».
مقارنة بين شخصيتين
هذا التباين الثقافي يمكن اكتشافه من خلال المقارنة، أو قل المفاضلة، بين شخصيتين معاصرتين في الشرق والغرب. في الغرب كان هناك غربرت (الذي أصبح البابا سلفستر الثاني) وتوفي في عام 1003م. وفي الحقبة نفسها كان هناك ابن سينا الذي ولد في عام 980م وتوفي في عام 1037م. لقد كان كل منهما شخصية بارزة شغلت مركزًا مرموقًا في مجتمعها، كما كان كل منهما يمتلك فضولًا علميًّا ورغبة دؤوبة في البحث وموهبة بارزة. وعند هذا الحد تنتهي حدود التشابه، فالقصور التي عرفها غربرت متواضعة، والمدارس التي ذهب إليها كانت مدارس الرهبانيات بمصادرها المحدودة. والكتب التي درس عليها كانت تلك التي شكلت بقايا العلم اليوناني التي خلفها الباحثون في أيام روما الأخيرة للذين خلفوهم: مقدمة بورفيري لمنطق أرسطو، وترجمة بويتيوس وتلخيصه للمقدمة في أجزائها الرئيسية، إضافة إلى رسائله في الحساب والموسيقا والهندسة والفلك وبعض الجذاذات التي تتعلق بالمعارف الطبية اليونانية.
ومن هذه المصادر الشحيحة استطاع غربرت أن يؤلف أعماله. فقد كتب رسالة في أقسام البلاغة، وكتابًا في الحساب، وفصلًا في الجدل، ونجح في الاعتماد على هذه الأسس في تصميم خارطة فلكية وحاسبة لتعليم الأطفال الحساب، وساعة معقدة التركيب. ولكن هذه الحصيلة الهزيلة لا تكتسب أهميتها على حد تعبير سذرن إلا من: «الجهد الذي بذل فيها ومن كونها متقدمة على ما سبقها من محاولات من نوعها».
وهو يلاحظ أنه: «لو أن غربرت ولد في بخارى بدلًا من أوريلاك، وعلّم في بغداد أو أصفهان بدلًا من ريمز، فإنه كان سيجد نفسه في مجتمع أشد ملاءمة لمزاجه وقدراته من المجتمع الغربي.. كما كان في وسعه أن يمتلك جميع الكتب التي يرغب فيها». وبالمقابل ولد ابن سينا في بخارى، بعد أربعين سنة تقريبًا من مولد غربرت، وعاش حتى سنة 1037م وتوفي في أصفهان، وعلى النقيض من غربرت، رجل الدين والبابا والمناور السياسي في وسط من العاجزين عن تحقيق مخططاته الكبرى، كان ابن سينا إنسانًا عاديًّا، مسؤولًا، طبيبًا وفيلسوفًا في البلاط. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره كان قد درس كما يخبرنا هو نفسه: «مقدمة بورفيري وجميع أقسام المنطق الأساسية، إضافة إلى الهندسة الإقليدية، والمجسطي لبطليموس، ومكتبة كاملة من الطب اليوناني، وبعض علوم الحساب الهندي والفقه الإسلامي».
وهكذا فإن ابن سينا الفتى، كانت لديه ثروة من المعارف التي لا يمكن أن يحلم بها المرء في أوربا الغربية. وعندما أصبح شابًّا كان قد هضم المنطق والعلوم الطبيعية والرياضيات وميتافيزياء اليونان ليصل إلى كتاب ما وراء الطبيعة لأرسطو، وهذه ليست دراسة معزولة وإنما هي تشكل جزءًا من العالم الإسلامي الذي مضى عليه قرنان، وقد خلف لنا ابن سينا وصفًا لمكتبة سلطان بخارى التي كانت تتألف من غرف كثيرة كل منها ممتلئ برفوف الكتب التي يدور موضوعها حول مادة واحدة: «اللغة والشعر والقانون والمنطق والطب». كما أن هناك فهرسًا للكتب يمكن أن تستخلص منه فكرة عامة عن المؤلفين القدامى في كل علم على حدة، ولم يكن ثمة من وضع مشابه في الغرب حتى نهاية القرون الوسطى.
والحال أن هذه المقارنة تستدعي مداخلة مهمة، ذلك أن سذرن يشير إلى المصادر اليونانية بطريقة توحي بأن الحضارة العربية الإسلامية كانت وسيطًا حضاريًّا أكثر منها حضارة قائمة بذاتها. وهذا كما تشير بعض المصادر المعاصرة ليس صحيحًا كليًّا. وقد تذكرت لدى مطالعتي لهذا الكتاب نصًّا كنت قد قرأته في كتاب «المقابسات» للتوحيدي ويدور حول مناظرة جرت بين النحوي أبي سعيد السيرافي والفيلسوف والمترجم متَّى بن يونس القنائي، موضوعها المنطق اليوناني والنحو العربي. لقد كان السيرافي يقول بأفضلية النحو العربي على المنطق اليوناني، بينما كان القنائي يدافع عن المنطق اليوناني.
هذه المقابسة مهمة جدًّا. فهي تعود بتاريخها إلى حقبة قريبة جدًّا من تلك التي يتناولها سذرن، كما أنها تكشف عن حقيقة معروفة ولكنها كثيرًا ما تغيب عن أذهان الباحثين، مفادها أن المصادر اليونانية لم تنقل إلى العربية عن اليونانية مباشرة، ومن ثم فإن ما تفقده من الدقة يجعلها أقل شأنًا في بلورة التراث العربي الإسلامي، وهو ما يرغب بعض المستشرقين في الإلحاح عليه عادة.
بل إن هذه المسألة تستدعي في هذه الأيام بحثًا عميقًا هدفه تقدير الدور اليوناني في التراث العربي – الإسلامي، وتحديد معالم هذا الدور بغية البرهنة على أن هذا التراث لم يكن مجرد ناقل جيد لحرارة التراث اليوناني وإنما هو يتسم بقدر متميز من الأصالة والابتكار والإبداع.
ومهما يكن من أمر فإن العصر الذي يعود إليه سذرن هو «عصر الجهل» كما يدعوه. وفي ذلك العصر بالذات تبلورت الصيغ الأساسية المنحازة التي ما زال الإعلام الغربي يعتمد بعضها، بوصفها تشكل مكونات عملية التنميط والنمذجة والقولبة المسبقة الصنع.
ويتساءل المؤلف في معرض محاولته تشخيص العصر الراهن، عن السبب الذي أعرض بسببه الدارسون الغربيون في القرون الوسطى عن القرآن الكريم والتواريخ الإسلامية عندما حاولوا دراسة شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واعتمدوا بدلًا من ذلك على المصادر اللاتينية الشحيحة وغير الوافية. بل إنه لا يتردد في القول جوابًا عن هذا التساؤل: إن هؤلاء الدارسين كانوا في الحقيقة يحاولون الفرار من قبضة الإسلام. ولهذا فليس من المحتمل –على حد تعبيره– أن يتجهوا إلى الإسلام لفهم ما كانوا يفرون منه. ويؤكد المؤلف من جهة أخرى أن العلاقة بين المسيحية والإسلام قد تبدلت مع الحملة الصليبية الأولى، ولكن هذه الحملة لم تؤد إلى معرفة الشرق بل لعلها –على العكس من ذلك– نجحت في الكشف عن أن الذين أسهموا فيها لم يدركوا إلا النزر اليسير مما ينطوي عليه المشهد في العالم العربي الإسلامي. وقد كان لبعض النجاحات التي أحرزها أثره في إحباط أي رد فعل يتجاوز ردود أفعال الانتصار نفسه. إلا أنها جعلت دين الإسلام ومؤسسه من المفاهيم المألوفة في الغرب لأول مرة.
وصف العرب والمسلمين
وفي هذا السياق يمكن القول: إن وصف العرب والمسلمين بالوثنيين استمر حتى القرن الثاني عشر الميلادي. وقد أشار أوتو فريزنج في رسالة كتبها بين عامي (1143– 1146م) إلى حادث مصرع ثيميو، كبير أساقفة سالزبورج في عام 1101م ليؤكد أن ما تتناقله الأخبار من أن مصرعه (يعود إلى تحطيمه لأوثان إسلامية) على حد تعبيره، ليس صحيحًا. وكان في استدراكه هذا يقدم دليلًا لا تخطئه العين المدققة. ذلك أن قوله: إن العرب والمسلمين يعبدون إلهًا واحدًا ولا يتهجمون على المسيح والرسل والأنبياء، كان من التحليلات النادرة في تلك المرحلة التاريخية بالذات. ولعل عادة البحث المستقل التي ترسخت قواعدها في أوربا الغربية مع بداية القرن الثاني عشر الميلادي قد وجدت تعبيرها الأشد دلالة في عملية ترجمة القرآن الكريم إلى الإنجليزية لأول مرة من جانب روبرت كيتون وذلك في عام 1143م. فمع ظهور هذه الترجمة التي أنجزها المترجم على نفقته الخاصة، أصبح لدى الغرب للمرة الأولى، أداة من أدوات البحث الجاد في الإسلام.
وقبيل سقوط بغداد في أيدي التتار في عام 1258م، حدث أول لقاء بين ممثلين عن الشرق والغرب. والتاريخ الدقيق لهذا اللقاء هو الثلاثون من مايو (أيار) 1254م. وأما المكان فهو بلدة قراقوم التي تقع الآن في منغوليا. وينبغي الإشارة إلى أنه قبل تسعة أعوام من ذلك التاريخ، قام البابا المعروف بـ«البريء»، بإرسال بيانو كاربيني الراهب الفرنسيسكاني الإيطالي لإعداد تقرير معلوماتي عن وضع المغول الذي رأى أنه سيؤثر في الغرب تأثيرًا كبيرًا. ولكن التطورات التي لم تكن في صالح الصليبيين أدت إلى إرسال مبعوث آخر، وقد وصل المبعوث إلى عاصمة المغول في عام 1254م، حيث جرت مناظرة إعلامية اشترك فيها ممثلون عن أربع فئات: تحدث وليم روبروك بوصفه ممثلًا للاتين، وحاوره ممثلون عن الديانات الثلاث في آسيا: المسيحيون النساطرة، والبوذيون، والمسلمون، واستمرت المناظرة يومًا كاملًا، وفي تقدير سذرن أن دور روبروك اللاتيني البارز في المناظرة الإعلامية، قد كشف عن الإمكانات الفكرية التي تسلح بها الغربيون عندما ترجمت إلى اللاتينية أعمال الفلاسفة المسلمين أساطين الفلسفة العربية الإسلامية الكبار من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا، وذلك في طليطلة بالأندلس، في الربع الثالث من القرن الثاني عشر، وهو لا يبالغ عندما يقول: إن تأثير ذلك كان يماثل تصورنا لما سيحدث لو أن اقتصاديين من أمثال ألفرد مارشال وكينز قد شرعا فجأة في استعمال لغة كارل ماركس.
تلك هي بعض الجوانب التي تكشف عن ملامح الصورة المنمذجة والمقولبة والمسبقة الصنع التي ما زالت تؤثر في حدود متفاوتة وتبعًا للسياق الشعبوي الراهن على الأداء الإعلامي الغربي الراهن، فيما يتعلق بالعالمين العربي والإسلامي. ولا شك أن غياب العنصر الإيجابي عنها في معظم الأحيان، قد تعزز بفعل الحقيقة القائلة: إن الإستراتيجيات الإعلامية المعتمدة من الغرب منذ حملة نابليون على مصر، استمرت من دون تغيير، كما يمكن أن تعزى لتلك الإستراتيجيات إجمالًا الصورة التي صاغها الاستشراق (بعضه وليس كله) عن المنطقة. وليس من المبالغة القول: إنه إذا كان الاستشراق التقليدي (أو بعضه) قد سيطر في الجامعات ومراكز البحث العلمي في الغرب، ملفقًا للآخر شخصية غرائبية تدشن إحساسه بعقد النقص والتخلف وما يصدر عنها من شعور بالنفي والاقتلاع والانسحاب، فإن الإعلام الجماهيري الغربي، أو قل بعضه، هو الذي يعمق الجرح النرجسي العربي اليوم أكثر من أي وقت مضى. والأخطر من هذا وذاك أن السلاح الذي يدير مقبض الإعلام الغربي في داخل ذلك الجرح، ونعني به سلاح التنميط الإعلامي يعدّ من النوع الذي لا تزول آثاره بسرعة.
ما هذه القولبة الإعلامية؟
إنها صورة كلية زائفة يشترك في صنعها وحملها أفراد جماعة تمثل رأيًا عاطفيًّا أحاديًّا ومفرطًا في الانحياز والتبسيط والتشويه تجاه فرد أو جماعة أو أمة أو دين أو طبقة.
والمشكلة أن هذا التنميط السلبي الذي يبرز اليوم مع صعود الشعبوية، يقاوم بشراسة محاولات التغيير أو التصحيح أو ما أسميته بـ«النقض المعرفي»، نوعًا من التضامن الاجتماعي القائم على الإحساس بالتفوق على الهامش. ولا شك أن العرب خاصة، والمسلمين عامة، أصبحوا اليوم لُحْمة هذه القولبة وسَدَاها. فسقوط الأنظمة الشيوعية مع انتهاء الحرب الباردة أدى كما هو معروف إلى نقل مركز الثقل كله إلى نقطة محرق جديدة. إلا أن ذلك لا يعني أن العرب كانوا، قبل عقدين من الزمن مثلًا، أقل تعرضًا لسلاح القولبة الإعلامية الدائر في داخل جرحهم النرجسي.
وهاكم الحادثة الآتية التي تعود إلى منتصف السبعينيات والتي ترويها معلمة للتاريخ اسمها بيغي أليكساندر، كانت تعمل في سكرامنتو في ولاية كاليفورنيا الأميركية، تطرح المعلمة السؤال التالي على طلبة الصف الثامن، كما نقله إدمون غريب أستاذ التاريخ في جامعة جورج تاون في كتابه (Split Vision).
«ما العربي؟ كيف تتصورنه؟».
وتلك هي بعض عينات الأجوبة التي حصلت عليها:
1. «العرب لا يرتدون ملابس داخلية».
2. «بدو رحل على طريقة الهبيين».
3. «معظم رجالهم من الملتحين».
4. «جميع العرب لديهم زوجات كثيرات».
5. «جميع العرب محمديون» (لم تستعمل كلمة مسلمين).
6. «الجَمَل وسيلتهم الوحيدة في السفر والترحال».
من الواضح أن التجهيل يحتل جزءًا مركزيًّا من عملية التنميط السلبي الذي يعزز النزعة الشعبوية التي تثيرها بعض أجهزة الإعلام الجماهيري. ولهذا فكثيرًا ما يبدو الكلام عن إعلام موضوعي مجرد أضغاث أحلام، بل لعل هذه الموضوعية أن تكون في حالات كثيرة، معبرة عن قدرات تقنية ومهنية خارقة تمكن الإعلامي من ممارسة انحيازه الفكري المسبق، والظهور بمظهر الموضوعي الباحث عن الحقيقة، وذلك على نحو يعبر عنه الباحث الأميركي جاك إلول في كتابه Propaganda «الدعاية»، بوضوح ودون مواربة:
«بدون وسائل الإعلام الجماهيري لا يمكن أن تكون هناك دعاية معاصرة». ويشير هذا الباحث تحديدًا إلى الوسائل التي ينبغي اعتمادها لنجاح هذه الدعاية بقوله: إنها عبارة عن «أنصاف الحقائق، والحقائق المحدودة، والحقائق المنتزعة من سياق النص».
وأكثر من ذلك فإن أبطال الإعلام «الموضوعي» الذين يسهمون في تنفيذ عمليات القولبة لا يقتصرون على خبراء الإعلام والصحافيين والباحثين الأكاديميين وإنما هم يشملون أيضًا مستشاري القادة والرؤساء كما هو شأن توماس بيلي الذي ينقل عنه نعوم تشومسكي هذا الرأي الخطير في كتابه «حضارة الإرهاب»: «لأن الجماهير قصيرة النظر إلى حد فضائحي، ولأنها عاجزة عن رؤية الخطر عندما يمسك بخناقها، فإن رجال الحكم لدينا مضطرون إلى خداع (الجماهير) وجعلها تعي مصالحها البعيدة المدى».
مشروع مبرمج
ولا شك أن القولبة الإعلامية تحولت إلى مشروع مبرمج بفعل اللوبي الإسرائيلي المسيطر، بحدود متفاوتة، على الإعلام وصناعة القرار في الغرب. غير أن اللافت للنظر أن الإعلام الجماهيري، لم يعد يقتصر على الصحافة والإذاعة والتلفزة، وإنما تعداها إلى الكتاب.
والأمثلة على صناعة الكتب التي تسهم في عمليات القولبة الإعلامية المناهضة للعرب كثيرة نكتفي بتقديم هذين المثالين عليها، بوصفهما ينتميان إلى حقبتي الصعود الشعبوي في الثمانينيات والتسعينيات. ثمة كاتب بريطاني اسمه جون لافن، يقدم نفسه على أنه أحد أبرز الكتاب في الموضوعات الخاصة بالشرق الأوسط. وقد قام برحلات إلى العالمين العربي والإسلامي، وأصدر كتبًا من أهمها: «رحلة شرق أوسطية»، و«الفدائيون: المعضلة العربية – الإسرائيلية»، و«العقل العربي»، و«العقل الإسرائيلي».
هذا الكاتب أَصدَر في مطلع الثمانينيات كتابًا بعنوان: «خنجر الإسلام» يمكن القول: إنه ينتمي إلى سلسلة من الكتب التي هي من قبيل «الإسرائيليات الجديدة» التي مهّدت لصعود الرهاب الإسلامي «الإسلاموفوبيا». وعلى الرغم من أن التحرك الأصولي (الإسلاموي) قد لعب وما زال يلعب دورًا لا يستهان به في هبوب الإعصار الشعبوي الراهن، فإن ذلك لا ينفي وجود عوامل محلية فاعلة. ويبدو وصف الباحثة البريطانية هيلاري كيلباتريك لكتاب جون لافن السابق: «العقل العربي» بقولها إنه: «محاولة لتقديم صورة هي من قبيل الاغتيال الجماعي للشخصية العربية، ترافقها هجمات جانبية على أولئك الذين يعلنون تأييدهم لقضاياه». هذا الوصف يبدو مناسبًا أيضًا لتقييم كتابه: «خنجر الإسلام». بل إن جون لافن في هذا الكتاب، يقوم بعملية تطوير لمحاولة الاغتيال الجماعي للشخصية العربية هذه، يصل بها إلى النيل من الشخصية الإسلامية والشرقية بشكل عام. فهو يستهل كتابه بفصل يستعرض فيه جملة من المقتطفات التي تنتمي إلى مصادر متباينة جدًّا، إلا أنها تلتقي في بؤرة مركزية واحدة تجسد جوهر العداء تاريخيًّا وأنثروبولوجيًّا للمنطقة العربية الإسلامية، ذلك أن عصب هذه المقتطفات هو التهويل بخطر عربي إسلامي داهم.
بعد زوال الخطر الشيوعي تلوح هذه المرحلة التي نقترب فيها من نهاية السنة الألفية الثانية وكأنها تدشن دورة جديدة لمقبض السكين الغائر في الجرح النرجسي العربي، فمن الواضح أن العالمين العربي والإسلامي يمثلان الآن هدفًا أثيرًا وربما شبه أحادي لعمليات القولبة الإعلامية الغربية. بل إن هذه القولبة تتوسل إلى الطاقم الأكاديمي لتستمد منه شيئًا من المشروعية الفكرية أو قل المصداقية التي لم تكن تمتلكها بحكم اعتماد أجهزة الدعاية السياسية التي تقف وراءها، على مؤلفين ثانويين يحققون أهدافها عن طريق الكتب المبسطة والموجهة إلى قطاعات شعبية واسعة من القراء.
ولعل من أشد الأمثلة انطباقًا على المرحلة الآنفة الذكر، كتاب «الدائرة المغلقة: محاولة لتفسير العرب». هنا يبدو العرب لغزًا أو معضلة تحتاج إلى تفسير، يبحث فيه أديب وصحافي بريطاني معروف هو ديفيد برايس جونز الذي تجول في معظم أنحاء العالم العربي وكان مراسلًا حربيًّا خلال حرب عام 1967م وحرب عام 1973م، وألّف عددًا من الروايات والكتب في النقد والسياسة، ومنها كتابه الشهير عن الناقد الأدبي الشهير «سيريل كونولي». هذا اللغز أو المعضلة التي يسبرها المؤلف في «الدائرة المغلقة»، يقدم البروفيسور إيلي خضوري الذي قرأ وراجع مخطوطة الكتاب، التعليق الآتي عليها بهدف إكسابها شيئًا من الحصانة الأكاديمية التي تفتقدها: «كما هو الشأن لأفضل الأعمال التاريخية، فإن «الدائرة المغلقة» هو بمنزل حصيلة لعملية تجميع أطراف الأحجية وحلها.
لقد رصد ديفيد برايس جونز العالم العربي لسنوات عدة.. وسيجد القارئ نفسه هنا على صلة بعقل أصيل ومتبصر، نتاجه لافت ومثير للتأمل». غير أن المفتاح الذي يمثله المقتطف التالي من المتنبي الذي يصدر به المؤلف كتابه، ربما كان يكشف عن طبيعة وأهداف هذه الأصالة والتبصر: «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يراق على جوانبه الدم». وبعبارة أخرى فإن المؤلف يعد القارئ الغربي لفهم الأحجية العربية المعاصرة من خلال بيت شعري يعود بنا القهقرى إلى منتصف القرن التاسع الميلادي، ليصل في آخر المطاف إلى القولبة الإعلامية المطلوبة، ومفادها أن العرب إرهابيون من حيث طبيعتهم.
وحتى لا نصادر على أفكار الكتاب نشير إلى مقدمة المؤلف التي يتناول فيها التجربة التي يقول: إنها تمثل أول احتكاك له بالعرب، فهو يحيط القارئ علمًا بسفره إلى المغرب في عام (1941م) هاربًا من فرنسا التي كانت تحت سلطة حكومة فيشي، ويشير إلى أنه كان آنذاك طفلًا في عهدة عمته وعمه الذي كان دبلوماسيًّا إسبانيًّا لدى حكومة المارشال بيتان، ولكن مركز عمله أصبح الآن في طنجة، حيث السماء زرقاء والفندق الفخم الذي نزلوا فيه وتمكنوا أخيرًا من الحصول على القدر الكافي من الطعام، ومن ثم الشعور بالامتلاء. وهنا يتذكر المؤلف أن النادل الذي حمل إليهم الصواني (المليئة بالطعام) كان شديد البدانة، وأن ضحكته مثيرة للمتعة. وأما العالم العربي فكان آنذاك يعني للمؤلف، الأمان والطعام واللون.
ولكن هذه ليست الصورة كلها، ففي أحد الأيام كان المؤلف يعبر الزحام في أحد أسواق طنجة في سيارة كبيرة سوداء عندما اقترب وجه يعتمر قلنسوة برنسًا مغربيًّا من النافذة، ثم وجه بصقة انتشرت على زجاج النافذة. وقد منعه مرافقوه الكبار –كان طفلًا– من النظر إلى خارج السيارة أو السؤال عن سبب ما حدث. بل إن سنوات عديدة مرت قبل أن يدرك مغزى ما حدث. ذلكم هو أحد نماذج عملية قولبة إعلامية تنسحب على جميع أنحاء العالم العربي. ثمة بصقة على زجاج نافذة سيارة، لا سبب لها ولا تعليل، لا تلبث أن تتحكم في مسار هذا الكتاب الفضائحي الذي يتصنع الجدية والوقار في البحث. إلا أنه لا يتردد، بصفحاته التي تُقارب خمس مئة صفحة، في إدراج الأتراك والإيرانيين في عداد العرب، بوصفهم مسلمين، حتى يصطاد –رغم هذا الخطأ– عصفورين بحجر واحد: العروبة والإسلام معًا.
آية ذلك كله أن القولبة الإعلامية تقدم في صياغتها الأيديولوجية «الجهادية» وسيلة لنشر معتقدات سلبية خاطئة ومبسطة، عن مجموعة «إثنية» معينة من جانب جهات مسيطرة على الإعلام، ضمن نخبة اجتماعية محددة، أو على نطاق المجتمع ككل، بهدف تشويهها وتحطيمها. ومن المعروف أن تعديل الصورة الكلية التي ينطوي عليها مفهوم القولبة أمر يصعب تحقيقه خلال مدة قصيرة. فهو كثيرًا ما يرقى إلى مستوى الاغتيال الجماعي لشخصية فئة اجتماعية أو طبقة أو أمة. ولا شك أن «النقض» الذي يعدّ من أبرز إنجازات «النقد» الثقافي، وأعني به جماع الأطروحات المعرفية التي تقدم نقضًا معرفيًّا لأنصاف الحقائق والأساطير التي اعتمها الشعبويون، ليس ردًّا من الهامش على طغيان المركز فحسب، بل حفرٌ معرفيٌّ هو في تقديري الأقرب إلى الحقيقة الموضوعية.
أثينا السوداء
وقبل ما ينوف على ربع قرن صدر كتاب «أثينا السوداء» للباحث البريطاني مارتن برنال، فأثار ضجة كبرى في الأوساط الأكاديمية الغربية أدت إلى إضعاف وخلخلة مصداقية ما يدعى بـ«النزعة المركزية الأوربية»، التي تنطلق من فكرة مفادها أن الحضارة اليونانية هي أصل جميع الحضارات، وأن أوربا هي مركز الحضارة بينما الحضارات الأخرى ليست سوى هوامش ملحقة بهذا المركز. [من الضروري التنبيه إلى أن المقصود بصفة «السوداء» الملحقة بـ «أثينا» الاختلاف وليس اللون].
وتكمن أهمية كتاب برنال في أنه يبرهن من خلال مشروع نقدي بالغ الخطورة على أن ما يسمى بـ«الحضارة الكلاسيكية»، أي الحضارة اليونانية، ذات جذور إفريقية– آسيوية، انطلقت من مصر وسوريا وبلاد ما بين النهرين. فهو يتحدى ما يطرح في الجامعات ومراكز البحث العلمي في الغرب، بوصفه بديهية من البديهيات التي فرضت نفسها بدءًا من القرن الثامن عشر، ونعني بذلك تأكيد المرجعية الثقافية والحضارية اليونانية لكل منجزات الفكر الإنساني. وقد كان من آثار هذه الفكرة أن الدور العربي الإسلامي في حضارة العصر الوسيط، أصبح يقدم من جانب الباحثين الغربيين بوصفه دورًا حفظ الحضارة اليونانية ولكنه لم يضف إليها شيئًا. وهكذا فإن الحضارة العربية الإسلامية –وفق هذا الطرح الخاطئ– مجرد وسيط اكتفى بالنقل ولم يكن يرقى إلى مستوى الخلق والإبداع.
ويرى برنال في كتابه الذي وصل إلى نحو ست مئة صفحة وأعقبه جزء ثانٍ مكمل، أن الحضارة الكلاسيكية ذات جذور آسيوية وإفريقية عميقة، وأن هذه الجذور تعرضت للإهمال المتعمد الذي وصل إلى حد الطمس والإنكار بدءًا من القرن الثامن عشر على وجه التحديد.
وحسب الرواية الغربية السائدة لقصة الحضارة والانتشار الثقافي، فإن الحضارة اليونانية كانت ثمرة من ثمرات الغزو العسكري والحضاري الذي شنته الشعوب الآرية الناطقة باللغات الأوربية الهندية التي اجتاحت أوربا من الشمال. وهكذا نشأت فكرة «النموذج الآري» التي كرسها الباحثون الغربيون الذين حاولوا تأكيد وجود تفوق عنصري آري على سائر الحضارات الإنسانية الأخرى.
ويقول مؤلف الكتاب معلقًا على ما دعي بـ«النموذج الآري»: إن المصادر اليونانية القديمة تكشف بوضوح أن اليونانيين «الذين كانوا فخورين بالإنجازات التي حققوها… لم يكونوا ينظرون إلى مؤسساتهم السياسية وعلومهم وفلسفتهم ودينهم بوصفها أصيلة. فقد استمدوا ذلك كله من الشرق عمومًا… ومن مصر على وجه الخصوص».
وينقسم مشروع «أثينا السوداء» ثلاثة أقسام: القسم الأول الذي يضمه المجلد الذي نحن بصدده يرصد نشوء وسقوط نموذجين حضاريين. فهو يركز تحديدًا على الحقبة الحرجة التي تفصل بين عامي 1785م و1850م، وهي التي شهدت رد الفعل المتمثل بالحركة الرومانتيكية والفكر العنصري، على حركة التنوير والثورة الفرنسية، وكذلك تعزيز حركة التوسع الأوربي الشمالي على حساب القارات الأخرى. ويمكن القول: إن هذه الفترة نفسها هي التي ظهرت فيها أفكار التقدم وأتاحت الفرصة لباحثي القرن التاسع عشر الأوربيين لاستبعاد جميع الحضارات السابقة والاحتفاء بمركز أوربي عدُّوه أصلًا لكل شيء.
وقد تمكن المؤلف في كتابه الموسوعي من إيجاد وشيجة ربط فيها بين عدد كبير من أنظمة البحث التي شملت دراسة المسرح والشعر والأسطورة والمناقشات اللاهوتية والديانات السرية والفلسفة والسيرة واللغة والسرد التاريخي. وهذا العمل يعدّ من أعظم منجزات النقد الثقافي ليس لأنه يتناول دراسة الحضارة وأصولها فحسب، بل لأنه فضلًا عن ذلك، ينقض النسق أي النموذج أو المعيار السائد في تقييم الفكرة المعتمدة في الجامعات ومراكز البحث الأوربي حول عدِّ الحضارة الكلاسيكية، حضارة اليونان، أصلًا حضاريًّا قائمًا بذاته ولا يعتمد جذورًا حضارية أخرى سابقة عليه.
وقد شهد عقد الثمانينيات صدور عمل نقدي عظيم آخر هو كتاب «الاستشراق» أحدث تأثيرًا ودَوِيًّا هائلًا في الأوساط العلمية. كما أنه عمل يقف جنبًا إلى جنب مع كتاب «أثينا السوداء»؛ لأنه نقض النسق السائد والمسيطر على الدراسات الاستشراقية، ومحوره اختراع «شرق» له مواصفاته الخاصة التي تتوافق مع كونه يمثل «الآخر» أي «العدو». وكما أصبح الاستشراق بعد كتاب إدوارد سعيد نشاطًا يختلف عما كان عليه قبل صدوره، وذلك نتيجة لنجاحه في نقض النسق الثقافي الذي عمَّمه المستشرقون وجعلوه جزءًا لا يتجزأ من المعرفة البشرية بمركزها الأوربي، فإن كتاب «أثينا السوداء» قَلَبَ الدراسات الفكرية والحضارية في الجامعات الأوربية والأميركية رأسًا على عقب.
محاولة تفنيد
وقد حاولت أكاديمية أميركية متخصصة بما يدعى بـ«الكلاسيكيات» أي دراسات التراث اليوناني الذي عدَّه الباحثون في القرن الثامن عشر أساسًا للحضارة الأوربية كلها، أن تفند الفكرة التي يدور حولها كتاب «أثينا السوداء» فنشرت مقالًا في «ملحق التايمز الأدبي» زعمت فيه أن الكتاب المذكور لم يعد يشكل مرجعية يُعْتَدُّ بها، وأن تأثيره قد بدأ في الانحسار.
غير أن مارتن برنال سرعان ما نشر ردًّا على الباحثة التي كانت قد أكدت في مقالها موتَ مؤلفِ «أثينا السوداء» وكتابِه، حيث نشر في المجلة نفسها مقالًا أشار فيه بدعابة إلى أن قصة موته هذه تُذَكِّرُهُ بقصة مارك توين الكاتب الأميركي الشهير التي تحدث فيها عن تجربة قراءة نعيه في الصحف ليكتشف بنفسه أنه ما زال على قيد الحياة.
والواقع أن المشكلة التي واجهها مارتن برنال تتعلق بالمبالغات الشديدة التي بنى عليها عدد من الأكاديميين الأفارقة في الولايات المتحدة تأويلاتهم للأطروحة المركزية في الكتاب. فقد رأت الباحثة التي تصدت له وحاولت أن تكتب ورقة نعيه ونعي الكتاب، أن هؤلاء الأكاديميين الأميركيين السود الذين ينحدرون من أصول إفريقية تجاوزوا الحدود العلمية التي يسمح بها التأويل، وأنهم لم يترددوا في تدريس التاريخ المصري القديم على أساس أنه نتاج حضارة إفريقيا السوداء، ومن ثَمَّ فإن الحضارتين المصرية واليونانية تصبحان تبعًا لذلك نتاجًا لحضارة إفريقيا السوداء. وهذا تبسيط مُخِلٌّ جدًّا لفكرة «أثينا السوداء». إلا أن الباحثة أصرَّت على عدِّ برنال مسؤولًا عنه.. تمامًا كما سبق أن حدث لكتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد. وقد بادر سعيد في وقت لاحق إلى محاولة تعديل الصورة المشوهة التي حاول بعضٌ رسمَها لما رمى إليه في كتابه. وهكذا وجدنا الأكاديمي الفلسطيني الأميركي يسارع إلى كتابة مقدمة خاصة بالطبعة الشعبية التي صدرت من كتاب «الاستشراق» عن دار «بنغوين»، يوضح فيه أن كثيرًا من التأويلات المغرقة في لعبة السياسة اليومية التي رأت في كتابه هجومًا على الحضارة الغربية من أَلِفِها إلى يائها لم تكن قائمة على أساس، وأنه تبعًا لذلك لا يمكن أن يكون مسؤولًا عن المآل التي آلت إليه أفكاره على أيدي المتحمسين والمعادين لأطروحة الكتاب على حد سواء.
بعد خمسة أعوام من صدور كتاب «أثينا السوداء» صدر كتاب مهم آخر يمكن عدّه بمنزلة محاولة لتقديم صورة متوازنة تبني أطروحاتها على الصورة الأصلية التي تبرز في كتاب برنال. هذا الكتاب هو من تأليف باحث متخصص في الدراسات اليونانية (الكلاسيكية) اسمه والتر بيركرت، ويعمل أستاذًا في جامعة زيوريخ السويسرية. وقد أطلق الباحث على كتابه عنوان: «ثورة التشريق: أثر الشرق الأدنى على الحضارة اليونانية».
ولا شك أن هذا الكتاب الصغير الحجم هو محاولة ناجحة لوضع كتاب برنال في بؤرة محددة تبرز الأثر الشرقي الأوسطي في الحضارة اليونانية التي قام الباحثون الغربيون في القرن الثامن عشر بمركزتها وجعلها أصلًا لكل شيء أو بالأحرى مرجعية ثقافية وحضارية هدفها تهميش الشرق (الأوسط) وتحويله إلى طرف من الأطراف التي تعيش ملحقة بمركز أوربي أساسه الحضارة اليونانية.
ولعل أهمية هذا الكتاب تكمن في التركيز على عملية التأثير الحضاري المباشر الذي رصد فيه المؤلف الكيفية التي اقتبس بها اليونانيون القدماء حضارة سوريا القديمة وبلاد ما بين النهرين، ومدى هذا الاقتباس ونجاعته ونجاحه في إطلاق العِنان للإنجازات التي حققتها الحضارة الكلاسيكية في وقت لاحق. وكما سبق أن أشار مارتن برنال فإن التأثير الشرقي الذي حاول الباحثون العنصريون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر طمسه وإزالته من قصة الحضارة، ماثل في المصادر اليونانية نفسها، ومن ثَمَّ فإن تجاهله أو التهرب منه يصبح عملية أيديولوجية لا علاقة لها بالبحث العلمي إطلاقًا.
وأما البحث العلمي فإن الكتب الآنفة الذكر هي التي تمثله… وذلك انطلاقًا من نقض فكرة قَرْنِ الحقيقة والبرهان عليها، بمدى القوة التي تتمتع بها الحضارة التي ينتمي إليها الباحث. فمن المؤكد أن المعرفة قوة والقوة معرفة كما يقول الفرنسي فوكو. إلا أن من المؤكد أيضًا أن الأدلة التي يسوقها برنال على ما يدعوه بـ«تلفيق اليونان القديمة» بين عام (1785– 1985م) أي على مدى مئتي عام من سيطرة النزعة المركزية الأوربية لا تترك مجالًا لتجاهل ما حدث على أيدي غلاة العنصريين من مؤرخي القرن الثامن عشر.
وتكمن قوة النقض المعرفي في ردّ الفعل الذي أعقب ظهور مقال كتبه إيان دنكن سميث الوزير البريطاني المحافظ مقارنًا الخروج من الاتحاد الأوربي بحدث مهم في تاريخ بريطانيا هو حركة الإصلاح التي حدثت في القرن السادس عشر عندما انفصلت الكنيسة الإنجليكانية عن الكنيسة الكاثوليكية في روما. فهذا الانفصال كما يراه كاتب المقال هو الذي صنع البلاد. وأضاف: «أعتقد أن معنى Brexit أي الخروج من الاتحاد الأوربي هو انفصالنا عن روما مرة أخرى. وأنه سيكون بمنزلة إطلاق سراح بطريقة مشابهة…».
وقد عقب المؤرخ البريطاني البارز Simon Schama على المقال بقوله: «إن سميث يفسد التاريخ بتحامله. فحركة الإصلاح ظاهرة أوربية تسببت بحرب دينية في بريطانيا استمرت قرنين من الزمان».