المسَافةُ في زمَنِ الحَرْبِ
بدأ الجمهورُ بالحضورِ والتوافدِ إلى قاعةِ المركز الثقافي. سنوات طويلة مرتْ، كنتُ فيها طفلةً صغيرةً بعمرِ الثامنة، بدأت بالتعرف إلى المركز وأذهبُ لاستعارة قصصِ الأطفال منه، كانت بالنسبة لي شغفًا يغمرني لاكتشاف العالم من حولي بأقدامي الصغيرة والقصص التي كنتُ أحفظها في ذاكرتي! في هذه اللحظة وأنا أفكرُ بالماضي والطريق الذي كان يحضنُ خطواتي الصغيرة وعودتي إلى البيتِ ركضًا، هذا ما جعلني أكثر حماسًا في ما كنت أفعله من متعٍ صغيرة، سوف تقودني اليومَ إلى هذا المكان بالذات!
وجوهٌ تمرُّ وتعبرُ وتلقي التحيةَ وأنا بين لحظةٍ وأخرى أغيبُ ثم أعودُ إلى رشدي، هكذا مثل مريضٍ ينامُ ويصحو على مخدر! مديرُ المركز يتقدم ويعلنُ أنه قرر منح منحة مالية لكل من ساهم في هذا العرض وطلب ممن ساهموا أن يعلنوا عن حضورهم بدون ترتيب أو تحديد للأسماء. بدأ الجميع يصرخ وينادي وينادي: أنا،… أنا.. أنا ومدير المركز يقوم بإلقاء مغلفات تحتوي على مبالغ نقدية، يرميها يمينًا وشمالًا بدون أدنى تقديرٍ أو اهتمامٍ بمن حوله من بشرٍ. كان الحفل قد بدأ متأخرًا. جلست في مقعدي بصمتٍ وهدوء أراقبُ هذا العالم المتغيِّر والمتحرك والهزّاز. أقول في نفسي: لا شيء يغيرُ الإنسان ولا بشاعة المسؤول!
حملت حقيبتي التي أحبها كثيرًا، كان ابني قد اشتراها لي وهو في رحلة إلى إيطاليا، كل يوم أحمل هذه الحقيبة منذ سنوات طويلة وأنا أحتفظ بها؛ إنها تمثل لي كل حياتي، فيها ذاكرة وتاريخ من الصور والكتب والخربشات التي أكتبها في رحلاتي المتنقلة..
خرجتُ من القاعةِ بصمتٍ وهدوءٍ لم يلحظْ أحدٌ خروجي كان الجميعُ مشغولًا بتوزيع الجوائز ولم ينتبه أي منهم إلى أن الكاتبَ الحقيقي المفترض تكريمه قد غادر بروحه وأنفاسه وجسده بعيدًًا عن هذه الفوضى المجنونة!
خرجتُ وحدي كانت الساعةُ العاشرة ليلًا. تلفتُّ يمينًا ويسارًا لم أرَ أي مخلوق في الطريق، هذا الطريق الذي كنتُ أقطعهُ أيام طفولتي، كان لا ينام الليلَ ولا يتعبُ في النهار. بشرٌ من كل الأصنافِ والوجوه ِفيه، من يصادف الآخرَ يلقي عليه التحية بحبٍّ وأمانٍ وسلامٍ. ومضيتُ في الطريق مسرعةً والظلامُ يغطي الكونَ كّلهُ. الكهرباءُ مقطوعةٌ بسبب التقنين والحرب اللعينة، والشارعُ طويل لا ينتهي في هذا الظلام. بدأت بالركض، أركض وأركضُ والشارع لا ينتهي وأنا في منتصفه بكل قوتي أركض، كنتُ أخشى المشي أو الاقتراب من الرّصيف؛ لأنه يؤدي مباشرة إلى داخل البيوت، وكنت أفكر في أنه قد يكون هناك من يسرقُ النساء وينتظرهن أمام البوابات! بقيتُ من خوفي في منتصفِ الشارع، أدور من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين خشيةً من طلقةِ قناصٍ في هذا الليل الطويل والشارع الذي لا ينتهي!
تذكرت الماضي وأنا أركضُ. في حرب 1967م كنت طفلةً صغيرةً، كانت الطائرات النفاثة تهدر بصوتها وتملأ السماء رعبًا وخوفًا كنا نحن الأطفال مثل الحمامِ الزاجلِ نختبئ تحت الأدراج أو نضعُ حقائبنا المدرسية فوق رؤوسنا! في هذا الظلام، بدأتُ أستعيدُ ذاكرتي وأتحدثُ إليها كي تشغلني عن رعبِ هذه المسافة التي عليّ أن أقطعها ركضًا كي أصلَ إلى البيت. الناسُ تذهب إلى بيوتها باكرًا على غير عاداتها. الحرب غيّرت أشكالنا وأحوالنا وبات الشخصُ يخاف من خيالهِ أن يقنصهُ، والبيتُ بعيدٌ وكان عليَّ أن أمضي في ركضي!
في الحارات الضيقة يزدادُ الظلام كثافةً ورعبًا، حتى القطط لا تخرجُ في مثل هذه الأيام، ومضيت في طريقي أركض وأركض حتى وصلتُ إلى منعطف شارعٍ قديمٍ أذكره جيدًا كان أبي قد استأجر لنا بيتًا لنعيش فيه في بداية حياتنا، قبل أن يشتري لنا بيتنا الجديد الذي نعيشُ فيه اليومَ. الرُّعبُ يدبُّ في جسدي وأنا أنظر إلى الزاوية التي تؤدي إلى بيتنا القديم، لم اكن أرَ الطريقَ في عينيّ ولكن كنت أراه في قلبي، كنتُ مثل عمياءَ تقودها حواسها إلى أماكن تحبها، كم تمنيتُ أن نكونَ في ذلك البيت إلى اليوم كي أصلَ بسرعة وأنهي هذا الهلع الذي أعيشهُ طوال هذه الساعات التي لا تنتهي من الظلام والخوف!
في لحظاتٍ، مثل البرق وعلى زاوية تطلُّ على أربعةِ مفارق كان بيتنا القديم في آخر زاوية والبيت الجديد الذي نسكنه يبعدُ أكثر من نصف ساعة من الجري السريع، ولكن كيف لامرأةٍ أن تركضَ وتقطعَ هذه المسافة في زمن الحرب؟
فجأةً وعلى بُعد أمتارٍ مني سمعت صوتًا يصرخُ: انتبه انتبه! هناك انفجارٌ ضخمٌ سيحدثُ، لا تتقدم أي خطوة! كان المنادي لا يتوقع أن تكونَ أيُّ امرأة في هذا المكان أبدًا وبهذا التوقيت! وقفتُ متجمدةً من الرُّعبِ والخوف. تقدم الرجل نحوي ووقف أمامي ودفعني خلف ظهره حاولتُ النظر إلى وجهه وعينيه وأن أتفرسَ ملامحه لأحفظها وأشكره ولكن من شدة الظلام وكثافته لم أتعرف إلى منقذي. واستغرب وجودي في هذا الوقت وبدأ يسألني:
من أنت؟
ومن أين جئت في هذا الليل؟ أخبرتهُ عن الحفل الذي يُقام في المركز الثقافي، ضحك بصوت عالٍ ولكنني لم أرَ أسنانه هي على ما أعتقد ليست بيضاء ربما تميل إلى الصفار أو السواد هكذا خمنتُ، وبدأت أرتجف من جديد، لماذا يتحدث إليّ ولماذا يُكثرُ من الأسئلة، هو لا يراني وأنا لا أراه وكلانا كأشباحٍ يسمع بعضها أصوات بعض فقط!
يا إلهي، ماذا أفعل؟
عليّ أن أركض نصف ساعة أخرى.
الكهرباء ما زالت مقطوعةً والقمرُ لا يظهر في السماء، والغيوم الكثيفة تحجبُ، حتى الظلال السماوية التي يراها المؤمن بقلبه وروحه! شكرتُ الرجلَ الذي لم أره. رجلُ الظلام وقلت له عليّ أن أتابعَ طريقي إلى البيت لم ينطق بكلمةٍ، لم أقرأ وجهه لأني لا أستطيع رؤيته.. وتابعتُ الركض بأقصى سرعةٍ يملكها غزالٌ في هذا العالم، من شدة خوفي ورعبي تخيلتُ الرجلَ الذي أنقذني خلفي، ويشدني إليه، كان شيئًا بشعًا ومرعبًا، وبدأت أصرخُ وأصرخ من الخوف، ووقفت أمد يدي في الظلام علني أمسك به ولكن للحقيقة لم يكن أي أحد بقربي أو بجانبي؛ إنه الخوف الذي جعلني أتخيلُ أنه قد أمسك بي، وكم تمنيت أن يظهر القمرُ ولو قليلًا ليقتلَ هذا الظلام!
أخذت نفسًا عميقًا، ظننتُ أن أمي سمعتْ صوته في قلبها، كانت دائمًا تتنبأ بنا وبأحوالنا وتعلمُ قدومنا ورحلينا إليها وعنها، حتى عندما كانت تطبخُ كانت تحتفظُ ببعض الطعام لإخوتي كونها تَعلمُ أنهم سيصلون من سفر طويلٍ دون إخبارها بأنهم قادمون. قلبُها كان الدليل إلينا…! دعوتُ ربي أن أصل سالمةً إلى البيتِ. نفختُ مرات عدة على يديّ كي أشعر بأني ما زلتُ أحمل نفسًا قويًّا يساعدني على الركض بسرعة أكثر.
كالعمياء تابعتُ طريقي.
الظلامُ كثيفٌ على المدينة والكهرباء مقطوعة، وكل ما اجتزتُ شارعًا أو حارةً أعرفها تمامًا من أنفاسها وأنفاسي، نحن حقًّا نغادر الأماكن ولكنها تبقى معنا في الترحال!
فكرتُ كثيرًا، هل أذهب إلى بيتنا القديم الذي أحفظ ملامحهُ منذ كان عمري سبع سنوات، أم أذهب إلى البيت الجديد؟
في حيرةٍ وخوف، بدأت الركض من جديدٍ بقوة وحماس، عليّ أن أقرر مصيري وبدأت أدعو الله أن ينقذني إكرامًا لأمي وأبي، أنا على ثقةٍ بنذورهم وأن الله يستجيب.
قطعتُ شارع «العمارة»، أعرفه منذ سنوات حياتي الأولى ولأول مرة أراه في هذه الوحشة! أعرف فيه البيوت والبشر وأنفاسهم، أولاده ابتلعتهم الحرب كما يبتلعني هذا الظلام!
مضيتُ أسابق أنفاسي والظلام، لأسقط أرضًا على صوت انفجار هز المدينة كلها وشعرتُ بجسدي يطير رغم سقوطه. نهضتُ وبدأتُ أشغلُ نفسي بالتفنن بأساليب الركض، وأستعيد في ذاكرتي كيف كنا نقفرُ الأسوار العالية أو نتبارى في الركض، والطريقة الأجمل في الركضِ عندما كنا نتسابق مع السيارات، حيث كنا نقف على الرصيف صبيانًا وبناتٍ وكلما مرّتْ سيارة نلاحقها على الرصيف المقابل!
أتذكرُ.. وأركضُ، أركضُ وأتذكرُ، حتى رأيت الظلام يضيء أمامي وصوتُ الأمواج يعلو ويهدرُ فشعرتُ أنني وصلت إلى بيتنا، هذا هواء البحر الذي لا يخون، يعرفني..!
بيتُنا في المجموعة السكنية الأولى، في الطابق الثالث وكان عليّ أن أعدَّ الأبواب بابًا بابًا لأصل إلى الثالث، وأخيرًا صعدتُ ومن بابٍ إلى باب، شعرتُ أن هذا الباب يحملُ كلّ حياتي وتاريخها! جلستُ على العتبة ووضعت رأسي على الباب، وغبتُ في نوم عميق. كان هذا أفضل جائزة أحصل عليها في حياتي، أن أصل إلى عتبة باب البيت وأنام كدرويشٍ فقيرٍ!