بواسطة فيصل خرتش - كاتب سوري | نوفمبر 1, 2022 | نصوص
انتهت المعركة، النتيجة باتت واضحة، لقد فنيت القبيلة الصغيرة، رأى ذلك زعيمها وبحكمته المعهودة قرَّر الانسحاب، لملم ما بقي له من نساء وبقايا رجال وانزلق بين شعاب الجبال. مشى أيامًا وشهورًا وسنوات إلى أن وصل إلى ممر ضيق في أحد الجبال، عبره والنسوة وبقايا الرجال، وفي نهايته كانت فجوة لا تتسع إلا لبشري واحد، عبروه جميعًا وكان السحر الذي قرر زعيم القبيلة أن يكون هذا المكان وطنًا لهم.
كانت هناك بحيرة واسعة في حضن عشرة جبال، ماؤها يتدرج بزرقته الدخانية، حتى يتصل بالسماء البعيدة، الخضرة تلقي بوقارها على سفوح الجبال وعلى زرقة السماء الدخانية، قمم الجبال العشرة تكلَلت بعمائم بيضاء، وعلى أطراف البحيرة نبتت ورود وأزهار تكفي لأحلام كل صبايا العالم.
استلقت ابنة زعيم القبيلة في هذه الفتنة الطاغية ونامت، رأى الجميع نومها وفي المساء، عندما لم يبق من الشمس المدفونة وراء الجبال إلا حزمة صغيرة تتسلل وراء الجبل الغربي.. تسللت هذه الحزمة، ومرت على الجبال العشرة، ثم قطعت البحيرة عرضًا وطولًا، ثم وقفت عند وجه الفتاة النائمة، تحولت إلى دخان أصفر، وأمام بصر الجميع وصل الدخان الأصفر إلى فم الفتاة.
انتفخت بطن الفتاة ثم تكورت، ولما لم يكن من رجل في المكان سوى والدها، أيقن الجميع أن الدخان الأصفر هو سبب حملها.. وفي شهرها الثاني عشر، في اليوم الثاني منه، عندما انتصف الليل، اجتمعت النجوم حول القمر، واشتد لمعانها، وانهال نورها فوق الصبية التي كانت تمزق حجاب الصمت.. ثمَ ولدت غلامًا كبيرًا يشبه في طلعته نور القمر، سماه جده «عبدالرحمن».
بعد سنتين كبُر عبدالرحمن، وبعد عشر سنوات عرف كل تفاصيل الجبال العشرة، زارها واحدًا واحدًا عدة مرات، عرف حيواناتها وشجرها وأزهارها البرية، وصادق الجميع، اعتكف ساعات وساعات وهو جالس على صخور الجبال، ولما كان في السادسة عشرة، جلس يبتهل في حضرة سكون الماء، ظل في حالته هذه اثني عشر يومًا، لم يأكل ولم يشرب، وفي اللحظة الأخيرة، مر سرب يمامات، تجمعت في السماء ثم نزلت مياه البحيرة، ولم تخرج منها، وقد التمعت في مكانها قبصة نور، ثم أخرى وأخرى حتى امتلأت البحيرة بقبصات النور، تجمعت القبصات في المكان الذي نزلت فيه اليمامات، وخرجت حورية الماء.
كانت امرأة من نور شفيف، ووقف عبدالرحمن أسير ما رآه، مشت المرأة فوق الماء، وتناثر النور حولها، امرأة من نور وماء وزبد، تقدم إليها، فأشارت إليه: أن يبقى وألا يتقدم خطوة واحدة.. تقدمت هي إليه، سألته بصوت من حفيف الشجر، إن كان يستطيع كتابة الشعر.
قال لها: ولكن ما الشعر؟
قالت له: «أن تصفني وتصف حالتنا». فما أجاب.
وعندما تراجعت حورية النور، وفي المكان الذي خرجت منه، ذابت، ولم يبق منها إلا قبصة النور. الشاب الذي سحره منظر الجمال، ذهب إلى نساء قومه، سألهن عن الشعر، قلن له كثيرًا من الشعر، فحفظه، سأل جده عن الشعر أيضًا، فقال له كثيرًا من الشعر، فحفظه، ولكن كل ذلك لم يكن هو الذي يستطيع أن يعبر عن حالته.
وبعد سنة ودع أمه وجده ونساء قبيلته، ورحل، أخذ زوادته ويمم شطر الأفق الغربي، زار العواصم واحدة بعد الأخرى، قرأ الشعر الذي فيها: إسطنبول والقاهرة، حلب وبغداد، دمشق والرياض، صنعاء والدار البيضاء، زار كل المدن، ورحل إلى بلاد الله، ساح في أوربا والأميركيتين، في الصين والهند وبلاد التتار، في باكستان وبلاد الأفغان.. كتب كثيرًا من الشعر، ولكنه لم يستطع أن يصف حالته وحالة الصبية الطالعة من الماء.
قالت له: عندما تستطيع أن تفعل ذلك سأكون لك.
وهو الآن يدور في بلاد الله، يحفظ شعر الإنسان، يكتب كثيرًا منه، لكنه مرة واحدة لم يجرؤ على رسم ذلك المشهد الذي كانت فيه حورية النور.
بواسطة فيصل خرتش - كاتب سوري | سبتمبر 1, 2019 | نصوص
قال الأستاذ عصام لي: أنت لا تميز بين صوت الرّبابة وصوت الطبل.
استدرت ونظرت إليه مليًّا وقلت له: أنا!! لقد نشأت في عائلة تهتم بالموسيقا، خبّأ ضحكة كادت تخرج من فمه، وتابعت قولي: نعم أنا رُبيت في عائلة رضعت الموسيقا منذ نعومة أظفارها. وعصام هذا… أستاذ فلسفة متقاعد، وأنا صرت متقاعدًا، والثالث الذي يجلس معنا أيضًا متقاعد. والشمس في خارج المقهى تبدو نيئة، فنحن في فصل الخريف، الفصل الذي أحبه رغم كلّ شيء، وكلّ شيء يعني لي أشياء كثيرة، منها مثلًا أنني أنظر إلى ذقن الأستاذ عصام بين فترة وأخرى، فأجده قد حلقها وجار عليها، فأعرف أنه يستخدم آلة حلاقة جيدة، تنعم الذقن، وليس مثلي أستخدم آلة عفا عليها الزمن، وهي لا تنعم الذقن، ولكنني أحلق بها.
نحن نجلس في المقهى كلّ يوم، والأستاذ عصام يتغيب يومين في الأسبوع، وأمّا أنا فلا أتغيب عن الحضور إلى المقهى، وكذلك الذي يجلس في الواجهة، ولا ينتبه إلينا، يكتب رسائل عشق أعتقد أنها لامرأة، لكنني لم أحفل به، وذلك كلّه على الموبايل.
الأستاذ عصام الذي خبأ ضحكته، لم يستطع كتمان هذه الضحكة، انفجرت الضحكة من فمه ويديه، وأظن رجليه أيضًا، التفتّ إليه نصف التفاتة، قلت: ما بك؟ قال، وربما، متلافيًا الشرّ الذي اندفع إلى وجهي، قال: لا شيء، لكنه كان ما زال يلملم ضحكته من على الطاولة التي انتشرت وملأت المكان، قلت له: أنت لا تصدق أنني نشأت في عائلة تهتم بالموسيقا والغناء، فقال: أصدّق، وأنك تعرف الفرق بين صوت الطبل وصوت الرّبابة، أليس هذا ما تريده؟ فصمت وصمت، وجلست جلسة مريحة إلى الأسفل قليلًا، وضعت رجلًا فوق رجل، وسرحت إلى طفولتي أبحث فيها عن شيء يثبت أنني من عائلة تهتم بالموسيقا والغناء… فقد كان لنا دار تتألف من غرفتين، ولها دهليز، وهاتان الغرفتان واحدة لنا، أقصد لي وللبنتين، وواحدة لأمي وزوجها ذاك الذي تدعوه أبانا الذي يجلس في أرض الديار، يضع كرسيًّا ويجلس عليه، لا يتكلم، ولا يبتسم، ولا يتحرك، فقط يجلس على الكرسي الساعات الطوال يفكر في مصير الكون، وعند المساء يدخل إلى غرفته وينام.
في الدهليز الذي يقع فيه بيتنا يوجد بيت آخر يقع أمامه هو للبطمان، يسكن وحيدًا، لا امرأة ولا ولد، ولا تلد، يخرج حوالي الساعة الثانية عشرة ولا يعود إلا في وقت متأخر لا أحد يعرف عنه شيئًا، يدخل بصمت ويخرج بصمت، وعندما يمشي بالدهليز يطرق رأسه بالأرض، ويسعل ويتنحنح، كلما أراد الخروج والدخول، يلعب بالأثقال، فقد وضع علب سمنة، على اليمين وعلى اليسار، وصبّها باطون، ووضع بينها سيخًا من الحديد، ليتدرب عليها كلّ يوم، هو قصير بعض الشيء، ويفتح قميصه صيفًا وشتاءً عند الصدر.
عندما نضجت أختي الكبيرة، وروّس صدرها، وجدتها عنده، الباب مفتوح، والاثنان قاعدان في أرض الديار، وهو يدقّ لها على الناي، وهي تغني، كانا منسجمين عندما مددت رأسي من الباب بعد أن سمعت صوتها، كانت تقول:
لا أرقى سرابة حلــــــب وأصيح مظلومـــــــــة
وإن جان الجيزة غصب عجب عليش الحكومة
وكان صوت الناي يملأ المكان، لم أشأ أن أقطع عليهما وصلتهما، فقد كانا في حالة من الوجد اللامتناهي، وكان كلّ شيء ينصت بخشوع إليهما، حتى الشمس التي كانت تجلس في طرف أرض الديار، كانت تنصت إليهما وتبكي ربما على حبيب فقدته أو على القمر، أو شيء من هذا القبيل، والهواء الذي كان يعبث بأشياء البيت توقف عن الحركة، وقطع أنفاسه، وأشعل لفافة راح ينفثها في المكان، لقد تعاون كلّ شيء في سبيل هذا الهدوء، وها هي تغني، وهو يعزف لها، والاثنان يكونان معًا جوقة أحلام تحلق في الأعالي.
عندما انتهيا رآني البطمان، فأسرع يده لي، قفز من مكانه وجاء إلي أمسك يدي، وأخذني إلى مكانه، أجلسني، وصب لي كأس شاي، ضيفني سيجارة، قال : خذ… أعرف أنك تدخن، فتناولتها، ثم ضيف أختي الكبيرة واحدة فأخذتها، ثم قال وهو يشعلها لنا، أختك تريد تعلّم الغناء، وأنا أفضل من يعلّمها، لديها خامة ممتازة لكنها بحاجة إلى صقل، صوتها قوي، وإيقاعها ممتاز لكنه بحاجة إلى من يرعاه، وأنا تعهدت منذ اليوم على رعايته.
* * *
للأيام التاليات حاول البطمان أن يعلَّمني أن أعزف على الناي، لكنه فشل، وكلّ يوم وبعد أن يدرّب أختي على الغناء، كنت أحضر معهما حفلة الغناء والعزف هذه، كان يخصص لي فترة يدربني فيها على الناي، كنت أفشل في التعلّم على هذه الآلة الصغيرة، وهو لا ييأس. اكتشفنا أن البطمان كانت له أم، ولكنها تركته وساحت في الطرقات ثم ضاعت، وقال الناس عنها: إنها جُنَّت، ولا يعرف أحد مصيرها، وله أخ أكبر منه فُقد في حرب فلسطين، ولا أحد يعلم عنه شيئًا، أمّا أبوه، فقد فقده وهو صغير ربما مات وربما ضاع هو الآخر، أصبح كأنه واحد منّا، لكنه لم يتخطَّ حدوده، فقد ظل يطرق رأسه عندما يمر أمام بيتنا، ولم يدخل إلى بيتنا مطلقًا، رغم أن أختي تدعوه دائمًا إلى الدخول، كذلك ظلّ بابه مفتوحًا عندما ندخل إليه، أنا وأختي.
في لحظات استراحاته كان يقول لي: تعالَ لأعلّمك وكنت أرفض ذلك، ولكنه كان يصرّ على ذلك، فأمسك القصبة، وأضع أصابعي على الثقوب وأضعها على شفتي، وأصفر ثم أصفر، وأرفع بعض أصابعي عن الثقوب، لكن الهواء الذي أدخله في القصبة يخرج صفيرًا مزعجًا، وأيأس، فألقي القصبة على الأرض، وأتحجج بصبّ الشاي لنا، وكان البطمان يراني أفعل ذلك، فيمسك بالقصبة ويقول لي: لماذا تلقيها هكذا… إنها لا تلين لك؛ لأنك تعاملها على هذا الشكل… هي روح، تحزن وتفرح، ألا تجد الألحان التي تخرج منها، صحيح أنها حزينة لكنها تفرح أحيانًا، أنظر… ويأخذها ويبدأ العزف عليها، فيلين الحجر والخشب والحديد، حتى إن السيجارة تحرق أصابعه، فلا ينتبه إليها، ويعزف، وأختي تنظر إليه، أراهما على هذا الشكل فأشك أن أختي عاشقة له عندما يعزف، ثم أشك في ذلك، وأقول في نفسي: غير معقول، ثم أعود فأؤكد ذلك، ثم أنفي… وأظل هكذا، بين التوكيد والنفي حتى ينتهي من وصلته، فيطفئ سيجارته، ويشعل الثانية، ويبدأ من جديد وأختي تبدأ معه الرحيل إلى بلاد لا يوجد فيها غير الأحلام والغناء والموسيقا… والبحر والنهر والجبال والسهول، وقطعان المراعي.
تدجن البطمان بسبب علاقة الغناء التي جمعته بأختي، فقد ألف البشر، وصار يغني لنفسه عندما لا تكون أختي معه، يعزف على الناي، ويغني ويدخن ويشرب الشاي كلّ ذلك في وقت واحد، كنت أجلس أمامه مطرقًا صامتًا، يغني مواويله الحزينة، وحين تكون أختي تنقلب ساعة غنائه إلى فرح راقص، فتراه مبتهجًا، أغانيه راقصة، فكأنما القمر بين يديه، وفجأة يبدآن الغناء معًا، فيشدو بمواويله وهي تغني أغانيها، وتصبح أرض الديار وكأنها قطعة موسيقية لا تنتهي، ولكن عندما جاء من يخطب أختي توقف نهر الحياة، وأصبحت الموسيقا التي يعزفها على الناي، حزينة، وعندما تزوجت أختي أغلق الباب على نفسه ولم نعد نراه إطلاقًا، لا صوت ولا حركة تنبعث من داره، ثم جاء ساكنون جدد، ويقال بأنه ترك كلّ شيء وسافر إلى بلاد لا يعلمها سواه.
* * *
نظرت إلى جليسي في المقهى، وكأنني قائل له: ألم نكن ننتمي إلى عائلة موسيقية؟ لكني آثرت الصمت.