شكرًا لساعي البريد: العصر الرقمي يقتل المراسلة الشخصية
في معرض «أنا آشور بانيبال: ملك العالم» الذي نظمه المتحف البريطاني مؤخرًا، جذب انتباهي ذلك المظروف الطيني الصغير، بلونه البرتقالي الباهت، وفي داخله رسالة حروفها مسمارية هي الأخرى من الطين المفخور، كتبها الملك الآشوري الذي توفي عام 628 قبل الميلاد، إلى أحد ولاته البعيدين من عاصمة المملكة الآشورية، نينوى، وليس مستبعدًا أن تكون هناك حصون تشبه المقاهي والمطاعم السائدة اليوم بين المدن، يرتادها المسافرون على عجل خلال رحلاتهم. بين حصن وآخر هناك ساعي بريد، يتسلم الرسائل من زميله السابق له، فينقلها إلى الحصن اللاحق ليأخذها زميل آخر خطوة أخرى، حتى وصولها إلى الشخص المعنيّ.
في كل بلدان العالم تقريبًا هناك نُصْبٌ للجندي المجهول، أمامها يقف الزوار من ملوك ورؤساء ليضعوا طوقًا من الورود، بجانب تلك النار الموقدة دائمًا تخليدًا لأولئك الذين ضحوا بحياتهم من أجل أوطانهم. وماذا عن أولئك الذين ربطوا النقاط المتنائية بعضها ببعض، وضمنوا التواصل والتفاعل بين الأقارب والأصدقاء، أو بين الشيوخ ومريديهم، وحفظوا دون أن يدروا إمبراطوريات شاسعة من التفكك عبر نقل أوامر الرؤساء المكتوبة إلى مرؤوسيهم، أو بالعكس، نقل تقارير وطلبات المرؤوسين إلى رؤسائهم.
كم كان على سعاة البريد أولئك أن يقطعوا صحارى وجبالًا وأنهارًا ليوصلوا الرسائل وهم يتنقلون على ظهور البغال أو الجمال، وربما في بعض الأماكن «الأكثر تطورًا» كانت العربات التي تجرها الخيول هي وسيلة تنقلهم، وسط طرق ترابية أو رملية أو صخرية، حيث لم تكن معهم أي أجهزة ملاحة تدلهم سوى النجوم وذاكرتهم وحدسهم الذي شذبته وشحذته تجارب أجيال من السعاة الذين نقلوا مهنتهم جيلًا بعد جيل. كم تعرض هؤلاء الجنود المجهولون إلى السرقة والقتل وهم يتنقلون بين أقوام وقبائل مختلفة صوب أماكن توجههم، ومع ذلك لم تفتّ من عضدهم، فكأنما هم خلقوا لوظيفة لا تقلّ أهمية عن وظيفة الجندي المدافع عن شعبه وبلده، فهم يدافعون عن العالم المأهول من آفات النسيان والتفكك والاضمحلال، ويقيمون شبكات تواصل تشبه كثيرًا شباك العنكبوت البارعة. الفرق بين الاثنين هو في الهدف: العنكبوت يهدف من شباكه الصيد والبقاء حيًّا، بينما الهدف من شبكات الرُّسُل كسر الموت الروحي الناجم عن سكونية تجمعات بشرية لم تكن في أغلب الأحيان تتجاوز ثلاثة آلاف شخص في أحسن الأحوال.
كان عليَّ أن أذكّر بأن سعاة البريد لم ينقلوا الرسائل الشخصية فقط بوسائط نقل بدائية حتى بداية القرن العشرين، بل كانوا ينقلون الهدايا والكتب بين المتراسلين، ولاحقًا الصحف والمجلات. لا بد أن نتذكر أن الكثير من الكتب التي صاغها أدباء ومفكرون عرب خلال العصر العباسي خاصة كانت في الأصل رسائل موجهة إلى أشخاص محددين، أو على الأقل كان كاتبها يستحضر ضمير المخاطب في نصه، وفي حالات عديدة يذكر هذا الشخص. فرسالة الغفران (التي سبقت الكوميديا الإلهية للشاعر الإيطالي دانتي ) كتبها المعري في الأصل رسالة إلى صديقه اللغوي ابن القارح يبشره فيها أن مكانه سيكون في الفردوس لسبب واحد، هو اعترافه بخطأ ارتكبه تجاه رجل أحسن إليه. وطالما أنها رسالة، فهي في حاجة إلى ثلاثة أطراف لتحقق الهدف من كتابتها: المُرسِل والرسول (ساعي البريد) والمرسَل إليه.
هل بعث المعري برسالته -التي ستصبح، بعد قرون على وفاته، معلمًا عالميًّا في السرد القصصي القائم على الدعابة والفانتازيا الجارفتين- إلى صديقه ابن القارح، عبر ساعي بريد (رسول) يعرف أين كان الأخير مقيمًا، خصوصًا أنه كان عاشقًا للسفر والتنقل لغرض التدريس بين بغداد وحلب والقاهرة والموصل؟
أو لعله تعذر إرسالها إليه فبقيت أمام كاتبها، يمرر أصابعه فوقها لتلمس صفحاتها، متأسفًا على الوقت الذي أمضاه في إملائها على أحد تلامذته؟ لكن ما يهمنا أن هذا الإبداع تجاوز المخيلة العربية المحكومة بنقل تفاصيل الواقع الرتيب، لينقلنا في رحلة عبر اللغوي والشاعر ابن القارح إلى الفردوس والجحيم، حيث يبحث اللغوي العتيد عن الشعراء واللغويين الموتى ليستفسر منهم عما صعب عليه من فهم في نصوصهم.
هل كان بالإمكان أن يصوغ المعري هذا الكتاب الذي فتح الباب لدانتي بعد ما يقرب من ثلاثة قرون لكتابه الشهير «الكوميديا الإلهية» من دون أن يكون رسالة موجهة لشخص يحبه ويقدره ويستطيع مناجاته بكل ما يعتمل في نفسه من أفكار دون خوف ودون سوء تفسير.
كم عمقت مراسلات ما قبل العصر الرقمي فهمنا لبواطن الكثيرين من المفكرين والأدباء والفنانين، فهم قضوا حياتهم يتراسلون مع أفراد يعدون بأصابع اليد الواحدة، وفيما يكتبونه كانوا ينقلون بحرية كل ما يعتمل في أنفسهم من أفكار ورؤى ومشاعر وأزمات عاطفية. بل إن الكثير من أسس المنظومات الفكرية جاءت عبر تلك المراسلات والحوارات التي تختمر بين صديقين أو زميلين بفضل تلك الفجوة الزمنية القائمة ما بين تسلم الرسالة وقراءتها ثم الرد عليها وإرسالها وانتظار الرد عليها. كم كانت الرسائل تستغرق في رحلاتها إذا عرفنا أن سرعة حصان ماشٍ من دون قسر له لا تتجاوز 4 أميال في الساعة؟
فعلى سبيل المثال، تضمنت المراسلات التي دارت بين فرويد وزميله فيلهلم فلِيس، المقيم في برلين، خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، الكثير من النباتات التي تأسست عليها قواعد التحليل النفسي. في إحدى الرسائل الأخيرة التي كتبها للطبيب المهتم بعلم الأحياء، كشف فرويد ما سيكون نقلة نوعية في مقاربة النفس البشرية، لكنها بدت كأنها زلة لسان: «هاجس آخر يُعلمني، كأني أعرف سلفًا -على الرغم من أني لا أعرف أي شيء إطلاقًا- أنني موشك على اكتشاف مصدر الأخلاقية».
وكم كانت هذه الجملة التي رددها هيغل الشاب عام 1806م في رسالته المعنونة إلى صديقه نيتامَر يوم 13 أكتوبر 1806م بعد مشاهدته نابليون في مدينة يينا، نواة كتابه الأول «فينومونولجيا الروح»: «شاهدتُ الإمبراطور -روح العالم هذا- يخرج من المدينة لتفقّد مُلكه؛ إنه فعلًا شعور رائع رؤية فرد كهذا يركز على نقطة واحدة بينما هو راكب على ظهر حصان، يمتد على العالم ويتحكم فيه…».
أو تلك الجملة التي كتبها فينسنت فان غوخ في إحدى رسائله من بلدة آرل في جنوب فرنسا لأخيه تاجر الأعمال الفنية، ثيو، المقيم في باريس، وكأنه يستقرئ فيها انتحاره الوشيك بسبب الشيزوفرينيا الملازمة له: «الموت ليس أسوأ ما يمكن أن يواجهه الفنان في حياته».
وراء ذلك الكم الهائل الذي تركته مراسلات الفلاسفة والثوريين والفنانين والأدباء عبر القرون، يكمن كنز هائل لن يتكرر ثانية. ولا بد أن الفضل في تحققه يعود لذلك الشخص المجهول، الدؤوب على ربطنا بعضنا ببعض، في إغناء حوار ذي خصائص لن تتكرر أبدًا.
* * *
تعني كلمة «بريد» العربية مسافة تساوي أربعة فراسخ (12 ميلًا)، ولست واثقًا من أنها المسافة التي يستطيع الحصان قطعها دفعة واحدة قبل إراحته وإطعامه، ليبدأ «بريدًا» آخر. إذن فإن عبارة ساعي البريد، لها علاقة بالمسافة التي يسعى حامل الرسائل إلى قطعها دفعة واحدة على قدميه، أو على ظهر حمار أو حصان، وفي القرن العشرين ارتبطت صورته بالدراجة الهوائية، وهو يتنقل من بيت إلى آخر داخل بلدته الصغيرة، قبل اختفائه أخيرًا، وحلول ساعٍ من نوع آخر، يسوق دراجة نارية، وهو إذ يقرع بابك فإنه لا يحمل لك رسالة من صديق بعيد، بل سلعة أو وجبة طعام اشتريتهما عبر الإنترنت أو فواتير الغاز والكهرباء والماء.
لا بدّ من الإشارة إلى أن دخول وسائل تواصل آنية مثل التلغراف (الرسالة المشفرة) والتلغرام (أو البرقية بكلماتها الحقيقية) والهاتف الأرضي الذي جاء ابتكاره في عشرينيات القرن الماضي، ليزيح التلغرام من طريقه إلى الأبد، لم تؤثر في التواصل عبر المراسلة، وكأن التسارع في وسائط النقل قصرت زمن التواصل بين المتراسلَيْنِ، بشكل كبير، فبدلًا من استغراق وصول رسالة أسابيع وأشهر حين يكونان مقيميْنِ في قارتين متباعدتين، ساعد النقل الجوي على تقليص الفجوة المكانية الفاصلة بينهما كثيرًا. مع ذلك، فإن الفجوة الزمنية بين بعث الرسالة وتسلمها ظلت قائمة، فالمرسَل إليه ليس مضطرًّا إلى أن يبادر من فوره إلى الرد على المرسِل. كذلك أصبحت هناك شبكة من سعاة البريد تنقل الرسائل والرزم من بلد إلى آخر، حتى تنتهي بآخر ساعي بريد يقوم بتسليمها إلى المعنيّ، يدًا بيدٍ، أو يدفعها عبر شق في باب البيت مخصص للرسائل.
هنا في العلاقة التي تنشئها الرسالة بين الطرفين خصائص، أصبحت متوارثة جيلًا عن جيل؛ إذ على المرسِل قبل البدء في كتابة خطابه، أن يستحضر لا إراديًّا كل ما يجمعه بالمرسَل إليه من أواصر، أي بغياب الأخير عن بصره، عليه أن يشحذ الذاكرة لاسترجاع آخر ما وصله منه، فالرسالة هي مجرد حلقة ضمن سلسلة متنامية لأفكار وآراء ومشاعر ينقلها ساعي البريد من دون أن يعرف محتواها ما بين طرفي معادلة، وخلال هذه اللعبة تنمو رؤى وقناعات وشكوك باتجاه حواريّ. بصيغة أخرى، على المرسِل أن يستحضر المرسَل إليه لا بشكل مجرد بل كما تجسد له في آخر رسالة وصلته منه.
كذلك، فإنه خلال كتابة الرسالة يجب أن يحافظ على حضور المرسَل إليه، لا بشكل فيزيائي، بل بشكل أقرب إلى موجة لها ذبذبة خاصة تشبه موجة محطة إذاعية محددة، وكلما طال الانغمار في إنشائها، طال حضور الآخر معه. كأن الآخرين، باستثناء المرسَل إليه، خلال تلك التجربة المعيشة كفوا عن الوجود، أو أصبحوا مادة أولية يصوغ المرسِل منها أجزاءً من رسالته.
وقد يكون على المرسِل استكشاف ما جدّ في حياته وحياة أسرته وأصدقائه، وما جرى من أمور صغيرة طريفة تساهم في إمتاع المتلقي؛ إذ إن المرسَل إليه هو الآخر مسكون بفضول ما لمعرفة عالم المرسِل، أين يسكن؟ وكيف هو الطقس؟ وماذا فعل بعد آخر رسالة وصلته منه؟ … إلخ، ومن كل هذه التفاصيل يتخيل عالم المرسِل فيصوغه وفق تلك الجزئيات الصغيرة التي ضمنها الآخر في رسائله.
يمكن القول: إن المرسَل إليه يصبح خلال كتابة الرسالة، بشكل ما مرآة للمرسِل يتعرف فيها إلى نفسه، وما يجول في أعمق أعماقه من أفكار ومشاعر ورؤى وأسئلة، وكأن وجود المسافة الزمكانية الفاصلة عن الآخر يمنحه حرية في مكاشفة الذات عبره. في المقابل، تظل عينا المرسِل على جادة الطريق عند اقتراب الموعد المتوقع لوصول رد المرسَل إليه، كأنه منغمر في لعبة تنس، تتباطأ فيها حركة الزمن بين اللاعبين، مع ذلك تظل عيونهما مشدودة إلى حركة الكرة (الرسالة)، وكلما طالت المُدّة الزمنية الفاصلة بينهما زاد عدد صفحات الرسالة، وزادت تفاصيلها ذهابًا وإيابًا.
في العصور القديمة، حين كانت رحلة ساعي البريد تستغرق أشهرًا أو سنين، كانت بعض الرسائل عبارة عن أسفارٍ (وقد تكون هذه الكلمة مشتقة من السِّفْر نفسه وتعني كِتابًا أيضًا). وقد يستغرق تبادل ثلاث رسائل أو أربع رسائل عمريهما أو عمر أحدهما بالكامل. كم تصبح الحياة في هذه الحال محدودة وغنية: عقلان فقط يتحاوران طوال حياتهما، أحدهما يغذي الآخر بوقود غير قابل للنفاد.
ليس مستبعدًا أن تكون فكرة الكتاب جاءت أولًا من ذلك الحوار المتواصل عبر الرسائل، ليتجاوز حدود الطرفين المعنيين، إلى جمهور أوسع.
* * *
بضربة واحدة، جاءت الثورة الرقمية لتقضي على تراث امتد آلاف السنوات: المراسلة الشخصية بخصوصياتها الآنفة الذكر، لتُحلّ التخاطب المباشر محلها، كأن المتراسلَين جالسان في غرفتين متجاورتين، فلا مكان للشوق إلى وصول الرسالة، التي تقطع البراري والبحار والفضاءات في الزمن الحقيقي، ولا تفرغ ذهني أو عاطفي لتلك السطور التي خصصها الآخر لي فقط، كشف لي فيها عما صادفه من مسرات وأوجاع، عما تشكل في ذهنه من انطباعات وأفكار، تداعيات هنا وهناك، كشوفات لم يكن الآخر يستطيع الوصول إليها من دون وسيلة التواصل هذه معي.
فهل هناك تراسل حقيقي بين شخصين مقيمين في غرفتين متجاورتين، أي قارتين مختلفتين؟ غير أن التراسل أصبح بينهما بسرعة الضوء، البالغة 300 ألف كيلو متر في الثانية، وإذا تذكرنا أن الضوء المنعكس من القمر يحتاج إلى ثانية و0.3 من الثانية للوصول إلى الأرض، على الرغم من أن المسافة الفاصلة بينهما تزيد قليلًا على 380 ألف كيلو متر، فإن زمن انتقال الرسالة من شخص إلى آخر تساوي صفرًا، بغض النظر عن مدى تباعدهما.
يسمي الفيلسوفُ الفرنسي جان بودريلار ظاهرةَ إلغاء الفاصلة الزمنية بين الأفراد مع بقاء المسافات الشاسعة الفاصلة بينهما تلوثَ الزمنِ، حاله حال تلوث المكان الناجم عن انبعاث الغازات الكربونية إلى الهواء. لكن التلوث هنا مجازي أكثر من أن يكون حقيقيًّا.
وإذا نظرنا إليه من زاوية التواصل بين الأفراد عبر المراسلة، فإن هذا الانتقال الفجائي من زمن ومسافة محددين، كان على الرسالة أن تقطعهما معًا، إلى انتفائهما تمامًا معًا، أفقدها خصائصها التي تنامت جيلًا بعد جيل، عبر قرون، حتى مع تطور وسائل النقل بظهور القطار في القرن التاسع، ثم العربات والطائرات في القرن العشرين.
كأن كل الجهود التي بذلها سعاة البريد لإيصال الرسالة إليك بأسرع وقت ممكن وما لاقوه من عناء ومشاق ومخاطر، خلال زمن طويل، ذهبت أدراج الرياح، فها أنت تتسلم رسائلك النصية أو الإلكترونية، على شاشتيهما، وكأن بروزها بأسرع من لمح البصر على سطحيهما، يدفعك أنت الآخر للرد سريعًا عليها.
غير أن هذا التخاطب اللساني يظل مختلفًا عن المراسلة البريدية، ومختلفًا في الوقت نفسه عن المراسلة الإلكترونية (الرقمية)، واختلافه مع الأولى هو أنه يستحث العقل والمشاعر للمساهمة الآنية في لعبة تفاعلية فورية، والزمن الفاصل بين نطق الكلمات وبلوغها إلى أذن المتلقي يساوي صفرًا، مثلما هو الحال مع الثانية.
إذن نحن نشهد موت المراسلة البريدية، وبدلًا من وجود عدد محدود جدًّا نتواصل معهم عبر الرسائل، أصبح هناك عدد كبير من الأصدقاء «الافتراضيين» القادرين على اختراق مجالك الذهني والروحي في أي لحظة يشاؤون من دون قيد أو شرط، فيحرفون مزاجك الشخصي في تلك اللحظة، ومن هناك هم يلوثون الزمن برسائلهم الإلكترونية، زمنك الشخصي الذي هو عالمك الداخلي في علاقته مع الماضي والحاضر، مع الآخرين المحيطين بك من زملاء وأصدقاء وأفراد عائلتك.
غير أن ذلك لا يعني التقليل من أهمية الثورة الرقمية في تسهيل نقل المعلومات والتواصل الفوري مع الآخرين في مجال العمل والأنشطة الاجتماعية والعلمية وغيرها، لكنها وبشكل تدريجي راحت تدفعنا بعيدًا من تلك الوحدة التي كانت تشدنا لشخص محدد أو أشخاص قلائل محددين نتواصل معهم بانتظام عبر الرسائل، ذلك العالم المحكوم بالشوق واللهفة للدخول في خضم السطور المكرسة لي بعد سفرها في الزمان والمكان طويلًا، ودخولها عبر شق الباب المخصص للرسائل لي بالذات.
بدلًا من ذلك حلت تلك الكتلة الضخمة من الآخرين الذين يصرون على بعث رسائلهم البريدية والنصية للإعلان عن خدمة أو سلعة ما، فيذهب غالبيتها إلى المفضلة، أو أولئك الأصدقاء الافتراضيين الحريصين على التواصل معك لا كشخص بحد ذاته، بل كعارض لسلع مجانية قد يعجبهم بعضها، وهذه السلع هي الأفكار والطرائف والآراء المكتوبة، من دون الحاجة إلى خوض نقاش معك عنها، فهم يتصرفون كزبائن يدخلون إلى محل فيختارون ما يحبونه فقط ويهملون البقية.
نحن نمرّ بمرحلة انتقالية فقط، فكأن الطفرة الهائلة التي تحققت بتطوير الإنترنت وتطويع الإلكترون بدرجة مدهشة، تتطلب تحولات عديدة في عاداتنا وطباعنا وأذواقنا.
كلما أفتح أضابير الرسائل القديمة، أتلمس في صفحاتها رائحة الزمن: متى كتبت، وفي أي ظروف، وماذا كان الموضوع المشترك الذي شدني إلى الآخر في سلسلة من هذه الرسائل أو تلك. الرسائل الرقمية حررتنا من الإحساس بالزمن، وأفقدتنا في الوقت نفسه ذلك الشغف الغريب عند اختراق رسالة شق الباب لفتحها والسفر في سطورها.
شكرًا ساعي البريد، لقد بقيت فعلًا بشكل ما تؤدي دور الإنترنت لكن بسرعة أبطأ بكثير: ربط خيوط هذا الحوار بين الأفراد المتفرقين فوق سطح كوكبنا، محققًا ربط أجزاء الممالك والإمبراطوريات بعضها ببعض، مانحًا فرصة لازدهار الأفكار وتطور المجتمعات على نار هادئة.