ترجمة الأدب العربي: الواقع والآفاق
تاريخ قريب: لو شئنا أن نتحدث عن تاريخ ترجمة الأدب العربي سنعود إلى قرون طويلة. ربما نقف عند الأندلس حين كان هناك طائفة المستعربين الذين نقلوا من الفلسفة الإسلامية أكثر مما نقلوا من الشعر والحكايات لكنهم أيضًا نقلوا القليل من الحكايات التي كان لها أثرها في الملاحم الغربية. دون كيخوتة نموذجًا. ثم بعد ذلك كانت ترجمة ألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر. يمكن أن نقضي كثيرًا من الوقت والجهد لنعرف أن الأدب العربي لم يكن بعيدًا من اللغات الأخرى لكن ليس بكثافة ما يحدث الآن لذلك نقفز بسرعة إلى القرن العشرين لنعرف أن أعمالا قليلة لكتاب مصريين أعرفهم أنا أكثر مما أعرف غيرهم قد تُرجِمتْ إلى لغات أجنبية لكن الكتب كانت تمضي بلا ضجيج ولا نعرف صداها في الخارج. زادت الترجمة لبعض روايات نجيب محفوظ وكان للمستعرب الكبير دينيس جونسون ديفيز دور كبير في المسألة حتى حصل نجيب محفوظ على نوبل فانفتح سوق الترجمة واسعًا.
كانت كاتبة مثل نوال السعداوي قد عرفت رواياتها طريق الترجمة مع نجيب محفوظ وغيرها من كتاب وكاتبات العالم العربي. لكن جائزة نوبل كانت مفتاح الطريق الواسع. ومن ثم سأتحدث هنا من واقع الخبرة على الأقل وما شاهدته بنفسي. فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988م وبدأت الترجمة تتسع وكانت هناك ترجمات عربية لروائيين مصريين وعرب وشعراء مثل يوسف إدريس ومحمود درويش، ومن مصر انفتحت الترجمة لأسماء مثل جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وإدوار الخراط، وانضممت لهم دون قصد، وحدث أن سافرت عام 1994م إلى باريس بعد صدور رواية «البلدة الأخرى» بالفرنسية، وحضرت أكثر من ندوة في معهد العالم العربي وغيره، وسمعت أشياء عجيبة، واكتشفت أن الأمر معركة سأتحدث فيها بعد قليل، لكن سأنهي هذا الجزء بأن الترجمة صارت تتسع كل يوم واتسعت أكثر بعد صدور جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركية بالقاهرة عام 1996م، ثم بعد سنوات تزايدت الجوائز العربية، وصارت الروايات والكتب الفائزة تجد طريقها إلى الترجمة الذي اتسع جدًّا بعد ظهور جائزة البوكر العربية عام 2007م.
وهكذا لم تعد الترجمة ظاهرة استثنائية بل صارت ظاهرة طبيعية، فتوقع ترجمة الروايات بالذات صار كبيرًا جدًّا، لكن ظلت هناك مشكلات على رأسها تمويل عملية الترجمة، فدُور النشر الأجنبية تتعامل مع السوق ومن ثم من حقها أن تختار الأكثر شهرة أو الأكثر ملاءمة مع السوق، وهناك جهات أجنبية قد تدعم الترجمة لكن ليس في كل البلاد. على سبيل المثال كان المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة حين كان المستعرب ريشار جاكمون يدير فيه الثقافة يدعم هذه الترجمة ويختار منها كما كان يدعم مشروعًا آخر هو ترجمة مئة كتاب فرنسي إلى العربية، لكن مع رحيل ريشار جاكمون عن مصر انتهى هذا الدعم للمشروعين أو على الأقل هكذا أعرف.
ضباب حول الترجمة
أعود إلى ما أشرت إليه ورأيته بنفسي عام 1994م في لقاءات في باريس من كثير من الكتاب الذين حضروا مناقشة مسألة ترجمة الأدب العربي في أكثر من ندوة. وللأسف ما أقوله استمر في ندوات كثيرة بعد ذلك ربما حتى عام 2000م؛ إذ بعد ذلك لم أحضر ندوات عن مسألة الترجمة أو لم أهتم. كان أكثر ما قاله الكتاب سواء على منصة الحديث أو من القاعة مصريون وعرب: إن الترجمة تُعنى بالروايات التي بها شخصيات مضطهدة من اليهود أو المسيحيين أو الحافلة بالجنس، وكنت أندهش لأن معظم من أعرفهم ممن ترجمت رواياتهم ليس لديهم فيها شخصيات يهودية أصلًا، وإذا وجدت شخصيات مسيحية فليست مضطهدة، أما الجنس فليس طافحًا فيها بل إن كثيرًا جدًّا من الروايات العامرة بالجنس لم تترجم.
ومن ثم أدركت أن الأمر الحقيقي لا يقترب منه أحد، وهو أن ترجمة الأدب العربي إلى لغات أخرى جانب منها تجاري، ودُور النشر تحتاج حين تترجم عملًا ألَّا تخسر، ومن ثم على هيئات ثقافية رسمية أو شعبية أن تقوم بدور في هذا التمويل الذي يشمل غير حق المؤلف حقوق المترجم وهي ليست بالقليل. حق المؤلف يمكن أن يحصل عليه من المبيعات وهو وحظه لكن حقوق المترجم لا بد أن تدفع كاملة مع تسليم العمل. هذا لا يزال غائبًا عن عالمنا العربي. سمعت أخبارًا عن دول عربية تفعل ذلك لكني لم أسمع أخبارًا عن روايات ترجمت من جراء ذلك. لقد حدث في مصر مرة أن أدار الهيئة المصرية العامة للكتاب مثقف فاضل هو الدكتور ناصر الأنصاري كان يومًا ما مديرًا لمعهد العالم العربي وحين انتهت مدته عاد إلى مصر وتولى الهيئة المصرية العامة للكتاب. هذا الرجل الفاضل -رحمة الله عليه- قام بمثل هذا المشروع وترجم أكثر من رواية إلى لغات عدة منها الفرنسية والإسبانية والإيطالية واليونانية لكن توفاه الله مبكرًا وتوقف المشروع. بالطبع لم يسلم من الانتقاد من كتاب مشهورين لأوضاعهم الوظيفية؛ كانوا يرونه يتجاهلهم عمدًا بينما كان هو يرى أن رواياتهم لا تستحق، وكثيرًا ما حدثني بذلك وهو في استياء كبير لكنه استمر حتى توفاه الله وتوقف المشروع كما قلت.
لقد كان ممن ترجم لهم الكاتب إدريس علي. ترجم روايته «انفجار جمجمة» إلى الإسبانية، وإدريس علي كان نوبيًّا يضطهده الجميع فضلًا عن وساوسه الشديدة من هذا الأمر منذ صدرت روايته «دنقلة» التي لاقت نجاحًا كبيرًا، وتُرجمت إلى الإنجليزية، وفازت بجائزة أركنساس الأميركية للترجمة العربية عام 1977م، لكن وساوسه من الحياة الأدبية كانت رهيبة؛ لأنه كان محاصرًا حقًّا من كبار الكُتاب كما يسمون، لكن ليس كلهم، فقط اسمان أو ثلاثة، لن أذكرهم، كانوا يتبوؤون مواقع ثقافية مهمة، بل أذكر وهذا خارج الموضوع أني اشتريت هذه الرواية «انفجار جمجمة» حين صدورها ووزعتها على أكثر من ناقد كتب عنها لأنه كان مكتئبًا لإهمالها.
هذا الجانب الذي أذكره وأعني به التمويل غائب عن العالم العربي كما قلت رغم وجود وزارات للثقافة، ولا أعتقد أنه لو تم من قبل الوزارات الرسمية سيخلو من المحاباة إلا إذا اختير مسؤولون، من نوع ناصر الأنصاري رحمه الله، يتعاملون مع النص وليس مع قرب الكاتب من السلطات السياسية وهذا صعب في بلادنا. ورغم عدم وجود رافد التمويل هذا فالترجمات تزداد والسبب كما قلت هو الجوائز العربية وبخاصة جائزة البوكر العربية، فاسمها العالمي جعلها معيارًا للجودة التي يختلف حولها كثير جدًّا من الكُتاب لكنك لا تستطيع أبدًا أن تقول: إنها تختار روايات سيئة. قد يراها بعضٌ ليست أفضل المتقدمين لكنها ليست سيئة، ومن ثم فترجمتها أمر جميل ويتم بسرعة عن أي جائزة أخرى قد تكون أكثر قيمة مالية، والسبب أن من يديرون البوكر جعلوا لها دعاية أكبر من كل جائزة. ظهرت جوائز أخرى تحت اسم «كتارا» تقيمها مؤسسة كتارا الثقافية في الدوحة ورغم اختياراتها الممتازة للأعمال الفائزة فأراها للأسف قد فشلت في الترجمة الجيدة للأعمال الفائزة، رغم أني كنت واحدًا ممن فازوا في أول سنة لها، والسبب بسيط جدًّا لا أعرف كيف فات القائمين عليها الذين تكفلوا بدفع قيمة الترجمة والنشر أيضًا، وهو أنهم لم يتعاقدوا مع دور نشر عالمية كبرى في أي دولة أوربية، بل لا أعرف مع من تعاقدوا وصار النشر تقريبًا محليًّا. لماذا لم تدفع مؤسسة كتارا ما دفعته لدور نشر كبرى مثل البنجوين في إنجلترا أو غاليمار في فرنسا أو غيرها من دور النشر الشهيرة في ألمانيا أو إيطاليا. لا أعرف. هذا خطأ لعلهم يدركونه فهم يدفعون ثمن كل شيء على عكس البوكر التي تدفع الجائزة فقط، ثم تتداعي دور النشر على الأعمال الفائزة أو أعمال القائمة القصيرة. كتارا تدفع ثمن الترجمة وتخسر قيمة الترجمة للأسف وهذا مؤلم.
المستقبل والترجمة
أنا دائمًا من المتفائلين فعدد ما يترجم الآن إلى لغات عديدة كبير جدًّا، وبعد فوز العمانية جوخة الحارثي بجائزة «مان بوكر» هي والمترجمة العظيمة مارلين بوث، وبعد ظهور كتب أخرى عربية في القائمة القصيرة كما انضمت جائزة القصة القصيرة في الكويت ولا تزال جائزة نجيب محفوظ بالجامعة الأميركية بالقاهرة مستمرة، وكل ما يُختار يُترجَم على الأقل إلى اللغة الإنجليزية. كما أن هناك كُتابًا حققت أعمالُهم نجاحًا كبيرًا مهما اختلف الكثيرون معها فتجاوزت العشرين لغة في الترجمة. فضلًا عن أن حالة العالم العربي الآن وما فيه من حروب وأزمات جعلت الناتج الروائي مغريًا بالترجمة.
إذًا الأدب العربي يجد مكانًا له يتسع كل يوم في العالم، والملاحظ أن الأسماء الجيدة تأخذ مكانها ولم يعد الأمر متوقفًا على المشاهير فقط، بل صارت شهرة كثير من الكتاب تأتي من الترجمة الآن. هذا كله جيد وسيفتح المجال ليكون الأدب العربي أكبر من كونه رافدًا للأدب العالمي بل ليكون جانبًا طبيعيًّا منه. لن يطول الوقت ليحدث هذا بل كل الأمور تتجه إليه بسرعة هائلة.