علاقتي بالترجمة من أجل فرض ما لم يألفه الناشرون
رغم ازدياد العناوين المترجمة إلى العربية في الأعوام الأخيرة تزداد الشكوى من قلتها ومن فوضاها وحتى من إقبال القارئ عليها.
من حيث الكم: تعدُّ زيادة العناوين المترجمة إنجازًا يمكن تقديره، لكنه لا يجعلنا نتقدم ضمن مراتب البلدان المهتمة بالترجمة. فالقراءة في حد ذاتها ضعيفة الانتشار، والكتاب المترجم ينضوي بدوره ضمن هذه المعضلة.
من حيث فوضى الترجمة: بعض أسبابها وجود اللغة العربية كلغة واحدة، لكن في بلدان عدة لها دور نشرها وتوزيعها، وغياب التنسيق في هذا المجال. وكذلك غياب التخصص إلا نادرًا ضمن مؤسسات الترجمة التي ظهرت في العقود الأخيرة. يضاف إلى ذلك ثقلها البيروقراطي في التعامل مع الكتاب ومع المترجم أيضًا، وإنْ تميزت على دور النشر العشوائية بإنصاف جهود المترجمين والمؤلفين نسبيًّا.
من حيث إقبال القارئ عليها: تقول معارض الكتب بأن الكتاب المترجم يجد رواجًا وتقبلًا لدى القارئ العربي. لكن هذا الرأي يفتقر إلى إحصائيات دقيقة. كما تلوح نزعة إلى رفض الكتاب المترجم بحكم مسبق «كون الترجمة رديئة» ويفضل أصحاب هذا الرأي قراءة الكتاب في لغته. لكنه ادعاء عام لا يشمل كل القراء ولا يبين إنْ كان كل القراء أو أغلبيتهم، قادرين على المطالعة باللغات الأجنبية.
من القارئ؟ ما ملكاته القرائية وحتى النقدية؟ فالشريحة الأوسع من القراء، خصوصًا في صفوف المراهقين، والمراهقات تحديدًا، تميل إلى التعامل مع الكتب البسيطة: كتب الإثارة والأكثر مبيعًا. بعض الكتب «الصعبة» التي تترجم إلى العربية، تجد مصيرًا عجيبًا لدى صنف من القراء. إنه الصنف المعتاد على السهولة والبساطة. وكثيرًا ما قرأت في المنتديات المخصصة للقراءة والمتابعة آراء حول بعض ترجماتي، من نوع «لم يعجبني هذا الكتاب وترجمته رديئة جدًّا»!
* * *
لا يقتصر الأمر على هذه الفوضى الفردية فحسب: هناك فوضى مؤسساتية أيضًا تعكس بدورها مثل هذه الفوضى في الترجمة. فكم من عنوان يترجم ثلاث مرات في المدة نفسها، وكم من مؤسسة تنشأ مبشرة بحل مشاكل الترجمة فتسقط في منزلقاتها. فإلى جانب اهتمامنا بالترجمة، والحديث عنها في كثير من المناسبات، لا تكاد تمر مدة من الزمن حتى نسمع بالإعلان عن نشأة مؤسسة جديدة متخصصة في الترجمة. حتى في وقت الإعلان عن الولادة الجديدة لتلك المؤسسة يكون غيرها من المؤسسات قد أعلن عن عقد مؤتمرات وندوات ولقاءات تتعلق بالترجمة وشجونها.
فبعد الجهود التي تولتها المؤسسات الرسمية ووزارات الثقافة، جزئيًّا، وكذلك جهود دور النشر الخاصة المتسمة بالفوضى وتردي مستوى الترجمة وعدم التنسيق، برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة توجه الثروة المالية إلى الانفتاح على المشاريع الثقافية بما فيها مجال الترجمة. كثرة المؤسسات المتخصصة في الترجمة تعكس إدراكًا لأهميتها من جهة، واعترافًا صريحًا بتخلف العرب في هذا الميدان. ولقد بات من المعروف للجميع مدى الفضائح التي أظهرتها الإحصائيات العالمية الأخيرة الصادرة عن اليونسكو وعن عدد من الهيئات العربية حول مرتبة العرب بالنسبة لعدد الكتب المترجمة سنويًّا، قياسًا ببلدان أخرى أقل سكانًا، سواء من البلدان المتقدمة أم من تلك التي لا تُعدُّ بعيدة كثيرًا من البلدان العربية في تصنيف العالم الثالث، على غرار بعض دول أميركا اللاتينية مثلًا.
غير أن كثرة المؤسسات -إن سلَّمنا بكثرتها- لم تبرهن على تحسن في أحوال الترجمة، كمًّا ونوعًا؛ بل يمكن الحديث عن تراكم كمي مؤسساتي أكثر من التراكم المعرفي. يضاف إلى ذلك إصابة تلك المؤسسات بآفة الاحتفالات الرسمية. لذلك كثيرًا ما نسمع شكاوى المثقفين من تغييبهم في شأن يعدُّونه شأنهم أولًا وأخيرًا، بينما يجري الاحتفال بالوجوه الرسمية التي يكشف حضورها المكثف عن آلية عمل هذه المؤسسات. ما تشكو منه الترجمة في البلدان العربية ليس غياب المؤسسة بل أساليب عملها وإدارتها ونوعية سلطة الإشراف فيها. ولا بد من تأكيد نقطة مهمة تتعلق بمدى ارتباطها، خارج عزلتها وطابعها الرسمي، بما يريده القارئ العربي الذي تتكلم هذه المؤسسة باسمه وباسم احتياجاته المعرفية. حلقة مفرغة ما زال الكتاب العربي، مؤلفًا ومترجمًا، يدور فيها: أينبغي علينا أن نترجم حتى نقرأ، أم نقرأ حتى نترجم؟ أم أن المشكلة أوسع من كل ذلك بكثير؛ نحن لا نقرأ أصلًا، ولا ننجح إلا في الترجمة العشوائية. مشكلتنا مشكلة حضارية أساسًا؛ مشكلة تبعية تُسْرع بنا إلى تقليد الأسهل والمريح في مجالات أخرى استهلاكية، مع رفع شعار المنفعة في تقليد الغالب ناسين أو متناسين دور المعرفة في غلبته وفي إشهاره لذلك السلاح الموجه إلى الروح الاستهلاكية.
* * *
فاللغة المنقول إليها، في سياق الترجمة، هي هنا اللغة العربية طبعًا، تظلّ دائمًا لغة واحدة مهما كانت مستويات التصرف فيها وإجادتها، أو الاستهانة بها، أو «تطعيمها» بمحليات اللهجات المحكية. لغة واحدة، نعم، لكنها موزعة على بلدان وكيانات وحدود وسياسات ثقافية وإعلامية مختلفة، ولا شك أن تكرار الترجمة، أو إعادة ترجمة العنوان نفسه أكثر من مرة، عندما يكون إراديًّا ومقصودًا، يزيد في فوائد الترجمة وتنوعها وغناها، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بأمهات الكتب الفكرية منها والإبداعية. لكن ما نشهده في بلداننا العربية هو تكرار العنوان الواحد بترجمة سورية، وأخرى لبنانية، أو مصرية، وغير ذلك ولا يأتي الأمر ضمن أفق التنوع والإثراء بقدر ما يدل على الفوضى وعدم التنسيق، والمصادفة أيضًا. وأكثر من المصادفة هذا اللهاث وراء العناوين الناجحة والكتب الأكثر مبيعًا، وبالتالي وراء الكتّاب المشهورين عالميًّا، وهذا ما يجعلنا نصطدم بترجمتين أو ثلاث، وربما أكثر لسيرة غابرييل غارسيا ماركيز مثلًا، وقد يغدو الحل وقتئذ في السعي إلى تفضيل هذا المترجم على ذاك، أو هذا السعر الموجود بغلاف الكتاب على ذاك. هذه الترجمات المتعددة، منظورًا إليها من الخارج، أي من خارج مواطنها العربية تبدو ذات منطق مضحك أحيانًا، ذلك أن دار النشر الأجنبية، أو الكاتب الأجنبي، ينظران إلى البلدان العربية بوصفها «لغات»، أي بوصفها قوميات مكتملة داخل حدودها، وذات لغات مختلفة، وإن كانت متفرعة عن العربية الأم، وكأن الأمر يتعلق بترجمات إلى اللهجات العامية المحلية، وليس إلى الفصحى. يظهر ذلك جليًّا أيضًا في اللغة العربية المبرمجة في الحاسوب؛ إذ يخيّرك هذا الأخير بين عربية السعودية، وعربية مصر، وعربية تونس وعربية الجزائر… إلخ، وبالعودة إلى الترجمة نشير إلى تطور في تطبيق مبدأ حقوق التأليف والترجمة، وهناك دور نشر عدة تؤكد هذه الأيام اتصالاتها بدور النشر الأجنبية والمؤلفين الأجانب للحصول على حقوق الترجمة.
حكايات لا أنساها في مجال الترجمة
ويتعلق الأمر بترجمات لثلاثة كتّاب شكلت أعمالهم حدثًا لدى صدورها: الروائي ماركيز، والشاعر أوكتافيو باث، وسيوران.
أوكتافيو باث
صاحب هذه السطور هو أول من ترجم قصائد من شعر أوكتافيو باث، وصدرت ضمن كتاب (هناك من ترجم له من قبل قصائد ظلت متفرقة في الصحف والدوريات العربية) ولتلك الترجمة حكاية. لقد صادف أن بيروت نهايات الحرب الأهلية وما قبل الحصار النهائي، جعلت مني مترجمًا. وفي أثناء طفرة الانتباه المتأخر (دائمًا) لظاهرة الأدب الأميركي اللاتيني، كان للرواية نصيب أكبر، بل مطلق، مقارنة بالشعر، إذا استثنينا بابلو نيرودا، لأسباب شعرية وأخرى أيديولوجية. وكان أن اقتربتُ من شعر بلدان تلك القارة فوجدته أقرب إلى الشعر العربي في مضمونه النضالي، على حساب الشعريِّ فيه. وكان من العيوب أن يجهر المرء بذلك في أجواء ما تبقى من الأحلام الواهية.
وعندما تيقَّنت أن أوكتافيو باث هو الشعر والشاعر، ترجمته لنفسي أولًا. وقرأت منه لبعض الأصدقاء (أحدهم سوداني، أعتقد أنه في أميركا اللاتينية الآن، وآخر عراقي، طلب اللجوء إلى دولة أوربية، وثالث سوري ضاعت عنِّي سُبله، ورابع فلسطيني ما زلتُ أبحث عنه) كان الكتاب الذي بين يديَّ يضم أربع مجموعات شعرية تحت عنوان موحد «حرية مشروطة» اقتصرتُ على ترجمة ثلاث منها فقط، لطول الرابعة أولًا، ولإغراقها في السوريالية ثانيًا، وهي متأتية من مرحلة أوكتافيو باث السوريالية.
ولما جاء دَور النشر، اكتشفت أن باث شاعرٌ شاب، مبتدئ، يتوسل النشر على أبواب دورٍ حققت مجدًا لا بأس به في هذا المجال (دار ابن رشد، الكلمة، المسيرة،… إلخ) في الدار الأولى نامت المختارات قرابة العام، وعندما حاولت استرجاعها لم يستطع الناشر العثور عليها إلا بعد أن ساعدته تنقيبًا وقلبًا لأكداس المخطوطات إلى أن وجدناها في الطبقة الأدنى، بين الغبار ومخطوطات الشعراء الشبان الذين لم يدفعوا مقابلًا للنشر.
لدى الناشر الثاني ظلت ستة أشهر. وفي تلك الأثناء قدَّمتُ القصيدة الأهم، وهي قصيدة ديوان «حجر الشمس» إلى مجلة الكرمل. وكانت السبب في تعرُّفي إلى محمود درويش شخصيًّا ولأول مرة، وليس شعريًّا فقط؛ إذ أرسلت بها إليه عن طريق شخص ثالث. وانتبه الناشر: لماذا لا يقدم محمود درويش هذا الديوان في ترجمته إلى العربية! قلت: لا أعتقد أن هذه مهمته، ومع ذلك سألته. فأجاب بأن أوكتافيو باث «لا يحتاج إلى تقديمي». وهكذا نام باث بين الأدراج شهورًا أخرى حتى تحدثت عنه أمام الصديق الشاعر أحمد فرحات، ثم محمد علي فرحات؛ الأول ارتجف حماسة، والثاني ابتسم بهدوئه المعتاد. وعرفت أن ناشرًا جديدًا، من العائلة، من الجنوب اللبناني، «يثق بنا»، نحن الذين نثق بأوكتافيو باث. وأثمر الجهد الثلاثي لدى الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع.
نُضِّدَ الكتاب… فبدأ الحصار. صدر الكتاب وأنا في تونس، سنة 1983م، ثم حصل الشاعر على جائزة نوبل سنة 1990م، ونفد الكتاب من الأسواق.
وكان من الطرائف أن الكتاب جاء خاليًا من الأخطاء المطبعية إلا نادرًا. لكن الأخطاء الفادحة كانت «صوتية». كيف؟ كانت العناوين تخطّط آنذاك وقدَّرتُ أن الناشر أملى العناوين على الخطَّاط شفويًّا، أو عبر الهاتف؛ فجاءت سماعيًّا على غرار هذا العنوان: «نشيد بين الأنقاد» بدلًا من «نشيد بين الأنقاض» مثلًا، و«حياة مستشفى» بدل «حياة مُسْتَشَفَّة»… إلخ.
خريف البطريرك لماركيز
بدأت بترجمة أول كتاب لي وهو حكاية «بحار غريق» لماركيز، ثم تلا ذلك «خريف البطريرك» كان هناك صراع على ماركيز، وبعد مقارنات بين ترجمتي وترجمات أخرى، أُقِرَّتْ طباعة ترجمتي.
لم تكن الترجمة عن الإسبانية -وقتها- متوافرة بشكل كافٍ، وكانت ترجمة أدب أميركا اللاتينية مطلوبة من دُور النشر والقرّاء. وكنتُ وقتها أترجم أعمالًا غير فرنسية، عبر الفرنسية كلغة وسيطة. كان ذلك قبل أن يبرز مترجمون رائعون عن اللغات الأخرى. كنت أشعر أنني أسدُّ فراغًا ما، الآن لا أتجرأ على ذلك. «خريف البطريرك» أصعب من «مئة عام من العزلة» من ناحية اللغة الشعرية العالية، والأسلوب الروائي، الذي يعتمد الفقرة المتواصلة إلى نهاية الفصل، وهو الأمر الذي سبَّب إرباكًا حتى لدى صاحب دار النشر، الذي تشكَّك في هذا الإفريقي التونسي، لكنني أوضحت له أن هذا هو أسلوب ماركيز في الرواية، ولن أتصرف فيه، ويمكن عرضه على من يجيد الفرنسية أو الإسبانية، وهكذا أعيدت قراءة العمل المترجم من جانب عدد من المتابعين، كان أبرزهم صالح علماني الذي قدَّم شهادة حق، أعتزُّ بها، عندما قال: إنني لو ترجمت الكتاب عن الإسبانية، لما استطعت أن أخرجه بهذا الشكل. وصدر الكتاب الذي ترجمته أثناء الاشتباكات والقصف في بيروت، ولا أذكر أن أحدًا ترجم هذا الكتاب سوى دار نشر لبنانية، وما يدل على بؤس هذه الترجمة أن العنوان نفسه ترجم إلى «خريف البطريق».
سيوران، شذرات
إميل ميشال سيوران الذي اخترق الثقافة العربية طولًا وعرضًا حاليًّا، كنت، منذ عقود، قد قدمتُ أوّل كتابٍ له إلى أربع دُور نشر عربية، فرفضتْه، وفي الأخير سلّمتُه مجانًا إلى إحدى دور النشر، ونُشر الكتاب في طبعات متتالية!
الترجمة تُجبر على انشغال واحد؛ تسحب الاهتمام إليها وتأخذ الدماغ، هي آلية تجمع بين القراءة والكتابة. قراءة الآخر عبر كتابته ونقله عبر كتابتنا. تعوق المطالعة المعمقة. تعوق الكتابة النثرية. وحده الشعر، يهزم جبروتها، وأحيانًا يخرج من بين قضبانها.