الدور الرسمي الغائب في دعم حركة الترجمة في الخليج
من خلال متابعة شخصية غير وافية وغير مستقصية و(ناقصة بالضرورة)، يبدو لي أن هناك تباينًا واضحًا فيما يتعلق بالجهود الفردية غير الرسمية مقابل الجهود المؤسساتية الرسمية في دول الخليج العربي كافة، وإن كان ذلك بدرجات ومستويات متفاوتة؛ ففي حين تشهد الجهود والاجتهادات الفردية تصاعدًا ملحوظًا وإقبالًا كبيرًا من عدد كبير من فئات عمرية ومستويات أكاديمية متفاوتة، وعلى وجه الخصوص لدى جيل الشباب، نلاحظ أن المؤسسات الحكومية أو المدعومة حكوميًّا شبه غائبة أو ذات دور ضعيف لا يكاد يذكر في دعم واحتضان أولئك الشباب وفي إنشاء مشاريع وهيئات ومؤسسات تُعنى بتنظيم جهود الترجمة وتعمل على تطويرها والارتقاء بها.
غياب المترجم الخليجي في مشاريع الترجمة الخليجية
صحيح أن هناك مبادرات خليجية بارزة في هذا المجال مثل سلسلتي «عالم المعرفة» و«إبداعات عالمية» اللتين تصدران عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، و«مشروع كلمة» المنبثق من هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، ومشروع «نقل المعارف» الذي أطلقته مؤخرًا هيئة البحرين للثقافة والآثار؛ إذ سجلت هذه المبادرات قدرًا لا يستهان به أو يُقلل من شأنه من النجاح في تحريك الساكن وإثراء المشهد الثقافي الخليجي والعربي بشكل عام.
ولكن الملاحظة التي لا يجب أن نغفل عنها هنا هو أن السواد الأعظم من المترجمين الذين أسهموا في هذه المبادرات ينتمون إلى بلدان عربية بشكل عام، مع حضور هامشي للمترجمين الخليجيين، فـ«مشروع كلمة»، على سبيل المثال، لم يسهم فيه إلا خمسة مترجمين سعوديين خلال عشرة أعوام منذ انطلاقته. وهنا أفتح قوسًا لأؤكد أنني أبعد الناس عن التفكير الشوفيني أو الانغلاقي والمناطقي الضيق، كما أنني واعٍ تمامًا بأن مثل هذه المشاريع أنشئت بشكل أساس لخدمة الثقافة العربية بإطارها الواسع بعيدًا من المناطقية والانتماء الجغرافي. وهو ما لا نختلف عليه وما لا يجب أن نحيد عنه.
غير أن أحد أهداف تلك المشاريع الخليجية الكبرى ينبغي (كما أُومِنُ وأعتقد جازمًا) أن يتوجه لتبني وتشجيع وإبراز الأصوات الجديدة المدفوعة بحماس الشباب وشغف المعرفة والرغبة في ترك بصمة لها في خريطة الثقافة العربية والعالمية، وأن تكون مسهمة وذات دور فاعل في رسم معالم متن الترجمات العربية المتكاثرة، التي تشهد، في بعض جوانبها على الأقل، إقبالًا ملحوظًا من القراء العرب في معارض الكتب التي لا تنقطع مواسمها.
وإذا ما شئت تضييق إطار الحديث وصرفه إلى الجانب المحلي، فإن الملاحظة الأبرز هي غياب مشروع كبير طموح يستقطب وينظم جهود المترجمين الذين لا يجدون من يحتويهم ويأخذ بأيديهم وينمي قدراتهم ومعارفهم، وذلك على الرغم من وجود عدد لا بأس به من المترجمين والمترجمات ذوي الكفاءة ممن اعتمدوا على جهودهم الذاتية في تكوين أنفسهم وتنمية وصقل مهاراتهم، وكان لبعضهم وبعضهن إسهامات بارزة وترجمات على درجة كبيرة من الجودة والدقة والإتقان.
وعلى صعيد الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون في السعودية تكاد الجهود أن تكون شبه غائبة أيضًا فيما عدا بعض الاجتهادات والومضات هنا وهناك وفي فترات متقطعة بعيدًا من الاستدامة المطلوبة والمفتقر إليها، ومن تلك الجهود إصدار نادي جدة الأدبي مطبوعة فصلية خاصة بالترجمة (لا أدري إن كانت لا تزال تصدر حتى الآن)، وطباعة بعض الكتب والمختارات المترجمة لمترجمين محليين، وكذلك إنشاء بعض الجماعات المهتمة بالترجمة ونشاطاتها، كورشة الترجمة التي أسهمتُ شخصيًّا في تأسيسها وكنت رئيسًا لها في نادي المنطقة الشرقية الأدبي وذلك في عام 2011م، ولكنها للأسف الشديد لم تستمر طويلًا. ولأن الدور الرسمي لا يزال غائبًا حتى الآن، فقد لجأت مجموعات من الشباب والشابات المولعين بالترجمة إلى إنشاء منصات وتكوين جماعات صغيرة في معظمها على الإنترنت وعبر وسائل التواصل الاجتماعي لسد الفجوة الكبيرة التي لم تملأ حتى الآن. وغني عن الذكر أن مثل هذه المنصات والجماعات لا تمتلك القدرة أو الإمكانات أو المؤهلات للقيام بالدور الذي يتوقع من المؤسسات الرسمية أو المدعومة رسميًّا التصدي له والنهوض بأعبائه. ويدخل في إطار الجهود الفردية أيضًا ما انصرفت إليه بعض دور النشر المحلية مؤخرًا من توجه لترجمة بعض أهم المؤلفات والمؤلفين الذين لم يسبق ترجمة أعمالهم من قبل، وهو ما عزَّز من حصيلة الكتب المترجمة كمًّا وكيفًا. ويلفت النظر في هذا السياق أن القائمين على دور النشر تلك ينتمون لفئة الشباب المتحمس والمتطلع لإحداث أثر وترك بصمة في سبيل إغناء المشهد الثقافي المحلي.
جهود واجتهادات فردية
ولأن الدور الرسمي لا يزال غائبًا حتى الآن، فقد لجأت مجموعات من الشباب والشابات المولعين بالترجمة إلى إنشاء منصات وتكوين جماعات صغيرة في معظمها على الإنترنت وعبر وسائل التواصل الاجتماعي لسد الفجوة الكبيرة التي لم تملأ حتى الآن. وغني عن الذكر أن مثل هذه المنصات والجماعات لا تمتلك القدرة أو الإمكانات أو المؤهلات للقيام بالدور الذي يتوقع من المؤسسات الرسمية أو المدعومة رسميًّا التصدي له والنهوض بأعبائه.
ويدخل في إطار الجهود الفردية أيضًا ما انصرفت إليه بعض دور النشر المحلية مؤخرًا من توجه لترجمة بعض أهم المؤلفات والمؤلفين الذين لم يسبق ترجمة أعمالهم من قبل، وهو ما عزَّز من حصيلة الكتب المترجمة كمًّا وكيفًا. ويلفت النظر في هذا السياق أن القائمين على دور النشر تلك ينتمون لفئة الشباب المتحمس والمتطلع لإحداث أثر وترك بصمة في سبيل إغناء المشهد الثقافي المحلي.
الحاضنة المؤسسية المنتظرة
ورغم كل هذه الجهود والاجتهادات على أهميتها وما تبشر به من وعود، فإن الحاجة تظل ملحّة للحاضنة المؤسسية القوية ذات التوجه الإستراتيجي المدروس، وهو ما ينتظره الجميع من وزارة الثقافة في السعودية بصورتها الجديدة، عبر مبادراتها الطموحة والواعدة التي أطلقتها مؤخرًا، وبخاصة أن من بين تلك المبادرات مبادرة أو قطاع (حسب الاسم الرسمي) خاص بالأدب والنشر والترجمة، يرأسه الروائي المعروف محمد حسن علوان.
بالنسبة لي، وعلى المستوى الشخصي، فإن كل ما أحلم به (وأراهن أن غيري من المترجمين يحلم به أيضًا) هو وجود هيئة أو مؤسسة أو مبادرة (أيًّا كان اسمها) يكون همُّها منصبًّا ومتوجِّهًا ومقتصرًا على كل ما يمتُّ للترجمة والمترجمين بِصِلَة، وألا يقتصر دور هذه المؤسسة على تبني ترجمة وطباعة الكتب ودعم المترجمين معنويًّا وماديًّا، على ما لذلك من أهمية بالغة، بل أن يمتد دورها للتأسيس المعرفي للمهتمين بالترجمة وذوي القابلية لتطوير وصقل مواهبهم من خلال عقد المؤتمرات العلمية المنتظمة وتنظيم الدورات التدريبية الموجهة.
ومن بين الأفكار الأخرى أيضًا تبني فكرة التفرغ لذوي الباع الطويل والمسيرة الحافلة في مجال الترجمة، وبخاصة فيما يتعلق بترجمة بعض الأعمال المهمة والاستثنائية، وإطلاق جوائز حافزة محلية في مجالات الترجمة المختلفة، وعلى مستويات متعددة، كأن يكون بعضها تكريميًّا، وبعضها الآخر لتشجيع المواهب الجديدة التي هي أحوج ما يكون للأخذ بأيديها والاحتفاء بها.
ختامًا، أستطيع القول، ومن منطلق معرفة معقولة واطلاع كافٍ بخبايا ساحتنا الثقافية: إن الإمكانات البشرية في مجال الترجمة كبيرة كمًّا وكيفًا، وإن كل ما هي بحاجة إليه هو الْتِفات المؤسسة الرسمية إليها وإمدادها بما هي بحاجة ماسّة إليه من دعم وتشجيع واعتراف وتكريم هي مستحقة له وجديرة به.