سؤال «قصيدة النثر العربية»
أهي لحظة مناسبة لمساءلة الوعي العربي (الأدبي، خاصةً) بقصيدة النثر، بعد أكثر من نصف قرن على بزوغها في الشعرية العربية؟
نصف قرن، خمسون عامًا -وأكثر- منذ أن طرحها أول مرة الشاعر السوري محمد الماغوط شعريًّا (ديوان «حُزن في ضوء القمر»- 1958م)، وطرحها أدونيس وأنسي الحاج نقديًّا عام 1960م، أول مرة في الثقافة العربية؛ الأول في مقالته «في قصيدة النثر» بمجلة «شعر»، العدد 14 (1960م)، والثاني في مقدمته لديوانه الأول «لن» (1960م). مقال ومقدمة أقرب إلى «المنشور» التبشيري بالقصيدة، بالاستناد -بقوة زائدة- إلى الأكاديمية الفرنسية سوزان برنار، في كتابها الشهير عربيًّا «قصيدة النثر، منذ بودلير حتى الآن» (المفارقة القدَرية أن الكتاب صدر بباريس في العام نفسه الذي صدر فيه ديوان الماغوط الأول –1958م).
ولنحو أربعين عامًا تالية، ستكون المقالة والمقدمة «المصدر» لما راج من أفكار عن «قصيدة النثر»، في الوعي الأدبي العربي. بعدها تبدأ ماكينة التأليف النقدي في الدوران: مقالات منفردة، كتب، حوارات، إلخ.
لكن الأسئلة المطروحة لم تجد في هذا الكتابات إجابات شافية: ما أكثر المصطلحات التي اقتُرحت بديلًا للمصطلح، من دون أن يكون أحدها بديلًا مقنعًا، منضبطًا، دقيقًا، يعوض ما عدَّه البعض «تناقضًا» في بنية المصطلح الشائع (قصيدة النثر). بل وصل الأمر ببعض النقاد الرافضين لها إلى «المكايدة»، باستخدام صفة «الخُنثَى» و«الهجين».. بما لهما من إيحاءات مبتذلة، باستخدام ابن منظور (لسان العرب)، وغيره من اللغويين القدامَى مرجعًا مؤسسًا للمصطلح الحداثي.
ومشكلة المصطلح ليست فادحة؛ فهو يفرض نفسه كأمر واقع، بلا بديل مقبول؛ شأن مصطلحات «السينما» و«الفِلْم» و«الأوبرا» و«السيمفونية» و«الباليه» و«الكونشيرتو»، إلخ.
لكن المشكلة الفادحة تقع خارج مجال المصطلح، ابتداءً من توافق غالبية الكتَّاب، وربما الشعراء، على أن «قصيدة النثر» كامنةٌ في التراث العربي، ولها جذور عميقة في الزمن، ترجع إلى «سجع الكُهَّان» (غالبًا قبل ظهور الإسلام)، ثم كتابات أبي حيان التوحيدي والنفري والسهروردي وابن عربي.. وصولًا إلى أمين الريحاني وجبران خليل جبران، انتهاءً بالمصري حسين عفيف.
وليست تلك هي الحالة الأولى في محاولة تأسيس الشرعية من خلال البحث عن جذور تراثية «عربية» قديمة لفن أو نزعة حديثة؛ فذلك ما جرى مع المسرح بالتفتيش في «بابات» ابن دانيال، والأشكال الشعبية للأراجوز والتشخيص. بل ذلك ما جرى -على نطاق واسع، شارك فيه الكثير من المفكرين من مختلف التيارات- مع «اشتراكية» عبدالناصر في الستينيات، وإلصاق المصطلح بكل ظاهرة تراثية تنمّ عن نزوع إلى «العدل الاجتماعي» بالمعنى الإنساني العام.. إلى حد إصدار كتاب «اشتراكية الإسلام».
فالنزعة «الماضوية» -بمصطلح أدونيس- حاكمة للوعي الثقافي والفكري. فالراهن مرهونٌ بالتراث الماضي، الذي ينطوي -وفقًا لذلك الوعي- على إجابات مطلقة، وحلول نهائية، لكل المشاكل والإشكاليات. هو مصدر الشرعية الفكرية والثقافية، ومانحها ومبررها؛ وإلا فهذه الشرعية موضع شك مؤكد (لا يختلف ذلك عن وعي رجل الشارع العادي في مختلف البلدان العربية، إلا في «سبك» الكلمات والعبارات، وإعطائها نبرة توحي بأنها «عميقة»).
ولنلاحظ أن أحدًا من هؤلاء لم يفسر لنا لماذا ظلت تلك الجذور كامنةً في تراثنا، ولم تنجب قصيدة نثر إلا الآن؟ وطالما أنها جذور «شعرية»، فكيف لم ينتبه إليها الجاحظ والجرجاني وابن قتيبه، وصولًا إلى شعراء النصف الأول من القرن العشرين ونقاده؟ لماذا لم نسمع بالمصطلح إلا الآن؟ إلخ.
هذا «التشويش» المنهجي/ الماضوي هو ما يعرقل -حتى الآن- النظر في «قصيدة النثر» في أصولها الحقيقية وسياقها التاريخي (لا الافتراضي)، ووضعيتها الراهنة، ومحاولة اكتشاف ملامحها في النصوص العربية، وما إذا كان ثمة توافق/ تعارض مع ملامحها في الآداب الأخرى، وبخاصة الفرنسية، للتوصل إلى ماهيتها الشعرية (إن كان ذلك ممكنًا). وهو ما يؤدي بالنقاد الحاليين إلى الهروب الدائم -لدى تناول نصوص «قصائد النثر»- من البحث في خصوصيتها الفارقة عن نصوص «التفعيلة»؛ ليقدموا تلك الرؤية العامة التي لا تميز بين النمطين في شيء؛ رؤية تصلح لإسقاطها على جميع أشعار العالم.
ولهذا، فليس غريبًا أن نصل حاليًّا إلى مواجهة الوضع الراهن الغريب؛ أن نصبح بإزاء قصيدة بلا تأسيس نقدي، ولا إحاطة ثقافية؛ قصيدة شقت طريقها، وفرضت هيمنتها بانحياز الشعراء وإصرارهم، وبخاصة منذ السبعينيات (من المحيط إلى الخليج)، بلا مواكبة نقدية أو حسم لقضاياها الثقافية (مضيئة هي المقارنة مع المواكبة النقدية لقصيدة «التفعيلة» في الستينيات: النويهي وعز الدين إسماعيل وغالي شكري وعبدالقادر القط ونازك الملائكة، إلخ).
هكذا، بعد أكثر من نصف قرن على بزوغ «قصيدة النثر» في الشعرية العربية، لا تزال تلك القصيدة المجهولة، التي نقرؤها، وقد نستمتع بها؛ لكن بلا إضاءة نقدية أو نظرية، تزيل -على الأقل- أثر التشوشات التي تُضَبِّبُ الأفقَ الثقافيَّ العربيَّ، منذ أكثر من خمسين عامًا.