بواسطة ياسين النصير - ناقد عراقي | يوليو 1, 2020 | مقالات
من أين تبدأ فلسفة المكان؟ هل تبدأ من المكان نفسه؟ بعدِّه واحدًا من المقولات التي تتأسس في الطبيعة وتتطور في العمل؟ أم تبدأ من الفلسفة الميتافيزيقية لعلاقة المكان والزمان باعتبارهما مقولات رياضية مجردة من أي تشكيل مادي محسوس؟ أم من الاثنين معًا عندما يشتبكان في بنية فضائية يكون المكان معلمًا بتكوين وجودي، وتكون الفلسفة قد عثرت على فضاء يوضح لها كيفية اندماج العناصر فيها؟
قبل الخوض في تفاصيل العلاقة بين الأمكنة والطبيعة فلسفيًّا، الأمكنة وتطورها الاجتماعي والتشكيلي والهندسي والهوياتي، نعود إلى الأوليات التي رسمت لنا خارطة لا تزال متحركة بين كل العلائق التي تشمل علاقة المكان بالطبيعة وبالثقافة والحضارة، وهي أن البداية هي أن الأمكنة التي نتعامل معها تكون أمكنة استعارية لما تماثله، قد تكون في الكهوف أو في السماء، وهذه الأمكنة الواقعية ليست إلا محاكاة لتلك التي لم تُرَ، ولم تُعَشْ، ولكنها موجودة بوجود خالق كوني. والتحول الاستعاري هو أن الأمكنة الواقعية ليست «إلا تسمية شيء ما باسم يخص شيئًا آخر»(١). هذا ما خلص إليه أرسطو أيضًا في فن الشعر الفصول (25-21). شأنها شأن أي شيء يمكن استعارته.
الأمكنة كيانات مجردة إذا لم تُسَمَّ، وإذا لم تعدْ لكائن آخر، أي أن تسميتها وتعيينها يتم من خلال تحولاتها الهوياتية والوظائفية، ولذلك ستكون الأسئلة ضمن هذا التحول، من الفضاءات الطبيعية، إلى الأمكنة التشخيصية، وهو ما يعني أنها أصبحت صالحة للتعامل الإبداعي معها كصلاحيتها للبناء والاستعمال.
لم يَدُرْ بخَلَدي أن أصل إلى مرحلة التفكير بالمكان، أن يطرح المكان سؤاله الفلسفي الخاص لي، فأنا كاتب سعيت منذ أربعين عامًا إلى أن أنتبه للهامش، والمتروك، والثانوي، والمهمل، والغائب، والأشياء الصغيرة، أملًا في العثور على شيء خاص في هذا النثار الحياتي، ليحقق لي شيئًا من طماح الذات وهي تنأى بعيدًا من التقليد والتفكير نقديًّا في القضايا الكبرى، بما فيها كتابة الرواية والشعر، أو صراع الطبقات وغيرها، من المواضيع التي تضيع فيها الخبرات الصغيرة. وكان اللجوء إلى الفعل الإنساني اليومي، الذي ألفناه حياة وممارسة وعيشًا وتفكيرًا، هو هدفي الذاتي، وكانت أشياء القرية المحدودة، وعلاقاتها البيئية والعملية من متقلبات اليد والعين والذاكرة، كافية ضمن منطق وجودنا فيها للإجابة عن الأسئلة اليومية التي تولدها علاقاتنا بالأشياء؛ لذلك كان اهتمامي المبكر بالتراث الشعبي: الأمثال والأغاني والصناعات الشعبية، ومفردات الحياة اليومية للأصدقاء، وبخاصة الفتيات اللائي بعمري، وهو ما مهد لي أن أتغلغل في صنوف من الممارسات اليومية الصغيرة، وكنت أعتقد أنها كل ما في عالمنا الواقعي الذي كنت أعيشه، ولكن الحقيقة كنت أعيش في مخيال واقعي فرضته علي الحياة القروية البسيطة، وبخاصة عندما تطلع الشمس على الأشياء فتخصبها، وعندما تغيب عنها، فتميتها بالظلام، كنت أرصد هذا التغير في الأشياء؛ هل تتغير بفعل ما يحدث لها، أم تبقى كما هي بالرغم من طلوع الشمس وغيابها؟
وما يحدث من تغييرات كنت أتصوره تغيرًا في درجات الضوء وانحساره، وإتيان الظلمة من جوف السماء لتعم الأرض والناس والأشياء كما لو كانت كفنًا أسود يغلف القرية بموتها الليلي. هكذا بدأت علاقتي مع الأشياء، وما زلت مهووسًا بذلك العالم الصغير المتخيل الذي يملأ مسامات تفكيري من أن الطبيعة ليست خلوًا من العقلية، ولكنها العقلية المتكررة، وليست العقلية المتغيرة. في كل مواسم السنة أرى الحياة نفسها، وما يتغير فيها نحن فقط، نكبر فيضج تفكيرنا وضوحًا بالأسئلة، ومن داخل هذا التفكير، وجدت أن الانتماء لتيار فلسفي عقلي تجريبي، نقلة كبيرة في حياتي، مصحوبة بآلاف الأفكار الصغيرة عن دور المهمل والمتروك والثانوي والعابر والمحذوف، على الرغم من صغرها وهامشيتها، وكأنها أمتعة لرحلتي ألقيت خارج حياتي، كثيرًا ما ألتقط تمرات سائبة وخيوط صوف مهملة، وورقة من دفتر قديم، وحكمة يتداولها كبار السن، ومثلًا أستفيد منه لمحاكاة شخص، ولكني فوجئت لاحقًا أن الفكرالجدلي ينطلق أيضًا من هذه الأرضية المهملة ليؤلف قانونًا يغيَّر فيه معتقداتنا المألوفة، ليحشد المواقف ضد من يهملها، أو يلغيها، أو يعدّها من إنتاج الطبقات الدنيا من الناس.
الوعي المركب
في هذه المرحلة من الوعي المركب، بين خبرتي القروية البدائية، وخبرة الانتماء العلمية، بدأت أفكر في أن الأشياء كلها ليست على درجة واحدة من الوعي. فكل وعي لشيء ينبع من خصوصية العلاقة مع الشيء، هكذا بدأت أفرز بين ما ينتجه زرع الفلاحة، وما تنتجه النباتات الطبيعية، وما يصطاد من الأنهر، وما يزرع في الأرض، وما يعمل بالخبرة مع الأرض، وما يترك عفوًا لينمو حاملًا غرائبه هذا الوعي المتدرج، والمختلف، حملته معي كمنهاج بحث في الحياة، كنت قد نضجت كثيرًا، وفهمت معنى أن أنتمي لتيار سياسي تقدمي، ينادي بالعدالة والعمل، مع أني ابن أسرة ميسورة، لا تفكر بالآخر، بقدر تفكيرها بما يزيد مكانتها.
كل هذه المتراكمات من الوعي البسيط، ومن الوعي المنتبه، كانت خميرة تتشكل كأسئلة مصدرها الناس، وأمكنتها القرية وحاضنتها الحياة اليومية ومتطلباتها، والفكر وأقواله، لأجد نفسي لاحقًا بين مطارد ومُنْتَمٍ، بين أن أكون معلمًا للعيش ومثقفًا واعيًا لما يحدث، هذه الأسئلة، على الرغم من بداياتها وعفويتها، كانت هي الأساس الذي تطور لاحقًا في اهتمامي بحشائش الحياة اليومية ومهملاتها، بما فيها أفكاري البسيطة الساذجة عن الأمكنة والضياء والظلام وحركة الناس في الحقول واستماعهم الليلي للحكايات، هذا العالم الصغير ما أوسعه حين نتأمله لاحقًا.
مفهوم جديد للمكان
خلال الأربعين سنة الأخيرة، عندما شاع مفهوم جديد للمكان من أنه عنصر من عناصر بنية النص، وجدت أن المكان عبارة عن الأشياء التي تشكل بمجموعها المأوى، أو الألفة، أو العيش، أي تلك التي كنا نعايشها كأشياء، وهو الأمر الذي نهضت عندي حاسة أخرى، تلك هي الرؤية القصدية للأشياء البدائية وهي تتفاعل مع حيواتنا اليومية، ومن بينها انتقالنا من بيوت القصب والبردي إلى بيوت الصرائف المزركشة بفنون القصب المظفور، ثم إلى بيوت الطين، وأخيرًا بيوت الآجر والإسمنت والحديد.
ومع هذه الرحلة، كانت الأشياء نفسها مع تطور استعمالاتها ترافق هذه المسيرة بأسئلة جديدة عن المدينة والعمارة، عن السكن والمأوى، عن العيش والبحث عن أمكنة أخرى، وبالقدر الذي تصبح فيه الأشياء القديمة جزءًا من التراث البيتي الذاتي، أصبحت الأشياء الجديدة نافذة على المدينة والحياة الواسعة، والأفكار. ويحدث مع هذا كله انحسار جزئي، ولكنه مستمر، لدور الطبيعة التي كانت تفرض ارادتها على طبيعة الأشياء والسكن والحياة الهامشية. في هذه المرحلة بدأت أعي أهمية التفاصيل في الأشياء؛ ما معنى أن تضع النساء بقايا الأكل ليلًا على عتبة الباب وتبسمل، ثم تفتح القدر، وعندما أسألها، تجيب هذا طعام الملائكة التي تحرس بيتنا، لا يجوز أن نأكل ونترك حراسنا من الملائكة بلا طعام، ها هم ينظرون إلينا، لم نرهم ولكنهم موجودون. ولم أَدْرِ لماذا يكون للباب قفلان، خارجي يُقفل عندما نخرج، وداخلي يقفل عندما ننام، وعندما تسأل، يجيبك الأب، الحرامية لا تعرف من أين يأتون، حرامي أجنبي تغلق الباب بوجهه كي لا يدخل، وحرامي من داخل بيتك تغلق الباب أمامه كي لا يخرج، فلكل بيت قفلان، أحدهما يحمي الداخل، والآخر يحمينا من الخارج. مثل هذا الوعي بالأشياء الصغيرة، كان مثار أسئلة، لم أَعِ أنها ستكون كبيرة ومقلقة وتقودني إلى البحث والاستقصاء، وتشمل ليس الحيوات الصغيرة، بل الأفكار الكبيرة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وها هي تتبرعم نباتات عن تلك الجذامير القروية البسيطة لتتحول إلى وعي مدرك أهمية الأمكنة في حياتنا اليومية.
الهوامش :
١. تيرنس هوكس ، الاستعارة، ترجمة عمرو زكريا عبدالله، المركز القومي للترجمة ،القاهرة ع 2733، ط1، 2016م، ص 18.
بواسطة ياسين النصير - ناقد عراقي | يناير 1, 2020 | مقالات
للغة المكانية ميزة خاصة تختلف عن ميزة اللغة المجردة، وعن ميزة لغة الزمان، لو قلنا: «البيت»، لكانت لغته المكانية تعني لغة الهندسة، والتشييد، والحيز الأنثروبولوجي، والسكن، والألفة، والأسرة، والوطن،… إلخ، وهذه المعاني حديثة، أي كل ما يتعلق بلغة البيت التأويلية. ولو قلنا «البيت» لغة قاموسية، لاقتربت من لغته المكانية، البيت تعني المبيت، والسكن، لكانت اسمًا أو مبتدأً، ولو قلنا «البيت» زمنًا، لقلنا تاريخًا، أو عمرًا، أو مدة عشنا فيه، اللغة المكانية مشحونة بأشياء وثقافة المكان، ولا تنشأ اللغة المكانية كصفة للمكان، بل استعارة، فالبيت يكون زمنًا، ويكون مالًا، ويكون أمنًا، ويكون ادخارًا، ويكون وجاهة، ويكون سترًا، ويكون زواجًا، وفلان بيت قومه، أي رئيسهم، والبيت عيال الرجل، والبيت التزويج، وبيَّت الأمر السر الذي يُدبِّره ليلًا، والمبيت الموضع الذي يبات فيه، والبيتوتة دخولك في الليل، وبات يفعل كذا وكذا (لسان العرب) ج2 ص15-16-17.
كل هذه الاستعارات ليست صفات، إنما هي حالات، وشحنات ثقافية وتكوينية، مرتبطة بهوية المكان، وإنشاءاته، ومن ثم فهي لغة من لغات المكان المؤلفة عبر الممارسة التاريخية، وليست لغة الكلمات القاموسية فقط. فاللغة تلحق بالأمكنة ولا تتقدمها. الشعرية المكانية هي ما تشعر به مكانيًّا، وما تشحنه فيها من شحنات ذاتية مضمرة في بنيته، فالإحساس بالبيت نوعان: نوع يخص بنيته؛ بيتًا، خيمة، دارًا، بيت القصب،… إلخ، كلها بيوت للسكن والألفة والزواج، هذا إحساس وظيفي عام، ويتساوى معه بيت الشعر عندما تسكنه أسرة الكلمات. النوع الثاني، هو الشعرية، وهذه تتألف من مجموعة شحنات البيت الوظيفية، المكانية والمادية واللغوية والممارساتية الحياتية، والبنى الثقافية، وتاريخية السكن، والتقاليد، والبنى المعرفية التي تُسكنها الأقوام عبر عملها المتطور، ومن ثم كل ما يتعلق بحياة الإنسان؛ يرحل من محيط العمل ليسكن البيوت.
فالمظاهر الدلالية للألفاظ، هي الأصوات والنغمات الخاصة التي تحملها الشحنات المكانية لصور واقعية أو متخيَّلة؛ لتوليد أحلام اليقظة التي ترافقها أحلام الطفولة والسكن والعيش، وأحلام اللاوعي المعرفي الذي تفجره الرؤية القصيدة لأشياء المكان ومكوناته، عندما يصبح الموقد مثلًا أمنًا ودفئًا، يتحول إلى مسبب للكلام، ومن ثم لنشوء الحكاية، الحكاية ترافق الحرارة دفئًا أو نارًا، الشعرية هنا، تسكن بيتًا من الأشياء والكلمات تسكن نار الحكاية، وتؤجج كلماتها وتشحنها بما يتفق وقدرات المستمع، وليست الشعرية أشياء أو كلمات خارجية تلصق بالأمكنة، أنما هي تلك الروح المادية التي تسري في الأشياء وفي الكلمات. ما يميز لغة المكان، أنها نابعة من جنس مكوناته، وليس من جنس اللغة التي نتكلم بها، فعندما نقول: هذه نافذة، عتبة، باب، موقد، سطح، جدار… إلخ هذه المفردات التكوينية، هي اللغة، وليست اللغة الإشارية لها تعويضًا عن لغتها الخاصة. فلغة الجدار، لا تعني أصوات حروف «ا ل ج د ا ر» أبدًا، ما تعنيه إن حملت هذا الاسم، في حين أن لغة الجدار التكوينية هي: المواد المنشئة له، التي عبأت مساحته، وكونته كتلةً حيًّة يمكن أن توظف، هذه اللغة التكوينية هي المعنية باللغة المكانية، لتأتي اللغة التي نكتب بها توصيفًا للغة المكانية، فالنافذة ليست لغةً «ن ا ف ذ ة»، إنما هي لغة العتبة التي تفصل الداخل عن الخارج، والتي يمر من خلالها نور الخارج إلى الداخل ويخرج ضوء الداخل إلى الخارج، لغة الممرات، المشحونة بهواء الخارج والداخل، لغة الضوء المخترق والمنعكس على الجدار الداخلي، لغة العيون المتطلعة للفضاء الخارجي التي ترتبط بالأمل، لغة الأفكار المحلِّقة في سماوات الذاكرة، لغة الأمس وقد بقيت حروفها خارج الأمكنة، لغة المستقبل وهي تتسلل عبر النافذة لتسلط ضوئها على لغة الحاضر، لغة الإمكانيات في الحرية ونشدان الهواء الطلق، لغة الطيور المحلقة في سماوات خفيضة من أجل جمع القوت، ولغة العتبات، التي لا داخل لها ولا خارج، لغتها تكوينية ليست حيادية، إنما هي ما بينية. وكذلك لغة الباب، ولغة الموقد، ولغة السرير، ولغة السطح، فكل منشأة لها ما يكونها لا ما يصفها، التوصيف يأتي بعد التكوين، اللغة التي نتحدث بها عن هذه الأشياء لغتنا نحن، أمَّا لغتها فلا يعرفها إلا البناء، ولذلك تكون البنائية هي اللغة التكوينية.
كل شيء يخرج من رحمية كونية لا يملك لغة أخرى غير لغته التكوينية، لا يسمى الطفل باسم إلا بعد خروجه، ويبقى اسمه ملاصقًا لحياته، ويتلاشى في التربة بعد موته، الاسم الباقي ليس لغة، بل صفة خارجية لاسم أطلق جزافًا قد لا يكون معبِّرًا عنه وغير دقيق لما سُمِّي به، في حين أن لغته التكوينية مرتبطة بوجوديته، ومتى انتهى وجوده انتهت لغته. الشعرية لا تتبع الموتى، ولا أسماء الأشياء، بل تتبع تفاعل مكونات الأشياء أولًا، ثم تنمو في التخييل المادي للأشياء عندما تكون محلومًا بها. اللغة التكوينية ترافقها أحلام يقظة الشعرية هنا، في بيت الحلم، وليس في صورة الشيء.
لن تكون اللغة المكانية غير اللغة التشكيلية، فالمكان أقرب إلى بنية اللوحة الفنية، تتيح الهندسة المعمارية لإمكانية اللغة المعمارية، تشكيلات تكوينية لا تتشابه مع أي تشكيل واقعي، والمُخَيِّلة تتداخل فيها الرؤى الفانتاستيكية والرؤيا الواقعية، ما يسمى بالواقع يأتي لاحقًا على البناء المعماري، وليس العكس. جرت الرؤية الثقافية العامة إلى إحالة العمارة على الأشجار، هذا تشابه تقليدي مباشر، لكن العمارة ليست شجرة إلا بالهيكلية البصرية، أما في البنية فهي تركيب من خطوط وكتل ونقاط ومجالات مختلفة تجمعها بؤرة تشكيلية عمودية متوازنة؛ لذلك تكون اللغة المعمارية للمكان مخفية في المتشابه الطبيعي، بل تستخلص من التكوين الفني للبناء. والسؤال يؤخذ من الشعرية «ما اللغة التي لا تحيل إلى أي شيء خارجها؟ إنها اللغة المختزلة إلى ماديتها وحسب، إلى أصوات أو أحرف، إنها اللغة التي ترفض المعنى». (نقد النقد، تزفيتان تودوروف، ترجمة سامي سويدان، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط2، 1986م، ص25).
لغة الأمكنة لغة مستقلة كما يقول تودوروف عن لغة الشعر، وذاتية الغاية أيضًا، وهذا يعني أنها لغة مكانية، كل لغة ذاتية ومتشكلة ومستقلة، لغة مكانية، أي أن غايتها «في ذاتها» (نقد النقد: تزفيتان تودوروف)؛ لأن لغة المكان لا تحيل إلى غير المكان، ليس لها خارج، كل لغتها في الداخل التشييدي، ولذلك ثمة أصوات لها، ولكنها أصوات مرئية، وقد تكون في التخييل مسموعة، بمعنى أن ترى كيفية تشكيل المعنى من عدد من التراكيب الإنشائية، فللنافذة معنى أنشأته الأحجار والفراغ والشباك، وللباب معنى أنشأه الفراغ والخشب والعتبة والخارج والداخل، هذه اللغة الإنشائية مكانية وذاتية، صحيح أن كل الأبواب والنوافذ والسقوف تتشكل وفق بنية قاعدية الأبواب عمودية والسقوف أفقية، والمواقد جوفية دائرية، والسطح أفقي متعامد، وهكذا تتحكم البنى القاعدية في التشكيلات الهيكلية، ولكن لكل باب وسقف ونافذة لغته الذاتية التي يستمدها من علاقتها بالبنية التي هي ضمنها، وهو ما يجعل اللغة المكانية بصرية ومشيدة عقليًّا وتنظيميًّا ووفق تصور مادي هندسي، هو ارتباطها بالتطور المعماري، من جهة وبهُويَّة من يسكن خلفة من جهة أخرى، فلغة باب البيت للإنسان، هي غير لغة باب حظيرة الحيوانات. إن الذي يجد في إشغال الفراغات كيفية حوارية مع الفضاءات، هو من يكتشف لغة المكان الإنشائية، وهذه الكيفية تختلف من عمارة وبيت إلى عمارة وبيت آخر، حيث تتحكم فيها جملة اقتصاديات تنفيذية؛ منها: المسافة، والطرق، والبيئة وما يحيط بها، والسكان، والعلاقات مع الأحياء الأخرى، ومواقف الباصات، والترام، والطرقات والحدائق، وكأن لغة المكان التشييدية لا تعطي معنى متكاملًا من دون أن يكون ثمة تنسيق جمالي مع ما يحيط بها. وبالضرورة، سيكون للبيت في أية عمارة لغته الخاصة التي يستمدها مضافة من لغة ساكنيه، ومن تكوينه المعماري، لكنها ستختلف باختلاف الهيكيلة الهندسية للبيت وللعمارة وللحي، وهذا ما يجعل التمايز بين حي وآخر ليس بطريقة البناء فقط، إنما في إنشاء اللغة المكانية، ونجد ذلك واضحًا في الأحياء الشعبية تميزًا لها عن الأحياء الأرستقراطية.
لا لغة تنطلق من دون معمار فني ينظمها، في سياق معين، ولذلك تصبح اللغة الشعرية شعرًا؛ لأن التنظيم يكشف عن شعريتها، كذلك نجد اللغة المكانية مكانية عندما تكون الأبنية منتظمة وعلى علاقة جمالية مع البيئة وما يجاورها، فتبرز شعريتها من داخل النظام المتحكم في النسق، وهو الأمر الذي يغني الصورة بجمالية مظهرية هي في الأساس مبنية على جمالية نظامية للبنية.
يتحدثون في الشعر والرواية عن النظام العقلي والخيالي، الواقعي والمتخيل، وكأن البيت والأمكنة لا تنتمي إلا لذاتها، فيجردونها من العقل ومن الخيال، وقد يطرح بعض أن المعماري هو من يتكفل بهذه المهام العقلية والخيالية وليس الساكنين أو الرائين أو المشتغلين في حقول السكن والبناء والثقافة والتنمية، ما يقال عن الشعر والرواية والمسرح والموسيقا والرسم، يقال عن العمارة وتفصيلاتها الكثيرة من بيت وشقق ومجازات وممرات وأسواق ومماشٍ وأشجار وأنهار وغير ذلك، النغمة الطبيعية بنيت على تصور عقلي مشفوعًا بخيال مادي للأشياء، ومصحوبًا برؤية جمالية مختبرة، ومستندة إلى الكفاءة التي يتطلبها السكن المريح.
تتجه اللغة المكانية إلى الرؤية مباشرة، وتبقى هناك ساكنة ما لم نوجه إليها الرؤية القصدية الكاشفة عن ماهيتها التشكيلية، فالأحجار والألوان والأشياء التي تؤلف تكوينًا ذا معنى، تبقى بلا فعل إلا إذا سلطنا عليها الرؤية القصدية التي تتغلغل في تكوينها الصلب وتكشف عن فاعليها وهي في مكانها، فقد تكون هذه الجزئية مختلة البنية كما لو كانت كلمة في بيت شعر لا تؤدي غرضها مع الكلمات الأخريات، عندئذ يختلّ البناء وتصبح تلك مثلبة تكوينية، والعكس يحدث عندما تكون كل أجزاء البنية المكانية بلغة متضافرة مرئية بعيون مختلفة وترى ما تعمله في تماسكها الصامت من وثيقة أنها تؤدي عملها.
بواسطة ياسين النصير - ناقد عراقي | يوليو 1, 2019 | كتب
لم أقرأ القصة القصيرة من زمن بعيد، ربما لانشغالي بموضوعات نقدية تخص مشروعي النقدي «المكان والنص الجديد»، ولكني فوجئت أن القصة القصيرة، إذا ما أجيد اختيار زاوية الرؤية فيها، يمكنها أن تمد مشروعي النقدي بتصورات جديدة، ربما لكثافتها، وربما لمعايشتها سطح الحياة اليومية، وخلوها من تعقيدات السياسة وصخب الطبقات والأفكار الكبيرة، كما هي قصص الروائي طالب الرفاعي كي لا تحلق بعيدًا من معايشة اليومي والمألوف، وهو ما يعكس طبيعة الحياة اليومية في الكويت، التي لن نجد مثيلًا لها في أي بلد آخر غير الدول الخليجية، وقد نبهتني هذه الملاحظة إلى فكرة عميقة جدًّا، تلك هي أن القصة القصيرة ترتبط بالأمكنة الضيقة والأحياز البيتية الأليفة، أو ما هو مألوف من الأمكنة.
فمعظم القصص تستقر في البيوت ودوائر العمل، أي تنمو بين علاقات الأسرة وانشغالات العمل، وهو مكان كنت قد أفرزت له حيزًا جديدًا في الأمكنة الأليفة، الكيفية التي يصوغ بها المؤلف سرديته فيها، فهي الأخرى من مألوف الكلام، لا تجد كلماته تتجاوز عتبات البيت، وإذا تجاوزتها تصطدم بالجدار أو بأقفال الباب، حيث الخارج يشكل فضاء مغايرًا للأحياز الضيقة، لتجد القصة القصيرة، تتعايش مع الشخصيات المشحونة بقلقها الوجودي، كل توجهاتها إلى دواخلها إلى ما تحت ثيابها، التي تتأثر هفهفتها بأية نسمة إذا ما تغير سياق السرد، شخصيات مشبعة بمحليتها، هادئة لا تتطلب أكثر من راحة ولو بعد حين. إنها جزء من بنية القلق الوجودي لفئة اجتماعية يحركها الرأسمال المتغير ممثلًا بالوظائف والعلاقات الأسرية المرتبكة التي يحركها اضطراب السوق والقيم، والعلاقات، لعل قصص «زجاج أعمى» و«لوحة للهواء» و«قط صغير» و«صورتان» و«حذاء أسود» تلخص أجواء الحال التي وجد طالب الرفاعي فيها محتويات موضوعاته لما يدور في فلك العلاقات البيتية واجتماعياتها المحدودة، بحيث يمكنها أن تخلق دراما تتحرك على سطح الحياة، كما لو كانت الحياة اليومية شاشة تليفزيونية تحلم الشخصيات أن تعرض أفعالها عليها لتراها الناس في لحظات القلق والصفاء، «أنا والصمت والخبر الصغير» ص45. لعل هذا ما يلخص اشتغال الشخصيات. ثمة بنية مألوفة تحرك أجواء السرد: عميد مزور، لص بثياب بنكية، امرأة تدعي ما ليس فيها، عالم خارجي هش، ملامسة عابرة لمشكلات تشير إليها أوضاع البلد، المكياج الذي يبدل اللسان، الحوار الذي لم يكتمل، الخلل في العلاقات الأسرية، ومع ذلك تبدو الشخصيات محملة بمشكلات غير شخصية؛ مشكلات تضغط عليها لتحرفها عن علاقات بيتية متزنة، كأنها وحدها التي تتحمل وزر ما يختل اقتصادها، لا أحد تحدث عن الخلل الاقتصادي للدولة الذي يفرض مثل هذه القيم على بنية الأسرة والموظفين، كأن ذلك يمس مراكز عليا، لا يمكنك السير دائمًا في ظلال الجدران من دون أن تضبط ساعة يدك على مواعيد تتحكم بسياق السرد الذي يشمل البعد السياسي المختفي.
ثمة ما يدفع إلى اليأس
كأن القصة تتحدث عن فواصل بين عمل وآخر، من دون مرجعيات. وفي كل الأحوال ثمة ما يدفع الشخصيات إلى اليأس. مثل هذه الحال الشعبية نادرًا ما تخلق دراما قصصية مشبعة بالمحلية، ولكنها من دون موقف من مراكز القرار تقع في التسطيح والقول العادي إن هي أرجعت كل مشكلاتها لخلافات أسرية وليس لوضع خارجي يضغط على السلوك المادي للشخصيات، لكن القاص ونتيجة خبرته الطويلة في بناء جملته القصصية المكثفة وإجادته تحريك الشخصيات الموضعية، تمكن من أن يختزل الكثير من الإنشاءات اللفظية والتصويرية والوصفية، ويركز على ثيمتين أساسيتين، هما: البعد النفسي عندما تصطدم الشخصيات بعدم تحقيق الرغبات، والبعد الاجتماعي عندما تقتصر القصة على بيئة تفكك الأسرة، «أهرب من وحدتي إليهن: أمي، وإخوتي، وبناتهم، وقريباتنا، معًا نجترّ قصصًا تضحكنا أحيانًا» ص73. ويحيط، أو يحرك الثيمتين الاقتصاد بمعناه السلعي وليس بمعناه العملي؛ إذ الطلبات تتطلب نقودًا، والانتقال من حال إلى أخرى تتطلب تغييرًا في المورد المالي، وتتطلب رؤية أيضًا ترتب بين تحقيقها وتركيبة الأسرة الصغيرة.
طالب الرفاعي
ما يجعل فن القصة القصيرة أكثر اضطرابًا هو عدم الهيمنة على الضمائر، كل القصص اختزلت التركيبة الاجتماعية بشخصيتين، وتولى القاص رواية ما يفكر فيه الشخصيات قصة «الثالث»، وكأن المؤلف شخصية ثالثة ترصد وتفعّل المشهد، بحيث لا تشعر بهوية المتكلم إلا من داخل لسان المؤلف، فالمجتمعات التي تنشد التمييز تبدأ فيها الذات بالانشطار، إذ يتكفل الشخص الواحد أمر شخصيات أخرى، فلا تجد زمنًا يحدد ما تقول ولا مكانًا يرتبط بما تقول، كلٌّ يبحث عن ذاته في زمن ومكان يتشكل آنيًا. وربما ثمة من يلتحق بهم اختزالًا للوقت وللسرد من شخصيات ثانوية غير فاعلة، بمعنى أن فن القصة القصيرة لا يزال يتعامل مع كائنات بشرية تشعر في لحظة أنها معزولة تواجه عالمًا من صنع يديها يفلت منها في لحظات وتحاول إعادته إلى وضعه السابق في لحظات لاحقة، وهي ما بين هاتين اللحظتين، يؤكد القاص انفعالاتها والمتغيرات التي تحدث على وضعها المادي. «الترقية ستغير حياتي» ص91، ولكن بعد أن يتغير الكثير من الوضع السابق، هذه النقلة بين زمنين في وقت لا يمكنك أن تفرز فيه الكثير تعود إلى طبيعة النقلات السردية والحوارية السريعة وتداخل الضمائر وإمكانية توصيل الفكرة بإيجاز. من هنا، وفي ضوء ما يحدث، قرأت القصص وأنا أتابع حركات الشخصيات في حيز ضيق جدًّا، إما البيت، أو الوظيفة، أو السيارة، أو الحديقة، أو الحقيبة، أو السوق، ويعطينا الحيز الضيق إمكانية هائلة للتركيز، لعله أكثر الأمكنة قدرة على الاختزال والبوح، بحيث يمكنك أن تدخل إلى باطن الشخصية وتنتقل إلى خارجها من دون أن يتطلب ذلك انتقالة مكانية، وهو ما يعني أنك تتعامل بالرؤية المركزة، حيث الراوية يتخذ بؤرة داخل المشهد.
وهي الرؤية القصدية التي تعني اختيًارا تخييليًّا لما ستؤول إليه مصاير العلاقات. هذا الوضع يجعل المكان يفرض سياقه، وما على المؤلف إلا أن يخضع للمكان الذي تلتئم به سرديات القصة، ومن الغريب أن القصص تنتهي عندما تفكر الشخصيات بذلك، ولا تنتهي نتيجة اكتمال حيثيات الحدث. وهو الأمر الذي يجعل فن السرد عند طالب الرفاعي هو المتحكم بالسياق وليس هناك أي قوة ضاغطة على رسم ما لا تريده الشخصيات. إن القاص يتدخل ويتداخل، وهذا ما يجعله جزءًا من كل الشخصيات وليس شخصية مستقلة بضميرها الصارم الحضور، هذه المرونة إمكانية فنية تتيح للقاص أن يوكل أمر قصصه للأشياء وهي تتكفل قيادة السرد. وقد اتخذ زاوية تبئير في موقع «العتبة» ليس في الداخل كليًّا ولا في الخارج، وهو الأمر الذي مكنه من أن يرى بعينه البانورامية ما يحدث من تغييرات جزئية في المشهد مهما كان المشهد صغيرًا؛ مثل: تشذيب اللحية وتعديل العقال وارتداء الحجاب ولبس الحذاء واحتواء القطة واحتساب النظرة الخاطفة. أو كبيرًا مثل: الدائرة وعلاقاتها الوظيفية.
ما يلفت النظر أن الأمكنة التي تشكل أحياز السرد وتشحن الشخصيات بشحناتها كلها مضيئة بالرغم من حيزها الصغير؛ غرفة ضيقة، ونافذة بزجاج سميك، وحقيبة مغلقة، وذاكرة لا مدى بعيد لها، وشقة معلقة في فضاء الضوء، وسيارة متنقلة، وكأن اختزال الأمكنة يوحي بضيق أفق الحياة، مع العلم أن القصص تكاد تفر من قفصها الضيق لتنطلق في الشوارع، ولكن لا توجد شوارع في مدينة طالب الرفاعي. كما لا توجد حوارات خارج أسيجة الأمكنة الضيقة. كل حواراته وسردياته تتم في الأمكنة الضيقة التي تضغط أحيانًا مسببة ضيق النفس.
لعبة أطفال عنيفة
بدا لي عالم طالب الرفاعي لعبة أطفال عنيفة ولكنها مسلية، ما إن تفتح قشرة اللعبة حتى يتكشف مستوى ثانٍ لها أكثر تعقيدًا، وهكذا يفكك القاص مستويات اللعبة اليومية ليجدها بمستويات سردية مختلفة؛ كي يرى ما في داخلها لينتهي أن لا داخل لها إلا ما يتكرر، وإن اختلفت ألوانها وسطوحها ورسومها وشخصياتها، اللغة القصصية لعبة كما يقول فيتغنشتاين، وعليك أن تجد المختبئ فيها مما يعني أن القصة تتكفل في إضاءة ممرات الطريق وليس من مهمتها أن تعالج مشكلة ما. ضمن هذا الحيز من الحركة والمسافات بين القاص وشخصياته لا نجد سعة مكانية ولا زمانية، وكأن القصص وإن تباعدت تواريخها تنتظم في خيط أسري بيئي شعبي يزيد من ضخامتها بينما لا يقوى الخيط على حملها، ستنفرط حبات السرد ثانية وعلى الشخصية المحورية أن تنتظر كأي موظف في مكتب، ومن خلال شاشة الكمبيوتر، رسالة جديدة تقول له: إن عمله قد انتهى في هذه الوظيفة، ولأنك قد تجاوزت وقت الغداء، فعليك أن تبحث عن وظيفة أخرى، في قصة أخرى، لعل الراتب سيكون فيها أفضل.
ما يلفت النظر في عائلة القصص التي احتوتها المجموعة، أنها تنتمي لأسرة واحدة، كأن عنواناتها متفرعة من عنوان كبير هو «البيت الكويتي» وهذا ينقلنا إلى قضية مكانية مهمة وهي أهمية «المسافة» في بناء السرد، فالملاحظ أن كل الشخصيات على علاقة حميمية بعضها مع بعضها الآخر، وهذا ما يجعلها ضمن نوعين من المسافات كما حددها إدوراد هال في كتابه «البعد الخفي»، وهما: المسافة الحميمية، والمسافة الشخصية، وهما المسافتان اللتان تتعلقان بالحياة اليومية لشخصيات أسرية أو بعلاقات وظيفية، ويكاد هذا النموذج من القصص يركز على المسافة ذات البعد القريب أكثر من الأبعاد الأخرى التي تفرضها المسافة الاجتماعية والمسافة الجماهيرية، فالقصص القصيرة تبني بيتها في مثل هذه المسافات التي يكثر فيها كلام علامات الوجه، والصوت الخافت، والرؤية العينية الموضعية، وأحيانًا الإشارة؛ لأن طرائق التوصيل تتعلق بنوعية التفكير في الأمكنة الحميمية والشخصية، ولم نجد قصة تخرج عن هاتين المسافتين؛ لأن البنية الاجتماعية لرؤية القاص تتحدد بالعلاقات الأسرية والشخصية التي تفرضها الأمكنة والأحياز المشحونة بحضورها وأجسادها.
بقيت نقطة مهمة أخرى، ربما هي التي جعلت مجموعة القصص من النوع المألوف، أن القاص منشغل بتفضية مألوفة الأبعاد الحميمية، ونعني بالتفضية المألوفة إشعارَ القارئ أنه في جو واحد لكل القصص، قد تأتي التفضية من البيئة، أو من اختيار القصة لبقعة مكانية أليفة، ولكن مهمة التفضية الجمالية هي أن تشحن النص بشعور الألفة، وبالتالي المشاركة معه في بنية السياق العام للسرد، بحيث يمكن للقارئ أن يضيف وأن يحذف، فهو مشارك فاعل وجزء من شخصيات الألفة المكانية.