«القراءة التناصية الثقافية» لمعجب العدواني.. التناص والثقافة
قضى الناقد والأكاديمي السعودي معجب العدواني بصحبة «التناص» ثلاثين عامًا، يقترح بعدها، في كتابه «القراءة التناصية الثقافية» (المركز الثقافي للكتاب) مدخلًا للولوج إلى المنتجات الأدبية العربية؛ وذلك لعمق الصلات والروابط بين هذه المنتجات وسياقاتها الثقافية، ولتجاوز القراءات البنيوية المنغلقة، ولنسج علاقات واسعة بين الأدبي وغير الأدبي في إطار تيارات ما بعد الاستعمار والنسوية والتاريخانية الجديدة والنقد الثقافي؛ من خلال الإجابة عن سؤالين مهمين: ما القراءة التناصية الثقافية؟ وكيف يمكن تطبيقها على الخطابات المختلفة؟
مأزق التناص وآفاقه: أسهمت نظرية التناص في إثراء الدراسات النقدية عالميًّا، وتفاعل النقد العربي مع هذه الدراسات. لكن هذا التفاعل ظل قاصرًا أمام المأزق الذي وصل إليه المصطلح والنظرية؛ فنظرة النقد القديم ظلت جزئية تعتني بالمرسل، في حين اعتنى النقد الحديث بمسارات التأويل المستحدثة، كما ظل بعض التقليديين العرب يعدون التناص اجترارًا. وانتقدت النظرية النقدية المعاصرة بدورها الدراسات النصية بحدة، وهو ما جعلها تتجه إلى العزلة، وهو ما خلق الجو الملائم لظهور الطور الثالث الذي يمكن الاصطلاح عليه بــــــ«التناصية الثقافية». التي تسعى «إلى بناء سياقات واسعة للدراسة الأدبية، والتركيز على الأبعاد التاريخية والثقافية للنصوص والقضايا، مثل: العنصرية، الجندر، الإثنية، الطبقة، في علاقتها بالمنتج الثقافي»؛ حيث تمثل الثقافات الشعبية وسؤال الهويات والفنون البصرية حقولًا خصبة للتداول النقدي الذي يمكن أن تغذيه التناصية الثقافية التي تستفيد بدورها من تلك الحقول.
الرواية والقراءة التناصية: تفاعَل الروائيون العرب مع الموروث، وخصوصًا المهمش منه، حتى إنه يمكن عدّ توظيف التراث أحد الخصائص الرئيسة في الرواية المعاصرة. ولهدف تقديم ما يميز توظيف التراث في الرواية العربية والكشف عن التحولات البنائية في أشكال التوظيف ووظائفه؛ يعتمد الكاتب مدونة روائية تتكون من ثمانية أعمال تعد نماذج جديدة في توظيف التراث في الرواية العربية. موظفًا التناص بوصفه أداة إجرائية لتحليل هذه النصوص، مركزًا على آليتين هما الشمولية وحضور الوعي لدى منتج النص بذلك التوظيف، مع استدعاء مصطلح التخييل التاريخي. وقد مرت الرواية العربية في علاقتها بالتراث، حسب الكاتب، بأربع موجات؛ الأولى موجة التوظيف المباشر ذات النزعة الإحيائية، والثانية موجة استلهام الواقعية التي تأثرت بتنامي المد الماركسي، والثالثة موجة تيارات الحداثة وما بعدها، والرابعة، وهي المستهدفة؛ حيث النضج في استلهام التراث وتوظيفه، من خلال عوامل تتصل بثلاثة عناصر: القارئ، والراوي، والسياق.
ويمكن تحديد مجموعة من أشكال التناص في متن الدراسة: التوظيف بالإغراق: وهو الذي يستغرق العمل الموروث كاملًا في الرواية، فتأتي ككتابة سيرة غيرية حديثة، تتوافق فيها كتابة التاريخ مع معطيات الوضع المعاصر، ومن أبرز الأعمال التي تقمصت هذا الشكل رواية «عزازيل» ليوسف زيدان، و«زرياب» لمقبول العلوي. و«راكب الريح» ليحيى يخلف. التوظيف بالتوازي: ويقوم على توظيف مسار سردي تراثي رئيس في الرواية، يتوازى مع مسار حديث فيها، لتقوم بينهما علاقات المشابهة أو التضاد؛ ومثاله «أولاد غيتو» لإلياس خوري، و«رسالة النور: رواية عن زمان ابن المقفع» لمحمد طرزي. التوظيف بالإدراج: ويظهر في إدراج شخصيات تتقاطع مع شخصيات الرواية المتخيلة، أو أحداث من الموروث تكون مدمجة داخل أبنية الرواية، ومن أبرز نماذج هذا التوظيف «في فمي لؤلؤة» لميسون صقر، و«الظهور الثاني لابن لعبون» لإسماعيل فهد.
صناعة الدهشة: يجيب هذا العنصر عن أسئلة أساسية منها: ما الصورة التي تظهرها الرواية الجنس القابل للحوارية والتعددية؟ وما العلاقة التي تصل بين هذا الخطاب والمدونة التراثية؟ وذلك من خلال ثلاثة أعمال روائية؛ «قلب من بنقلان» للروائي السعودي سيف الإسلام بن سعود، و«رحيل اليمامة» للروائي السعودي إبراهيم الخضير، و«ريحانة» للروائية الإماراتية ميسون صقر. ويلج الكاتب إلى عمق هذه الروايات بالتركيز على الخطاب الثقافي الذي ينبني حول صورة الجواري في المخيال العربي في العصر الوسيط، منطلقًا من بعدين أحدهما ينتمي إلى الثقافة والآخر يستند إلى الطبيعة. ينطلق الروائيون الثلاثة من صناعة الدهشة، وتكون القراءة استكمالًا للعبة الإقرار بصحة الموقف الروائي الاجتماعي، والآخر في أعمالهم آخر مضاعف؛ إذ «إن الشخصيات لا تخضع لمعيار واحد، بل تكون موضوعًا واحدًا لمعايير كثيرة تنقل أزمة الشخصيات كهامش، إنهن تحديدًا تمثيل هامش لهامش هامش، شخصيات تحمل ثلاثة وجوه مضاعفة، آخر لآخر الآخر».
في تحديد النضج الروائي: تستند هذه الدراسة إلى مبدأ سردي ثقافي في تحديد البداية الفعلية للرواية السعودية، وتصنيف بواكير الأعمال الروائية وتحديد نضجها؛ وهو دور خصوصية المرأة روائيًّا وفعاليته، انطلاقًا من مبدأ الحوارية الباختيني في بعديه الفكري والاجتماعي، من منظور عدّ الرواية تجسيدًا لقيم المجتمعات المتعددة ونظمها وغاياتها الإنسانية.
يحدد الكاتب ثلاثة أبعاد للحوارية: الرواية ورؤية العالم، وتأثير المجتمع في الأجناس الأدبية، والروائي بوصفه خالقًا لعوالمه. وبناء عليها يعيد النظر في بواكير الرواية السعودية، ليجد أن البدايات الروائية قد رهنت شخصية المرأة بثلاثة قوالب اجتماعية: قالب اجتماعي محافظ جدًّا، يغيّب المرأة أو يهمشها، ثم قالب اجتماعي محافظ تعويضي يستحضر امرأة أجنبية، فقالب اجتماعي تجديدي يظهر شخصية المرأة المحلية، ويتمثل في رواية «فكرة» للسباعي، التي يستحضر المرأة المحلية استحضارًا دقيقًا يفوق معظم الأعمال السابقة واللاحقة في حينه. حيث أضحت شخصية «فكرة» رمزًا وأيقونة استثنائية، تحقق مبدأ الاختلاف، وتنفي مبدأ الاتفاق في قالب غير استثنائي. فهي محلية من فتيات مكة، وعربية بوعيها التراثي الشمولي، وكونية بوصفها مناطًا لتلقِّي النظريات والفلسفات العالمية…
رحلة الأجناس تناصِّيًّا: تتم هنا مقاربة ثلاثة أعمال متباينة في أجناسها ومراجعها الثقافية؛ «رسالة ابن فضلان» ورواية «أكلة الموتى»، والفِلْم السينمائي «المحارب الثالث عشر»، من خلال بعدين اثنين؛ يتصل الأول بتتبع الصور وتحولاتها، والثاني يتجلى في الكشف عن التحولات الأجناسية للنص الرئيس، بتفعيل التحليل المنهجي المستفيد من دراسات بعد الاستعمار، من خلال أربعة أبعاد متميزة؛ التحيّز الخفي، التحيز في المعتقد، التحيز في تشكيل الجنس الأدبي، التحيز الجغرافي.
الحكاية الشعبية: الحكاية الشعبية سرد شفهي، ذو مضمون دنيوي ينتمي إلى الثقافة التقليدية. وتتميز الثقافة العربية بثراء موروثها الشعبي، وهو ما يجب في دراسته الاستفادة من المناهج النقدية الحديثة. ويعتمد الكاتب في قراءته لحكايات شعبية متعددة على القراءة التناصية، عبر ثلاثة مستويات: التناص البنيوي الرأسي، والتناص الحكائي التناظري، والتناص الداخلي العكسي. ومن خلالها ينتهي الكاتب إلى أن هذه الحلقات الثلاث تمثل «حلقات متكاملة في تحليل الحكايات الشعبية اعتمادًا على التناص، وتبدو هذه البنى أقرب إلى التمثيل الدلالي لكونية الحكايات الشعبية واتصالها المباشر مع الجانب الوجودي للإنسان».
الصورة الإشهارية: يلج الكاتب من خلال هذا العنصر إلى الصورة الإشهارية بوصفها من أنماط الثقافة البصرية الرائجة في الثقافة الحديثة، ويراهن تطبيقيًّا على بيان طرق تحليل الخطاب الإشهاري وإبراز جمالياته. وبعد المرسل، ومدى أخلاقه ومصداقيته، وموقعه؛ ركز الكاتب على الرسالة بوصفها الجزء المهم في الإشهار، وهو ما يمكن تناوله من خلال أبعاد مختلفة: الرسالة الإشهارية المختلفة، والإيحاءات التي يرمي إليها المعلن، والإيحاءات التي نسديها للرسالة، والخطابات التي تستدعيها مادة الإشهار، والعلاقات التناصية، أنواع العلامات الموظفة، ومظهر الرسالة الجاذب، والأشكال البلاغية الموظفة، والإستراتيجيات الإبداعية المتمثلة. في حين يخص دراسة المتلقي من خلال تحديد نوع المتلقي الذي يمكن أن يظهر في الإشهار.
وفي الختام، اعتمدت هذه الدراسة القراءة التناصية الثقافية لتحليل مجموعة من النصوص والخطابات، لتأصيل التناص الثقافي بوصفه توجهًا مستجدًّا في القراءة والتحليل، يروم الفاعلية وينأى عن الجمود، وينفتح على التفكيك لرصد العلاقات التناصية ووظائفها. وبعد الرواية، المتن الأساس للتطبيق، جرى الانفتاح على حقول ثقافية مختلفة: الرحلة، والفِلْم السينمائي، والحكاية الشعبية، والإشهار. كل ذلك من أجل اختبار القراءة التناصية الثقافية في الخطابات الأكثر تأثيرًا في منظومتنا الثقافية المعاصرة.