الصوفية في السينما.. أفلام ناصر خمير نموذجًا أفلام تضيء قوة الإيمان في النفس البشرية وتساعد على عبور الظلمة والمجهول بلا خوف
الروحانية في السينما، سواء العربية أو الأجنبية، لا تجد تعبيرها في الأفلام الدينية فحسب، بل حتى في الأفلام المعاصرة (مثل أفلام: روبير بريسون، وكارل دراير، وأوزو، وتاركوفسكي، وكيارستمي، وتيرنس ماليك) حيث نجد الأبعاد الروحية جلية، وتضيء قوة الإيمان في النفس البشرية التي تساعد الإنسان على عبور الظلمة والمجهول بلا خوف، واختراق الحواجز والعوائق، وإدراك المعاني الغامضة للحياة.
إن مشاهدة مثل هذه الأفلام تصبح بدورها تجربة روحانية. أفلام عديدة تدور حول الرحلات، المادية والروحانية معًا، التي تقوم بها الشخصيات بحثًا عن المعنى أو إحراز شيء أو الخلاص والتحرر أو التوحد مع الطبيعة والعالم. رحلة الفرد الذي يرفض قبول الأجوبة الجاهزة أو السهلة، والذي لا يكف عن طرح الأسئلة. بعدها تحين ساعة العودة إلى البيت وقد اكتسب المرء إدراكًا جديدًا وفهمًا مختلفًا.
الرحلة هنا تصبح ممارسة روحية لعملية البحث في أبعاد الأزمة الروحية. في فِلْمه «المقتفي» Stalker يقدم تاركوفسكي رحلة ذهنية أكثر من أن تكون فيزيائية. رحلة داخلية شاقة وموجعة، محفوفة بالمخاطر، كما لو أنها اختراق مجازي للجحيم الباطني، يقوم بها ثلاثة أشخاص: الكاتب، والعالِم، والدليل، وكل منهم يحمل تساؤلاته وعذاباته وشكوكه وقلقه.
إنهم يتجهون إلى منطقة مهجورة، محظورة، غامضة، محمية بالأسلاك الشائكة والحراس، تعرف باسم «النطاق».. وهي ذات حضور سحري، قيل بأنها تكوّنت بفعل سقوط نيزك هائل، أو هبوط زوار من الفضاء الخارجي تسبّبوا في تلويث المنطقة واكتسابها –في الوقت ذاته– طاقة إعجازية خارقة. لا أحد يعرف، وليس هناك ما يؤكد هذه الفرضيات. يقال: إن في منتصف المنطقة حجرة هي بمنزلة المعجزة؛ إذ إن من يدخلها تتحقق أمنياته ورغباته الأكثر حقيقية وعمقًا وسريّة. إنهم يذهبون إلى هناك، مجازفين بحياتهم أو حريتهم إن أخفقوا في الوصول، وذلك بحثًا عن الإلهام والمعرفة كما يعلن الكاتب، أو بدافع الفضول العلمي والرغبة في الاكتشاف كما يعلن عالِم الفيزياء، لكن بالنسبة للدليل فإن المنطقة تمثّل المأوى حيث الأمان والطمأنينة، الأمل والحلم، التصالح مع الذات والعالَم.
الدليل شخص بسيط، يعيش وضعًا ماديًّا بائسًا، لكنه ينظر إلى نفسه كراءٍ مهمته الحقيقية في الحياة أن يدل من فقد الإيمان والأمل والثقة إلى المكان الذي فيه يسترد كل الأشياء الضائعة ويجدّد صلته بالحياة. يقول تاركوفسكي: «أعتقد أن من خلال الأزمة الروحية يحدث الشفاء دائمًا. الأزمة الروحية محاولة يقوم بها المرء لإيجاد ذاته، لإحراز إيمان جديد. النفس تتوق إلى التناغم والتوافق، والحياة حافلة بالنزاع والتنافر. البطل يكابد لحظات من اليأس حين يتزعزع إيمانه.. لكن في كل مرة يصل إلى إدراك متجدد لمهمته، أن يخدم أولئك الذين فقدوا آمالهم وأوهامهم. في هذا الفِلْم أردت أن أظهر ذلك الشيء الإنساني جوهريًّا، الذي لا يمكن أن يتلاشى أو يتفكك، الذي يتشكل مثل بلور داخل نفس كل منا ويعيّن قيمة كل منا وجدارته. حتى لو انتهت الرحلة ظاهريًّا بالإخفاق التام، فإن كلًّا من الشخصيات الثلاث قد أحرز شيئًا ذا قيمة يتعذر تقديرها: الإيمان».
البحث عن التناسق والإيمان
في فِلْمه «القربان» ينْفذ تاركوفسكي إلى العوالم الداخلية، مظهرًا حالة اللاتناغم التي يعيشها الفرد مع ذاته ومع الطبيعة، ومصورًا الرحلة الداخلية والروحية بحثًا عن التناسق والتوافق والإيمان والأمل. إنها رحلة مضنية من الشك إلى الإيمان، من الأنانية إلى التضحية، من الالتباس إلى الفهم، من اليأس إلى الأمل. يقول تاركوفسكي: «الفرد اليوم يقف في مفترق الطرق مواجهًا هذا الخيار: إما أن يمارس حياة مستهلك أعمى خاضع لزحف لا سبيل إلى تهدئته تقوم به تكنولوجيا حديثة، وسيل لا نهائي من السلع المادية، أو أن يبحث عن طريق سوف يفضي به إلى المسؤولية الروحية، الذي في النهاية قد لا يعني خلاصه الشخصي فحسب لكن أيضًا إنقاذ المجتمع ككل. بمعنى آخر، التوجه إلى الله يستدعي من الفرد أن يحلّ هذه المعضلة لنفسه.
في فِلْمه «أندريه روبليوف» نرى البطل يغادر الدير مكلّفًا بمهمة تزيين جدران إحدى الكاتدرائيات باللوحات الدينية، لكن في أثناء تنقلاته يرى الجحيم على الأرض. يقول تاركوفسكي: «الفن يمكن عدّه دينيًّا إذ إن التزامه بالهدف الأسمى هو الذي يلهمه. عندما يتجرّد الفن من القيم الروحية، فإنه يحمل بداخله مأساته الخاصة، إذ حتى في اعترافه بالخواء الروحي للأزمنة التي يعيش فيها، يتوجب على الفنان أن يتحلى بصفات الحكمة والفهم. الفنان الحقيقي دائمًا يخدم الخلود ويناضل لتخليد العالم، والإنسان ضمن العالم. الفنان الذي لا يحاول أن يبحث عن الحقيقة المطلقة، الذي يتجاهل الغايات الكونية، لا يمكن إلا أن يكون انتهازيًّا وينشد المصلحة الخاصة». وفي فِلْم «نوستالجيا» يقدّم تاركوفسكي شخصيات تبحث في معنى الخلق والوجود وعلاقة الذات بهذا الوجود. إنها شخصيات مأزومة، معذّبة، مترددة بين الشك واليقين. هي لا تعيش محنتها فحسب، بل محنة عالم تجرّد من الإيمان والأمل ليتجه سريعًا نحو الكارثة الكبرى حيث الانحلال النهائي والتفسخ الشامل.
استنطاق معنى الحياة: يقدّم تيرنس ماليك في فِلْمه «شجرة الحياة» استكشافًا فلسفيًّا للحب الأسري، الفقد، الحزن، الندم أو الإحساس بالذنب. ها هنا سبر للمشاعر العميقة، للأسئلة الصعبة. استنطاق لمعنى الحياة. إنه يطرح الأسئلة الكونية عن الوجود والحياة والموت، ضمن حكاية ملغزة عن الحياة، عن دروس الحياة، عن نشوء الحياة وحركتها وامتدادها في هذا الكوكب منذ فجر التاريخ أو الزمن، إلى واقعنا وزمننا المعاصر. يبدأ الفِلْم وينتهي بالنقطة نفسها: كرة ذات طاقة أساسية في الظلمة، متأهبة لتوليد تجليات أكثر للرب.
في مديح الحركة، السفر: جميع شخصيات عباس كيارستمي في حالة حركة وانتقال من مكان إلى آخر، من بحث إلى آخر. وفي أثناء حركتها لا تكف عن طرح الأسئلة بشأن كل شيء.. هذه الأسئلة لا تهدف إلى الحصول على إجابات معينة بل، بالأحرى، تظل معلّقة مثل سلسلة لا نهائية من الأصداء. إن بحث البطل الصغير، ومغامرته المضنية (في فِلْمه: أين منزل الصديق؟)، لا بد أن تُرى كرحلة حقيقية، ليس فقط ماديًّا أو فيزيائيًّا كرحلة قصيرة إلى القرية، بل أيضًا تصبح رحلة اكتشاف للذات ولعالم مجهول.. رحلة معرفة أخلاقية، معنوية، روحية. الرحلة بمعناها الدقيق كما في التقليد الشعري والفلسفي.. أو كما يقول كيارستمي: «الرحلة تشكّل جزءًا من ثقافتنا، وهي مرتبطة بالصوفية. بالنسبة لنا، ما هو حقًّا مهم ليس الهدف الذي نرغب في الوصول إليه وتحقيقه لكن الطريق الذي يجب أن نسلكه للوصول إلى هناك».
وفي موضع آخر يتحدث كيارستمي عن الرحلة قائلًا: «لدينا دين ذو بعدين: أحدهما يكمن وراء نطاق الأزمان، حيث لا يوجد بحث. والآخر، الأكثر تطورًا، فيه يوجد البحث حقًّا. الشعر الصوفي يحتكم بدقة إلى فكرة رحلة المعرفة كطريق للتعلم. الثقافة بكل ثرائها تشتمل على هذه الفكرة، لا الثقافة الدينية وحدها» .ولع كيارستمي بالرحلة، بحركة الأفراد والسيارات في أثناء اجتياز الطرق الطويلة، يبلغ ذروته مع فِلْمه «طعم الكرز»، الذي يدور أغلبه في الطرقات الممتدة التي يسلكها مسافرون متعددون، ويركز بؤرته على الساعات الأخيرة في حياة رجل يعاني أزمةً وجوديةً».
عن فكرة قيام بطل الفِلْم بقيادة السيارة على نحو استحواذي حول مسارات مغبرّة، حيث يعود إلى المكان نفسه في حركة دائرية، يقول كيارستمي: «فكرة الدوران هي جزء من رمزية الفِلْم. المضيّ في دوائر يعني، حرفيًّا، الذهاب إلى اللامكان. الانتقال بلا غاية، بلا مبرّر. للوصول إلى أي مكان، يتعيّن عليك أن تنطلق من موضع إلى آخر. لذلك فإن هذه الرحلة تشير إلى فكرة السكونية. وكل ما لا يتحرك، لا ينمو، لا يكبر، لا يتقدّم.. هو عليل ومحكوم عليه بالموت» .كيارستمي هنا يقدم استنطاقًا متقشفًا بصريًّا، تأمليًّا على نحو رائق، للحياة.. مستكشفًا هشاشة الحياة، وفي الوقت نفسه يركّز على أهمية الحياة وكم هي نفيسة وأثيرة. من خلال هذه التأملات والبحث عن الموت، هو في الحقيقة يضيء قيمة الحياة. إنه ليس عن بحث الإنسان عن الموت المادي، الملموس، بل هو بحث عن سببٍ للعيش، عن التعاطف والاتصال. إنها رحلة ذات بعد روحي وميتافيزيقي. إن الدافع الباطني للفن هو انتزاعنا من واقعنا اليومي، وجلبنا إلى الحقيقة الخفية التي يصعب الوصول إليها.. إلى المستوى الروحي لا المادي.
الحضور الصوفي
أما الصوفية فتتمثل في أفلام المخرج التونسي البارز ناصر خمير، أكثر من أي سينمائي آخر، فهو يقدّم نماذج متقدّمة ورائعة على مستوى المضمون والشكل، ومن خلال رؤية فكرية وجمالية راقية. والفنان ناصر خمير (من مواليد عام 1948م) متعدّد المواهب والقدرات، فهو مخرج سينمائي، وكاتب سيناريو، وفنان تشكيلي، ونحّات، ومصوّر، وخطاط، وكاتب أدبي، وحكواتي، ومحاضر. في أعماله السينمائية نجد مزيجًا من الواقعي والأسطوري والفنتازي، وهو يستمد مادته من المعتقدات الشعبية والميثولوجيا الكلاسيكية والتراث العربي والإسلامي.
أفلامه ترتكز على ثيمة رئيسية ومتكررة، وهي البحث عبر رحلة مركّبة في الزمن والمكان. هناك بحث عن الهويّة، عن ماضٍ مفقود، عن ماهية الحب، عن الذات ومحاولة استعادتها، وعن الجذور. أما الصحراء فهي المسرح الدائم في أعماله، بكل رمالها وتضاريسها ومساحاتها ورواياتها وغموض الهائمين بين كثبانها.
الكشف والمعرفة: لكن ما الصوفية أو التصوف؟ حسب المفهوم الشائع، هو مذهب إسلامي. بالأحرى، هو البعد الباطني للإسلام. ويمثّل التجلي الأساسي والتبلور الأكثر أهمية للممارسة الباطنية. وهو منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به. وقد انتشرت حركة التصوف في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثم تطورت حتى صارت طرقًا مميزة ومتنوعة، معروفة باسم الطرق الصوفية.
المعرفة، وفق المفهوم الصوفي، تتصل بالتجربة وبالسلوك العملي أكثر من اتصالها بالفكر والنظر؛ إذ إنها تقوم على التجربة التي يخوضها الصوفي، ومعاناته تلك التجربةَ.
إن منهج الكشف والإلهام، عند الصوفي، هو إدراك مباشر يختلف عن الإدراك الحسي المباشر، والإدراك العقلي المباشر، والكشف هو بيان حجاب الحس وما يستتر عن الفهم فيكشف عنه للعبد كأنه رأي عين. وهو سبيل الوصول إلى اليقين. الصوفي ينطلق من الحديث النبوي (مَنْ عَرَفَ نفسَه عَرَفَ ربَّه). فيسعى إلى معرفة نفسه ليراها على حقيقتها؛ إذ لا سبيل لأحد إلى معرفة الله ما دامت فيه بقية من نفسه الأمَّارة بالسوء، لأنها أغلظ حجاب بين العبد وربه. ولا سبيل إلى تخطي هذه العقبة إلا بموت النفس الأمارة ليولد صاحبها ولادة أخرى، فقيل: موتوا قبل أن تموتوا.
الوجه الآخر، الأنقى
على الرغم من الأفول النسبي للطرق الصوفية في زمننا الحاضر، والنقد العنيف الموجّه إليها، أو إلى أوجه معينة منها، من جانب الحركات الإسلامية المحافظة والمتشددة، على حد سواء، بوصفها بدعة وهرطقة، فإن الصوفية استمرت في لعب دور مهم في العالم الإسلامي، كما مارست تأثيرها على أشكال متعددة من التوجّه الروحاني في العالم الغربي.
إزاء ظاهرة «فوبيا الإسلام»، والهجمات الضارية التي تشن على الإسلام في الولايات المتحدة وأوربا، خصوصًا بعد حادث تفجير البرجين بنيويورك في سبتمبر 2001م؛ صار من الضروري إظهار الوجه الحقيقي، الحضاري، للإسلام الذي يتعارض تمامًا مع الصورة المتخلفة والبشعة التي تروّج لها ميليشيات مثل طالبان وداعش.
والسينما التي هي من أكثر الأشكال الفنية تأثيرًا واختراقًا للفكر والعاطفة، يتعيّن عليها أن تلعب دورًا بارزًا في إنتاج الصورة المضادة لما هو منتشر في الميديا من تزييف وتضليل.
عن هذا الجانب، وضمن حديثه عن أحد أفلامه، يقول ناصر خمير: «سوف أشرح ذلك مجازًا: لو كنت تسير مع والدك، وفجأة وقع على الأرض، وتلطخ وجهه بالوحل، ماذا كنت ستفعل؟ حتمًا سوف تساعده على النهوض وتمسح بقميصك الوحل عن وجهه. وجه أبي يرمز إلى الإسلام، وأنا أحاول أن أمسح بفِلْمي الوحل عن وجهه.. وذلك بإظهار الثقافة الإسلامية الودودة، المتسامحة، المنفتحة، المليئة بالحب والحكمة. الإسلام الذي هو مختلف تمامًا عن الإسلام الذي صوّرته الميديا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك.
التشدّد والتعصب، إضافةً إلى التطرّف، بمثابة مرآة محرّفة تعكس صورة مشوهة للإسلام. فِلْمي محاولة متواضعة لاستعادة الصورة الحقيقية للإسلام. ليس هناك أي مهمة أخرى أكثر إلحاحًا، بالنسبة لي، من هذه المهمة؛ أن أقدّم وجهًا لملايين من المسلمين الذين غالبًا، إن لم يكن دائمًا، يكونون أول ضحايا الإرهاب الذي يمارسه بعض المتشدّدين. ومع أن هذا الفِلْم مبنيّ على التقليد الصوفي البهيج والمانح للحب، إلا أنه أيضًا فِلْم سياسي إلى حدٍّ بعيد، وعلى نحو مقصود. من الواجب علينا، في الوقت الحاضر، أن نعرض للعالم مظهرًا آخر للإسلام وإلا فإن كل واحد منا سوف يختنق من جراء جهله بالآخر.
إنه الخوف الذي يخنق الناس، وليس الواقع. أن تبذل ما بوسعك لمعرفة جارك على نحو أفضل هو شكل من أشكال حسن الضيافة. لا يتعلق أمر الضيافة بتوفير السكن للناس وإطعامهم فقط. الضيافة تتعلّق بالإصغاء والفهم. أنت لا تستطيع أن تستقبل شخصًا في بيتك وتطعمه ثم تتجاهله. فِلْمي هذا، في رأيي، يشجّع الناس على الإصغاء وربما الاتحاد. مشاهدة هذا الفِلْم وسيلة لتقديم حسن الضيافة للآخر.
التشدّد والتعصّب لا يمثّلان الإسلام، تمامًا مثلما محاكم التفتيش لا تمثّل الإيمان بالمسيح. في هذه الأيام، يشعر المرء بالضياع والتشوّش أمام هذه الموجة المتنامية من الاستخفاف والكراهية تجاه الإسلام. أفلامي تظهر الإسلام كثقافة مصالحة، المصالحة مع النفس ومع الآخر».
ومن أجل تأدية هذه المهمة الصعبة، التي تقتضي حساسية جديدة، ورؤية عميقة للواقع ولعلاقة الفرد بالآخر عبر مختلف المستويات، فإن المبدع ناصر خمير لم يلجأ إلى التاريخ القديم ليستعرض أمجاد الإسلام من خلال حبكات دينية وشخوص مألوفة وحكايات أخلاقية تقليدية، بل اختار أن يطعّم أفلامه بحضور محسوس للبعد الصوفي. هذه الأبعاد لا تتخلّل مضامين أفلامه فحسب، بل إنها تحتل مساحة أكبر في فِِلْم مثل «بابا عزيز».
عن الإشراقات الصوفية: لقد اختار ناصر خمير المعالجة الصوفية لأن: «الصوفية تقف ضد كل أشكال التعصّب. الصوفية هي إسلام الباطنية، هي الإسلام في رقّته. لكن من أجل إعطاء تعريف أفضل، سوف أستخدم هذا القول الصوفي: «الطريق إلى الله بعدد نفوس الخلائق». هذا الاستشهاد وحده تمثيل لرؤية الصوفية. وبوسع المرء كذلك أن يقول: إن الصوفية هي قلب الإسلام الخافق. وبعيدًا من كونها ظاهرة هامشية، هي البعد السرّي للرسالة الإسلامية. أبو حسن النوري، المتصوف العظيم، قال ذات مرّة: الصوفية هي إنكار لكل الملذّات الأنانية؛ ذلك لأن الحب الحقيقي لا يمكن أن يكون أنانيًا. وقال أيضًا: الصوفي الحقيقي ليس لديه ممتلكات، ولا شيء يمتلكه».
الصوفية تخاطب الروح. وفي الصوفية، تعتمد المعرفة على طريقة في الحياة تهدف إلى ترويض النفس. اكتساب المعرفة غاية، لكن أن تكون عفيفًا، طاهرًا، فاضلًا، مستقيمًا أخلاقيًّا هو أمر حاسم في عملية البحث عن المعرفة. معرفة النفس تستلزم أيضًا معرفة السمات القاتمة، الشريرة، والتحرّر منها. المعرفة لا تكون ممكنة إلا إذا أحدثت تحوّلًا معينًا في الشخص. لذلك يصعب جدًّا فصل المعرفة عن كينونة الشخص بوصفه فاضلًا. المعرفة تنشأ من خلال الكشف الباطني. ورغم أن الرؤية تتضمن الرؤية بالأعين الفيزيائية، فإن الرائي الحقيقي هو القلب. الصوفي في مستوى اليقين يتخلى كليًّا عن حبه للعالم، ولا يعود يرغب إلا في عشق الله. ها هنا نجد إشراقات صوفية ذات طبيعة جمالية حسيّة ومعرفية.
السابح في روحه
مثل هذه الظواهر تتجلى بكثافة وعلى نحو واضح في فِلْم «بابا عزيز، الأمير المتأمل في روحه» (2005م) الذي فيه يطرح ناصر خمير مجموعة متداخلة من القصص والحكايات، القريبة من عوالم ألف ليلة وليلة، حيث داخل كل حكاية تنشأ حكاية آخرى، وعبر هذا النسيج يتشكل البناء السردي. بعد عاصفة رملية، تنبثق من بين الكثبان صبيّة في العاشرة اسمها عشتار. تجد جدّها بابا عزيز (وهو درويش أعمى) مغمورًا بالرمل، فتنفض عنه الرمل وتساعده على النهوض، ليستأنفا معًا رحلتهما الغامضة سيرًا على الأقدام في صحراء شاسعة، ممتدة، كل شيء فيها يتحرك حتى الكثبان. إنهما ينويان حضور ملتقى للدراويش في مكان ما في الصحراء لكنهما لا يعرفان مكان انعقاد التجمّع، في الواقع لا أحد من المدعوين إلى الملتقى يعرف المكان. هذا الملتقى ينعقد مرّة كل ثلاثين سنة. وهناك سوف يقدّمون رقصاتهم وأغانيهم إلى المحبوب.
الدرويش هو الشخص الذي يختار أن يدخل عالم الفقر والزهد والعشق، والذي يهجر المجتمع ليجوب الصحراء. الصحراء توفر له السلام، والسكون، والطمأنينة، والنقاء الروحي، والانتماء إلى الأرض.
أما عشتار، فيصفها ناصر خمير (ذات حوار) بأنها الصبيّة المولودة من الرمال، مثل اللغة العربية، التي تذكّرنا بحرف «الواو». المتصوفة يسمّون حرف الواو حرف العشق؛ لأن من دون الواو، الأشياء لا يمكن لها أن تلتقي. إننا نقول «البحر والسماء» «الرجل والمرأة». حرف الواو هو الملتقى، بالتالي هو موضع الحب. هو أيضًا حرف المسافر لأنه يحشد معًا الأشياء والكائنات. البحث يعني أكثر مما يعنيه إيجاد الشيء. والملتقى ليس غايةً بذاته. إنه محض محطة للانتقال إلى مستوى جديد في حركة الحياة. لكن الصغيرة قلقة ومفعمة بالارتياب. والجد يطمئنها: من لديه الإيمان لن يضيع أبدًا. من يشعر بالسلام والطمأنينة لن يضلّ طريقه.
عن الصحراء يتحدث ناصر خمير ويقول: «إنها تمثّل أشياء عديدة في الوقت نفسه. الصحراء حقل أدبي وحقل للتجريد في الوقت نفسه. هي إحدى الأماكن النادرة حيث يلتقي ما هو صغير على نحو لا نهائي، أي ذرّة رمل، وما هو كبير على نحو لا نهائي، أي مليارات من ذرّات الرمل. إنها أيضًا المكان الذي فيه بوسع المرء أن يمتلك الإحساس الحقيقي بالكون. الصحراء كذلك تستدعي اللغة العربية التي تحمل ذاكرة أصولها. هي التي شهدت ولادة اللغة العربية وانتشار الإسلام. في كل كلمة عربية ثمة شيء من الرمل المتدفق. الصحراء أيضًا واحدة من المصادر الرئيسية للشعر العربي في مجال العشق. هناك شيء يتصل بالصحراء والذي يتخطى إحساسنا بالزمن. إنها تمثّل الآن والماضي في الوقت نفسه. في كل أفلامي الثلاثة، الصحراء هي شخصية بذاتها».
في بابا عزيز تتجسد الروح الصوفية النموذجية في الجد، الدرويش الأعمى، الذي لا يملك شيئًا، لذا هو ليس عبدًا لشيء. لقد تعلّم كيف يسلّم نفسه إلى الله. إنه يفهم أن الحياة والموت معًا ليسا إلا هبات من الرب، وأن يوم وفاته هو يوم زواجه بالأبدية. في رحلته المادية والروحية، يعتمد على غرائزه البدوية، وإيمانه الصوفي، لتقوده نحو الاتجاه الصحيح وتدلّه إلى مبتغاه. لكي يسلّي حفيدته فإنه يروي لها قصة الأمير الذي افتتن بغزالة ومضي خلفها عبر الصحراء، تاركًا خلفه حياة الترف والرفاهية. بعد وقت، يعثرون عليه جالسًا عند نبع، محدّقًا في انعكاس صورته في الماء، متأملًا ما هو خفيّ، ما هو غير مرئي.. متأملًا روحه. وهو بذلك يختار العالم الخفي، اللامرئي، بدلًا من عالمه المرئي، المغري، الذي ورثه.
هذه الحكاية تتجاور مع حكايات أخرى يرويها أشخاص آخرون يلتقيهم بابا عزيز وحفيدته. أشخاص باحثون عن عشق زائل، عن فردوس مفقود، عن عدل، عن معنى، عن أمكنة تنتسب إلى عالم الحلم، وعن الله.
عثمان الذي سقط ذات مرّة في البئر فوجد نفسه داخل قصر مليء بالحسان ورأى امرأة عشقها في الحال، لكنه لم ينل شيئًا، وها هو يشتاق إلى المرأة والحياة هناك، ويرغب في تكرار التجربة.
زيد وهو شاعر ومغنٍّ موهوب، يبحث عن نور، ابنة شاعر صوفي، وقع في غرامها بعد مشاركته في أمسية احتوت على مسابقة غنائية- شعرية فاز فيها كما فاز بقلب نور، التي تسرق ثيابه لتتنكّر بها في هيئة شاب من أجل أن تعبر الحدود وتبحث عن أبيها المفقود.
حسن يسعى إلى الانتقام من درويش، أحمر الشعر، قتل أخاه التوأمَ حسينًا. يرى عمله في كنس المسجد كفعل إخلاص وتفانٍ في عشق المحبوب.
في نهاية المطاف، وقبل أن يصل إلى التجمّع، يهيئ بابا عزيز نفسه للموت. يقضي لحظاته الأخيرة مع غزالة وحيدة تنتظر في هدوء وتشهد موته. ينادي الشاب حسن، ويقول له: إن ساعته قد حانت، طالبًا منه أن يدفنه عندما يتيّقن من موته. الشاب يشعر بالفزع، ففكرة الموت تقلقه. لكن بابا عزيز يطمئنه ويشجعه.
الفيلم يتحرّى ويستكشف الصوفية، التي هي سعي لاتباع أسلوب حياة متناغمة مع جوهر الدين من خلال تطهير الذات من الشوائب المادية والمعنوية. الصوفية بمزجها الثريّ للشعرية الباطنية، الأخلاقية الروحانية، الأعمال الموسيقية، هي طريق القلب الذي يخاطب أولئك الذين يتوقون إلى اقتراب حميمي من الخالق، إلى حياة باطنية أغنى، وذخيرة من الممارسات الروحية التي تعطيها عمقًا ومعنى. والفِلْم يقدّم لمحات متعددة المستويات للصوفية.
الفِلْم أقرب إلى المجاز البصري- السمعي منه إلى القصة الخطية ذات البناء المتسلسل التقليدي. الصور تتحرك عبر إطار شعري أكثر مما هي تعاقب للأحداث. لذلك هو جميل وآسر بقدر ما هو مربك نتيجة تشابك خيوط السرد وتعدد الحكايات وتداخلها أحيانًا ضمن منطق خاص يحرّك الأزمنة ومن خلال رؤية تسعى إلى التعبير عن وحدة الوجود.
من العناصر الفنية اللافتة، التي تضفي على العمل سحرًا وجاذبية آسرة، تلك الموسيقا الرائعة، المعبّرة، التي يتحدث عنها ناصر خمير قائلًا: «في الثقافة العربية، القصيدة لها مبرّر وجودها.. أعني الغناء. الأغاني والموسيقا تخلق التأرجح بين الحضور والغياب، المرئي واللامرئي، الواقعي والملغز. الصوت الصوفي يجري عبر التقاليد الشعبية والنخبوية معًا في الثقافات العربية والفارسية والتركية. البرَكة، النعمة الإلهية، تنبع من هذا الصوت وتطوف وتخترق البشر والأماكن والأشياء. الموسيقا الضاجّة بالأصوات غالبًا ما يصاحبها الرقص، كما نجده في أداء الدراويش وهم يقومون بحركة دائرية، ويرقصون رافعين يدًا موجّهة نحو السماء، من أجل تلقّي البركة الإلهية، واليد الأخرى موجّهة نحو الأرض لإرسال هذه البركة إلى الجمهور».