التصوف وفق منطق غربي من تأويل خاص للعقيدة إلى أداة لإضعاف المقاومة
وحيث إن التدين الشعبي يكشف عن انبثاق مفاهيم ومقولات جديدة تتقاطع مع ما هو معروف في فضاءات الدين الرسمي، فإنه يعمل على ابتداع طقوس «شعبية» ترتبط بالنشاط الإبداعي وتوليد إبداعات جديدة تغير من نوعية ما هو قائم. وإذا كان ما تقدم هو حالة التصوف حتى نهاية القرن المنصرم، فإنه مع بدايات القرن الحالي، قد تغيرت أحواله وتبدلت توجهاته؛ إذ أفلت جوانيته نتيجة بحثه عن آلية للاجتماع بالدنيا من خلال بوابة السياسة، وهو ما تجسد في دخولهم وتفاعلهم مع الواقع واختيار الظاهر ومخاصمة الباطن خاصة مع ثورات الربيع العربي؛ إذ حُوِّلَتِ الذات الصوفية من متصل روحاني إلى متصل دنيوي، عبر الارتكان لتعليمات الغرب الأميركي، والدفع بهم إلى ميدان الصراع مع الأصوليات، من أجل تكريس ما يسمى بالتقارب الروحي وإشاعة السلام والحوار بين الأديان، فضلًا عن تأنيث واستئناس الدين وتحويله إلى آخر ناعم.
إن ضغط الرأسمالية العالمية لتمازج الديانات الأرضية والسماوية وإشاعة قيم الدين، العالمي وتجديد الخطاب الديني، ومسخ الهوية وقبول الآخر جعلهم يفتشون عن تيار ديني في داخل هذه البلدان ليقف موقفًا مناهضًا من التشدد، وينسجم مع توجهاتهم، فوجدوا الصوفية تعبر عن ضالتهم، بحسبانه يعبر عن مستقبل العالم الإسلامي.
مستقبل العالم الإسلامي
والحقيقة أن وقع الاختيار على الصوفية للعب هذا الدور، لا يعود إلى كونهم يعتمدون على الفصل بين السلطة الروحية وسلطة رجال الدين، بل أيضًا لتقارب أفكارهم مع الديانات الأخرى (المسيحية– اليهودية- الهندوسية– البوذية… إلخ)، فضلًا عن دعوتهم الدائمة إلى تفعيل اللطف والتفاعل والتعاون، وهو ما تجلى في البلقان وآسيا الوسطى وإفريقيا الغربية وتركستان الشرقية. وفي هذا الصدد يقول «مايكل ساليس» أستاذ الأديان بجامعة هارفارد الأميركية: «… إن علينا أن نبطل الفكرة التي تقول إن للإسلام وجهًا واحدًا، وإن هذا الوجه هو الإرهاب والعنف وكره الغربيين… إن هنالك في الإسلام من يؤمنون بالحب والتسامح والتعايش…». وهو ما أكده المستشرق الألماني «شيتفان رايشموت» الذي يرى «… أن مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتمًا للتيار الصوفي…». وتتويجًا لذلك فقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات بضرورة تشجيع الحركات الصوفية لتكون آلية فاعلة على الصعيد السياسي. فالزهد في الدنيا والانصراف عنها، وعن عالم السياسة يضعف ولا شك من صلابة مقاومتها للاستعمار، ذلك ما شدد عليه تقرير مؤسسة «راند» الأميركية، إذ رأت أنه من الأهمية بمكان أن نوجه الاهتمام إلى الصوفية، أو ما يسمونه بالإسلام التقليدي، الذي من خلاله يمكن تحقيق الديمقراطية، ومنع الصدام الحضاري مع الغرب، ناهيك عن تغليف المسلمين بدعوة انسحابية وتقليص الدين. وإزاء ذلك، فإن المؤسسة ترى ضرورة أن تُصاغَ خارطة طريق لبناء «الشبكات الإسلامية المعتدلة»؛ لتشجيع ودعم الصوفية من جانب، ونزع فتيل الراديكالية الإسلامية، وطرح صيغة أخرى معتدلة، بهدف تسييد ما يسمى «بالهارموني العالمي» من جانب آخر.
والواقع أن ذلك تعانق مع فاعليات المؤتمر الذي أقامه مركز نيكسون بواشنطن في 24 أكتوبر 2003م، لمناقشة برنامج الأمن الدولي، ناهيك عن الوقوف على دور الصوفية في صناعة السياسة الأميركية الخارجية، إنهم عبر ذلك توصلوا إلى ضرورة تدعيم التصوف وإعادة بناء الأضرحة، وتشجيع دمج القيم الصوفية مع قيم المجتمع المدني، وإقامة المراكز التعليمية المرتبطة بها، والتركيز على التسامح الديني، وهو ما شددت عليه مجلة «يو إس نيوز أند ريبورت» في تقريرها الذي نشر في عام 2005م؛ إذ من خلاله تؤكد «… أن الحركة الصوفية بأفرعها العالمية قد تكون واحدة من أفضل الأسلحة. فالصوفية بطرقها الباطنية تمثل توجهًا متناقضًا للطوائف الأصولية كالوهابية…». وإنه لكي يحدث ذلك، قامت واشنطن بتمويل محطات إذاعية، وقامت بتدريب أئمة المساجد، وعملت على ترميم مساجد وآثار إسلامية وأضرحة، وجارٍ الضغط لتخصيص مناصب وزارية للمتعاطفين مع الصوفية.
صيغة مستحدثة
إنه وفق هذا التوجه فإن تغريب الإسلام عن أصوله الصحيحة ونشر الإسلام الثقافي، وإيجاد الإسلام الخالي من المقاومة التي تعوق سيطرة الغرب ونهبهم للشعوب، يعدُّ آلية مناسبة في إطار إستراتيجيات الغرب الرأسمالي… بيد أن هذا النمط هو البوصلة التي ارتكن لها الغرب في الانطلاق لجعل التصوف آلية لنشر الإسلام الناعم، وذلك يتمظهر بوضوح في تقديمه المشورة للحكومة الأميركية لنشر التصوف والابتداع من خلال إعادة إنتاج الأضرحة والمزارات والزوايا الصوفية بهدف مسح الذاكرة الجمعية للدين الإسلامي، وهو ما نجحت فيه حكومات المغرب التي تقوم بدعم الطرق الصوفية، فضلًا عن إقامتها المهرجانات الموسيقية الصوفية.
إنهم في إطار ذلك، يحاولون ربط المفاهيم «الغربية» للمجتمع المدني مع عقائد الصوفية، وهو ما حدث بالفعل في أوزبكستان في عام 1994م، حينما أسسوا وزارة خاصة بالتصوف سموها بـ«المركز الشعبي للروحانية والتنوير»، تكون من ضمن أهدافها إعادة بناء الهوية الصوفية وفق منطق غربي، وهو ما حدا بالطريقة النقشبندية أن تكون الطريقة الوثابة في هذا المكان لتنفيذ أهداف الغرب وإستراتيجياته. لقد عملت هذه الطريقة على إعادة التثقيف التدريجي لنشر قيم التعاون والتسامح، ذلك الذي جعلهم يقبلون بالتبرعات والمساعدات الأميركية، من أجل المساعدة على تشجيع الحج إلى الأضرحة في «تركمانستان» حتى تحدث الخلخلة والفراغ الثقافي الديني المرتبط بالراديكالية، ومن ثم إحياء البدع والسكون، وهو ما جرى تجريبه أيضًا في القوقاز والشيشان وكثير من المناطق الإسلامية في البلدان الروسية.
إنه بموجب مفاهيم التسامح والتفاهم بين التصوف وبين كل القوى الاجتماعية لقبول الآخر، فإنه من وجهة نظر الغرب، إن الصوفية لها من القدرة والمُكنة للعب دور مزدوج في الواقع الإسلامي، فهي من جانب تستطيع أسلمة الديمقراطية، ومن ثم تكون جزءًا من العملية السياسية، ومن جانب آخر يمكنها أن تساهم في دمقرطة الإسلام، وبالتالي تنجز عملية الاستقرار السياسي. إن تجسير الحوار بعيدًا من الميتافيزيقا يجعل التواصلية الصوفية تسعى إلى توفيق الذات مع الآخر، وطرح كل ما يتصل بها من أخلاقيات جانبًا؛ لكي يدخل في حوار عالمي آخر، يدعمه أموال الرأسمالية العالمية. ولما كان ذلك هو تبصر من نوع خاص في إطار التداولية الكونية القائمة على التفاعل «أنا في أنت»، فإن دخولها في الحوار مع الآخر، سوف يشيح بعيدًا من ذاته مسألة امتلاك الحقيقة النهائية أو الوصول إلى المقدس.