المعتمَد الأدبي.. من كتلة حصرية إلى وهم استبدادي لم يعد موجودًا
تنطوي كلمة «مُعْتَمَد» canon، المشتقة من الكلمة اليونانية kanon بمعنى «حُكْم، أو قانون، أو مرسوم»، على مدى واسع من التطبيقات في الدين، والفنون، والقانون، والأدب. فالكتب المُعتمدة من الكتاب المقدس هي تلك الكتب التي كان يُنظر إليها على أنها وَحْيٌ، أو معتمدة من جانب السلطة الكنسية، بوصفها كلمة الرب الأصليّة، وتأتي على النقيض منها الكتب المُحرّفة ذات المرجعية المشكوك فيها. ويعدّ تعميد القديس عملية شبه قضائية تستلزم فحص دليل المعجزات وسجلات الحياة القدسية، قبل أن تعترف الكنيسة رسميًّا بالقداسة. لكن المعنى الذي تختص به الثقافة المعاصرة هو مسألة المعتمدات الأدبية، أي قوائم الأعمال الأدبية للكُتاب الكبار الذين يُدرَجون عادة في كتب المختارات الأدبية، ويُناقَشون في كتب تاريخ الأدب الرسمية، ويُدَرَّسون في المدارس والجامعات كنصوص معيارية يُسلَّم بها بوصفها تراث ثقافة أدبية مشتركة.
على الرغم من إمكانية توسيع مجال المصطلح (وقد وُسِّع) ليشمل فنونًا أخرى تتجاوز نطاق الأدب، فمن المهم أن نظل واعين بأصوله في التقاليد النصية والكتابية على وجه الخصوص، حيث يمكن أن يُوصف بأي شيء إلا كمفهوم جامد أو أحادي عن السلطة والمرجعية. على سبيل المثال، في إطار المعتمد من الكتابات المقدسة، هناك نزاع واضح بين التقاليد الكهنوتية والتقاليد النبوية حول التلقي النصي. فالنبي أرميا كان قادرًا تمامًا على معارضة «قَلَم النُّسَّاخ المزيِّف»، وسلطة التلمود نفسها. وبقدر ما يرتبط المعتمد بالقانون الثابت، فإن السرد المسيحي كلّه يعد سردًا قُلِّصتْ فيه سلطة الكُتَّاب والكهنة بتشريع إلهي جديد. لذلك، ففكرة المعتمد ذاتها كقانون أو حُكم أو نص سلطوي تستتبع بالضرورة لحظة يُنتهك فيها القانون ويُحوّل، فيُعاد تنقيح القواعد وتُغَيَّر مرجعية النص أو يحل محلَّها منطوق جديد. إذن، فالمعتمد ليس نسقًا مغلقًا أو مطلقًا، ولكنه كيان دينامي متطور، يمكن أن يُعاد تأسيسه، وتأويله، وتشكيله مرةً ثانيةً.
قد تقترن فكرة معتمد أدبي علماني (مثل المعتمد التوراتي) بمؤسسة أخرى عظيمة حديثة، ألا وهي مؤسسة الأمة. ومن ثم فإنَّ الكُتَّاب الكبار لأمةٍ بعينها، أو (اتساعًا في القول) شعب، أو لثقافة، أو حتى لطبقة، يشكِّلون [بأعمالهم] مستودعًا لرأس المال الثقافي؛ إذ يتعين أن تنطوي على قيم أساسية مشتركة، ويمكن أن تستند إليها سوابق للإنجازات الأدبية الجديدة. وبهذا المعنى فالمعتمد يغدو موازيًا تقريبًا لمفهوم «تقليد» أو «تراث»، طالما أنه تأسّس بواسطة ذخيرة المرويَّات، والخرافات، والأمثال، والأبطال النموذجيين، والأساطير، والمبادئ، سواء أكانت مكتوبة أو غير مكتوبة. فغالبًا ما يستشهد بفكرة ماثيو أرنولد عن المحكّات [المعايير النقدية] والنصوص والمنتجات الثقافية الأخرى التي يبدو أنها تُجسِّد «أفضل ما عُرف وقيل»، بوصفها مثالًا رئيسًا لعمل المعتمدات. وتظل كهنوتية أرنولد، كنوع من الكهنوتية العلمانية للقيم الثقافية، تربط بين المعتمدات والنصوص الدينية والسلطة الكهنوتية.
عندئذٍ، يبزغ السؤال: كيف تتغير المعتمدات بمرور الزمن؟ ما العمليات التي يمكن أن تؤدي إلى تغيُّر المعتمد أو حتى إلى تحويل وجهته؟ و(السؤال الأكثر جوهرية) هل من الممكن أن توجد ثقافة أو مجتمع بلا معتمدات؟ قد يبدو السؤال الأخير بلا طائل، وكأن التاريخ الحديث لم يفض في تأمله النقدي حول المعتمدات والمعتمدية canonicity إلى إثارة هذه القضية بالفعل.
خلال معظم سنوات القرن العشرين، تُجُوهِلتْ القضايا المتعلقة بتشكل المعتمد والقيم التي تشكل أساسها بشكل عام في الدراسة الأدبية. وفي أواخر القرن العشرين، عاد الاهتمام فجأة إلى دراسة المعتمدات والقيم بوصفه انشغالًا بذات الموضوع الأدبي. أما «إقصاء التقويم» فيعزوها بعض إلى النزعة الإنسانية المحافظة والأمل الأجوف لدارسي الأدب في سعيهم لصياغة علمية «مجرّدة من القيمة» لأعمالهم.
صعود الدراسات الثقافية
هناك قصة مقنعة بالمثل تشير إلى أن تماسك المعتمد الأدبي الإنجليزي والأميركي بدأ يتعرض للضغط في ستينيات القرن العشرين، وفي ذات اللحظة تمامًا بدأت الولايات المتحدة صعودها لقيادة العالم كقوة اقتصادية وعسكرية، وترسيخ مكانة اللغة الإنجليزية كلغة تواصل عالمية. وشهدت كلّ من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، على مدى النصف الأخير من القرن الماضي، تحولًا في توزيع السكان ترافق مع تفكك الإمبراطورية البريطانية من جهةٍ، وظهور الإمبراطورية الأميركية من جهةٍ أخرى.
وهكذا ارتبطت نشأة الدراسات الثقافية في إنجلترا بحركات جديدة للطبقة العمالية الجديدة وهجرة مواطني الإمبراطورية غير البيض من الهند وإفريقيا والكاريبي إلى الجزر البريطانية. وأصبح جيل الطلاب الأميركيين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أكثر تنوعًا من ناحية العِرْق والطبقة والجنس من أي فوجٍ سابق من الطلاب. جاءت تحدِّيات المعتمد الراسخ المتمثل في الكُتّاب «الأوربيين الذكور البيض الراحلين» من جانب النساء، والملونيين، وأكاديميي الجيل الأول منهم الذي كان يعوزه التوقير التلقائي للثقافة الأدبية التقليدية التي تعمل على دعم رسوخ المعتمد.
جاء صعود فروع أكاديمية جديدة مثل دراسات النساء والجنوسة، والدراسات الأميركية – الإفريقية، ودراسات الفلم، والثقافة البصرية، وثقافة الجماهير، مصحوبًا بأنماط نقدية شكِّية ومُريبة (أكثرها شهرة التفكيكية وأعمها ما بعد البنيوية) مستوردة أساسًا من فرنسا. فانبعجت المعتمدات الأدبية الإنجليزية والأميركية تحت وطأة الضغط حين بدأت النصوص الأدبية الجديدة وغير الأدبية تغزو قاعات الدروس في الكلية، وأخذت الطرائق الجديدة في القراءة تتدفق من كل الاتجاهات. وكما أُعيد تأويل مسرحية «العاصفة» لشكسبير و«الفردوس المفقود» لملتون من ناحية صلتهما بثيمات ما بعد الكولونيالية، انبثق تاريخ أدبي وثقافي جديد؛ جرى فيه وضع تلك الأصوات غير المسموعة أو المهمّشة في سياق التداول، وبرزت كتب مختارات جديدة تضمنت كتابات النساء والملونيين، وشَرَعَ الكُتّاب المهمشون سابقًا أو كُتّاب الأقليات في الاحتشاد بصدارة هذه
المرحلة الأدبية.
إعادة تشكيل المعتمد
كان رد الفعل المحافظ تجاه هذه التطورات إطلاق التحذيرات حول انحسار المعايير وفقدان القيم الأساسية. ففي الولايات المتحدة أصبح سؤال المعتمد سؤالًا مركزيًّا، فيما دُعي بـ “حروب الثقافة”، وبذلت الجهود لاحتواء تيّار الكُتَّاب الجُدد، وإعادة ترسيخ المعتمد التقليدي. وقد امتلأت افتتاحيات الصحف في الصحافة الأميركية بالاتهامات من قبيل التصحيح السياسي، وأشباح الفوضى، والنسبوية الجامحة، والشكوكية، والعدميَّة، وجرى التصريح بأن “الحضارة الغربية” تتعرض لخطر داهم من المتطرفين المتشددين والتعددية الثقافية. أما اليسار، فقد أدى اختزال المعتمدات بجعلها مجرد لوازم مقنعة بالأيديولوجيا وأدوات للهيمنة بأيدي “الذكور البيض الراحلين” إلى إبقاء النقاش العام حيالها في مستوى منخفض إلى حدٍّ ما. ومع ذلك، فهناك محاولات أُجريتْ في البحث النقدي المتوازن حول طبيعة المعتمدات.
وقد ذهبت بعض الناقدات النسويات إلى مدى أبعد من تلك المحاولات لتوسيع المعتمد أو تشييد معتمدات منافسة تضع النساء في موقع الصدارة، من خلال السعي إلى “زعزعة تنظيم المعتمد بصفته المعروفة”، إلى جانب إثارة سوابق مناهضة للاسمية ومناهضة للسلطوية مثل الغنوصية. فيما حاول نقاد آخرون مجددًا تأكيد استقلال القيم الأدبية والثقافية عن السياسات والأيديولوجيا، مجادلين أن “العوالم الممكنة” التي يقدمها الفن العظيم تساعد في الحيلولة دون “تحول مواقفنا المتشككة إلى تفسيرات نهائية للأعمال الأدبية”. يبدو واضحًا، مع بداية القرن الحادي والعشرين، أن فكرة “المعتمد”، ككتلة حصريّة من النصوص التي تتحدد أقسامها على نحوٍ مطلق، عبارة عن وهم استبدادي لم يعد له وجود. هناك اليوم معتمدات متعددة، وتشكيلات هجينة ناشئة مثل “الأدب العالمي” قد تغدو أيَّ شيء ما عدا الاستقرار أو الثبات. غير أن دراسة تشكّل المعتمد، واضمحلاله، تُعدُّ اليوم حقلًا مُؤَسَّسًا قائمًا بذاته في الدراسة النقدية والتاريخية.
المصدر:
New Keywords: A Revised Vocabulary of Culture and Society.
Edited by: Tony Bennet, Lawrence Grossberg, Meghan Morris, Blackwell, 2005, pp 20 – 22.