بقايا الغرق: القراءة والإيمان في روبنسون كروزو
ما ينقذ روبنسون كروزو من الهلع، ما يسمح له بالهروب من الجنون وإعادة تشييد المعنى لكل ما يعيشه، هو الكتب التي أنقذها من بين بقايا الغرق (أو للدقة: الكتاب). في بداية الحكاية ثمة تلميح لصورة روبنسون محاطًا بالجنون والرعب: بعد أن يعيش عدة أسابيع في الجزيرة، مريضًا ومحمومًا، تهاجمه الكوابيس. حينئذ يتذكر تجربته في البرازيل: «تذكرتُ أن البرازيليين لا يتناولون أي دواء إلا التبغ لأغلب أمراضهم»، ويروح بحثًا عمّا أُنقِذَ من المركب. لكن إضافة للعلاج الذي يبحث عنه، يعثر هناك، بطريقة إعجازية، على الدواء الحقيقي المنجّي. «فتحتُ صندوقًا وعثرتُ على التبغ الذي كنت أبحث عنه. عثرت كذلك على كتب قليلة نجت. أخذتُ أحد الكتب الذي أشرت إليه من قبل، ولم أكن قد قرأته حتى تلك اللحظة لضيق الوقت أو غياب الرغبة».
وحينئذ نرى روبنسون يقرأ. إنه وحيد في الجزيرة، بملابس رثة، ومريض، وبكتاب في يده: «بدأت في قراءة الكتاب المقدس، لكني كنت دائخًا بزيادة حتى أقرأ. مع ذلك، حين فتحت الكتاب بالصدفة، كانت الكلمات الأولى التي صادفتها هي: ادعوني في يوم الضيق وأنا سأغيثك وأمنحك المجد». إن قراءة الكتاب المقدس، بالنسبة لـروبنسون، تحمل مغزًى لشرح التجربة؛ بطريقة متعمدة، المعنى يكمن في داخل تلك القراءة. ما يقرؤه موجه شخصيًّا إليه، سياق حياته يقرر المعنى. بالطبع، تعالجه هذه القراءة من المرض. وفي هذا الجانب، روبنسون هو الصورة المعاكسة لـ«دون كيخوتيه»، الذي يصاب بالمرض حين يقرأ. لكنه، مثل دون كيخوتيه (وهاملت)، ولأنه قارئ هو أحد الأبطال العظام للذاتية الحديثة.
بالفعل، هو مجرد حوار. قد يتحتم علينا أن نتكلم عن حوار عبر القراءة. فبعد قراءة الكتاب المقدس، يستطيع روبنسون أن يبقى على قيد الحياة وأن ينجو. وسريعًا ما سيعثر على المعنى الممكن لحياته الحقيقية عندما يقرؤه في كتاب. روبنسون لا يقرأ ليفك معنًى ملثمًا، إنما يقرأ ليعثر على ما ضاع منه، ليفك شفرة الحقيقة الثاوية في وجوده ذاته. روبنسون يعتقد في الشروع في القراءة، وأن القراءة ستحقق له حياته. ثمة «كيخوتيزمية» في روبنسون: أقرأ لأعيش.
يلجأ عدة مرات إلى الكتاب المقدس على طول الرواية ليحل مشكلاته. الظروف دائمًا لا تتغير: سريعًا ما يربط ما يقرؤه بتجربته الشخصية، ويستشرف مستقبله فيما يقرؤه. أصداء قديمة جدًّا من قراءة النبوءة تشكّل شفرة في هذا الموقف: «ذات صباح كنت أشعر بأني تعيس جدًّا، فتحت الكتاب المقدس وقرأت ما يلي: لن أتركك ولن أهجرك. وفي الحال فكرت في أن تلك الكلمات موجهة لي… بدايةً من تلك اللحظة وصلت لخلاصة بأني من الممكن أن أكون أكثر سعادة في حالة عزلة مما لو كنت في أي حالة أخرى ممكنة». إنه يقرأ الكتاب المقدس كجواب لسؤال شخصي. الأدق، أن الكتاب يجيب عن سؤال شخصي. هكذا يجد النص الغامض معناه ويتحقق في الواقع. إنها ليست، من ناحية أخرى، قراءة خطية، إنما هي قراءة متشظية، لكتاب مفتوح، يسمح بإقامة علاقة مفاجئة، صوفية، لو أمكن أن نقول ذلك، بين الكلمة والصدفة. قراءة الصدفة، القراءة غير المتعمدة وغير الخطية دليل على حقيقيتها. الفرد عادة ما يعثر على ما يبحث عنه. (كل من يروي قراءة ينصهر مع الكتاب في ملمح محدد).
أن ترى نفسك في القراءة
روبنسون لا يقرأ القصص قط، يقرأ تعريفات، عبارات واضحة موجهة إليه. ودائمًا ما يبحث عن الكلمة الملهمة. الإيمان لاحق للمعنى، أقصد، الإيمان يؤكد المعنى (ويفرض قراءة مزدوجة). فلو كانت البوفارية (نسبة إلى إيمي بوفاري) هي الاتجاه لترى نفسك في القراءة كآخر تشبهه، فـروبنسون يفعل العكس: يكتشف من هو عند قراءة الكتاب المقدس ويتخلى عن كل الهويات المزيفة التي أدت به إلى الخراب. يفكر في أن بقاءه في الجزيرة هو الحياة الحقيقية، تجربة للفردانية والنجاة تبعده من الانحراف الذي يعرفه الآن في ماضيه. الكتاب المقدس ينقذه من الجنون ومن الحيوانية؛ لأنه يستبدل ذلك بمعنى لوجوده ذاته. لم يعد تاجرًا، لم يعد مهربًا، ولا حتى غريقًا: إنه مجرد خاطئ ينتظر النجاة ويثق فيها. والأليجورية الوحيدة هي أليجورية حياته ذاتها: الضلال، الغرق، القراءة، الإيمان، العزلة، التقشف، النجاة.
بالطبع، كل البروتستانتية نجدها هنا. ربما يجب أن نقول الكالفينية: القراءة الشخصية للكتاب المقدس، من دون وساطة مفسر أو كاهن، والقراءة المتساوية، الكتاب المقدس بلغة دارجة وفي مستوى الجميع، بفضل المطبعة. (أول ترجمة للكتاب المقدس إلى الإنجليزية كانت في 1535 والرواية منشورة في 1719). والنسخ المختلفة للكتاب المقدس التي يجلبها روبنسون معه من إنجلترا تعدّ مثالًا للانتشار الواسع كتأثير من المطبعة. «عثرت كذلك على ثلاث نسخ من الكتاب المقدس في حالة جيدة تكلفت أنا بحملها من إنجلترا واحتوتها حقيبتي. وكتابان للصلوات كان يستخدمهما الباباوات. كذلك، استطعت إنقاذ بعض الكتب المكتوبة بالبرتغالية».
القاعدة التي فرضها على نفسه واضحة: قبل أن يتحرك عليه أن يقرأ. إن بطل الزهد البروتستانتي، الذي يعيد إنتاج الاقتصاد الرأسمالي في انعزال تام، هو قبل أي شيء قارئ وحيد. قارئ منعزل بامتياز، يجب أن نقول ذلك. إن وحدة روبنسون تحاكي عزلة القارئ. لقد ضاعت بالفعل بقايا القراءة الجماعية. القراءة متعة في العزلة: لا يهم أن تكون في غرفة نوم، في مكتب أو في مكتبة عامة. بالفعل، ثمة علاقة شكلية بين القراءة والجزيرة الخالية. وروبنسون هو النموذج الكامل للقارئ المنعزل. يقرأ وحيدًا وما يقرؤه يتوجه إليه هو شخصيًّا. فيما تتحقق الذاتية التامة في الانعزال، والقراءة هي المجاز. القارئ المثالي، إذن، هو من يبقى خارج المجتمع.
إن الفرد الذي يقرأ في عزلة ينعزل لأنه غارق في المجتمع، لو كان العكس ما احتاج للانعزال. لقد انتقد ماركس فكرة الدرجة صفر للمجتمع في أسطورة الروبنسوية؛ لأن فردًا منعزلًا بالكامل يحمل معه الأشكال الاجتماعية التي جعلت ذلك ممكنًا. العزلة تستلزم وجود المجتمع الذي يريد الفرد أن يهرب منه. «الإنسان بالمعنى الحرفي حيوان اجتماعي، ليس حيوانًا اجتماعيًّا فحسب، إنما حيوان لا يمكن أن ينعزل إلا في المجتمع»، يكتب ماركس في مدخل إلى نقد الاقتصاد السياسي، ويضيف فكرة تستبق فكرة اللغة الخاصة عند فيتغنشتاين: «إن إنتاج الفرد المنعزل خارج المجتمع عبثي جدًّا مثل تطوير لغة من دون أفراد يعيشون معًا ويتحدثون فيما بينهم».
هذيان خاص لرجل إنجليزي
إن الفردانية أحد تأثيرات المجتمع وليست شرطه. وبالفعل، يمكن أن نفكر في روبنسون كتمثيل لهذيان خاص لرجل إنجليزي، كبلورة لأقصى درجات الانفصال: رجل منعزل، محاط بالبحر وبكل الأرض التي يحتاج إليها، رجل يقرأ الكتاب المقدس ويستعد للهيمنة على مملكته، قلعته، ممتلكاته. لقد قال جويس ذلك بدقة قبل أي أحد. في محاضرة له في تريستي، عام 1912م، تحدّث عن رواية ديفو كـ«نبوءة للإمبراطورية، الرمز الحقيقي للغزو البريطاني»، وعن ديفو كـ«النموذج الحقيقي للمحتل البريطاني».
وبالمناسبة، حقيقة الاحتلال المتوارية ليست رعوية جدًّا. في هواء الجزيرة النقي، تحت شمس المدارات البيضاء، تختبئ رواية «قلب الظلام» لـكونراد، وهناك نجد كيرتز، الشخصية المتعجرفة والديستوبيّة. وهذا الغرق الآخر للحضارة، هذا التحقق الصافي للكولونيالية (وسرها) هو الصورة الثنائية لـروبنسون. فقط ينقصه الإيمان والكتاب المقدس لأنه هو نفسه معلق في مكان الرب، المتمتع بالهيمنة التجارية والخرافة. هذا هو الرعب الذي يهرب منه روبنسون بفضل الكتاب المقدس (والتبغ البرازيلي).
مع روبنسون نحن أمام التاريخ الكامل لأميركا. والبرازيل، البلد الذي عاش فيه لثلاث سنوات كمزارع، حاضرة جدًّا في الرواية، كذلك النقد الإنجليزي للإمبراطورية الإسبانية (ونحن نعرف الدور الذي لعبته بريطانيا العظمى في استقلال الكثير من المدن الإسبانية في القرن التاسع عشر). بالفعل، المركب الأخير الذي يغرق في الرواية يأتي من بوينوس آيرس. نحن في عام 1682م، ومملكة «ريو دي لا بلاتا» لم يكن قد تكوّن بعد، لكن ديفو يسجّل بوينوس آيرس والريو دي لا بلاتا كميناء يتصل بـهافانا، وهو تاريخ مهم جدًّا لأنه تاريخ تجارة اللحم المملح إلى أسواق العبيد. وما يجده روبنسون في هذا المركب الجانح مجموعة مشروبات روحية وأسلحة. أما الأميركيون، من جانبهم، فمجسدون في «بيرنيس» و«الكاريبي» و«الكانيبال». وبيرنيس هو المستعمَر الأميركي الصرف.
إن الاستعمار والغزو يفترضان الهيمنة العسكرية والعنف. ورعب «بيرنيس» في مواجهة البندقية يكرر رعب الأزتيكيين في مواجهة مدافع كورتيس وخيوله، وهو نموذج للعلاقات الاجتماعية الجديدة. غير أن الغزو والاستعمار يفترضان أيضًا كتابًا مقدسًا جديدًا. أقصد، يفترضان فعل القراءة كمؤسس للهيمنة الأرضية والروحية. في التقليد الإسباني، يلح الملك على فعل دفع القراءة بصوت عالٍ في تصريحاته كمؤسِّس للهيمنة. والحقوق على الأرض وعلى الأرواح تستقر في هذا الفعل. وسجلات السكان الأصليين تشير إلى «رسومات تتحدث» وتشير إلى أن الغزاة «كانوا يتحدثون برسومات على قماش»، في إشارة لنوع الورق المصنوع من القماش. وعند خوان رولفو ثمة أصداء لا تزال لهذه الممارسة القانونية والقضائية. في قصة «لقد منحونا الأرض»، يستعرض ممثلو الحكومة، أمام الفلاحين الأميين، وثائق الملكية.
ثمة مشاهد قراءة كثيرة من هذا النوع تجول تاريخ الاستعمار. في عملية تدجين «بيرنيس»، يتكئ روبنسون على هذا التقليد. «حينما كان يقرأ النصوص المقدسة كان يفسر دائمًا لـبيرنيس فضل أن يعرف ما معنى هذه القراءات».
إن سيطرته وتحوله يتركزان في قراءة وتفسير الكتاب المقدس. «الوحشي غدا الآن مسيحيًّا طيبًا»، سيقول روبنسون بعد ذلك. كيف يتلقى بيرنيس هذه القراءة، لا نعرف إلا انقياده. فكرة القراءة بصوت عالٍ في إشارة إلى الأميين -أو، بشكل عام، القراءة بصوت عالٍ كأحد أشكال التآلف- تجسد صورة الطبقات الشعبية كأفراد محايدين، محايدين يجب أن يتعلموا، وصفاتهم الأساسية هي الصبيانية والإيمان المتطرف.
استعارة التلقي
إن استعارة التلقي الشعبي كإيمان خرافاتي وساذج يبدو شديد الوضوح في قصة «الإنجيل بحسب مرقس» لـبورخس. خلال فيضانات تجتاح حقول محافظة بوينوس آيرس، التي عزلها الماء، يقرأ رجل إنجليزي الكتاب المقدس على مجموعة من الكادحين الأميين المحيطين به. إنهم يصدقون بالمعنى الحرفي للكلمة هذه الحكاية التي يسمعونها وينتهون بصلبه. عند بورخس كما عند ديفو، يتجلى الانعزال كشرط للقراءة الكاملة، لكنها في نفس الوقت نفسه تلتفت للبعد الفانتازي البارانويّ. لصورة المعاكسة لهذه العلاقات بين القراءة والإيمان نجدها عند روبيرتو أرلت، بالطبع، وتتكثف في عبارة إرجيتا في المجانين السبعة (أكثر الأعمال الخالدة في الأدب الأرجنتيني): «هل تعتقد أني أحمق لأني أقرأ الكتاب المقدس».
القارئ، إذن، سيكون من يعثر على المعنى في كتاب ويحافظ على بقية التقليد في فضاءٍ حيث تسود سلسلة أخرى (الرعب، الجنون، أكل لحوم البشر) وطريقة أخرى لقراءة العلامات (مثال أثر قدم في رمال الصحراء). بمعنى ما، يمكن أن نفكر أنه من دون القراءة سيتحول الغرق إلى شكل حيواني. تعدّ القراءة دفاعًا أشد بأسًا من السياج. في الأشياء الناجية من الغرق، الضرورية والمفيدة، يتجسد المجتمع والعلاقات الاجتماعية. الشيء المفيد هنا هو مفتاح الأخلاق لدى روبنسون: «في كلمة واحدة، حملتني الطبيعة والتجربة على الانتباه، بعد التأمل، إلى أن كل أشياء هذا العالم يعوزها القيمة، إلا لو استطعنا استخدامها بطريقة ما»، يكتب. بهذا المعنى، فالكتاب المقدس أداة ذات فائدة كبرى مثل السكين، والبارود والتبغ. إنها العلاقة بالمجتمع (بجانب أدوات أخرى). بالنسبة لـروبنسون، فإمكانية قراءة الكتاب المقدس تعد برهانًا على وجود العناية الإلهية: كيف إذن، إن لم تكن موجودة، قد حدث إنقاذ الكتب من المركب الغارق؟
في رواية ديفو، ترتبط العناية الإلهية بتحقيق النجاة، والكتاب المقدس يتجلى ليمنح معنى لهذه المصادفة. لكن، في الوقت نفسه، ثمة تحديد قوي على المحك في هذا الاكتشاف: الأشياء الناجية هي بلورة للعلاقات الاجتماعية وللمجتمع المفقود. روبنسون هنا وحيد (يوتوبيا) لكنه يحمل معه ماكيتًا للمجتمع الذي تركه وراءه؛ يحمله في معارفه، لكن أيضًا في الأشياء التي استعادها: وإضافة للأدوات، نجد الكتاب المقدس. يتذكر: «لم أكن أفتح الكتاب المقدس ولا أغلقه إلا وأشكر الرب أن جعل صديقي يضع هذا الكتاب بين أشيائي بينما كنت في إنجلترا، رغم أني لم أطلب منه ذلك. كنت أشكره كذلك لأنه أعانني على إنقاذ الكتاب المقدس من الغرق».
ما نراه في هذا الاستشهاد، بالإضافة، هو فعل القراءة كنتيجة لكارثة، لغرق، لخسران الواقع. وهذا الفعل يُروى لأن ثمة حدثًا تراجيديًّا وقع والكتاب الناجي يساعد على إعادة تشييد العالم المقوّض (وهي فكرة لاقت دورانًا واسعًا في روايات الخيال العلمي).
إذن، ثمة أسطورتان كبيرتان في الرواية الحديثة: من يقرأ في جزيرة خالية ومن يعيش في مجتمع لم يعد يتمتع بالكتب.