حاجة الفيلسوف ليكون فنانًا الفلسفة سجينة الأكاديمية في الغرب
تعتمد الفلسفة، كأحد أبرز روافد العلوم الإنسانية، على مكانة راسخة في المؤسسات الأكاديمية بشكل خاص. على عكس الأدب الذي سيظل موجودًا طالما كان هناك من البشر من يقرأ ويكتب، وسيظل يمثّل متعة للملايين حتى لو اختفى من أي بحث أكاديمي. الروائيون، حتى أصحاب الكتابات الثقيلة على الفهم والغارقة في الرمزية مثل جويس وفولكنر، يكتبون للقرّاء بالأساس، وليس للنقّاد. وبالمثل، كانت كتابات علماء دين مثل رينهولد نيبور ومردخاي كابلان موجّهة لعامّة الناس، وليس لعلماء الدين الآخرين فقط. حتى إن غاب علم اللاهوت كموضوع جامعي، فكتاباتهم لن تتوقف. لكن البحث الأصيل في الفلسفة، مثل الفيزياء أو علم الأحياء، يقتصر الآن، وبشكل كامل تقريبًا، على أقسام الجامعة والمجلات والدراسات الأكاديمية. حتى المناسبات القليلة التي يغامر فيها الفلاسفة بالظهور في الفضاء العام، لا يفصحون، إلا نادرًا، بأكثر من الحديث عما يجري في الوسط الأكاديمي. يمكن لبعض منهم أن يقوم بذلك بشكل جيد جدًا، على غرار جيري فودور. لكن الفلسفة، بشكل عام، يكتبها الفلاسفة المحترفون ليقرأها نفر آخر من الفلاسفة المحترفين، فتصبح بالتالي رهينة الوسط الأكاديمي على عكس الأدب أو الدين أو الفنون الجميلة. وإذا استُبعد الفلاسفة من الجامعة غدًا، فستفقد الفلسفة مكانتها ولن تبقى كما هي عليه الآن.
بدأت الفلسفة تتراجع داخل الوسط الأكاديمي بالفعل. سأذكر الواقع الأميركي كمثال، لكنه واقع مشابه لوضع الفلسفة في العالم الناطق بالإنجليزية. بينما المسألة مختلفة في أوربا القارية، حيث اتخذت مهنة الفلسفة هناك مسارًا مختلفًا، ولم يتأثر الفلاسفة تمامًا بتراجع الهيبة والنفوذ الذي اكتسح العالم الناطق بالإنجليزية.
في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، بدأ العمل على دمج أقسام الفلسفة مع الدراسات الدينية وأقسام العلوم السياسية، أو التقليص منها، أو خفضها، أو إغلاقها نهائيًّا. إن غالبية الطلاب، إذا لم يدرسوا الفلسفة على الإطلاق، يقومون بذلك في دورة تمهيدية واحدة، كجزء من تعليمهم العام الإلزامي. يُستبدَل بأعضاء هيئة تدريس الفلسفة المتفرّغين بنظام الدوام الكامل، مدرسون ذوو رواتب زهيدة أو مدربون متعاقدون وقتيًّا لكل دورة، معتمدين في ذلك على فائض الفلاسفة المحترفين، وعلى الاستعانة بطلاب الدراسات العليا في الفلسفة. وبالنظر إلى الزيادة الكبيرة في هذا التخصّص في ضوء تضاؤل فرص التوظيف، يبدو أن حضور هؤلاء الطلاب كان فقط من أجل إعفاء أعضاء هيئة التدريس العليا من واجبات تدريس طلاب مبتدئين. ويبدو أن الأسماء اللامعة المتخصّصة في الفلسفة لم تتأثر إلى حد كبير بكل تلك التحوّلات؛ لأنها مطلوبة من الجامعات الكبرى وكليّات الفنون الخاصّة. الآن، على الأقل، هم في مأمن من الإعدام الذي يخضع له بقية الفلاسفة.
قد يجادل بعض بأن تراجع مكانة الفلسفة في الوسط الأكاديمي كان بسبب قوى كبرى أثّرت في جميع مجالات العلوم الإنسانية والليبرالية ولا علاقة للمشاكل الداخلية في الفلسفة بذلك. هذا صحيح على الأرجح. لكن هذه القوى تتجاوز قدرة الفلاسفة على مواجهتها، في حين أن أساليبنا في التدريس والبحث هي في صميم مسؤوليتنا. لقد عبّر المهتمّون بالمسألة عن انزعاجهم من عمل الأكاديميين في الواقع. قال دانييل دينيت مؤخرًا:
«قدر كبير من الفلسفة لا يستحق حقًّا مكانًا في هذا العالم»، وأضاف «لقد أصبحت مسرحية ذاتية، ذكيّة في فراغ لا يتعامل مع المشاكل الجوهرية». وتساءل جيري فودور: لماذا «لم يعد أي أحد يهتم بالفلسفة»، ولا يستطيع «زعزعة إحساسنا بأن شيئًا ما يجري بشكل خاطئ جدًّا».
في العام الماضي، نشرت سوزان هاك مقالة بعنوان: «السؤال الحقيقي: هل يمكن إنقاذ الفلسفة؟» لا أمل في ذلك. بطبيعة الحال، قد لا يتفق من يشعرون بالقلق على تخصّصنا بالإجماع على تحديد مكمن الخطأ -فودور ودينت متّفقان على بعض الأشياء التي تشغل بال سوزان هاك- لكن هناك الكثير من الأشياء المتعفّنة في وضع الفلسفة تثير مخاوف كل فيلسوف.
الإغراء الغريب للأكاديمية
لم يصل الوضع إلى هذا الشكل قط من قبل. لم تكن الفلسفة في عصور النهضة، والتنوير، والعصر الصناعي المبكّر مجرد نظام أكاديمي. لم يكن الفلاسفة عادة أكاديميين محترفين، ولم تكن الأعمال الفلسفية الرئيسية مكتوبة بالكامل، أو حتى بشكل رئيسي، للجمهور الأكاديمي. ميشيل دي مونتين كان مستشارًا بمصنع معجنات بوردو، وجون لوك كان طبيبًا شخصيًّا لدى إيرل شافتسبوري (الذي كان بدوره فيلسوفًا مشهورًا)؛ وكان جون ستيوارت ميل مديرًا استعماريًّا لشركة الهند الشرقية البريطانية.
وبصرف النظر عن تأثيرات العزلة الاجتماعية عندما يصبح نشاطك أكاديميًّا بحتًا، كما اقترح روبرت فرودمان وآدم بريجل منذ وقت ليس ببعيد في مقال لصحيفة نيويورك تايمز، بعنوان «عندما فقدت الفلسفة طريقها» عام (2016م)، فإن تراجع أهمية الفلسفة الاجتماعية والثقافية والسياسية كانت بسبب محاولاتها محاكاة العلوم الطبيعية. من أجل تقليد العلم، قسم الفلاسفة الأكاديميون الفلسفةَ إلى عشرات التخصّصات الفرعية… وبعيدًا من التوسّع في موضوعنا، فإن التخصّص المفرط قد حوّل أولئك الذين يعملون فيه ببساطة إلى مجرّد كتابات وكتّاب سيئين، وحوّل الموضوعات إلى أشياء لا أحد غيرهم يرغب في قراءتها.
ومن السهل معرفة سبب حدوث ذلك. بدأت مهنة الفلسفة عندما بدأت التكنولوجيا، والثورة الثانية في الفيزياء، والثورة في علم الأحياء، وتطوّر الطب الحديث، بتغيير المجتمع الغربي بالكامل. سرعان ما أصبحت العلوم تتمتع بسمعة أكبر من أي نشاط فكري آخر… وفي ضوء هذه التطوّرات، سيكون من المفاجئ لو لم تتأثر الفلسفة بالطريقة التي تأثرت بها. في الواقع، وجدت التخصّصات التي تقف على مسافة أبعد بكثير من العلوم منها للفلسفة نفسها تحت ضغط لمواكبة التحوّلات التي أحدثتها العلوم بطريقة ما. في مقالها «ضد التأويل» (1966م)، عزت سوزان سونتاج وقوع النقد الأدبي والفنّي تحت هيمنة نظريات التأويل إلى إعجاب في غير محلّه بالعلوم، وهو ما أدى إلى «تضخم (ونمو غير طبيعي) للذكاء» على حساب الحس الفنّي. هذه الطفرة حوّلت اهتمامنا بالفنون إلى مجرّد ممارسة في تراكم المعرفة.
الفلسفة.. الواجهات والحقائق
في الفلسفة، نجد أنفسنا في مواجهة المشهد الغريب لحاملي التقليد السقراطي وهم يتخيلون أنفسهم خبراء في موضوعات لا يمكن أن تكون لها خبرة. ماذا يعني، في النهاية، أن تكون خبيرًا في الخير، أو التبرير، أو الحقيقة؟ يمكن للمرء أن يدرس الكتابات المتعلّقة بالموضوعات المذكورة، بالطبع، ويمكن أن يسهم فيها بنفسه، ولكن ستظل هناك خلافات عميقة حتى في صلب كل موضوع، وليس فقط على هامش التخصّص.
لا يوجد في الفلسفة ما يقابل التأكيد والنفي في العلوم. بدلًا من ذلك، أن ترى شيئًا إلزاميًّا، أو مبررًا، أو حقيقيًّا، هو أن تأخذ وجهة نظر معينة تجاهه. وهناك العديد من وجهات النظر التي يمكن للمرء أن يقدمها، أو يرفضها، لأسباب كثيرة ومختلفة. ومع ذلك، لا يوجد ما يدعم وجهات النظر بحد ذاتها والأسباب للتمسّك بها… في الواقع، الفلسفة تكون في أفضل حالاتها عند طرح الأسئلة، وفي أسوأ حالاتها عندما تزعم الإجابة. هذا هو السبب في أن البحث الفلسفي الذي يستمر كثيرًا بعد الطرح الأولي للموضوع يصبح أقل أهمية في الواقع… في بعض الأحيان، قد تحيا الأسئلة الفلسفية بشكل مثمر، حتى بعد استنفادها، وذلك عندما يتطوّر تاريخ الفلسفة بشكل يمكّننا من دراستها في إطار جديد.
الفلسفة كفنٍّ
الفلسفة تزدهر في أساليبها الإبداعية والاستفزازية والحرجة، وعلى الأخص عندما تتعامل مع قضايا الشأن العام بطريقة يسهل على غير المتخصّصين فهمها. وهذا يعني أن أعظم الفضائل التي يمكن أن يزرعها الفيلسوف هي البصيرة والإبداع والتفصيل والتوسّع والعمق. بعض يتقن ذلك بالطريقة التي يتقن بها الفنان فنّه. وهذا في حد ذاته يميّز الفيلسوف عن العالِم، الذي يحظى بتقدير كامل تقريبًا لمساهمته في بناء صرح المعرفة البشرية.
لن تستعيد الفلسفة مكانها في الأكاديمية (وفي العالم الناطق بالإنجليزية) حتّى تعيد الالتزام بمهمتها على أفضل وجه. لا أعني بذلك أن العمل الفنّي التحليلي الذي يميّز الفعل الفلسفي اليوم لم يعد له مكانة. بل يجب أن يتضمّن جزءًا صغيرًا مما نقوم به، حتى يوفّر مساحة للعمل الذي كان يحظى، ذات يوم، باحترام كبير ولكن يكاد يكون من المستحيل القيام به اليوم ضمن حدود التخصّص.
في الواقع، أود أن أتوسّع أبعد من ذلك، وأن أشجّع الفلاسفة على تطوير مهاراتهم الأدبية بأكبر قدر ممكن، حتى يتمكّنوا من خلق قصص خيالية تنطوي على أهمية فلسفية على غرار روايات «المحاكمة» أو «1984م». حتى ضمن السياق الأكاديمي، لا يجب على الفلسفة أن تكتسب بُعد العلوم أو أن تجعل نشاطها شبيهًا بالبحث العلمي، بل يجب أن تحدّد لنفسها مكانة راسخة ضمن حقل الفنون والآداب. هنا يُقيَّم المتخصّصون فيها على أساس إنتاجهم الإبداعي أكثر من بحثهم الضيّق والمعقّد. وعندما ينخرط الفلاسفة في مشاريع فنية، يجب أن يكونوا أحرارًا في القيام بذلك على مساحة أوسع وبصيرة أشمل، وبأسلوب كبار بناة النظام مثل أفلاطون وأرسطو وكانط وهيغل.
لطالما سعت الفلسفة إلى التعامل مع ادعاءات كبيرة وجريئة، بتبعات أكبر وأكثر جرأة – نظرية الأشكال والمثل الأعلى التجاوزي وما شابه ذلك. إن قيمتها لا تكمن أبدًا في الوصول لتفسير كل شيء في الواقع، بل في حقيقة أن طموحها، ومداها، وجرأتها أثارت نقاشات وتساؤلات عبر كامل المشهد الفكري. هذا النوع من النشاط الفكري الطموح حافظ على الكثير من النقاش الفلسفي على مر القرون، وعزّز تلك المحادثات بإلهام وإثارة فقدتها بشدة اليوم. في الواقع، الفلاسفة اليوم لا يزالون يتعاملون مع الأنظمة التاريخية العظيمة (ويتجنبون إنتاج أخرى جديدة) لكن بطريقة خاطئة تمامًا. بدلًا من عدِّها تمارين تخيّلية إبداعية، هم يتعاملون معها على نحو مماثل للنظريات العلمية الكبيرة والمعقّدة، وكل جزء منها يحتاج إلى أن يتفرّغ من أجله جيش من الباحثين. هذا يفترض أن التساؤل الفلسفي في نهاية المطاف يتعلّق باكتساب المعرفة وليس تطوير وجهات النظر – وهو افتراض خاطئ بالأساس.
إن إعادة تصوّر مكانة فلسفة في الوسط الأكاديمي بالطرق التي أقترحها لن يؤدي فقط إلى إحياء صيغتها الأكاديمية، بل سيساعدها أيضًا في إعادة التأكيد على دورها المركزي في الثقافة الإنسانية. ومن الممكن للفلسفة أن تستعيد مركزها الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي حظيت به في معظم حِقَب التاريخ. وإن عودة المقال المألوف كشكل أساسي من أشكال الكتابة الفلسفية من شأنه أن يسمح للفلسفة بإعادة التفاعل مع النقاش العام. مرة أخرى، قد يضطلع الفلاسفة بدور المحرّضين والنقاد والمبدعين والمعلّقين والمتأملين والمؤلفين. ومرة أخرى، قد يكون الفلاسفة صانعي رأي ولديهم آذان البرلمانات ورؤساء الوزراء، فضلًا عن المواطن المتعلّم في الشارع. مرة أخرى، قد يسهم الفلاسفة في خلق روح العصر والتحدّث عنه والمحافظة عليه. وهذا أمر جيد، ليس للفلاسفة فقط، بل للجميع.
المصدر: مجلة Philosophy Now – فبراير 2019م.