الزعيم: بين شاعر التَّمرِ وشاعرِ التمرُّدِ
الزعيم في الفكر
معظم أصدقائي معجبون بالزعماء الأبطال الفرديين، وأنا لست كذلك، ولم أكن كذلك في يوم من الأيام، وأرى البطولة والعمل الفردي والانفراد بالقرار على مستوى العشيرة، أو الوطن، أو الأمة، كارثة؛ لأنّه يخلق حالمين بالسلطة المطلقة التي يرون مزاياها في (شبه الإله) الذي أمامهم، وما إن يمضي صاحبنا حتّى تتفتّت اللُّحمة، وتتكشف السَّوْآت، ويبدأ كل واحد من العصبة في السعي إلى الحلم المؤجل، وأما الرعية، فإنها ستتقسّم؛ لأنها لم تَعْتَدْ أن تكون متوحّدة، فهي مربوطة بالزعيم، وليست مربوطة بذاتها، وإن وحَّدَتْها اللغة، أو الجغرافيا، أو المصالح الآنية، فإنها ستستنطق ما لديها من مدّخرات ماضوية تبحث فيها عن شرعية ما تجعلها الأولى بالسيادة.
في اجتماعنا العربي اعتدنا البكاء، اعتدنا أن نبكي على الزعماء الذين مضوا للدرجة التي توهم الأجيال أن المستقبل والحاضر ليس فيهما من يعادل من مضى، ونبدأ برسم الأسطورة ونخفي أي سوءة، ونظهر مزايا معظمها لم يكن موجودًا في (شبه الإله)، وهكذا، نصادر المستقبل، ونعيده إلى الوراء، مستميتين في البحث في هذا الوراء على شرعيات خاصّة ربّما تفيد في يوم من الأيام إن نشبت حرب بين حارتين، أو عشيرتين، أو حزبين.
في القرآن العظيم: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144]. وفي هذه الآية الفصل بين الرسول والرسالة، بأسلوب الحصر المعروف بالعربية، فحصر محمدًا بكونه رسولًا، وأما الرسالة، فهي الإسلام الذي بلّغه محمد، وأوفى الأمانة، ولنا أن نأخذ من هذه الآية الدرس في عدم تقديس الأشخاص، وقد ساوى الله تعالى بين النبي والناس/ البشر: (وإنك لميّت وإنّهم لميتون)، فلا خلود إلا لله، ولنعد إلى ما عُرف بـحروب الردّة، فقد ارتدّت بعض القبائل التي لم يكن الإسلام قد تمكّن فيها، وبقيت على بنيتها القبلية/ القرابيّة، وعندما تُوفِّي الرسول رأوا في ذلك وفاة الزعيم، ولم يروا فيه وفاة نبي بقيت رسالته التي بلّغها، وهنا تحركت كوامن البنى القرابية، والحمية القبلية خوفًا من سيادة عشيرة أخرى على القبائل، أو عدم دفع الزكاة لقبيلة؛ ذلك أنهم كانوا يفهمون أن الزكاة تدفع للنبي/ الزعيم.
تزداد أهميّة هذه الآية الكريمة في أنّها نزلت على قلب محمّد، بالحق، في حياته، أي أنّه عَرَفَ، وعرّف بموضوع الفصل بين الرسول والرسالة، وما هو إلا مبلِّغ للرسالة، وقد بلّغها من خلال القرآن الكريم، الذي وردت فيه الآيات التي تفصل الرسالة عن الرسول، ويكون الرسول هو القدوة لأنّه يحمل الرسالة ليوصلها إلى الناس، ولكنّه ليس هو الرسالة، الرسالة الدين، والدين موجود في الآيات البينات/ القرآن الكريم، ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُون﴾ [البقرة: 99].
مشكلة الإرث العربي في الثقافة والسياسة حتى في الفكر، أنّه يقدّس الزعيم، في حياته، وبعد مماته، ويصادر المستقبل تمامًا، ويطلب من الأجيال مغادرة ذواتها، وسياقها التاريخي إلى تاريخ لم يروه، ولم يعيشوه، وأُمثِّل على ذلك بابن تيمية، فهو مقدّس عن فئة، ومدنس عند فئة، وفئة يرونه النموذج، وفئة يرونه المؤسس للتعصب والانغلاق، ولم نتعلّم أن نقرأه في سياقه، أي السياق الذي وجد فيه، السياق التاريخي الذي أملى عليه أن يستنفر كل طاقة في مواجهة المحتل، وله اجتهاده في هذا، ضمن سياقه، ولنا أن نغادره بعد أن نقرأه بوعي، وأن نجتهد لزماننا، كما اجتهد لزمانه، وأن نغادر منطقة الإرث المقدّس أيضًا، فالإرث فيه وعليه، وهو مفتاح الهوية، ولكنّه ليس الهوية؛ لأنّ الهويّة إن انغلقت غادر أصحابها التاريخ الذي يمضي دائمًا إلى الأمام، والمشكلة المستعصية في الثقافة العامّة هي الانقسام الحادّ بين من يقدّسون التاريخ بأشخاصه لا بعبره، وبين من يرون القطيعة معه ضرورة للانطلاق إلى المستقبل، وأما الذين يقدّسون التاريخ بأشخاصه، فدائمًا يبدؤون خطابهم بعبارة (أين نحن من أولئك؟) وهي العبارة التي تضعف الثقة بالنفس، وتصادر القوّة الممكنة المحتملة في الأجيال، وتجعل الأجيال التي تتمكّن منها هذه العبارة تمرض بمتلازمة النقص التاريخي، وعدم القدرة على الإنجاز ما دام (أولئك العظام) قد ماتوا، وأما أصحاب القطيعة مع التراث والإرث التاريخي، فإنّهم لم يقدّموا بديلًا لهذه القطيعة، ولم يقدّموا قراءة واعية تقرأ التاريخ في سياقه التاريخي، وتقرأ إملاءات التاريخ والسياق على سلوك الأفراد والجماعات في المنعطفات الحرجة، وتشكل التأثير المناسب في الزمن المناسب في تلك المنعطفات!
لا نريد من القراءات الحديثة أن تعيد تفسير القرآن مثلًا، ولا أن تنسف التاريخ، ولكننا نريد منها أن تقدّم النقد الذاتي، وأن تنقل المدرسة من السكن إلى ماضٍ أصبح حلمًا طوباويًّا لا يمكن الوصول إليه، ومستقبل يشكل الخطر على هذا الماضي ويريد أن ينسفه، وهذا يكاد يكون موجودًا في كل مدرسة، ولا أريد أن أزيد فأقول في كلّ بيت، وما كلّ الدراسات الواعية التي أنتجها المفكرون العرب في القرن العشرين إلا زينة للعقول غير المؤثرة في الواقع اليومي، الواقع المعيش، تتوزّعها النخب وتقرؤها في الملتقيات التي لا يحضرها إلا هذه النخبة، ولسنا بحاجة إلى استمارة نوزعها على الناس لنقرأ التغذية الراجعة لكل الدراسات والمنتجات الفكرية المتنورة في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، فالاستمارات موزّعة، ونتائجها موجودة من خلال قنوات التواصل الاجتماعي، ولأي باحث أن ينظر في متابعي مفكِّر ما، ومتابعي مهرِّج يدغدغ عواطف الجماهير بنقد السياسات أو بتخديرهم بالشعارات الخدّاعة، والنتيجة كارثية إذًا، ولا أريد أن أسمّي هنا، ولكنّني يمكن أن أنتقد النخبة المفكرة نفسها التي لم تجسّر بين منجاة الفكر الواعي ورغائب الجمهور الكسول الذي يريد أن يقدّم إليه كل شيء على طبق من ذهب أو فضّة.
هل أقول: إنّ بعض الخارجين من الصندوق اشتهروا ليس لأنهم خرجوا من الصندوق، وإنما لأنهم ملعونون؛ تأتي فئة فتلعنهم فيقوم الخلق بالبحث في أسباب اللعن، ويصيب العامّة الهوس في اللعن، ويصيب الخاصّة الانجرار في التحيّز، لعنًا أو ولعًا، وهكذا… وتبتعد المحاجّة التي نحن في أمسّ الحاجة إليها، المحاجّة التي تأسست في بيت الحكمة أو اكتملت فيه، وكوّنت هذا الإرث العظيم من اختلاف الرؤى في القضية الواحدة، أو الموضوع الواحد!
أين الشعر من هذا؟
أريد أن أمثّل بأرقى الفنون التي تحفر في الوجدان العربي، وأقول: نحن أمّة شكّلها الشعر، شكّل فهمها للحياة، وشكّل فهمها لذاتها، شكّله شعراء شعبيون سطحيون، خدعونا بالموسيقا، ودهشة الكلمة، وزرعوا فينا ثقافة الأبوية البطريركية، والزعيم الملهم، وقائد الأمة، وأملها الوحيد، ورومانسية الشعب في أحسن حالات الشعر عندما رأى بصيصًا من نور على يد السيّاب ونازك والبياتي!
ليت الشعر ظلّ بعيدًا من السياسة والحياة العامة، وليت الشاعر لم يصبح حافزًا للجماهير، كما كان ذا خديعة، ولا أقول: إن النضال خديعة، ولكن أقول: إن الشعر خديعة النضال، ومصيبته، عندما يحوّل جدل الماركسية إلى قصيدة سطحية، وعندما يتحوّل الإسلام العظيم إلى قصيدة حالمة أو قصيدة تبكي على ماضٍ ما، ماضٍ نقرؤه من خلال أبطال فرديين خارجين من رحم الأساطير، وتوابيت الآلهة.
ليت الشعر لم يندغم في الحياة العامة ويقوم بدور المهرّج، ونرى الشاعر الذي ينام على الوسائد الوثيرة، والأرائك المريحة، يطلب من الجماهير أن تثور على الظلم لكي يقطف هو وقادته ومن يدفع له ثمر هذه الثورة التي تسحق الناس على طريق الوهم، ورغبات النخبة المتعجرفة، أو الزعيم الملهم. الشعر خُلق لكي يصنع الحياة ويجمّلها، لا لكي يحطمها، ويزوّرها بتزوير الرأي العام، وإبعاده من الواقعية، أو من التفكير المدني الذي لم تمرّ به هذه الأمة دون الأمم التي خلقها الله؛ فهي وإن تطاولت في البنيان لم تتخلَّ عن (الشق) و(الرواق) و(المحرم) الشق للضيف والرواق للخدم والمحرم للنساء، والنظر إلى الحياة من خلال الإيمان القدري بزعامات صنعها الشعر المزيف، والأقلام الرخيصة، أو الجاهلة في أحسن حالاتها.
والحديث هنا عن ذلك الشعر الذي اندغم في قضايا الأمة، ثم عاد وتراجع إلى الداخل، إلى الذات، وهذا لا يمثل كل الشعر العربي، ولا يستطيع الدارس الواقعي أن يقول: إن الشعر العربي كذلك، ويمكن أن نتساءل: ما موقف الشعر العربي من القضيّة العربية، قضيّة الإنسان العربي؟ وأقول: لدينا مواقف وليس موقف واحد: شعراء الزّفة: وهم من يصفّق للقادم، ويشتم السابق، بلا رؤية، وهؤلاء عددًا ونصيبًا إعلاميًّا كُثُر، وهؤلاء يكتبون حسب المطلوب، وأقلامهم سيّالة في الخوض في كل وادٍ، يقولون ما لا يفعلون.
تزوير الوعي
الشعراء: وهؤلاء لم يحدث أي تغيير في مواقفهم من القضية العامة؛ لأنهم غالبًا ما استندوا إلى رؤية فكرية لا تتبدّل في يوم وليلة، ولديهم فهم متكامل في الحياة، لا يفصلون قضية الوطن عن قضية طفل بات بلا مأوى، أو قضية حب فاشلة. الشعراء الجهلة أو (طيبو النية) وهؤلاء أيضًا مندغمون في قضيّة الأمة، لكن بفهمهم الخاص، وأحلامهم الطوباوية الخالية من الحس الواقعي، وهؤلاء يسهمون في تزوير الوعي ويقودونه إلى الفصام عندما يصطدم بالواقع، وهم كثر كثر، والواقع عندهم هو السياسة، والعمل السياسي.
شعراء النرجسيّات الفردية: وهؤلاء همّهم البحث عن الشهرة، والمنافع الذاتية، وإذا كان بعضهم ذا تاريخ نضالي، فقد أصبح الآن (بعد أن قاد الجماهير إلى حظيرة الزعيم المُؤَلَّه) أصبح الآن إنسانًا رقيقًا باحثًا في المحافل الثقافية عن ذاته، ومن يقرأ شعرهم يجد نفسه في قالب المتنبي، في فصامه الغريب، بين افتخاره بنفسه حد المرض، وتصغير هذه النفس أمام الممدوح حد الفضيحة، وإن كنت أرى فيه غير ذلك، فإنّ ما يناولنا إياه النص مباشرة هو كذلك. وأما شعراء الحداثة، فقد كانوا كارثة الشعر التي أخرجته من إمكان التأثير ووضعته في كواليس النخبة التي تدّعي أنّها تفهمه، وهي لم تفهمه، ولم تقدّم للناس ما يساعد على فهمه، والدليل القريب هذه الحرب المشتعلة بين قصيدة النثر والقصيدة الموزونة، والحرب المشتعلة بين كتّاب قصيدة النثر؛ بين من رأى فيها مطيّة لا تحتاج إلى موهبة، وبين من كتبها لأنّه يستطيع بها أن يحمّلها ما لم تستطع القصيدة الموزونة بقوانينها الصارمة حمله، وهذه الحرب تدور هناك، في وادٍ بعيد، لا يعرفه إلا الذين وصلوا إليه، وأما الناس، فلا ناقة لهم في هذه الحرب ولا جمل!
إذًا ليس هناك موقف واحد نُحاكِم الشعر به، وإنما مواقف تبعًا للشاعر، ولو جاء دارس غير مندغم في حياتنا الحالية وشروطها الدعائية والترويجية، وتعامل مع الشعر العربي تعاملًا إحصائيًّا لوجد أن الشعر (المبتلي) بالأمة، ولم يتحرر من بلواه يشكّل أضعافًا مضاعفة من شعر النخبة التي تتبوّأ الصدارة في الإعلام، والفضاء، هذه النخبة المزيّفة للوعي، وللحقيقة!
كل هذه الحقائق عن الشعر تقودنا إلى التساؤل: من السائد في فكرنا وفهمنا للحياة؟ شاعر التمر أم شاعر التمرّد؟ شاعر التمر يعكف على إلهه المصنوع من تمر، ويلتهمه إن جاع، وشاعر التمرّد يطارده الزعيم، وتطارده القبيلة لأنه خرج على الزعيم، ويبقى الزعيم، المشكلة الأساسيّة في حياتنا الفكرية العربية، حتى في الجدل بين المفكرين، جدل الزعماء لا جدل المفكرين، ولا نجد للمحاجّة فيه إلا القليل من المساحة، وقد لقيت نفرًا غير قليل منهم، فلم أجد بينهم إلا التزاحم على (تزعّم) المشهد الفكري، هذا التزاحم الذي خسرنا به الجدل الذي يفضي إلى تمكين العقل العربي، وتقديم الفكر المتنوّر للأجيال.