قائمة المرضعات
ليس لأن الأعراس مناسبة اجتماعية أكرهها بطبيعة الحال، برغم أن هذا وحده يعد سببًا كافيًا، لكن لأن أغلب السيدات في هذه المناسبات، حين يلتقينني يقلن هذه الجملة المكررة: «أنا أمك… ترى رضّعتك!».
سيدات من عائلتي وبعضهن من خارجها، ينظرن إليّ هن وأثداؤهن التي تمنّ عليّ بحليبها، وهي تطل باستعلاء من فتحات الفساتين، بحثًا عن بر فمي العاق.
حضرتُ البارحة عرسًا تجنبت الحشود فيه كالعادة. جلست على طاولة تحت الدرج الصاعد إلى الشرفة، قريبة من مخرج الصالة للهروب في أسرع وقت ممكن. صحيح أن العروسين سيزفان نزولًا من الدرج الذي أستجير به، ولكن في تلك الساعة المتأخرة ستكون كشافات الإنارة موجهة عليهما، وما تحت الدرج سيبقى مظلمًا كما أحب.
جلستْ على الطاولة نفسها سيدة وابنتها، التي ظننتها في مثل عمري، فأنا لا أحسن تقدير أعمار الناس عامة. تشبهني السيدة بشكل لافت ولكن ليس الآن، ربما بعد عشرين سنة. ترتدي فستانًا كستنائيًّا مثلي، لنصير ونحن متجاورتين صامتتين كراهبين بوذيين لا ينقصنا سوى حلاقة رأسينا. تبرز من عنقها رزمة من العروق كلما تحدثت تحركت تلك الرزمة، وتحرك معها سلسالها الضيق من نوع «شوكر». قلبها مرسوم في عينيها كحال علامة «الإيموجي» الأصفر في هواتفنا، إذا ما ابتسمت غاصت العينان إلى الداخل، وصار مكانهما قلبان أو هكذا شعرت… نعم غالبًا سأكون هكذا مع عروق أكثر فهي بارزة منذ الآن على أية حال. اختلستُ النظر مرتين تجاه صدرها لأتأكد إن كان قد تعرّف علي، والحقيقة أن ألفة سريعة تكونت بيننا، أقصد أنا والسيدة والنهدان حتى مشدّها المحيط بوسطها الذي تبرز حافاته من تحت حرير الفستان.
لم تشرب القهوة أو الشاي هي أيضًا، وحين دارت صحون المباشرة لم تمد يدها لتلتقط حبة من التمر أو قطعة شوكولا، فخمنت أنها مثلي لا تستسيغ المذاق الحلو. تجرأت وسألتها:
– تعرفينني؟
قالت بصوت انطلق كسهم:
– فاطمة، رحمة الله على أمك. كيف ما أعرفك؟!
بادرتها بسؤالي التالي من فوري، فأنا وقحة إذا ما اقتضت الحاجة، وأحيانًا حتى بدون الحاجة.
– رضعتيني أكيد. صح؟
خفقت عضلة في فكها ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة بطيئة:
– لا.
لا أعرف لماذا شعرت بإهانة بعد هذا الجواب السريع القاطع! وقلت بتباه مبالغ فيه:
– نصف القاعة وبدون أن أسألهن أتين إليّ ليقلن: إنهن أرضعنني، وأنت تقولين: «لا»! هكذا ببساطة وبدون محاولة تذكر حتى!
– لم أرضعك.
أرادت ابنتها أن تصحح شيئًا، فوضعت الأم إصبعها على شفتيها علامة أن تصمت. صرت أنا وهي وابنتها كدائرة كهربائية، باستطاعتنا أن ننير القاعة وحدنا من شدة ارتفاع حدة التوتر.
قلت لنفسي: لا عليك، سيسوء الوضع كثيرًا بيننا قبل أن يتحسن، هذه طبيعة علاقاتي مع الآخرين عامة.
حين حان موعد زفة العروسين التهيت بهاتفي، فمن يرغب في رؤية شابين يافعين يذهبان إلى قفص دون أن يطلق لهما نذير الخطر على الأقل! سبقتني السيدة وقامت بتصفح هاتفها بوجه خالٍ من الرضا كحال وجهي طوال الوقت، طال الوقت حتى صار لزجًا، فالعروس تمشي ببطء شديد ولا حيلة للعريس إلا مجاراة اعتزازها بنفسها. تلقت السيدة مكالمة من ولدها فزجرته حول شيء يخص المذاكرة، وتلقيت اتصالًا من ولدي فطار إبهامي فوق شاشة هاتفي متعجلًا إنهاء المكالمة قبل أن تبتدئ، فتأكدت أنها مثلي قليلة الحنان.
حين انتهت مراسم الرقص مع العروسين، فُتحت صالة الطعام ونودي للعشاء. تسرب الجميع من القاعة ومن بينهم ابنتها التي شاركتنا الطاولة، إلا أنا والأم الجاحدة.
– قومي للعشاء يا خالة!
قلت لها هذا مشددة على «خالة» لعلها تغتاظ وتعترف بأمومتها، وأظن أن هذا عنى لها شيئًا، فقد تهدل وجهها بحزن وهي تنظر إلي:
– لا… لا أحب العشاء المتأخر، معدتي لم تعتد عليه.
بسطتُ يدي على الطاولة، ووقفتُ غاضبة كما يقف خاسر، للتو فَقَدَ ماله ورهانه والصحبة الجيدة حول
طاولة اللعب.
– كل هذا وتقولين لم أرضعك!!
ملامحها باردة وابتسامتها كذلك، مستفزة مثلي تمامًا الآن وبعد عشرين سنة وإلى سنوات لا حصر لها، سأبقى هكذا باردة الأعصاب.
غادرتها دون استئذانها وبدون تحية وداع، وتوجهت لقسم استلام العباءات. في الطريق التقيت سيدة لها بنية هزيلة، في أسفل عنقها كهف مظلم، تخففتْ كثيرًا من الثياب حتى أن خيالي المراوغ آثر رؤيتها كإنسان بدائي زين نفسه بالعظام. كانت تدفع بلسانها حبة قرنفل لجهة معتمة من فمها وهي تقترب لتقول لي:
– يا لطيف! يا لطف الله! سلمي عليّ يا بنت! تدرين أنك بنتي؟ ترى رضعتك مع ولدي خالد!
وعلى الرغم من أنها ابتسمت لتثبت لي أن ألطاف الله التي كانت تطلبها، إنما هي نابعة من نية طيبة، رددتُ عليها بكراهية لها ولكل الأثداء المتهورة، التي تمارس دور الديّانة وهي تلاحقني طوال الليل:
– لا مذاق لحليبك، فمي لا يتذكر أحدًا للأسف.
وصلت خالتي وهي تذم برودة العشاء وقلّته، وحين لم تجد مني تجاوبًا مع نميمتها، قالت متسائلة:
– لمحتك تجلسين مع أمك زينة وبنتها!
– أمي؟!
– طبعًا أمك. كانت جارتنا وأرضعتك أكثر من سنة، بنتها أسماء رحمها الله كانت أكبر منك بنحو الشهر أو الشهرين، وتوفيت في حادث سيارة قبل سنتين!
تركتها تصحح الوقت فتضيف سنة وتنقص أخرى. وتوجهت بنظري للمطربة التي كانت تختم السهرة بشكر كل من أهل العروس والعريس والحضور، بينما مساعدتها توزع بطاقات مستطيلة عليها اسم الفرقة ورقم التواصل، ثم أضافت أنها ستختم الحفل بأغنية قريبة لقلبها، بالرغم من أنها قد لا تكون مناسبة لحفل زفاف. غنت بصوت يشبه العناق الدافئ:
«مرتني الدنيا بتسأل عن خبر… ما به جديد… عشاق ليل تفارقوا صاروا بعيد».
نظرت للطاولة تحت الدرج، كانت السيدة زينة تميل برأسها يمينًا ويسارًا مع الأغنية، وتفتح عينيها على وسعيهما لئلا تفسد الدمعة كحل العين حين تعبر الجفن، وشفتاها مزمومتان كأنما توشك أن تقبل أحدًا.
كانت خالتي تعيد سؤالًا لم أسمعه مع صوت الأورغ الكهربائي الذي يعلو فوق طبقة صوت المطربة:
– دار بينكما كلام؟
ابتسمت لها وأنا ألف الطرحة حول رأسي، وأفكر في السيدة زينة التي تهرب من التجمعات، وتظن مثلي أن الناس يبقون أحياء حين نتجنب إظهار مشاعرنا نحوهم أو صلتَنا بهم… عادة غريبة تبرأ الروح بها من مخاوفها ولو بكتلة ضباب تستتر خلفها مؤقتًا. هي خدعة لم أكن أعرف مصدرها لكنني الآن صرت أعرف.
ألقيت نظرة أخيرة على أمي زينة. كانت عزلاء في عالم الأحلام، تردد وهي شبه غائبة عن وعيها: «لا تاقف الدنيا وتسأل عن خبر».
أنا أيضًا أخلق قصصًا في البال كلما تماهيت مع أغنية، فللخيال مع الأغنيات مفعول مطهّر من الخيبات. أجبتُ خالتي التي أسدلت النقاب فوق وجهها إيذانًا بمغادرة القاعة:
– دار بيننا شجار بسيط، لا… هو مجرد جدال. يعني مثل أي جدال يدور بين أم وابنتها. هذا هو كل شيء.