قاصة سعودية بدم عراقي بلقيس الملحم في «هل تشتري ثيابي؟»
فوجئنا، ونحن نقرأ مجموعة السعودية بلقيس الملحم القصصية «هل تشتري ثيابي» لا بانبثاقها في موضوعاتها من العراق فحسب، بل بما فيها، موضوعًا ومعالجةً وفنًّا، من القصة العراقية ولا سيما في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. فكما هي قصص مغمسة بماء دجلة والفرات الذي يأتي ذكره في مقدمة الرؤيا شبه الشعرية، التي تتصدر المجموعة، ومعجونة بمأساة العراق وتراجيديته بصدق غريب وهو يأتي من إنسان غير عراقي. القاصَّة تتسلل، بل تقتحم، من خلال قصصها، كل محلات بغداد، بل كل مناطق العراق، وشوارعه وأزِقّته وبيوته لتقدم الإنسان العراقي في مأساته اليومية المعروفة التي لا تكاد تنتهي. وخلال ذلك هي ترجع إلى عمق العراق القديم الذي يحضر صريحًا ومهيمنًا في بعض القصص، وتترجّع أصداء حضارته ومآسيه في قصص أخرى. والجميل الذي يُحسب للقاصة أن الكثير من قصصها، وبالرغم من هذا الحضور المأساوي والدموي والعنيف، للعراق والبيئة العراقية والإنسان العراقي، كثيرًا ما تشعرك بدفء جميل مقرون بحرارة الوجع لا حلاوة الدفء، ومسرودًا بشجن لذيذ فنيًّا ومؤلم مضمونيًّا. قاصة تشعرك بذلك، حتى مع ما قد نأخذه عليها من بعض التفاصيل التي لا تتناسب مع القصة القصيرة.
نقول هذا بالرغم من أن انطلاق المجموعة كاملة من نية مسبقة للتعبير (فقط) عن بلد معين أو مجتمع معين، قادها إلى أن تتكلّف توزيع القصص، موضوعاتٍ وأحداثًا وبيئةً، على جميع العراق بمحافظاته وبلداته وأناسه وأديانه وقومياته وطوائفه ومحلات عاصمته، بل حتى أحزابه ومجموعاته السياسية، وهي تدهشنا من معرفتها غير العادية لتفصيلة العراق حياةً وأناسًا وأحداثًا وتأريخًا، ولخفايا كل شيء، ليصل الأمر إلى العادات والتقاليد والعلاقات والطبيعة. وهي في ذلك تستحضر وتتمثل بعض ما يصعب على غير العراقي، وفي زمن أو أزمان بعينها، أن يعرفها أو يحسها، فإذا بقاصة سعودية تفعل هذا، كما مع حالات السجن التي لا تعرف سببها وإلى أين تمضي ومتى تنتهي وماذا يحدث للسجناء فيها، والاختفاء أو الإخفاء الذي كان يقع في زمن النظام الدكتاتوري السابق وتواصل في ظل النظام (الديمقراطي) الحالي، وتفصيليات القتل والخطف والعنف. من هذا التكلف من جهة، وهذه المعرفة غير العادية من جهة أخرى، جاء الكثير من قصصها صورًا أكثر منه قصصًا، مثل «الذكرى الحزينة»، التي لا تقدم سردًا حدثيًّا بقدر ما تقدم صورًا من واقع العراق في ظل الاحتلال والعنف والقتل.
***
وكأنها، وتعبيرًا عن ذلك كله من حيث عمدت أم لم تَعمِد، كثيرًا ما تقدم القاصة البيت العراقي والعائلة العراقية بكل أفرادها وسط معمعة الأزمة والفوضى والعنف والإرهاب والدم والموت، كما تفعل في قصة «أعلى الساقين» التي تقدم فيها العائلة في ظل الاحتلال الأميركي وما رافقه من فوضى وإرهاب وعنف وقتل، وما جابهه من مقاومة، وضمن ذلك وجود الابن في سجن أبو غريب، وفساد الأميركان وما فعلوه بالعراق والعراقيين، والمقاومة. أما في قصة «جحيم رائب»، فتعيش (هدى) مأساة موت أخيها (وجيه) في ظل أجواء الأمن المفقود، حيث مُنع التجوال مثلًا، بينما أمها تشكو الحمى الشديدة، وأبوها يخرج ليُلقي
خُطبة -ربما خطبة الجمعة- في الجامع رغم حظر التجوال. وهكذا أمر قصة «هل تشتري ثيابي؟»، التي تجمع فيها ما بين عراق الحاضر والعراق القديم، وهي تنطلق أيضًا من الوضع المأساوي لعراق الدم والقتل وفقدان الأمن، وكأنها تقوم بما يشبه الموازنة الضمنية بينهما، وهو ما يتعزّز في قصص أخرى، مثل «بكاء الحدائق» التي لا تغادر الحياة العراقية والبغدادية المعاصرة بسوداويتها، وتستحضر الماضي القديم وتأريخ بغداد، ويتعزز أكثر في قصة «شهوة بين ظهيرتين» التي تذهب بنا إلى العراق القديم، ومن هناك تأتي البطلة الراوية إلى عراق الموت الحديث:
«كانت تنتحب وهي تهاتفه وبصوت متقطع يصله كلامها: افعلْ شيئًا يا مجيد. أتوسّل إليك، هل جاء زمان تبتلع الأرض من يمشي عليها؟»- المجموعة، ص55.
وتعزيزًا لدور هذا البعد، نعني استحضار العراق القديم في بعض القصص، تذهب قصص أخرى إلى بعد آخر، أو جزئية أخرى تتمثل في المكوّنات الدينية غير الإسلامية، كما في «خرائط» التي هي عن يهود العراق وما تعرّضوا له في الخمسينيات، وما تعرض له المتبقون القلائل منهم بعد السقوط، وقصة «خذ العذراء»، و«الصليب الأبيض» وهما عن المسيحيين.
***
إذا ما جاءت قصص المجموعة كاملةً كئيبة الموضوعات، فإن وراء ذلك، أولًا، البيئة التي استقت منها القاصة قصصها والحوادث والموضوعات التي قامت عليها، نعني بيئة العراق وحروبه ومآسيه غير العادية، وثانيًا انطلاق القاصة، مسبقًا على ما يبدو، من ارتباط شخصي ذاتي بالعراق والهمّ العراقي وانغلاقها عليه، وثالثًا انشغالها، في ضوء ذلك كله، بالموضوع، أكثر منها بالفن، وهو الأمر الذي جعل قصصها تغرق موضوعًا وفنًّا بالسوداوية. المشكلة أن ذلك كله، ولا سيما انشغالها به بوصفه همّها الوحيد، جعلها تُكرّر التجربة، إلى درجة قد تجعلنا نرى من أول وهلة، وقد نبدو غير منصفين هنا، أن خمسًا أو ستًّا أو سبعًا من قصص المجموعة، التي ضمّت 38 قصة، كانت تكفي، ما دامت القاصة قد حبست نفسها في تجارب هي، في الإطار العام، تكاد تكون تجربة واحدة مكررة الأحداث والموضوعات. شيء واحد خرج عن هذا التكرار، ولكنه ينبع من ادّعائنا نفسه بل يؤكده، وهو توزع القصص على المتميزة، والمتواضعة، والضعيفة. فما أضافت شيئًا للمجموعة قصص مثل «آخر ليلة في بغداد»، و«أكلت الرز باردًا» و«سمكة تدير حانة» و«المدينة الفاضلة»، و«ميرا»، و«خذ الصليب».
وفي العودة إلى موضوعة العراق المركزية، تخوض قصص المجموعة في الدم العراقي، بمختلف أشكال إراقته بما في ذلك الجنون الذي اقتحم كل شيء. هنا نعتقد أن القاصة بالغت، ولكن لا في تضخيم هذا الجنون وما قاد إليه من جريان دم، كما فعلت قصص مثل: «المفرمة»، و«الصفصاف حين يبتسم»، لأن هذا الجريان موجود فعلًا، ولكن في تفصيلية تناوله، وقد فات القاصة أن التعبير فنيًّا عن مأساة لا يقوم على الكم بل على الكيف، بتعبير آخر لا على كثرة أحداث هذه المأساة وفيضان دمائها وآلاف قتلاها، بل على كيفية التعبير عنها، حتى إن كان من خلال جزئية صغيرة منها. فتمثّل حادثة مقتل شخص واحد فنيًّا، مثلًا، قد يكون أصدق وأنجح بكثير من تصوير ألف قتيل. القاصة، بدلًا من ذلك، استسلمت لتفصيلية ما يحدث في العراق، حينما عادت لا ترى العراقي إلا مقتولًا أو مجروحًا أو مخطوفًا أو فاقدًا لقريب، بحيث تفقد إحدى الشخصيات، في إحدى القصص، حياتها لا في عراق الرعب والموت والقتل والعنف، بل في حادث تدافع الحجاج تحت جسر الجمرات بمكة، وكأن القاصة ما عادت ترى من وجود أي عراقي في مكان ما أو مروره به إلا ليؤدي ذلك إلى مقتله أو خطفه، كما فعلت في هذه القصة، بحيث يموت الأب ثم الأم فالعم وربما ابن العم… والسلسلة لا تنتهي. ولعل النهاية المباشرة لقصة «الصفصاف حين يبتسم»، مثلًا، تعبّر عن ذلك:
«الآن، القصابون
يقفون على مفترق الطرقات
«بسواطيرهم وفؤوسهم الدموية!»-المجموعة، ص99.
والغريب الطريف، وكأني بالقاصة لم تنتبه إليه وهي تقوم به وتقدمه أنها، حين خرجت، في بعض القصص، عن تفصيلية هذا العنف العارم، ولكن من دون مغادرته هو ذاته، قدمت بعض أجمل قصصها، مثل «اجتياح» التي عبّرت عن المأساة بشجن لذيذ، بدلًا من تلك التفصيلة والغرق بالدم، وقصة «حكاية اسمها بدور»، التي ربما تكون إحدى أجمل القصص، أسلوبًا وتردّدَ شجنٍ وتعبيرًا عما عبّرت عنه، ومعها معظم قصص المجموعة، من أصداء الواقع العراقي في ظل الكوارث والحروب والعنف والمعاناة، بينما جاءت «جسور» مكتوبة بأسلوب جميل تقترب فيه من القصيدة، ولكن مع ذات الشجن وأحاسيس الإنسان في ظل الموت.
واضح أن القاصة تعتمد، في عموم قصصها، الأساليب والتقنيات الحديثة للقصة القصيرة، ولكن مع بعض خصوصيات، كما تتمثل في قصة «المفرمة»، مثلًا، الحداثوية ولكن من دون تجاوز المقومات الأساسية للقصة القصيرة كما يفعل بعض من يعتمدون ما يرونها حداثية حين يفهمون الحداثة والتجريب على أنه ثورة وتجاوز لكل شيء بفوضى لا تصل بهم في كثير من الأحيان إلى فن قصصي حقيقي.