الذات والعالم… نحوَ تقعيد لكتابة اليوميات
يشكل كتاب الناقد المغربي صدوق نور الدين، الذات والعالم: دراسة في يوميات… خطوة جديدة لمقاربة هذا الجنس من الكتابة التي ظلت مغيبة في المشهد الأدبي العربي؛ إذ يرى أن القصد من تأليف هذا الكتاب هو التأسيس لوعي نظري بكتابة اليوميات، رغم قلة الإنتاج في هذا الجنس، وهو ما جعله يكرس جهده للأدب المغربي الحديث، علمًا أن الأجناس الأدبية الأخرى قد حظيت باهتمام بالغ بسبب تداولها. على أن قلة هذا الجنس أو غيابه في الثقافة العربية يؤول إلى عوامل سوسيوثقافية، ودينية، ولغوية، فالمجتمع العربي لا يزال محكومًا بأعراف وتقاليد تحدّ من البوح: «ولعل من أبرز المفارقات التي تفرض نفسها على التحليل، كون العربي يولي المحرم كصورةٍ أهمية بالغة، ويرفضه مكتوبا جاهزًا للقراءة، وهو ما يحذو دوائر الدين والرقابة إلى المنع وعلى المتابعة».
يورد الباحث تصورات باحثين من أمثال بياتريس ديديه، وجورج ماي، وبيير باشي، وفليب لوجون. فإذا كان التصور النظري عند ديديه يجد مرتكزه في مكون الزمن الذي يفصل بين الكتابة اليومياتية والسيرة الذاتية والروائية، وكذا الكتابة الشذرية، وعلى سمات بنائية هي المرحلية، واليومياتية، والاستمرارية، والتقدم، فإن جورج ماي وهو يستلهم هذه المقومات، يضيف إلى أن الاستمرارية تتسم بالانقطاع. وقد تكون اليوميات مادة تستثمر في كتابة السيرة الذاتية أو الروائية، كما يورد ماي جملة من الخصائص: الدقة، والمطابقة، وما يتعلق بالمعنى. أما بيار باشي فيركز على الجانب الروحي لكتابة اليوميات. ومن هنا يرى أن اليوميات «قصة خارج الزمن التاريخي»، ويرى لوجون أن اليوميات تتسم بخاصية «المطابقة بين المعنى المراد إيصاله والشخصية المتحدث عنها». فوظيفتها هي تشكيل الذات وتحولها وصراعها ولحظة تأكيد ذاتيتها. ومن ثمة يعرف أدب اليوميات «بكونه التمثيل عن سرد أتوبيوغرافي»، يقترن بالحاضر ويظهر على شكل كتابة شذرية متسمة ببلاغة الاختصار والاختزال، فيما يرتبط المعنى بالحقيقة والصدق. ينزع التصور الإنجليزي إلى تصور آخر أكثر عمقًا. تركز ميري ورنوك على فكرة «استكشاف الذات»، ذلك أن إدراك الحقيقة يكون عبر الذاكرة؛ إذ إن المواظبة مسألة مركزية في الكتابة المرتبطة بالحياة وذلك يرتبط بقضية التلقي وفق شكلين: شكل يلاقي الاهتمام، وشكل يواجه الملل. تشير ورنوك أيضًا إلى أن تنوع صيغ اليوميات وتداخلها مع السيرة الذاتية بسبب الزمن من حيث هو مشترك بينهما.
يعزز الباحث تصورات هؤلاء النقاد بنماذج من الأدب الغربي. فإذا كان دالي يكشف عن السري، فإن أناييس نن تركز في يومياتها على الجانب النفسي، فيما تأتي يوميات سونتاغ مشوبة بتدخل المحرر، ابنها، الذي مارس عليها الرقابة، فجاءت كتابتها شذرية. ومن ثمة يرى الباحث أن يومياتها «شكلت بديلًا عن السيرة الذاتية التي لم تكتب». نجد هذا التدخل أيضًا في يوميات كافكا الذي مارسه صديقه مارك برود، وطال أيضًا نصوص كافكا الإبداعية. ومع ذلك فكافكا ينحو المنحى نفسه في يومياته.
يقتصر التطبيق على أربعة نماذج لقلة الكتابات في جنس اليوميات. والقصد الأساسي منه استجلاء ما تتفرد به اليوميات، والنظر إلى المشترك فيما يخص الكتابة وإنتاج المعنى، و«تقديم صورة تقريبية بهدف التقعيد لهذا الجنس». ولئن كانت كتابة اليوميات تندرج في سياق العملية الإبداعية، فإن تأويلاتها متعددة وليست ذات معنى أحادي الجانب. يرى الباحث أن ما وسم يوميات عبدالله العروي هو التماسك والانسجام، والتداخل والتقاطع بين أكثر من صورة وشخصية، كما أنها انفتحت على التاريخي، والسياسي، والثقافي. ويخلص إلى أن يوميات العروي تتميز بتكثيف لغتها واختصارها، حيث وازت بين السردي والتقريري والوصفي، وكان الرهان على ضمير المتكلم أو الغائب، كما أن المقارنة كانت بين الصور والمشاهد، فيما كان اللجوء إلى التداخل في حالات ومواقف. «ومن ثم فهذه الرباعية التي تقول الذات، [و] الذاكرة والتاريخ، وثيقة جامعة شاملة عن مرحلة دالة في الحياة العربية ككل، وهي القيمة التي تستدعي تجديد قراءتها والتفاعل مع مضامينها».
في «الذات بين التمرئي والتماهي في جان جنيه في طنجة» يعتبر الباحث أن هذا هو الجزء الذي يفي جنس اليوميات قواعدها؛ لكون الكتاب يجلو ذاته كتوسيع «للمنجز المرتبط بالكتابة الذاتية». ولكون الذات تتمرأى في الكتابة، فهذا المؤلف قمين بتشكيل صورة عن تجربة الذات الكاتبة، وهو ما يعزز قول لوجون بأن اليومياتِ كتابةٌ سير ذاتية. إلا أن هذه اليوميات لا ترتبط بالذات وحسب، وإنما بطنجة كفضاء مفتوح على استقبال الآخر والتفاعل معه. ومن هنا فالكتاب سيرةُ ذاتٍ ومدينةٍ. في «الكتابة، والمرض، والموت في يوميات سرير الموت» لمحمد خير الدين، يلاحظ الباحث أن المؤلَّف رغم «محدودية الزمن، وبلاغة الاختصار والإيجاز»، فإنه يعدّ جانبًا مهمًّا من سيرة خير الدين في غربته واغترابه. ومن هنا تشكل يوميات الكاتب نصًّا مفتوحًا «على الضم المتجانس: القصيدة، والصورة، والنص السردي الموازي». كما تجلو مواقفه السياسية ونضالاته الثقافية، باعتباره مثقفًا ملتزمًا بقضايا إنسانية، علمًا أن جل نتاجه لم يتيسر باللغة العربية. وفي «أسفار في الذات والأمكنة في الشاعر يمر»، يعتبر الباحث أن هذا المؤلَّف «يضيء جوانب من مراحل سابقة، كمثال فترة الاعتقال». فالشاعر عبداللطيف اللعبي، يَجْلُو في هذا الكتابِ صورتَه كمثقفٍ ملتزم «بقضايا وهموم الوطن إلى إشكاليات الكتابة والتأليف».
يخلص الباحث إلى أن تجربة الكتابة اليومياتية تجسيد لواقع الذات الكاتبة في مراحل محددة في الزمان والمكان، وهي تجربة موازية لما دُوِّنَ في مرحلة سابقة للعروي الذي يبين عن صورة موسوعية المثقف، وشكري الذي يمثل نموذجًا في كتابة اليوميات، واللعبي الذي يقول: إن «النتيجة: مادة أدبية لم تعرف هويتها. وهذا أفضل»، فيما تظل يومياتُ خير الدين سيرةً عن المرض. ومن ثمة يخلص إلى استنتاجات يمكن إيجازها في كون التأليف جاء في مرحلة متأخرة من العمر، وأن هؤلاء الكُتّاب الأربعة قد مارسوا الكتابة، بوصفهم محترفين وليسوا هواة، في أجناس مختلفة، الشيء الذي دل على أن إنتاجاتهم الفكرية والإبداعية كتابات تقاوم قيم التقليد والمحافظة. كما أن هذه اليوميات قد خضعت لثوابت هذا الجنس من حيث تثبيت الزمان والمكان، واعتماد ضمير المتكلم في الغالب، ونزعة التداخل الأجناسي الذي يدل على حرية الكتابة وانفتاحها.
القضايا التي يطرحها الباحث في هذا الكتاب ذات أهمية بالغة في النظر إلى وظيفة اليوميات وشعريتها بحسبانها جنسًا أدبيًّا له خصائصه ومميزاته؛ ذلك أن الذات الكاتبة لا تسرد ما يندرج في القول التقريري وإنما تمثل رؤية إلى الذات والعالم، هذه الرؤية التي تحتمل تأويلات عدة من خلال السياق الذي حدثت فيه. وهكذا فاعتمادها على الصدق، والحقيقة، والاعتراف -الاعتراف ليس بمعناه المسيحي- لا يعني التأويل الأحادي الجانب، ولكن التأويلات المتعددة بوصف اليوميات كتابةً مرتبطةً بتجربة إنسانيةٍ، تيمُّنًا بما يقوله ستاندال بأنه «ليس صحيحًا أننا نكتب لأنفسنا»، ذلك أن الأنا المرتبطة بها ليست في الحقيقة أنا فردية ولكن أنا جمعية رغم أن «الميثاق المرجعي» الذي يلتزم به الكاتب قد يكون حقيقيًّا قدر الإمكان من دون أن يكون التزامًا يستوجب واجب المماثلة الدقيقة مثل ما نجد في السيرة الغيرية.