بواسطة محمد عبدالوهاب الشيباني - كاتب يمني | يوليو 1, 2020 | كتب
كل إصدار جديد للباحث والمترجم اليمني المعروف الدكتور علي محمد زيد يَتَلَقَّفُه قُرَّاؤُه بشغف، ولا يخلو في الوقت نفسه من إثارة جدل ما. فمنذ إصداره كتاب «معتزلة اليمن ودولة الهادي وفكره» قبل أربعة عقود وصولًا إلى أحدث إصداراته «الثقافة الجمهورية في اليمن»، استوعبت المكتبة أكثر من عشرة عناوين له، منها: «تيارات المعتزلة في اليمن في القرن السادس الهجري»، وروايتي «زهرة البن» و«تحولات المكان»، وكتاب أحمد محمد نعمان «السيرة الثقافية والسياسية» إلى جانب ترجماته الرائدة من الفرنسية والإنجليزية لكتب مثل: «فن الغناء الصنعاني» و«اليمن المعاصر» و«المخلاف السليماني».
كتاب «الثقافة الجمهورية في اليمن» (الصادر عن دار أروقة للنشرـ القاهرة) بمحتواه المتنوع هو إجابة طويلة ومتشعبة عن سؤال أطلقه بعض الشبان الذين التقاهم المؤلف ويُختزل في «ما الذي صنعته جمهوريتكم؟»، وفي تمهيد لهذه الإجابة، التي صارت في ثنايا الكتاب وقفات على أهم تمثيلات التحول الثقافي نحو التجدد والانفتاح، يقول المؤلف: «نريد للقراء ممن عرفوا شيئًا عن هذا التجديد أن يتذكروا وألا ينسوا ما أحدثته الجمهورية من تغيير في حياة اليمنيين، وللأجيال الجديدة أن تعرف عن بلادها وتدرك ما عاناه الآباء؛ لكي تنطلق في عالمها الجديد وتبدع وتضيف وتلتحق بعصرها حتى لا يبقى اليمن دائمًا ذلك المجهول المعزول الغريب عن عالمه». وعلى ذلك «يصبح من حق الجمهورية على الجيل الذي فتحت له باب الأمل والنجاة من الغرق في غياهب العزلة والانغلاق وأخرجته من ظلام القرون الغابرة ليتمسك ببصيص من نور القرن العشرين، أن يُدافع عنها وأن يستعرض الأحوال التي جعلت منها عملية قيصرية ضرورية لإنقاذ شعب اليمن من الاضطهاد والانقراض».
في مقاربته لموضوع العزلة والانغلاق في «الفصل الأول» اعتمد المؤلف بدرجة رئيسة على كتابي أمين الريحاني المعنون «ملوك العرب» وكتاب الطبيبة الفرنسية كلوديا فايان المعنون «كنت طبيبة في اليمن» لتقريب تلك الصورة البائسة، بوصفهما من أهم الكتب التي صورت حال العزلة والانغلاق والتخلف في اليمن التي فرضها الإمام يحيى وأبناؤه في ثلاثة عقود كاملة، واستشهد أيضًا بآراء لمحسن العيني ولمحمد سعيد العطار ولأحمد حسين المروني في الموضوع نفسه.
مملكة النفق المظلم
هذه العزلة وهذا الانغلاق انعكسا بدورهما وفي شكل مباشر على الحياة الثقافية، فصار الأدب تقليديًّا، استتبعها ضمور في حركة التأليف والنشر «فظلت الحركة الثقافية راكدة بركود الحياة العامة كلها في مملكة «النفق المظلم»، وكانت الكتب الجديدة تُهرَّب كما تُهرَّب المخدرات، وتُتَدَاوَل سرًّا». كثيرًا ما كان يتباهى النظام المتوكلي، بصيغته الإمامية، بأنه يدير أول دولة مستقلة في المنطقة، غير أن النظام الاستبدادي هذا «فرَّغ الاستقلال من مضمونه باعتباره وسيلة لإطلاق طاقات الشعب في البناء والتطوير وتحسين مستوى معيشة السكان، وحوَّله إلى سجن كبير مظلم، وقيد على تحرر الشعب من الفقر والجهل والمرض. فأية قيمة لاستقلال يغلق حياة الناس على البؤس ويفرض عليهم العزلة والهامشية ونقص القيمة، ويقودهم نحو الانقراض؟».
الفصل الثاني خصصه المؤلف بالكامل للمنجز الشعري والنثري لمحمد محمود الزبيري، بوصفه حال مجسمة لتحول المثقف الخارج من براثن العزلة والتقليد، وكيف صار شعره ونثره الفني «ثورة الشعر» والسردي «بلاد واق الواق» معبِّرًا عن خطاب الاستنارة والمقاومة التي أحدثتها حركة الأحرار اليمنيين منذ تأسيس حزب الأحرار في عدن في عام 1944م، الذي كان الزبيري ومعه الأستاذ النعمان على رأسه منذ إفلاتهما من سيف ولي العهد في تعز. «دور مستعمرة عدن في التغيير الثقافي في اليمن» كان عنوان الفصل الثالث من الكتاب، وفيه تتبع المؤلف دور الجمعيات والاتحادات والنقابات والأحزاب التي نشأت في المدينة، والتي لعبت أدورًا في التحول الذي شهدته مناطق الشمال اليمني ومناطق المحميات الشرقية والغربية ذاتها، فمن نشاط الجمعيات والنوادي قبل قيام الجمهورية كان «تهريب الكتب والمطبوعات إلى الداخل، فكانت القناة الرئيسية لتسرُّب المواد الثقافية ولنشر الوعي بالحاجة إلى التغيير وأن هذا التغيير لا يقبل التأجيل، وحين حدث التغيير الجمهوري تدفقوا بالآلاف لنصرته والوقوف بجانبه والتضحية في سبيله». وتتبع أيضًا دور المطابع الحديثة في إنتاج وتسويق الأدب الجديد من قصة ورواية ومسرح، حيث شهدت المدينة ولادة أول رواية «سعيد»، وأول مجموعة قصصية «أنت شيوعي»، وعرضت فيها أول مسرحية في العشرينيات، «وقد كان من الطبيعي أن يكون ظهور القصة القصيرة والرواية مرتبطًا بازدهار الصحافة الليبرالية الحديثة في عدن ابتداء بصحيفة «فتاة الجزيرة» ومطبعتها حتى تعدد الصحف في الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات. فليس من الممكن أن تزدهر القصة القصيرة والرواية في مجتمع تقليدي منغلق لا وجود لحركة ثقافية فيه».
ابتكار مفاهيم سياسية جديدة
النعمان الابن «محمد أحمد نعمان» وتجديد اللغة السياسية ودعوته الباكرة للجمهورية، هو عنوان «الفصل الرابع» من الكتاب، فهو يرى في «محمد أحمد نعمان سياسيًّا يمنيًّا مميزًا قام بدور مهم في التغيير السياسي والدعوة إلى تجديد الفكر السياسي في اليمن الحديث. فقد جمع بين السياسي المحنَّك المحاور اللبق المناوب من جهة، والمفكر السياسي المبتكِر للمفاهيم السياسية الجديدة، المبادِر الصريح من جهة أخرى، وهما صفتان إذا اجتمعتا كانتا مصدر تنازع وعدم رضى أو سوء فهم من الآخرين أحيانًا».
«إصدارات رائدة أثَّرت في تكويننا الثقافي» هو عنوان الفصل الخامس من الكتاب، وفيه قام بمقاربات فكرية ونقدية، لكتب «ابن الأمير وعصره»، و«التخلف الاقتصادي والاجتماعي في اليمن» لمحمد سعيد العطار، و«اليمن» و«غريب على الطريق» لمحمد أنعم غالب، و«طريق الثورة اليمنية» لمحمد علي الشهاري، و«نظرة في تطور المجتمع اليمني» لسلطان أحمد عمر، و«دراسات فكرية وأدبية، وكتابات» لأبي بكر السقاف.
«الفصل السادس» خصصه المؤلف لقضية التعليم من زاوية كون انعدام التعليم ظل رمزًا لغربة نظام ما قبل الجمهورية عن العصر الحديث، ويرصد في تتبعه لبشائر الخروج من السجن الكبير ومنها بعثة العراق 1936م التي قال عن نتائجها: «إن استنارة بعض أعضاء هذه البعثة قد كانت عميقة ومدهشة بحيث ظل بعض أفرادها يثابرون في العمل من أجل التغيير ويدخلون السجون ويخرجون ليواصلوا نضالهم دون تراجع». وعن مخرجات بعثة الأربعين إلى لبنان ومصر 1947م قال: إنه حين قامت الجمهورية اعتمدت على الكثير من هؤلاء الطلبة المؤهلين في البناء الجمهوري الجديد.
محمد الشرفي نموذجٍ للتمرد على الثقافة التقليدية، هو كل ما يمكن أن يقوله «الفصل السابع»، وفيه ينجز المؤلف قراءة نافذة للتجربة الشعرية والمسرحية للشاعر محمد الشرفي، الذي نذر شعره الباكر لنصرة قضية المرأة وتحديدًا في مجموعته الرائدة «دموع الشراشف» وأن ما أنجزه من نصوص مسرحية باكرة وكتبها شعرًا تارة على نحو «في أرض الجنتين» أو نثرًا في نص «حارس الليالي» صنَّفته كأحد رواد الكتابة المسرحية في اليمن. في الفصل الثامن من الكتاب الذي كرَّسه لقراءة تجربة رائد القصة القصيرة في اليمن «محمد أحمد عبدالولي» تحت عنوان: «القصة القصيرة وتطوير النثر في اليمن» يقارب وبكثير من الفحص النابه التأثيرات النفسية والثقافية للكاتب المولود في أحد أحياء العاصمة الإثيوبية في عام 1939م لأم إثيوبية وأب من المهاجرين اليمنيين. وبعد طفولة قصيرة في بلد المولد يؤتى به إلى قرية الأب، ثم يعود بعد سنوات قليلة مرة أخرى إلى موطن الأم لمواصلة دراسته، وحين ينتدب للدراسة الأزهرية في العاصمة المصرية منتصف الخمسينيات، يبدأ تشكل وعيه السياسي في إطار اليسار، وفي تلك الحقبة سيبدأ بكتابة القصة القصيرة التي تلتقط أفكارها من قساوة الحياة، ولن تصل إلى نضجها الباكر إلا في عام 1958م بنصوص متفرقة كتبها في الغالب في القاهرة قبل طرده مع مجموعة من أقرانه، بتهمة الشيوعية، وستتواصل إلى أوائل الستينيات حينما يستقر في موسكو طالبًا في معهد غوركي للأدب، بعد تركه لمنحة دراسة الهندسة، ومعظم هذه النصوص ستؤلف مجموعته القصصية الأولى «الأرض يا سلمى» التي أرست أساسًا متينًا لميلاد كاتب فنان، وتوطد في الحياة الثقافية اليمنية تيارًا جديدًا في النثر الأدبي مغايرًا تمامًا للموروث التقليدي الذي ساد الحياة الثقافية اليمنية قبل قيام الجمهورية.
بيان الشعر الجديد
الفصل التاسع حمل عنوان «بيان الشعر الجديد في اليمن»، عادًّا مقدمة الديوان المشترك للشاعرين عبده عثمان محمد وعبدالعزيز المقالح المعنون: «مأرب يتكلم» الصادر في عام 1971م، وكتبها الأخير بمنزلة اللحظة الفاصلة بين مرحلتي التقليد والتجديد في الشعر اليمني، وهي التي اختزلت أحلام جيل السبعينيات الشعري بتمرده وتجديده . فقد كانت «وثيقة يمنية ثقافية تاريخية فارقة في تطور الشعر في اليمن. فقد عرضت بحماسة واقتناع ووعي كل الحجج التي دارت خلال الصراع بين القديم والجديد في الثقافة العربية ونقلتها إلى الحركة الثقافية في اليمن، وزودت كل من يتعاطف مع تطور فن الشعر أو يتفهمه بأدوات نقدية جديدة وبدفاع مجيد يستطيع أن يستند إليه في الدعوة إلى التغيير في فن الشعر في اليمن لمواكبة التغييرات التي بدأت البلاد تشهدها وبخاصة في المجال السياسي، بالانتقال من نظام العزلة والانغلاق والتخلف إلى النظام الجمهوري بوعوده للتغيير والتطوير. وترافق كل ذلك مع وصول اليسار في عدن إلى الحكم وما أطلق في حينه من آمال عراض ووعود حالمة».
آخر فصول الكتاب خصصه المؤلف لـ«الإسهام الأهلي في تجاوز الركود الثقافي»، الذي ابتدأ من وجهة نظر المؤلف بمبادرة محمد عبدالولي حين اشترى عام 1970م مطبعة كان يمتلكها أحد أصحاب الصحف الأهلية في عدن، وأسس في تعز دار نشر سماها «الدار الحديثة للطباعة والنشر» وبدأ بإصدار الكتب ذات التوجه الجديد. النموذج الثاني للإسهام الأهلي كان مجلة الكلمة التي أصدرها في مدينة الحديدة أواخر عام 1971م محمد عبدالجبار سلام، وبدأت تستكتب من استطاعت من الشعراء والنقاد والكتاب والصحافيين اليمنيين. وبمساعدة من عمر الجاوي جرى شراء مطبعة من عدن تعمل بالرص اليدوي، ويعلن العدد الأول من المجلة الطموح الكبير لأن يكون لها أثرٌ «في درء الموت، ولأننا مؤمنون أن معركتنا الاجتماعية في جوهرها لا تخرج عن كونها مواجهة حقيقية مع الموت المتمثل في (التخلف، الجهل، الجوع، القهر، إلى آخر ما في قائمة الواقع)» من تحديات. ويعتقد أن عمر الجاوي هو من كتب هذه الافتتاحية؛ لأن المجموعة اليسارية التي تقف وراء إصدار المجلة كانت تهتدي بأفكاره. أما مجلة الحكمة التي أعاد عمر الجاوي إصدارها في عدن باسم اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في عام 1971م فهي الإسهام الأهم في تلك المرحلة، «ولم يكن اختيار اسم «الحكمة» مصادفة، بل يرمز إلى مواصلة هذه المجلة الجديدة لدعوة التنوير التي حاولت الحكمة القديمة بثها في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين. وكانت الحكمة الجديدة في الواقع منبر الجاوي الذي جعله حاضرًا في قيادة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وفي الحركة الثقافية اليمنية والعربية».
كتاب «الثقافة الجمهورية في اليمن» هو إسهام مهم لإعادة التعريف بأهم المحطات الثقافية ورموزها من أشخاص وجهات في تاريخ اليمن الجديد، الذي ولد من قيام الجمهورية على أنقاض حكم ثيوقراطي استبدادي مغلق؛ لأن الكثير من هؤلاء بدأت ليس سيَرهم فقط وإنما إسهاماتهم في التحول بالانطمار والنسيان.
بواسطة محمد عبدالوهاب الشيباني - كاتب يمني | نوفمبر 1, 2019 | تحقيقات
حين اختلف الشيخ القبلي البارز والمحافظ القوي مع أنشط الكوادر، وأكثرها وعيًا وتأثيرًا داخل الحزب، الذي ينتميان إليه، لم يجد غير وصفه بأنه «بعثي»، ولد مقهى في حين وصف الشيخ نفسه بأنه «بعثي» ابن ناس. وقال لي أحد الأصدقاء: إن والده القاضي والحاكم الشرعي، الذي كان يوصف بالمستنير في الصف الجمهوري جن جنونه حين رأى ولده جالسًا في مقهى، وعَدَّ ذلك تجاوزًا أخلاقيًّا مريعًا، يوجب عليه العقاب والحبس والتقييد في المنزل لأسابيع قبل تدخل عائلي قوي لإطلاقه. يذكر أحد طلاب بعثة الأربعين الشهيرة، التي أرسلها الإمام أحمد إلى لبنان للدراسة أواخر أربعينيات القرن الماضي ـ في فعل أحدث انقسامًا في بيت الحكم ـ إن أغلب طلاب البعثة رفضوا تناول الطعام في مطعم، سمّوه مقهاية، خارج سكنهم لعدِّهم ذلك عيبًا. وكانت الخانات والنُّزل الشعبية المنتشرة في طرق المسافرين، بين المدن والقرى المعزولة بين الجبال، توسم بأرذل الأوصاف، بوصفها مقاهي يشرف على إدارتها رجال ونساء ينتمون إلى الطبقة المنبوذة، وصار الوعي الشعبي يختلق قصصه بمخيالات كبتية عجيبة عما يدور فيها، ووجدت تاليًا طريقها بالاستلهام إلى قصاصين رواد أعادوا ترسيم شخصيات المقهويات من المواقع الكبتية ذاتها وإن تخففت من الازدراء.
كان يقول لي والدي، الذي عمل لسنوات طويلة في «مخبازة » بالقرب من المباني القديمة لجامعة صنعاء في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي: إن الكثيرين من سكان المدينة المحافظين كانوا يطلقون على الجامعة اسم (سمسرة وردة)، كنوع من الازدراء للتعليم المختلط، بتشبيه هذه المؤسسة الحديثة بأشهر خانات ومقاهي صنعاء المنبوذة في هذا الوعي. وبمناسبة ذكر (سمسرة وردة) التي لا تزال قائمة في أطراف سوق الجنابي في قلب مدينة صنعاء القديمة أذكر أنها كانت تزيِّن مدخلها بلافتة باسم مقهى (أبو هاشم)، لكن منذ استولى الحوثيون على السلطة اختفت تلك اللافتة وأعاد ملاكها تجديد لافتتها القديمة باسمها التاريخي نفسه (سمسرة وردة)، فأبو هاشم لا يمكن أن يكون مقهويًّا بأي حال من الأحوال!
حين التف آلاف الشبان القادمون من عدن وتعز وإب والحديدة حول ثورة سبتمبر 1962م، وصاروا محركًا لقاطرة التحول فيها، لم يجد مناهضوها سوى نعتها بثورة أبناء المقاهي، وحين أطلت برأسها القوى نفسها مع حالة الحرب القائمة، بدأت بتسويق مصطلح تصحيح مسار المجتمع وإعادته لجادَّة الحق، بتخليص السلطة التاريخية من تغول أبناء الشوارع والأسواق. على مدى أجيال وحقب تاريخية طويلة ظل الوعي العنصري والشعبوي ينظر إلى المهن التي يمارسها أبناء المجتمع أساسًا للتموضع الاجتماعي وتراتبيات الطبقات في المجتمع. فصار يُنظر للسيد داخل شجرة النسب الجافة في أعلى السلم الصاعد إلى السماء، متبوعًا بالبيوتات التي تمتهن القضاء والفقه ثم مشايخ القبائل، الذين يسبقون التجار بدرجة واحدة، ومن تموضع الأخيرين هذا سيبدأ الانحدار إلى الأسفل بالفلاحين وبعدهم الحدادين ثم المزاينة (حلاقون وقارعو طبول ودواشن) ويتبعهم نزولًا الجزارون وفي الأسفل تمامًا أصحاب مهنة زراعة الخضر الورقية في البساتين التي تستقي من مخرجات الجوامع في المدينة المكتظة كصنعاء ويسمون بالقشامين.
هذا النبذ والاحتقار للمهن أنتجه في الأصل الوعي البدوي القبلي الاستعلائي العنصري الفارغ، الذي يقسِّم المجتمع إلى سادة وعبيد، ووجود القسم الثاني وبكثرته تبعًا لهذا الوعي ليس إلا خدمة لقلة القسم الأول، الذي لا يأكل من كَدِّهِ وشقائه، ويأكل من كَدِّ مَنْ ينبذه ويحتقره. ومع الزمن ترسخت هذه النظرة وتصلبت في وعي المجتمع بشرائحه وطبقاته المضطهدة في الأصل. وحتى تتبدل نظرة المجتمع المغلق والجاهل حيال المقاهي والمطاعم كان لا بد من إحداث اختراق صريح في جدار الوعي الصلب بواسطة إعادة تمثيل المدنية في الوعي الجديد، بوصفها حالة للتعايش خارج ضغوط أوهام الصفاء القبلي والبدوي والعنصري، ولم تكن حينها غير مدينة عدن الحديثة، مؤهلة لقطر الوعي المديني، وبالفعل استطاعت، تسييل وتفكيك ما تصلب وتخلف في وعي القادمين إليها من الجبال العارية والأرياف الفقيرة والقرى الكبيرة المسورة والمعزولة وكانت تسمى تجاوزًا بالمدن.
مقاهي عدن.. كيف عصف الوعي الجديد بالمنبوذ؟
قلة قليلة من كبار السن الذين يعرفون عدن القديمة يتذكرون مقهى «سويد» في قلب كريتر، وهو أقدم المقاهي، وكان يؤدي أيضًا وظائف الخان نفسه؛ إذ كان يقدم للجمَّالة القادمين إلى عدن عبر البُغدة -نفق منحوت في جبل المنصوري المطل شمالًا على المجراد القديم «خور مكسر» وصولًا إلى قلب كريتر- كلَّ مستلزمات الراحة والمبيت لهم ولجمالهم، وكان أقرب لمقاهي ونزل طرف المسافرين ويقدِّم في الغالب القهوة بالطريقة التقليدية.
ومع دخول السيارات المحدود جدًّا عبر باب عدن الذي يربط المعلا بكريتر عبر العقبة، بدأت تتمظهر حياة جديدة ترافقت بالنشاط التجاري وتوسعه بعيد الحرب الكونية الثانية، فبدأت تظهر مقاهٍ جديدة بوظائف مختلفة، وأكثرها شهرة كان مقهى «فارع» في شارع مسجد العسقلاني في كريتر، واشتهر عن صاحب المقهى أنه كان يمتلك مزرعة أبقار في منطقة القطيع، فكان المقهى يقدم الشاهي الملبن والحليب والملاي.
وبعيد الاستقلال انتقل هذا المقهى إلى مدينة الحديدة، وكان موقعه الأول في «سوق المطراق» قبل أن ينتقل إلى الشارع الأشهر في المدينة «شارع صنعاء » المكان المهم للتجمعات الثقافية والسياسية في المدينة الساحلية، التي بدأت تثب إلى الحياة العصرية، حين صارت المرفأ والميناء التجاري الأهم لشمال اليمن، على البحر الأحمر.
وفي حقبة وجود مقهى فارع نفسه في عدن كان هناك مقهى لا يقل شهرة عنه وهو مقهى «كُشر»، الذي لا يزال قائمًا في مكانه في الشارع الموازي للأسواق العتيقة في كريتر ويتصل غربًا بالميدان، وكان يمثل هذا المقهى حالة التمدن الجديدة، وقد عرف بأنه مقهى الرياضيين وتحديدًا أعضاء ومنتسبي نادي الشباب الرياضي طيلة حقبة الستينيات والسبعينيات. وسيضيف لحالة التمدن الكثير مقهى « زكو»، الذي تأسس في قلب الميدان أواسط الخمسينيات، فطغت شهرته على جميع المقاهي؛ بسبب تمثيلاته للمقهى المصري بوجود فتوات المدينة الذين عرفوا بالتسمية الشعبية بـ« البتنات» أو الأبطال بالتسمية الهندية، وبقدرتهم على إغلاق الحواري والأسواق إن نشبت عراكاتهم المتخففة من العنف، التي تعرف بـ«المدارجة» التي تشبه كثيرًا ألعاب الجودو المعاصر. وكانت تزدان جدرانه بصور نجوم الفن ونجماته في السينما المصرية والهندية والغربية.
وفي حافة حسين، وهي إحدى حواري عدن العتيقة المشهورة، تأسس مقهى «عبدان» في الشارع المؤدي لمنطقة الطويلة، حيث كان ملتقى مهمًّا لنخب الحافة ذات الخصوصية الثقافية والمهنية، وغير بعيد منه جنوبًا تأسس مقهى أمين عثمان، الذي أخذ شهرته من كون زوجة صاحب المقهى استطاعت إسقاطه من قوائم التأميم أوائل السبعينيات، ومن ثم قيامها بإدارته كأول امرأة تقوم بذلك بعد مرض زوجها. وغير هذه المقاهي يبرز أيضًا في « كريتر» مقهى «سكران» كأحد أبرز عناوين المقاهي في المدينة القديمة، ويقع في شارع الشيخ عبدالله بالقرب من مركز كريتر، وهو أحد أقدم المقاهي في عدن؛ إذ تأسس حسب بعض الروايات عام 1910م، وقبل أن يستقر في مكانه القائم أواسط السبعينيات تنقل بين ثلاثة مواقع. وغير بعيد من مقهى السكران وتحديدًا في شارع السبيل كان هناك مقهى معروف وهو مقهى «سيلان»، ولا يقل شهرة عن المقاهي الأخرى.
في منطقة المعلا مقاهٍ عديدة، غير أن مقهى « الصومال» هو أكثرها شهرة، ويقع في الشارع الموازي للشارع الرئيس من جهة الجنوب، وبالقرب من مسجد الصومال، ويأتي إليه زبائنه من أنحاء المدينة، واشتهر بالعراكات الدائمة التي تنشب في محيطه. ولم يبرز في منطقة التواهي غير مقهى واحد هو مقهى الدبعي بالقرب من سوقها غير أن هذا المقهى انطفأ تقريبًا. في مدينة «الشيخ عثمان» لم يزل صامدًا ومنذ عقود «مقهى الشجرة» الذي يعد أحد العناوين البارزة للمدينة، وأخذ تسميته من وجود شجرة حراجية في قلبه يستظل بها رواده، الذين كانوا نجوم الأدب والفن والرياضة، ويقطنون الأحياء القريبة منه، وكانت الجلسات فيه تتحول إلى منتديات مصغرة لمناقشة قضايا ذات صلة باهتماماتهم. وكان من أبرز رواده الفنانان محمد سعد عبدالله، ومحمد مرشد ناجي، والشاعران محمد سعيد جرادة وإدريس أحمد حنبلة.
تعز الجديدة جلست على طاولات مقهى الإبي
في الذاكرة الثقافية والسياسية ليس في تعز ما هو أشهر من مقهى «الإبي»، الذي تأسس في عام 1955م أسفل المدرسة «الأحمدية» بالقرب من باب المدينة الكبير، وعرف الشارع منذ عام 1962م بشارع 26 سبتمبر، وصارت المدرسة تعرف بـ«الثورة».
شهرة المقهى أن صاحبه عبدالله الإبي لعب أدوارًا أساسية في التخفيف عن طلاب المدرسة الذين حاصرهم عساكر الإمام داخل مدرستهم، بعد خروجهم بمظاهرات تشيد بالزعيم عبدالناصر في خريف 1961م، حين كان حلقة بينهم وبين أسرهم وأحرار المدينة. لم يكن البوفيه لطلاب المدرسة الأحمدية مجرد مكان للاستراحة من الحصص الدراسية أو الحلقات العلمية وتناول المشروبات والمأكولات فقط، بل كانت الراديو هو العامل الأكثر جذبًا للطلاب، فلم يكن المكان مجرد بوفيه أو مقهى فقط، بل كان أشبه بنافذة يطل من خلالها الطلاب على العالم، كما يقول مالكه لمحاوريه.
وبعد سبتمبر 1962م صار المقهى عنوانًا لنخب المدينة من أدباء ومثقفين وسياسيين حزبيين؛ إذ كانوا يجلسون بالساعات على كراسيه البدائية يناقشون أحوال البلاد وهي تثب نحو الضوء بعد قرون من العزلة والظلام، ولم تكن هذه النقاشات تخلو من الحدة والاختلاف.
صنعاء… الكافيهات ليست بروائح الحوائج
ظل مقهى «ميدان التحرير» لسنوات طوال عنوانًا صريحًا لصنعاء الجديدة التي نشأت خارج أسوار صنعاء القديمة مع سنوات الجمهورية الأولى، إلى قبل إزالته أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بمبرر إعادة تأهيل المتنزه وتشجيره، كان حينها أهم ملتقى لنخب المدينة الثقافية والسياسية والعسكرية وشهد حوادث اغتيالات لرموز عسكرية، ومنه اقتيد للمعتقلات عشرات السياسيين، ومرّ فيه أهم ظرفاء اليمن.
وبعد إزالته تحول الرواد إلى مقاهي شارع المطاعم الكائن خلف مباني الاتصالات في الميدان نفسه، ومع مرور الوقت تأسس هناك مقهى الشاهي العدني الذي صار في العشرية الأخيرة يعرف بمقهى «مدهش عبادل»، حيث يجد بعض المثقفين فيه وفي محيطه من المطاعم الشعبية متنفسًا مختلفًا، ويجد زائرو المكان كل اليمن محتشدة في الشارع الضيق. في أحياء صنعاء الحديثة تنتشر عشرات الكافيهات التي يرتادها الشبان من الجنسين، وتقدم خدماتها من الإنترنت وأنواع القهوة والمشروبات الجديدة، في أجواء هادئة، لكنها تظل عُلب باردة، ليس فيها من روح الشارع البسيط وضجيجه شيء، والروائح المعطرة التي تجوس في أجوائها لا تساوي شيئًا من روائح أوراق الشاهي المغلية والجوز والهيل المطحون، التي تنبعث من برادات طبخ الشاهي التقليدية في الشارع المزدحم.
بواسطة محمد عبدالوهاب الشيباني - كاتب يمني | مايو 1, 2019 | مقالات
في عام «1970م» أعلن عن هيئة تأسيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في مدينة عدن كتكتل ثقافي يعبر عن وحدة أعضائه في الشمال والجنوب بسبب وجود سلطتين في بلد واحد، وكان الخطاب السياسي وفعله الواضح مشغلًا حيويًّا في ظاهرة الاتحاد طيلة عقدين، وها هي المدينة ذاتها، وبعد قرابة نصف قرن، تشهد ولادة كيان تجزئي، منقادًا بحبل السياسة أيضًا، لكن هذه المرة بوعي عصبوي مناطقي.
في المؤتمر العام الخامس لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الذي انعقد خريف عام 1990م في مدينة عدن، كان قد بدأ السؤال الأخطر بالتشكل، الذي لم يُقرأ بعناية كافية وقتها، وهو: ما الذي تبقى من الاتحاد بعد عشرين عامًا من حضوره في حياة اليمنيين كمرموز ثقافي وسياسي موحد، خارج رغبة العقل السلطوي التشطيري ووعيه؟
متوجبات هذا السؤال وحافزاته، تأسست على قاعدة أن الشعار الذي تكتل تحته الأعضاء والمنتسبون كان يقول «تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام أجيالنا المعاصرة»، ولأن الوحدة صارت حالة متحققة منذ أواخر ربيع العام نفسه، كان لا بد من إعادة بلورة شعار وخطاب جديدين لعمل الاتحاد، يخفف من الحمولة السياسية الثقيلة التي وضعت على ظهره لعقدين. مع أولى الخطوات في العهد الجديد بدأ التعثر البائن بالانقسام الفوقي، الذي كان سببه في الأصل عملية الإرباك الكبيرة التي وقع فيها «اليسار» بسبب المتغيرات التي اجتاحت البلاد والمنطقة والعالم، ودخوله الوحدة من دون رؤية واضحة، وكان هذا الانقسام في الأصل امتدادًا لمفروزات المؤتمر، التي تمثلت في تجاوز بعض الأسماء التي ارتبطت بتاريخ الاتحاد، والاستبدال بها أسماء أخرى من داخل بنية اليسار ذاتها، لكنها لم تستطع خلال العام الأول إدارة العجلة بالطريقة نفسها التي سُيِّرت بها طويلًا.
في المؤتمر العام السادس، الذي انعقد في صنعاء في نوفمبر 1993م (عشية اندلاع حرب صيف 94)، بدأت تظهر شهية المتصارعين لتجيير موقف الاتحاد لمصلحة خطاباتها وتكتيكاتها السياسية، غير أن الاتحاد خرج من هذا المؤتمر متماسكًا، لكنه بعد انقشاع الغمامة الصفراء للحرب وجد نفسه عاريًا من دون مقرّاته الرئيسة في عدن والمحافظات الجنوبية، التي اجتاحها تحالف السلطة في صنعاء.
بعد هذه الجائحة بدأت تتشكل في المحافظات المقهورة ردة فعل رافضة لعملية الإخضاع والانحراف بمسار الوحدة إلى ما تشتهي رغبات المنتصر، التي عملت على تجريف إرث دولة الجنوب الثقافي والاجتماعي وثرواتها والتي رأى فيها أبناء هذه المناطق ومثقفوها احتلالًا مضمرًا. وفي المقابل كانت مرحلة اللاتوازن في عمل اتحاد ما بعد الحرب، استجابة لهذا الطارئ النفسي لمنتسبيه في الجنوب الذين كانوا يرون الاتحاد جزءًا من ذاكرة جغرافيتهم؛ إذ شهدت ولادته وتملّك مقراته، وبها أصدر مجلته «الحكمة»، إضافة إلى عملية نقل إدارته المركزية ومجلته إلى صنعاء، ابتداء من منتصف التسعينيات، كان عند معظمهم نوعًا من تجيير تاريخه الرمزي.
ربط الاتحاد بالمؤسسة البيروقراطية للنظام المركزي بإعادة تسجيله مثل أي جمعية خيرية، ودمج مخصصاته بموازنة وزارة الشؤون الاجتماعية، أمور ساعدت على تدجينه وانخفاض صوته السياسي، وساعد في ذلك أيضًا تواري قياداته الوازنة والمؤثرة إما بالموت أو بالإزاحة أو بإعادة ترتيب أوضاع البقية منها في مواضع حزبية ووظيفية، فصار الاتحاد كموقف وحضور استجرارًا لماضيه. وما لم يستطع النظام فعله طيلة ربع قرن فعله في سنوات قليلة من خلال فرض المحسوبين عليه، ومتساقطي الأحزاب في مواقعه القيادية، من خلال إعادة شروط التمويل والدعم أو شراء أصوات مقترعي المؤتمرات، وكان الهدف من ذلك توظيف إرث الاتحاد وتاريخه ضمن عملية تنصيع صورة النظام الشائهة، حين بدأ بتقديم تجربة الحكم الهلامية في البلد المتخلف بوصفها ديمقراطية ناشئة، بحاجة للإعانة والدعم الخارجي.
بين المؤتمرين السابع 1997م والتاسع 2005م، استنفد الاتحاد كل إرثه السياسي تقريبًا، غير أن شريانه اليابس ترطب بدماء شابة من أديبات وأدباء، أكثر صلة بالشأن الثقافي والأدبي وإن كانت أقل خبرة نقابية وسياسية، فبدا أكثر اعتلالًا في شقه السياسي، لكنه أكثر تعافيًا في نزوعه النقابي وحضوره الثقافي المتعززين بحالة الاستقرار المالي، فعادت إليه روح مختلفة، تحلق به في فضاء نوعي يقترب من الطبيعة الحقيقية في وجوده، فكان مشروع الإصدار وانتظام مجلته، وتنظيم مناشطه الثقافية والأدبية. ومع كل ذلك كان يلاحظ أن مسألة المركزة واستبداد الجغرافية في الوعي التشطيري هي التي تعمل بكفاءة عالية في بنيته التنظيمية، فتحولت الفروع إلى أطراف مهملة لا يُلتفت إليها إلا في أثناء التحضير للمؤتمرات، بوصفها خزان أصوات يغترف منها مرشحو دوائر الحاكم، فكان في الغالب يعاد ترتيب وضع المجلس التنفيذي والأمانة العامة بغلبة المركز ومزاجه، حتى بأولئك المحسوبين على الجنوب، واستقروا في صنعاء وسكنتهم رغباتها.
في مطلع عام 2007م بدا الصوت الخافت يعلو تحت سقف «الحراك السلمي» في الجنوب… الكثير من فاعلي الحراك وناشطيه رأوا أن استعادة الدولة لا يمكن أن تتم إلا بتكوين قطاعات مهنية ونقابية يُلتف حولها، لتصير هي المحور القائد في تكتيل وتنظيم منتسبيها لإسناد خطوات «تقرير المصير»، فظهرت أصوات تدعو إلى تشكيل رابطة للصحافيين الجنوبيين وأخرى للأكاديميين وثالثة للفنانين، وبدأ الصوت الداعي لتشكيل اتحاد أدباء وكتاب جنوبي أكثرها نشازًا وانفلاتًا وسَهُل شيطنته بداية الأمر في سياق الخطاب الرسمي المناهض للحراك، غير أن الأمر كان قد بدأ يتعزز في وعي شريحة الانتساب هذه، فأبانت أكثر الأصوات عقلانية فيها عن مبادرات لحل المعضلة باقتراح «فدرلة» الاتحاد بوضعين جغرافيين «اتحاد للشمال ومماثل آخر للجنوب»، حتى إن هذا الاقتراح نُقل إلى اجتماعات رسمية تخص المجلس التنفيذي والأمانة العامة، في تجاوز يجرِّمه في الأصل النظام الداخلي ولوائحه.
في مايو 2010م انعقد المؤتمر العاشر في عدن، في وضع شديد التعقيد، فالبلاد كانت تنزلق إلى الانفجار. الشحن المناطقي كان قويًّا والوعي التشطيريّ كان يعمل بوقود الظلامة السياسية؛ لهذا انشطر المجلس التنفيذي المنتخب إلى كتلتين متساويتين ومتباينتين «شمالية وجنوبية» تعبيرًا عن الانقسام البائن في جسم الاتحاد، الذي اختزل الانقسام الفعلي في المجتمع وعبَّر عنه، لهذا لم تتشكل الأمانة العامة إلا بعد مضي أربعة أشهر من انعقاد المؤتمر في سابقة خطيرة، وتشكلت بمزاج المحاصصة أيضًا وبالتناصف «شمال وجنوب».
لم تمض سوى أشهر قليلة حتى كانت ثورة فبراير 2011م تعرِّي النظام وتكشف هشاشته. ساحات الشمال كانت تطالب بإسقاط النظام وساحات الجنوب كانت تطالب بإسقاط الوحدة، وليس للاتحاد من صوت واضح حيال ما يجري. وفي هذا التوقيت تحديدًا بدأت الاستقالات من عضوية الأمانة والمجلس من أسماء جنوبية وازنة، أعلنت صراحة سعيها لتشكيل اتحاد أدباء وكتاب جنوبي. تعطل انعقاد هيئات الاتحاد بسبب الاستقالات، وغلق مقاراته؛ بسبب قطع التمويلات الحكومية في منتصف عام 2014م، لتأتي حرب عام 2015م، واجتياح الجنوب مرة أخرى. بروز المجلس الانتقالي كوريث لكل فصائل الحراك، ومعبِّر سياسي وأمني لصوت فك الارتباط مع الشمال في مايو 2017م، كان اللحظة المثلى التي استثمر فيها الصوت الداعي لتشكيل اتحاد أدباء وكتاب الجنوب، الذي استطاع في ذكرى استقلال الجنوب في 30 نوفمبر 2018م إعلانَ هذا الكيان وبدعم من المجلس، كتعبير جليّ عن موجة سياسية عاتية أكثر منها فعلًا ثقافيًّا ونقابيًّا يمكن ترسيخه كمفهوم للتنوع.