الحب لا الحرب حين أثار مجنون ليلى الحفيظة السياسية
«إنها فتاتك، يحتفظ بها البحر من أجلك، هي رهينة الحب الذي لا تعرفه أنت بعد، اعرف الحب منها، بالحب فقط سوف تعرف منْ تكون أنتَ. أحببها، فسيرعاك البحر بالوفاء وينشر من حولك الإخلاص، ابحث فيها عن وطنكَ، ولا تبحث من أجلها عن وطن، فهي وطنكَ المنشود، أنّى يَكُنِ الحب، يَكُنِ الوطن.
جسد الفتاة يأسرني، ولا قدرة طليقة لفهم عبارات المرأة المتشحة بالسواد. تطفح شهوتي لاحتواء جسد الفتاة البضّ اللين والمشرع على نظري. أتقدم منها، تحول المرأة المتشحة بالسواد دون تماسنا تلمس رأسها ثانية، فتعود الفتاة ثانية إلى غيبوبتها التي تضاعف تأثير جمالها على نظري وجسدها الملقى يزيد حدّة شهوتي إليه. تومئ المرأة المتشحة بالسواد إلى الأمواج، فتعود إلى صخبها وتعيد الفتاة إلى قلب البحر المنزوعة عنه.
– أبحث عنها في قلبكَ فستجدها في أحضانكَ.
أصغ إلي، أنا حكمة البحر المتشحة بالسواد حدادًا على مساوئ اليابسة.
تقول ذلك المرأة المتشحة بالسواد وتهب نفسها هي أيضًا إلى البحر، فيستقبلها بقلبه الهادئ ووجهه الغاضب علينا نحن محتلُّو اليابسة العاقين». (رواية «مقهى مراكش» للكاتب).
يطلق روميو العاشق الشكسبيري صيحته الشهيرة: «مارس الحب ولا تمارس الحرب»، صيحة كهذه ساهمت بولادتها الحرب لا الحب؛ إذ إنها انطلقت من ساحة قتال ومجابهة وليس من أمكنة اللازمة لحدوث لقاء بين عاشقين. وهنا لا صعوبة في التأكيد على أن الحرب لا الحب هي الحاسمة في شيوع الأعمال الأدبية – الدرامية – الضامنة لبقاء تداولها والمؤثرة في الترويج لمقولاتها الفكرية. إن مآسي الحرب من التدمير والتقتيل عاجزة عن تدمير عظمة الحرب وقتل هيبتها. قد تكون مناهضة الحرب دعاية غير مقصودة لها. أما تأييدها فيأتي عبر تصنيع أزمات وتعليق حلها على حدوث حادث جلل، لا يقل عن حرب ولا يزيد عليها فظاعة. وهناك منْ يضفي بقصد أو بلا قصد على الحرب ضرورة ويخلع عليها صفات مثل عادلة. لا عدالة في قتل وتدمير. المطلوب تبشيع الحرب لا تعظيمها أو البحث عن مسوغات لتمجيدها أو لشنها أو قبولها كحلٍّ أولًا كان أو أخيرًا يكون. كما يستحسن الدفع نحو مساءلة الذين خرجوا منها أبطالًا وإعادة تعريفهم وتوصيف أفعالهم. ومراجعة النصر الناتج عن إهلاك وإعادة الاعتبار لضحاياها بشرًا كانوا أم أشياء.
الحرب فعل عقل دال على عجزه، والحرب هي من مخلفات إبعاد الحوار وتغييب الحكمة. وقد تتحول الصيحة الشكسبيرية هذه إلى شعار يتحقق منه خلافًا لما يدعو إليه. فالحب يبدو هنا، ليس شرطًا وجوديًّا، إنما تعبير عن الحاجة إلى التراص ضد خطر قائم يمثله شن الحرب والتنابذ بين المتحاربين، أي شعار تعبويّ. وكان من الجائز دراميًّا أن يكون الصلح بين طرفي النزاع، أو هزيمة شنيعة أو نصر مظفر، أو الاستسلام المشروط، أو حصار طرف لطرف والتصرف بقراره، قد تشكل هذه حلًّا للأزمة، مما يكون تصور الذروة له ما يبرره دراميًّا، مما يؤدي ذلك إلى نهاية مناسبة وتساعد على الانصراف من المسرح بسعادة لا تفسد الرغبة في تناول القهوة أو التعاطي اللذيذ للوجبات السريعة على الطرق الخالية من الأسئلة، وإهمال الترويع الذي قد يلحق بالجزء الخيالي من ذاكرتنا، الدم ليس سوى سائل أحمر، والأشلاء المتناثرة أشياء محلقة بلا تناسق وبلا إصرار على وحدة شكل والألون القاتمة مجرد تهيؤات بصرية. أي قصة الحب كان يمكن الاستغناء عنها، وعدم التأثر بمصير المحبين، والحرب، نعم، لا وجود بلا حرب ولا بقاء دون قوة، لا بقاء للأحب فالبقاء للأقوى، لكن الحنكة في تصوير شكسبير لشرفة جولييت ووله روميو، ساعدت على حلم وأبقت على رومانسية حب قابلة إلى التحقق بالخيال حد الملامسة الشعورية، شغل العقل بأثر الحرب وشاغل القلب بمأثور الحب.
الحب في هذه الصرخة لا يعبر عن توحد قلبين ولا يمثل اتحاد جسدين لأداء فعل لذيذ، إنما تُستغل في الاحتجاج على الحرب، والبرهنة على أن الرغبة في التوحد مع الآخر الشريك الكوني ألذّ وخدمة كونية في التصدي للانقراض، ورغبة عليا في البقاء والحفاظ على المألوفات الجمالية الباسقة بفضل سهو العنف، وتحرك الهدف مما أدى إلى تضليل التصويب، وما تصعيد رفض الدخول في حرب وإبطال معنى الـ مع أو الضده، ليس أكثر من جذب النظر وشد الانتباه. غير أن استخدام الجنس والحب هنا في النص الدرامي- مع افتراض حسن الغاية- يسيء للحب والجنس معًا، فهما أعظم من أن يستخدما مثالًا على الحط من دناءة حرب وبطلان حجتها. فالدعوة الصيحة، لا ترتقي بالجسد إلى ذرى الرغبة المشرفة على اللذّة، إنما أرادت أن تأخذ من فعل الحب دليلًا حسيًّا على ازدراء ممارسة الحرب، ونعم هنا يتضح أن الحب أعزل.
ليس فيّ إلَّاكِ
الحب كالحرية لا إرث لهما، ليكونا مرجعًا في المضيّ من أجلهما كفاحًا أو تصورًا، قصصهما غير محببة في عصر يشيد صروح القوة ويتوج العنف رأسًا لكل حل. أما على المستوى الأدبي والفني فعندما يُتناوَل الحب، فيأتي كعنصر ثانوي، مثير خلطة من همسات، قبلات، كلمات رقيقة أحيانًا وشيء من العري، إنه أشبه باستراحة مشوّقة تفصل بين أحداث دامية. كما في مسرحية روميو وجولييت. هناك قصة وحيدة لم ترشح لتكون مثالًا على قصص الحب في الكون، هي قصة مجنون ليلى العربية التي يضيق تداولها حد التهميش أو التندر. وهي القصة الوحيدة التي تنطوي على حب خالص لا تشوبه ظلال لحرب ولا فضل لها عليه. سأسردها على طريقتي، يتخلل السرد ما هو منقول على حكايات الجدات العراقيات عن نجمتين تدعيان قيسًا وليلى، هاتان النجمتان تلتقيان مرة في العام، وكنا صغارًا وكبارًا نحمل الأنوار ونرقب لقاءهما، نجهز الأمنيات ونوجه البصر إلى السماء وطنهما العالي علينا، حالما تلتقيان نرمي عليهما أمانينا:
كم تمنيتُ أن أكون سماءً
كيلا تتشرد النجوم
السماء ليست لنا
إنها للنجوم
(تعانق قمةُ الجبل البيضاء زُرقةَ السماء. غِزْلان بِيض تمرح على بساط المرج الأخضر. رائحة الورد تختلف على تعدد ألوانه. طيور تتناوب على رعاية السماء بالتحليق والبشر بالغناء. سحب بيض تستحم في زرقة ماء نبع فوّار. تلتمع أشعة الشمس على أثواب زاهية تكسو كوكبة نسوية. تسبقهنّ قهقهاتهن إلى بلوغ نشوة الاستماع. الجمال فرِح بوجوههن. عيونهن الواسعات تقصر النظر إليهن. راحتهن تفرج عن لمساتهن. شعورهن المرسلة تعاكس وجهات الهواء. يهفو العشب على أقدامهن الحافية. الصلابة خجلى من ليونتهن. يُؤنِّثْنَ ما هو مُذكَّر، ويذكِّرنَ بما هو مؤنث. إقبالهن ينهي الإدبار عنهن. يشكلن جزيرة مؤنثة عائمة بهدوء على بحر الذكورة الهائج بالشهوة. تمسكهن بالحياة يسرّب الموت. يتواطأ الماء والضوء على عريهن. فيما تنصب الشمس أشعتها فخًّا للإيقاع بالأثواب. يتقافزن إلى النبع، يستحم الماء بأجسادهن. مناشف الهواء تهبّ لرفع البلل عنهن. من ألسنتهن يتعرف التِّين والعنب على الطعم. الأشعار على شفاههن ميلوديا حالمة. أجسادهن تؤلف بين الرقص والبهجة. الرقص بلاغ عن حدوث فرح. القهقهات دعوة إلى نشر النشوة. يقبل ظل صامت نحوهن. الصمت كلام معتذر. السكون يبادر إلى الإيحاء بالاستكانة. يعرب الظل عن رجل يترجل عن جمله. يستعير من الزمن عشرين سنة ليبدو بها. أناقته تمهد إلى جماله. جعدات تنهي شعره عن رسل. تنقسم قسمات وجهه على الوداعة والجمال. خطواته ترفق بقدميه. يقتصد بالكلام ويسخى بالنظر. طواف نظره ينتهي إلى فتاة لا تنتهي من النظر إليه. شعورهما بهما يضمهما إليهما بصريًّا. شاعر قصيدته هي. ينبض قلبه على نبضها. يضله ليهتدي إليها. ينحدر منه مرتقيًا إياها. تخفق أعضاؤهما على رغبتها فيهما بالحيلولة دون اشتباك وجهيهما البصري. يتوقف عنه ليستمر بها. مذهولان بهما حد الدهشة والمفاجأة. تواري يدها مفاتنها ثوبًا. لا ثوب بضيقه أو وسعه يستطيع كتم فتنتها. فجأة، تجدها وجهًا لوجه مع قدر مؤلم في هيئة رجل لذيذ. يكون منها ومنه تكون. يتأخر جسداهما على توحد روحيهما المبكر. من أجلهما يوجدان. بلا كلمة يسرفان بالحديث. النظر حديث العشاق. تنفرط من حولهما حلقة البنات، يتشتتن إلى حاسدات، مصدومات، واشيات، مذهولات، غيورات، مرحبات وسعيدات. المصدومة منهن بالحب تستعير ظلم الرجل في حكمها على غيرها من النساء.
الحقل يحاسب على النوايا. يجرد مَنْ هي سيئة النية من جمالها وبهجتها. ويخلع نضارته وجماله على مَنْ هي حسنة النية. تضطر الشمس آسفة إلى الغروب. الألوان الناعسة تلتحف بسواد المساء. الصفير يخطرهما بالذهاب. يعيرها قدميه لتخطو بهما. الورد يسخى عليهما بالرائحة. الطريق السعيدة تُنسي السائر طولها. تنطوي راحته على لمساتها. لا يبقى منهما سواهما. ليس فيهما إلا هما. يطلق عليه اسمها لينادى بها. يفترقان عنهما إليهما. يجده جميلًا بها. إنها سرّه المسرّ لسريرته. سرّ يستعصي على بوح وكتمان. الواقع يمسي أجمل من الحلم. يبقى هو ساهرًا. يقاوم النوم. يأبى أن يصبح هذا اليوم أمسًا. يصحوان على شمس لا تزال نائمة. يقبل الضوء على الصباح على إقبالهما. تسقط عنهما سنوات قامت متفرقة قبل توحد عمريهما. يصغران على عمر يكبر رغمًا عنهما. طفلان يشكوان كبرهما. يشتاقان إليهما في قربهما منهما وبعدهما منهما. القرب مطب البعد. يتناجيان عن قرب ويتحدثان من بعد. ثرثرة العشاق فصاحة الشعور. يعوم وجهاهما على الماء الغارق فيهما. تشهد الأشجار على لقائهما. الطريق يصرّ أثرهما. يشيدان بيت حبهما: «ظل شجرة. صفحة ماء. عشب، عطر، وردة، فراشة، تغريد طائر، ذكرى، قصيدة ويوم لا يُشتق من أمس ولا غد ينشق عليه». يقول فيها شعرًا. يريد أن يعرف الكون منْ تكون ليلاه. لعل الكون يحبها ويحبب بها كائناته. تردد السهول صوتهما وتعيد الوديان أصداءهما. ليلى حدثه حديث الكل. على هدى شعره يهتدي الصاغون إلى طريق جسد ليلى، من خصلات شعرها حتى أصابع قدميها، يمرون عليها بإعجاب أو نميمة، منهم مَنْ يشي ومنهم مَنْ يركع لحبِّه لها وجمالها من أجله. جمالها تعميق أنثوي لجمال الكون الطبيعي. يخرج الكون على عرائه بعريها. مفاتنها مفردات فاتنة في جملة جسدية جميلة. يحمل الهواء صوت حب يرتفع بالسمع إلى ذرى النشوة. المصدوم بالحب يصدم به، يحط من صوتهما الراقي بالحب إلى حضيض الوشاية بهما. الصدى يوقع بالصوت. الصدى مسخ الصوت. تشاع عن حبهما إشاعات تحذر منه. الكراهية تتعقب الحب بالحدّ. يكون الحذر ثالثهما ورابعهما الخوف عليهما. يبكران بالحب على عالم لا يزال متأخرًا عليه. الخوف يحيل الحب إلى سرّ. يتصدى لحبهما المعزولون عن الحب، يحذرون منه، يصغي إلى تحذيرات عقله غير الواثق من قلبه. ماضي حبهما الطليق يهدده الحاضر المحبوس، تنحيس الأمكنة واللقاءات عنهما، يقصران سرهما عن حدّة بصر وطول لسان. يودعان ذكرياتهما في ذاكرة لا يطولها النسيان بفضوله. يخاف عليهما حبهما.
يحظر الحب من دون اعتراف من عرف وتصريح من جماعة. يتحفظ الشيوخ الطاعنون بالسن على الحب. يحجر الأب على ليلى، بالجدران يتكتم على ابنته العارية في شعر يتغزل بها جهارًا. يصدر عليها الحكم بالزواج إكراهًا. تكره على غيره. الأعراف لا تعترف بالحب، تعريف الحب نيل منه. تنتهي إلى بيت ينهي صلتها به، ويهيم قيس بالبراري هائمًا ولهانَ يحفظ دمه من هدر، يزداد حبًّا وهزالًا وتنكمش هي حزنًا وشوقًا. تموت هي في خباء ويموت عليها في العراء ولهانَ هزيلًا). هكذا تنتهي قصة مجنون ليلى. الأب يرفض تزويجها رادًّا وساطات ورافضًا عروضًا. وقيس يهدر دمه؛ لأنه كشف عن جسد ليلى في حبه وشعره. يهيم في البراري ويولي وجهه وجهة ديار ليلى، لا يحبّ إلاها، يحسد حمارًا مركوبًا ما دام قادمًا من ديارها. قيس الذي صرفه الحب إليه، ليس فيه إلّا حب ليلى، وهو المحروم من كل شيء، ما عدا الحب الذي يفيض به، ذهب إلى الكعبة ماسكًا العروة الوثقى صارخًا: «ربي زدني حبًّا». ينشد حبها، وهو الذي كان يؤثر غيابها على حضورها، كيلا يهدأ شوقه إليها. تموت شوقًا إليه ويموت هائمًا فيها ومن أجلها. نهايتهما تفضي إلى بداية حب، لا ينتهي إلى نهاية. النهاية تصويب عقلاني مقصود لخطأ القلب وعفوية الحب. خطأ القلب صوابه. ترفض الذاكرة الشعبية هذه النهاية، تبني نهاية على ميلها للقصة، تضفي بعدًا خياليًّا عليها، ربما لإدراك، أن حبًّا كهذا أرفع من أن يحبه بشر، فالبشر مبكرون على الكون. يعترفون بعقل ويتنكرون لقلب. يراهما العامة من الناس نجمتين هبطتا على الأرض بهيئة رجل وامرأة، أرادا أن يعلما الكائنات الحب وتغيير الكون به. ويعطيان مثالًا عنه، الحب سر الكون على التكوين، حب يجمع البشرية ولا يعزلها في أوطان تتنازع على حدود وإلى أمم تتناحر على أعراق. لكنهما عُوقِبا على تطفُّلهما بالحب على الكراهية الشائخة بالكون، الكراهية أحد أعمدة الهيمنة. الكراهية صفة بشرية واعية. عُوقِبا بالعيش حرمانًا منهما وفصلهما عنها حتى الموت. يولد الإنسان شريرًا، لكن الظرف والتجربة، تتدخلان في تعميق الشر أو الحد منه بالحاجة إلى فعل الخير.
الذاكرة الشعبية المجروحة المأهولة بذكريات الحرمان والعوز والكراهية، تسوح بهما حدّ التحليق، تتخيّل نهاية أخرى، يأمن فيها العاشقان من كره بشر وغدر زمن. تتداول شفاهة النهاية التالية: يقرران الهرب بحبهما المطلوب من الكراهية. تطلب ليلى من قيس انتظارها، تستأذنه بالذهاب إلى بيتها والعودة بعد قليل. يبقى قيس ساكنًا في المكان الذي تمكنه فيه ليلى. تذهب ليلى ويأتي الصيف تشهد شهوره على وقوف قيس ساكنًا، يخاف أن يتحرك فتضله ليلى. يأتمن الصيف الخريف على العالم. الخريف غير الأمين يسلب الأشجار أوراقها. يجمع طائران القش والعيدان. على رأس قيس الواقف الساكن، يبنيان عشهما، يضعان فيه بيضتين. قيس لا يتحرك خوفًا أن تضلّه ليلى. يزحف الشتاء المستبد العادل بالمطر والظالم بالبرد والعتمة. قيس لا يتحرك فتضلّه ليلى. يبعد الربيع الشتاء، فيقرب الأشجار من أوراقها. قيس لا يتحرك فتضلّه ليلى. تفقس البيضتان، صغار الطيور تصبح من كبارها. يقوى الصغير على وهن الكبير. يمدّ الربيع بساطه من العشب الأخضر المطرز بشقائق النعمان. لجوء الورد إلى التعدد احتجاج لوني على هيمنة الأخضر. تتخلى السماء عن زرقتها لبياض الطيور، سحب بِيض تنافس الطيرَ على بياضه والسماء على زرقتها. السماء تعبر بالأزرق عن صفائها، بالسحب البيض رغبتها في كسر رتابتها الزرقاء. أما السحب الرمادية فهي احتجاج السماء على فصل البشر عن دفء وضوء الشمس. الغيوم شحطات السماء. الربيع الصاعد، يحث المراعي على دعوة الأغنام إلى الرعي. قيس لا يتحرك فتضلّه ليلى. يخلف صيف خريفًا، شتاء يتخلى إلى ربيع. قيس لا يتحرك فتضلّه ليلى. رائحة وظل يمهدان لقدوم ليلى، على وقع عودتها تنعاد الحياة إلى قيس.
هل تأخرتُ عليكَ حبيبي
لا، إنها مجرد لحظات يا حبيبتي
يتعانق قيس وليلى، يتمكنان فيهما. ممكنان عليهما ومستحيلان على سواهما. إنهما عليهما باقيان ما دام في البقاء من بقاء. كل شيء بالحب جميل ولذيذ تسكب السماء ماءً، يغسلهما من غبار الأرض. المطر دموع السماء الفرحة بحب والحزينة على قسوة. الضوء زينة السماء، فيما العتمة حدادها على المغدورين في الأرض. يستحمان بهما. العرق والبلل يلينان عليهما التصاقهما. بللهما يجردهما من أثوابهما إكرامًا لنظرهما إليهما. تجففهما الشمس بالضوء والدفء. تبادر السماء إلى رفعهما إليها. نقيان مما علق بهما من غبار الأرض ومساوئ البشر. تحيلهما إلى نجمتين ليستحيلا بالضوء على ظلم البشر. الضوء استحالة النجمة. السماء شرفة النجوم. نجمتان تشرفان بالضوء والحب على أرض تشارف على الإظلام بالكراهية. يتجدد الشوق على حبهما إليهما. الشوق نجوى الحب. شوقهما إليهما يدفعهما إلى البعد منهما والعودة إليهما بلقاء سنوي يكون مناسبة للاحتفال بالأماني المتأخرة والمؤجلة. يتنادى إليها الناس وعشت جانبًا من هذا التقليد في طفولتي. يطلق على هذا التقليد: (ليلة لقاء المجنون بليلى) يخرج الناس غروبًا، يحتشدون في الساحة. ظلام يتداعى على أرض تتخلى عنها شمسها، سماء تسمو، يرفع منها قمرهما. تشعل النيران، تحمل الفوانيس والشموع، ينقر على الدفوف. يقرع على الطبول، الصفير ينضم إلى نباح كلاب يتصل بنقيق ضفادع. تتعالى ابتهالات وأدعية، تجمُّع بشريّ متفرِّق إلى جماعات في مواجهة سماء ملتفَّة حول القمر ومتراصَّة بالنجوم. تصوب الأنظار إلى الأعلى في انتظار لحظة تقاطع النجمتين الخاطف؛ ليهجسوا بما في نفوسهم من أمنيات، بحاجة إلى التحقيق. أمانيهم كأسرارهم وخواطرهم تعتصم بالكتمان، خوفًا عليها من حسد وتحسبًا من مساءلة. هكذا سمت ذاكرة العوام في خيالها، بقيس وبليلى رافعة إياهما إلى مصافّ سماوي بصفة نجمتين. غير أن العوامّ على الرغم من نبل حسهم التخيليّ، لكن حسًّا كهذا لم يسلم من التدخلات المنفعية. فالواقع البشريّ الذي جعل لقاءهما مستحيلًا على الأرض وممكنًا في السماء. لم يكن خاليًا من غرض؛ إذ إن نظير رفعهما إلى مصاف النجوم، عليهما رد الجميل بالقيام بمهمة تتلخص في التدخل لتعجيل تحقيق الأماني المأمول طرحها عليهما في أثناء لقائهما المنتظر والخاطف، أي عليهما مساعدة الأرض في تحقيق أماني مَنْ هم عليها. (كل ما في الأرض لمن هم عليها). بغض النظر عن كيف تتحقق الأماني ومتى. تعذُّر تحقُّق الأمنية يضاهي تحقيقها من حيث الاعتزاز بهما. (المرء يُعرَف مِن أمانيه). في موكب نوراني يوارى الحب في الثريا، تودع الأرض المأهولة بالكراهية عن ثراها العاشقين. فتبادر السماء إلى قبولهما لاجئي حب، لعلهما يساهمان من موقعيهما كنجمتين في نشر الضوء على الأرض؛ كي يهتدي على نورهما الحب إلى الضالين عنه. حب الأرض المظلوم يتظلم إلى السماء. الأرض تنكر على الكائنات مشاعيتها.
الكون مشاعية الكائنات
كما تقدم، إن هذه القصة تزيل العنف والسياسة وتبقي على الحب محورًا لأحداثها. ظهور الحب على هذا الإخلاص وذلك الوفاء، أثار الحفيظة السياسية، مما أوحى إلى أن القصة غير مقبولة من الناحية الثقافية. الفن والأدب أداتان إبداعيتان لتمكين الأيديولوجية السياسية من تحقيق مشروعها الثقافي. أوصاف فارس أحلامهن تعرضها النساء على القدر لعله يتعرف إليه ويهديه إليهن. القدر هنا إرادة سياسية في لبوس ثقافي. تشيُّؤ الأحلام والرغبات لغرض إحكام السيطرة على جوانية الإنسان، بعد أن جرى التحكم بمشهده الخارجي. (تخيّل حتى اليوم عندما يكرّم الشاعر يحصل على درع ولقب فارس، وليس على قلب ولقب عاشق، هكذا يتواطأ الشعراء مع الساسة، على خفض مستوى الشاعر إلى أدنى من فارس. الفارس (العسكرتاري) أحد رموز القوة في السلطة. يخلع الشاعر عنه لقبه ليتوج السياسي عليه لقب فارس- بلا فرس ولا افتراس)، نعم قيس ليس بطلًا يُحتذَى به في وطن يجنِّد مواطنيه ويحسم غاياتهم. وليلى امرأة ما وُجدت لتكون زوجةً صالحة للإنجاب. (المرأة قلب العالم قبل أن تكون رحمه). إنهما نموذجان سلبيان بإخلاصهما لحب غير متبوع بصفة مثل (حب الوطن، حب التضحية، حب الأمومة وغيرها). حبهما يثير اللغط من حولهما. أما إصرارهما على أن يكونا كما هما، وليس نسخة عن حب مُسيَّس أو صورة عن موقف مؤدلج. قد عرضهما إلى النبذ من القبيلة الثقافية. هذا فضلًا عما تشكله هذه القصة بخطابها من مخالفة للمألوف السائد الذي يعزز من رواج الأعمال الإبداعية. قصة انحدرت إلى الضغينة الناتجة عن خلاف بشري على الحب. ولم تَرتَقِ إلى مستوى العنف السياسي، فتسيل دمًا، تنثر أشلاء، تطير غيارًا، تدمر مباني. لا مقاومة فيها لعدو وحطّ منه، العدو شرير ينبغي تدميره، أي شخص سيبقى مرشحًا للحذر منه ومعروضًا على العداوة ما دام قد ولد في بيت آخر. ترك العدو والعزوف عن مواجهته مخالفة وطنية. تدير القصة ظهرها إلى الوطن وتتوجه إلى المواطنين، تتناول مشاكل شخصية ناتجة عن تفاوت جمالي وسوء تقدير. فيما يلعب سوء الحظ دورًا في التعاسة وتقرير النهايات. مشاكل كهذه مهما تعقدت يمكن حلها في نطاق أسري. فهي لا تستدعي تدخل المجتمع وتعبيره الأقوى الدولة. من هذا المنطلق جرى التحفظ عليها ثفافيًّا والنظر إليها، كقصة حب عادية عفوية وفطرية. إن إجراءً كهذا، أراد أن يقلل من أهمية دعوتها إلى الحب، ويبطل جدوى تمثل لوعته، أما تأكيدها على أهمية أن نحيا من أجل الحب. فيمكن مواجهتها بدعوة مماثلة إلى ضرورة التوجه نحو قضايا تُوصَف بالحساسة وتُخلَع أهمية عليها، أهمية مصيرية منفعية الغرض. نعم، قضية القلب خاسرة في محكمة العقل. لكن دعوة الحب ستبقى قائمة ما دام هناك كائن يقوم على الحب. يشعر أنه قد ولد مجزوءًا، حياته عبارة عن بحث حبي عن جزئه الضال ليقوم كله بعثوره عليه. الحب إعادة النصف إلى النصف ليقوم الكل. الحب فضل الكائن على الكون. يكون العالم ضيقًا بالكراهية وبالحب واسعًا حد اللمس.
مَنْ يحب يكون، فيعرف
والغريب أن لا منهج دراسيًّا يقرها كمادة ولا توجه عام ينادي بتبنيها. لعل ما يقف وراء ذلك، عدم ظهور الحرب كمقولة أساسية أو حتى ثانوية في مسار أحداثها، مما يدفع إلى الإحجام عن تجدد تناولها والتبشير بها. وكما لو أن هناك مسعى إلى تنحيتها عن تمثيل الحب العربي في محفل الحب الكوني، وقد يكون وراء انحسارها موقف ما، فخلوها من الشعارات والدعوة إلى العنف، وتغاضيها عن تبجيل العمل ومديح المشقة وقصر أحداثها على الحب والشوق فقط، الحياة حب وشوق ولا غيرهما. قصة تدعو إلى تصومع عشقي معزول عن التجاوب مع الآخرين والاستجابة لمطالبهم والنزول عند رغباتهم، خلوة حب مشغولة بالشوق. بالطبع إن دعوة كهذه تخرج على القواعد المشترط توافرها في شيوع الأعمال الفنية والتبني العام لها. خروج القصة على قواعد الأدب الشائع حد التعظيم، يضعها في مواجهة التضييق في نطاق تداولها. وتبعًا للتاريخ، فالبشرية في حالة حرب دائمة، تتخللها مراحل وقف إطلاق النار، والمنظور هو إعادة انتشار المجابهات وبناء القوة وتجديد الآليات أو اختراعها من أجل استخدامها على نحو أكثر بطشًا وتعطيلًا للحياة. البشرية لم تشهد سلمًا مما يمكنها ذلك من الشروع بالدخول إلى حقبة الحرية، لا سلام البتة بل هدنة بين حربين، غالبًا ما تكون هشة لا تصمد حتى أمام زلّة لسان. ففي الهدنة عادة تتم التعبئة الإعلامية لرفع مستوى الأداء البدني وشحذ الهمم القتالية عبر الأناشيد والخطب المسلحة. لكن ما الذي تذكيه قصة كقصة مجنون ليلى في أولئك الذين يحيون على إحياء الموت وشحن الحياة بمواقف وإثقالها بمطالب حيث تجعلها لا تطاق.
إن ظهور الحب على هذا الإخلاص وذلك الوفاء، يثير الحفيظة السائدة ويستفز المثال المدعوم بالعادة والمعزز بالتقاليد. نعم، قضية القلب خاسرة في محكمة العقل. لكن دعوة الحب ستبقى قائمة ما دام هناك كائن يقوم على الحب. الحب فضل الكائن على الكون. لكن لِمَ لا يطالب دعاة الحب بتشييد نصب تذكاري لقيس وليلى يتبرك العشاق به ويرمون بورداتهم عليه، ويطلق اسماهما على ساحة وشارع.
أرقبُ حدثًا لم يحدث
إلى الحديث يدعوني الهواء
لكنَّ عطرًا عابرًا
تنبأ لي بامرأة
أنتِ فرقي عن سواي
* رواية «مقهى مراكش» للكاتب.