وَولِ سوْيِنْكَا: إمّا أن تكون إنسانيّة واحدة أو لا تكون!
موضوعات جوهرية يتطرق لها الكاتب النيجيري وول سوينكا، الحائز على جائزة نوبل في الأدب سنة 1986م، في هذا الحوار الذي أجراه الناقد الأميركي هنري لويس غيتس، الابن، ونشرته دورية النيويورك أف بُكس، وتنشر «الفيصل» أجزاءً منه. والحوار الذي دار في كمبريدج بماساتشوستس، شهر نوفمبر 2018م، يتطرق إلى راهن نيجيريا وجنوب إفريقيا، وما يتشابك مع هذا الراهن من جشع وشهوة للسلطة، وظهور طبقة جديدة من أصحاب البلايين. كما يتحدث سوينكا عن الأصولية، مشيرًا إلى وجود أشكال مختلفة منها، فهناك أصولية معتدلة، وأخرى حقودة وشريرة، متوقفًا عند من يدعون أنهم مسلمون، بينما يقومون بأفعال مدمرة. في الحوار يتكلم صاحب رواية «المفسرون» عن الفنانين والكتاب الضمير، وأنهم كانوا موجودين على الدوام وفي جميع المجتمعات، موضحًا أن المجتمع يجد طريقته، حتى في أشد الحالات، لقول إن هناك بديلًا.
ويذكر أنه «في تلك البلاد التي تسمى نيجيريا» تعلّم ألا يذكر الأشياء التي يفضلها. وتحدث عن العيش في أميركا، ويلفت إلى أن من يتمتعون بمكانة أدبية رفيعة هناك محصنون ضد العنصرية، غير أنه كان يصطدم باستمرار بحكايات عنصرية.
إلى نص الحوار:
● غيتس: تنتابني الدهشة، في كل مرة أزور فيها جنوب إفريقيا، جراء الانقسام الطبقيّ. فثمة طبقة صغيرة من أصحاب البلايين، من ذوي البشرة السوداء، قد نهضت منذ نهاية الفصل العنصري. (فعلى سبيل الدقّة، ثمة ثلاثة رجال، في زمرة العشرة الذين يُعدّون أغنى أغنياء البلاد، قد ذاقوا مرارة السجن في ظلّ نظام الفصل العنصري). وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الانقسام الطبقيّ، في داخل مجتمع السُّود، بجنوب إفريقيا، انقسامٌ هائل. هل تظنّ أن الأمر سوف يتغيّر؟
■ سوينكا: أعتقد أنّ المسألة سوف تتطوّر. ينظر المرء، في الوقت الراهن، إلى هذا الأمر، بشيء من الدهشة، لسبب واحد. لقد كان الحزب -حزب المؤتمر الوطني الإفريقي- الذي صعد، في نهاية المطاف، إلى سُدّة الحكم، جزءًا من نسيج طرائق السياسة والتطور، في جنوب إفريقيا، منذ بداية الكفاح الذي قاده السُّود، كقوّة أخلاقيّة وسياسيّة وأيديولوجيّة. وممّا لا ريب فيه، أنّه قد كان نضالًا نادى بالاشتراكيّة. بيد أنّ القوى الغربية أصرّت، بالطبع، على أنه نضال شيوعيّ؛ على أنّ الشيوعيّة عائدة لتستولي على مقاليد كل شيء، إلخ. ولكنّ حزب المؤتمر الوطني الإفريقي كان يسير على هدى الاشتراكية في الأصل.
لقد توقّعت، بصراحة، تحوّلًا أكثر راديكاليّة في جنوب إفريقيا، على الرغم من أنّه لم يكن بالسرعة التي توقّعها المرء، وهذه مسألة محبطة. ويمكن عزو بعض تلك العوامل ]التي أسهمت في بطء هذا التحوّل[ إلى ذلك الوحش، مرة أخرى: الفساد، في قمّة السلطة. وهذا أمر مثبّط؛ لأننا كنّا نتطلع إلى أن يُشار إلى جنوب إفريقيا بوصفها نموذجًا للإصلاح السريع، وضميرًا سياسيًّا عظيمًا، يقول بالمساواة بين البشر، بعد عقود، وقرون من الاضطهاد الذي مارسته الأقليّة. إنه لأمر كارثيّ، بالنسبة إلينا، أن تتفكك هذه «الثورة» أمام أعيننا.
إننا نشهد انتقال السلطة من جاكوب زوما إلى سيريل رامافوزا. إنني أعرف رامافوزا، على الصعيد الشخصي. لقد استفاد، كرجل أعمال قبل أن يغدو رئيسًا، من الجهد الجماعيّ الموحّد لإعادة القوّة الاقتصاديّة إلى السّود. لقد أفاد من ذلك كلّه؛ والكثيرون كذلك، آخرون كثيرون. تبقى المسألة الآن كامنة في مدى محاولته على إشاعة حُسْن طالع الوقت، إن جاز لنا القول، لدى البقيّة، وبخاصّة الأكثرية الفقيرة من ذوي البشرة السوداء.
● غيتس: أين ضلّت جنوب إفريقيا الطريق؟ أكان ذلك تحت حكم مانديلا أم حين سلّم الرئاسة إلى تابو مبيكي؟
■ سوينكا: كلّا، لا أعتقد أنّ المرء يستطيع، ولو للحظة واحدة، نسبة ذلك إلى مانديلا. إن نقل السلطة -ونحن نتحدث عن السلطة الاقتصادية والسياسية على حدّ سواء- معضلة في غاية الحساسية والدقّة دومًا؛ أعتقد أنها ناجمة، في أيّ مجتمع، عن إدارة اجتماعية وسياسيّة خبيثة ومهلكة، على وجه الخصوص. وليست جنوب إفريقيا فريدة في هذا المجال. لقد شاهدنا ذلك في الاتحاد السوفييتي. لكنّ الإيقاع بطيء. إنّ الثروة، بأكملها، في جنوب إفريقيا، تخصّ أقليّة صغيرة جدًّا. وإنّ السيرورة الانتقاليّة الآن هي المعضلة.
لقد شاهدت جهودًا تبذل، على سبيل المثال، لمعالجة مسألة الإسكان؛ لنقل الناس بعيدًا من الأكواخ القديمة، إلى مساكن كريمة ولائقة وقليلة الكلفة، ولا شكّ أنها خطوات إيجابيّة. إنّ ملكية الأرض مسألة يتوجب معالجتها بأعظم قدر من الحساسية، ولكنّ ينبغي، في الوقت ذاته، معالجتها في المدى القريب. فقد يأتي زمن، تأتي فيه حكومة -وبخاصّة حين تكون ممسكة بمقاليد الحكم بقوّة، وتصبح حكومة متعدّدة الأعراق حقًّا، على الشاكلة التي تتحوّل فيها جنوب إفريقيا بسرعة كبيرة- تقول لمحتكري ملكية الأرض: «اسمعوا، إننا سائرون على درب انفجار آخر. فلنجلس إلى طاولة الحوار، لكي نتبنّى، بصورة حقيقيّة، سياسةً تتطلب التضحية، تتطلب التخلي عن منافع ماديّة معيّنة». أعتقد أننا، إن حدث ذلك، سوف نكون قادرين على رؤية إصلاح وتحسُّن أسرع في أوضاع جنوب إفريقيا وأحوالها.
● غيتس: كيف يُقارَن ذلك بالانقسام الطبقي المتزايد في نيجيريا؟
■ سوينكا: إنّ كلا البلدين، على الأرجح، في المستوى ذاته. بيد أنّ وجه الاختلاف الوحيد في نيجيريا كامن، بالطبع، في أنها ليست ذات طابع عِرقيّ، ولذلك فإنّها ليست مأساويّة، كما تبدو في الواقع، على الشاكلة التي هي عليها في جنوب إفريقيا. لقد أوجدنا، كما في جنوب إفريقيا، طبقة جديدة من أصحاب البلايين؛ من العسكر والمتعاونين معهم في المجتمع المدني. لقد جرى الاستيلاء على الثروة النفطيّة. ولذلك يرغب كل رئيس للبلاد في أن يكون وزيرًا للبترول؛ لأنّ لدينا اقتصادًا أحاديًّا. فالأموال، جميعها، تأتي من مصدر واحد. فحين تتوافر لديك الآليّة لاستخراج الثروة، ممّا يوفّر، على الأقلّ، مستوى معيّنًا من العمالة، فإنّك تمضي في تجاهل موارد الدخل البديلة، التي كانت ضرورية في السابق. ولذلك، تصبح المسألة بالغة الأهميّة، بالنسبة إلى أيّ رئيس، أو لأيّ شخص من الطبقات النافذة المنتفعة، أن يستولي على الثروة، ثمّ يتعامل معها على أساس أنها عطيّة شخصية، يوزعها كيفما يشاء، بدلًا من استخدامها، بصورة بنّاءة، في سيرورة التحوّل الكليّ للمجتمع. إنه الجشع، وإنها لشهوة السلطة. فكلما كانت موارد الثروة بين يديك، فستكون قادرًا على ضمان الولاء. وهذا ما كان يعوق سيرورة التطور في نيجيريا.
● غيتس: ما الذي تراه مستقبلًا لنيجيريا؟ لقد كانت ثمّة أوقات تساءلتَ فيها إن كان يتوجب على نيجيريا أن تكون أُمّة حقًّا.
■ سوينكا: آه، نعم، بالطبّع، دائمًا. إنّنا نتبنّى نظامَ حكم مركزيّ، مركزيّ إلى أقصى درجة. ولكننا، على الرغم من ذلك، نقول: إننا ندير «شكلًا أميركيًّا» من الجمهوريانيّة، ومن الديمقراطيّة، وهكذا دواليك. إنّه مجرّد انحراف. ولذلك، فإنّك تسمع في نيجريا اليوم عبارة «إعادة الهيكلة، إعادة الهيكلة، إعادة الهيكلة». السماح للولايات بإيجاد ثرواتها بأنفسها، واستثمار تلك الثروات وفق أولويّاتها، التي تختلف من ولاية إلى أخرى. ولكن، إن كانت جميع الموارد تذهب إلى المركز، ومن ثمّ يقوم المركز بتوزيع الحدّ الأدنى الذي يتوجب عليه دفعه بموجب الدستور (الذي يتوجب تغييره، في حدّ ذاته)، ثم يستطيع استخدام ما تبقّى من الموارد في يديه، لدعم ولايات غير منتجة، عقيمة الفائدة، وفاسدة. وهذا، بالضبط، ما كان يحدث، لسنين عدة.
إنّ الصرخة اليوم: «دعونا نسعى إلى اللامركزيّة». فلتنهض كل ولاية على قدميها «من تلقاء نفسها»، أو تندمج مع ولايات أخرى. تخلّوا عن البيروقراطيّة المترهّلة. تخلّوا عن السلطة التشريعية المترهلة التي تستنفد، في حالات كثيرة، أكثر من 50% من موارد كل ولاية. أيّ نوع من المجتمعات هو ذلك المجتمع الذي يكون فيه القائد حرًّا في إنشاء مشاريع لا تمتُّ إلى النّاس بأيّ صلة، البتّة؟ إنها مجرّد موارد لدفع العمولات، وشراء الذمم، وتجاهل التنمية والتطوير تمامًا، إنها لا تكاد تكفي لدفع الرواتب. من الواضح أنّ النظام لا يعمل.
أصولية حقودة
● غيتس: ساعدنا على فهم دور الأصوليّة/ السلفيّة الدينيّة في نيجيريا، وبخاصّة الإسلاميّة والمسيحيّة الإنجيليّة على حدّ سواء.
■ سوينكا: تتجلّى الأصوليّة في أشكال مختلفة، يعتقد الناس أنّ الحصافة تقتضي التعامل معها بتجرّد وإنصاف، ولكننا حين نتعامل مع حالات الموت، التي تجاوز المئات، والتي ترتكب في بعض الأحيان بأكثر الطرائق ترويعًا، فإنّه يتوجب علينا أن نكون صرحاء وصارمين. ثمّة أصوليّة دينيّة معتدلة، وهي قليلة، وثمّة أصوليّة حقودة وشريرة. يدعي أولئك الذين يرتكبون تلك الجرائمَ ضدّ الإنسانيّة، على الأقلّ، أنهم مسلمون. وليس كافيًا، بالنسبة إلى القادة، وبخاصّة في الآونة الآخيرة، أن يواصلوا القول: «هذا ليس الإسلام». نعرف أنّ هذا ليس هو الإسلام. إنّ الأمر المهمّ، وما هو إشكاليّ، كامن في زعم هؤلاء الذين يرتكبون هذه الجرائم ضدّ المجتمع، أنهم أنصار «الدّين الحقّ». لقد كان هؤلاء ]السلفيّون[ يحظون بمعاملة لطيفة، في البداية. لقد كانوا مُدلّلين. وقد تراجعت الحكومة إلى الوراء؛ كي تتجاهل المغالاة والشّطط. بقي قادتهم الدينيّون صامتين، لبعض الوقت، حتى أصبحوا هم أنفسهم أهدافًا.
كانت ثمة استثناءات، لا بد أن أشدّد على ذلك دائمًا. شكرًا لله، لقد كانت ثمّة استثناءات، بالطبع، منذ البداية؛ أولئك الذين صرخوا عاليًا: «هذه ]السلفيّة[ ليست نحن. هذا ليس ديننا. هؤلاء الناس مرتدّون. إنهم مختلّون عقليًّا. ولا نريد أن تكون لنا علاقة بهم». ولكنّ الحكومة رفضت، لأسباب سياسية، أن تأخذ هذه الأقليّة على محمل الجدّ حتى الأوقات الأخيرة، حتى شهدنا أحداثًا مخزية، كاختطاف فتيات المدارس اللواتي أُخِذْنَ إلى الغابة وبقين هناك سنين، وتَعَرَّضْنَ للتعذيب، وتجريدهن من إنسانيّتهن. لقد شهدنا أعمالًا وحشيّة تلو أخرى. إنها مسألة مرتبطة، في نهاية المطاف، بالإفلات من العقاب. فإمّا أن يكون لدينا دستور أو لا يكون. أن تكون لدينا قوانين أو لا تكون. فإن كانت لدينا قوانين، وأصرت جماعة على خرق هذه القوانين، مدعية أنّ الكتب المقدسة قد خوّلتها ارتكاب الجرائم، فإنهم ليسوا جزءًا من النظام العام.
كان لا بُدّ أن نقوم بأوّل ردّ فعل حين قرّرت ولاية زمفرة تبنّي الشريعة نظامًا للحكم. لقد رفعنا الصوت عاليًا، قائلين: إنّ هذا ضدّ الدستور. فالدستور لا يسمح بوجود ولاية دينيّة (ثيوقراطيّة). ولكنّ الرئيس، في ذلك الوقت، قد تبنّى سياسة الاسترضاء، كما يحدث دائمًا، في مثل هذه الأمور. لقد أخبرنا أولوسيجون أوباسانجو، الذي كان يخطط لإدامة حكمه إلى الأبد: «لا بد أن تتّخذ إجراءً ما». ولكنه كان يهادن تلك الحركات ]الأصوليّة[، ويتقرّب إليها، للحصول على دعمها، من أجل إطالة أمد بقائه في السلطة. ولذلك، فإنّ الإفلات من العقاب هو الذي ساد. ثم توالت الأشياء، تترى، على الأصعدة كافة؛ الرئيسة والثانوية على حدّ سواء. أصبحت حقوق الإنسان، إن وجدت، فكرةً ثانويّة. وجرى تبنّي أنواع العقوبات كافة، غير المنصوص عليها في الدستور، في التشريعات القانونية؛ كقطع يد السارق، على سبيل المثال. نعم، لقد وقعت حادثة، قبل أن يدفع الضغط الدوليّ تلك الحكومة على وضع حدّ للمسألة برمّتها. ولكنّ بعضًا، على أقلّ تقدير، قد استجاب، فيما تَعرَّضَ بعضٌ آخر إلى التهديد في الوقت ذاته.
أتذكرُ الحادثة الشهيرة لتلك المرأة التي حُكِمَ عليها بالرجم حتى الموت؟ لقد سألتني، سابقًا: ألا تشعر، في بعض الأحيان، بأنّ نيجريا لا تستحقّ الحياة؟ لقد عقدت العزم على تمزيق جواز سفري إن نُفّذ الحكم. لم أستطع تصوّر نفسي أن أعيش في أُمّة ]تقرّ مثل تلك الأحكام[، وأن أدعو نفسي مواطنًا لأيّ دولة تسمح بمثل تلك القسوة؛ أن تُدفن امرأة حتى عنقها، ثمّ تُرجم بالحجارة في رأسها حتى يتفتّت.
لذا، فلقد سُمح للأصوليّة الدينيّة أن تستفحل ويشتدّ عودها. كان لا بد من إيقافها. كان لا بد من وضعها في مكانها الصحيح. إنّ الدين شأن شخصيّ. أتريدون تنظيم أنفسكم، أن تُصلّوا معًا؟ حسنًا، إنّ الدستور يسمح بذلك. لا أعتقد أنّ أحدًا سوف يتدخّل ]في شؤونكم[ إن كنتم تريدون تبنّي ثقافة لا تعتدي على حقوق الآخرين، ثقافة لا يفرضها أيّ دين. أتُرِدْنَ أن تَلبسْنَ النّقاب، ساترات أنفسكنّ من قمّة رؤوسكنّ حتى أَخامِص أقدامكن؟ ربّما أجد النظر إليكنّ مقزّزًا للنّفْس، ولكنني لن أقدم على تمزيق حجابكنّ. ولكنكم، [أيها السلفيّون]، لا تستطيعون خرق الدستور بطريقة تُفرض على شرائح المجتمع الأخرى، لا تستطيعون أن تلزموا الآخرين اتّباع شرائعكم الدينيّة.
● غيتس: دائمًا ما يُمدَح بول كاغامه، رئيس رواندا، في طول الولايات المتحدة وعرضها، وبخاصة من جانب أصحاب النزعة الإنسانويّة. ما التصّور الذي لديك عن كاغامه ورواندا؟
■ سوينكا: إنّ حكومة كاغامه آخذة في الانزلاق نحو التناقضات التي سعى هو، في البداية، إلى القضاء عليها بشجاعة. ولكنني ما زلت أحتفظ بصورة إيجابيّة جدًّا عن كاغامه وحكومته. أعتقد أنّه قد حقق الكثير إلى تلك الأمّة، بالنظر إلى تاريخها والواقع الاجتماعي والسياسي القاتم الذي ورثه. وإذا أخذنا في الحسبان تمكّنه من تسمية فظاعة الجريمة، التي ارتكبتها الأُمّة ضدّ نفسها، باسمها الصحيح: الإبادة الجماعيّة، فإنّني أحكم على كاغامه بأنه قد أنجز الكثير. ولكنني أعتقد أيضًا أنّ لديهم سجلًّا في ميدان حقوق الإنسان يتطلّب عناية بالغة. يتوجب عليه أن يصلح وكالاته الحكوميّة، ولا سيّما الأجهزة الأمنيّة، وهكذا دواليك.
بيد أنّني كنت أفضّل ألّا يُغيّر الدستور لإطالة أمد ولايته في الحكم. أستطيع، لمرة واحدة، أن أفهم التبريرات المحتملة ]التي تنسب هذا التغيير[ إلى الأعمال غير المنتهية ]التي يتوجب إنجازها[. لقد كان، على الرغم من ذلك، يعيد بناء المجتمع، ليس من نقطة الصفر، بل ممّا هو أدنى من ذلك. ولكنني ما زلت أعتقد أنّه كان من الممكن أن تكون ]إنجازاته[ هديّة رائعة إلى القارّة لو -بعد هذه المهمة الخارقة في تحوُّل الأُمّة ]والانتقال بها إلى ما هي عليه الآن[- امتثلَ، بالطريقة المعتادة، إلى ما يسمح به الدستور، بدلًا من أن يعمد إلى تغييره.
● غيتس: هل ثمّة أُمّة في إفريقيا ترى فيها الأمل، من حيث الديمقراطيّة والعدالة الاقتصاديّة؟
■ سوينكا: لم أعُدْ أستخدم كلمة «الأمل». لستُ أنظر إلّا إلى سجلات الماضي، والتطور الذي حصل منذ ذلك الحين، وإلى الدليل على وجود الإخلاص في السياسات التي وُضعَتْ. لقد تجاوزتُ الآن تمامًا «الأمل، واليأس»، وما إلى ذلك. لم أكُن موجودًا هناك لوقت طويل، ولكنني أستطيع القول، من خلال التقارير والدراسات المقارنة: إنّ مالاوي تبدو كما لو كانت، منذ تخلّص الشعب من الرئيس هاستينغز باندا، تتطوّر بصورة مستمرة تقريبًا. ولكنّ المرء يتهوّر حين يُصدر حكمًا ]على شعب ما[، إلّا حين يكون قد زار هذا الشعب، بصورة فعليّة، وتفاعل معه. بيد أنّني أستطيع القول، من خلال القليل الذي أعرفه: إنّ مالاوي قد تكون -بصورة هادئة، وليس على نحو مثير أو مدهش أو دراماتيكيّ- أحد الأمثلة على أُمّة تتطوّر بوتيرة تحافظ على مجتمع ديمقراطي حديث وتصونه.
● غيتس: غالبًا ما يفزع الكتّاب، في زمن الاضطراب الاجتماعيّ والجَوْر، إلى الاستعارة للتعبير عن أقوى مناشداتهم لاستثارة مخيال الحريّة. الآن، بوصفك واحدًا من أساتذة [التعبير عن] الأسلوب الأسطوريّ، كيف ترى دور الكاتب/ الناشط [السياسي/ الاجتماعي] اليومَ في العالم الذي كنتَ تصفه؟
■ سوينكا: من الأشياء التي أودّ تأكيدها حين يواجهني مثل هذا النوع من الأسئلة، هو أنّه يتوجب على المرء دائمًا أن يتعامل مع هذه المسألة بمعزل عن الأزمنة المعاصرة، فمن المُسلَّم به أنّ الفنّانين ]المعبّرين عن[ الضمير قد كانوا موجودين، على الدوام، وفي جميع المجتمعات، وأحيانًا بطريقة طقسيّة/ شعائريّة. يوجد ذلك في ثقافة السّود الذين تنتمي إليهم. وأعرف أنها موجودة في الثقافة الإثيوبيّة أيضًا. ثمّة إثاراتٌ، في المجتمعات، تؤشّر على الاحتفال بكذبة نيسان -تُعرَف بأسماء مختلفة في أماكن مختلفة- حيث يُسمَع فيها الصوت البديل، سواء أكان ذلك بطريقة مباشرة أم عبر الإبداعات الفنيّة، من خلال المسرحيات، أو الحفلات التنكرية، أو الاستعراضات الفكاهيّة، التي نشهد فيها حضور الصوت البديل. ولذا، فإننا حين نتحدث عن دور الناشط والكاتب اليوم، فإنّ الأمر ليس بدعة. تُعدّ هذه المسألة، بصورة افتراضية على نحو مضلّل، في إفريقيا والبلدان التي تُسمّى نامية، على أنها فكرة غربيّة. إنني أجد ذلك ليس مجرد تجديف، بل هو تجديف إجراميّ. لذا، فلا شيء قد تغيّر، بالنسبة إليّ. فنحن نستخدم أدوات جديدة، ليس إلّا. إننا نستخدم الرسوم الكاريكاتيريّة التي تُعَدّ سمةً بارزة في مجتمعات كثيرة. إننا نستخدم المسرحيات، والمونولوجات، والمسرح الثوريّ، والمسرح الحيّ. والموسيقا، بالطّبع.
إنّها قضيّة مستمرّة. إنّني أرغب في تأكيد ذلك دائمًا؛ لا شيء مُبتدَعًا يحدث في الواقع. إنها مسألة مرتبطة بكوننا نتملك وسائط اتصال تسلط الضوء على محنة الكتّاب المنهمكين في هذا النوع من النشاط. إنّها جوهريّة بالنسبة إلى الحالة المزاجيّة الاجتماعيّة، التي ليست موحّدة البتّة. بخلاف ذلك، فإنّ الإنسانيّة تكون ميّتة، والإنسانيّة لا ترغب في أن تموت. إنها تواصل تجديد نفسها، تعيد تشكيل نفسها بطرائق كثيرة، وتتكيّف بالنسبة إلى ظروف محدّدة.
ما الفارق بين رجل مجهول تمامًا يضرم النار في نفسه في تونس، وهي الحادثة التي أطلقت شرارة الربيع العربيّ في تلك الأُمّة، حيث كان النّزاع ]المجتمعيّ[ قد بدأ في وقت سابق، -بمعزل عن شدّة النتائج التي أصابت الفرد- وتلك المرأة التي كشفت عن صدرها على الإنترنت، محتجّةً، في مصر؟ لقد كانت المرأة المصريّة تقول: «حسنًا، تقولون: إنّ تحرّر ]المرأة من السلطة الذكوريّة[ موجود؛ ولكننا، نحن النساء، لا نشعر به. فما زلنا خاضعين، ككائنات بشريّة، لتلك الأحوال المذلّة والتمييزيّة/ العنصريّة». لذا، فقد تعرَّت، حتى خصرها على الأقلّ، ثم نشرت ذلك، عمدًا، على الإنترنت. تلك هي طريقتها في الاحتجاج. أمّا الآخر فقد أحرق نفسه. كانت النساء، خلال الاضطرابات التي نادت بحق المرأة في الاقتراع، يقيّدْنَ أنفسهن بالسلاسل بالدرابزين أمام وِسْتمنستر. دائمًا ما يجد المجتمع طريقته [الخاصّة] -حتى في أشدّ الحالات التي تقهر فيها [السلطة] المجتمع وتحكم قبضتها عليه- لقولِ إنّ هنالك بديلًا. لذا، فإنني لا أرى أيّ فارق، البتّة، في الطريقة التي يجابه فيه الكاتب/ الكاتبة اليومَ الظروف غير المقبولة في المجتمع الذي يعيشون فيه.
تفجر الإبداع عند الكاتبات الإفريقيات
● غيتس: ما تفسيرك للتفجّر الإبداعيّ الفجائيّ لدى الكاتبات الإفريقيات؟ هل نشهد نهضةً ما؟
■ شوينكا: إنّها ظاهرة. إنّها لَظاهرة مُثلِجة للقلب فعلًا. ولكن، دعني أقصّ عليك حادثة وقعت لي في نيجيريا. أخبرني أحدهم، بعد بضع سنين على انتهاء الحرب الأهلية، أنّ اجتماعًا عقدته منظمة تمثّل عرق الإغبو، تُسمّى «أوهانيزي»، اتّخذتْ فيه قرارًا يتعلق بكيفيّة إعادة تأهيل شعب الإغبو، وتمكينهم من تجاوز صدمة الحرب الأهلية والدمار الذي سبّبته؛ جُملة القول: دفعهم إلى المكانة المرموقة التي كانوا يتبؤونها في الأُمّة. لقد عقدوا العزم على أنهم سوف يشروعون في التركيز على تعليم نسائهم، وأنه يتوجب على الرجال، على سبيل التغيير، أن يستحوذوا على الثروات الاقتصاديّة لشعب الإغبو. كان ينبغي عليهم الخروج للمتاجرة والعمل، ولجمع الأموال من أجل النهضة الاقتصاديّة، ولا بُدّ لنسائهم من الذهاب إلى المدارس؛ بكلمات أخرى: الاحتفاظ بالمكانة التقليديّة.
وبما أنّ هذه المسألة قد أَسرَّ لي بها شخص من الإغبو أثق به كثيرًا، فإنّ النساء اللواتي كُنّ يشغلن الدرجات الدنيا من المجتمع، قد شعرْنَ، فجأةً، بطاقة الإبداع والفكر تَسري في عروقهنّ.
أظنّ أنّ ذلك قد خلق، بدوره، منافسة بين نسوة ذلك الجيل في نيجيريا، وبخاصة في الغرب. إنه التفسير الوحيد الذي لديّ. والسبب الذي يدفعني إلى تصديق هذه الرواية هو الحيوية الكامنة في الإبداع النسويّ، والمشاريع الثقافيّة المبتكرة، والفنون البصريّة كذلك، والمجلّات والدوريّات التي كانت تصدرها نساء الإغبو، وما إلى ذلك. كان ثمّة بعض الروايات الجيّدة جدًّا.
● غيتس: هل ثمة أعمال أثيرة لديك؟
■ شوينكا: شيء تعلّمته، وبخاصة في تلك البلاد التي تُسمّى نيجيريا، هو ألّا تذكر الأشياء التي تفضّلها البتّة.
● غيتس: عرفتُ أنّك سوف تقول ذلك. ]ضحك[ ولكنّ ]تلك[ الحيوية تذكّرني بالحيوية التي تمتّع بها جيلك عند الاستقلال.
■ شوينكا: ثمّة تفجّر إبداعيّ مشابه.
● غيتس: هل تفاجأتَ حين منحت الأكاديمية السويدية بوب ديلان جائزة نوبل؟
■ شوينكا: نعم، كنت مندهشًا، وتملّكتني ردّة فعل مختلطة، من نوع ما، في البداية، تجاه ذلك. ثمّ انتقدتُ بشدّة الجانب السلبيّ [لهذا القرار].
أوّلًا- مقارنةً بصنعة الموسيقا، فإنني أعتقد أنّ الأدب يحظى بمعاملة غير عادلة بالنسبة إلى سهولة الوصول إلى الموارد المالية، والاعتراف الشعبيّ. دعنا نواجه الأمر: يتوجب على من يشتغل بالأدب أن يبذل جهدًا مضاعفًا مقارنة بمن يعمل في حقل الموسيقا الشعبيّة الرائجة. أنا لا أتحدث عن الموسيقا الكلاسيكيّة، [تلك] الأعمال الرصينة. إنني أعدّها واحدة من تلك المبادرات: «فلنكسر القالب من أجل أن نكسر القالب». لم أكن متأثّرًا البتّة. حتى لو كنتَ عازمًا على القيام بذلك، فإنّه لا بُد أن تفعله بالطريقة الطبيعيّة التي تتعامل بها مع الأدب. أتريد أن تنتزع كلمات الأغاني من الموسيقا، ثم تقول بأن هذه الكلمات هي أدب أيضًا، على الرغم من أن كينونتها قائمة في الطّور الموسيقيّ؟ فلا بُدّ، إذن، من تطبيق المعايير الصارمة ذاتها، ولا أعتقد بأنّ تلك المعايير قد طُبّقتْ ]عند منح بوب ديلان الجائزة[. أنظرُ إلى قائمة الشعراء الذين رُشّحوا ]إلى الجائزة[ في السابق. أقارنُ أعمالهم بأغنيات بوب ديلان، فأجد كلمات أغانيه سخيفة.
● غيتس: لقد كنت تأتي إلى الولايات المتحدة لستّين عامًا أو يكاد. فهل عانيت من العنصرية هنا؟
■ شوينكا: إنّني مُحصّن إلى حدّ بعيد. أعتقد أنّ الذين يتمتّعون بالمكانة ]الأدبيّة الرفيعة[ التي أتّمتع بها محصّنون ضدّ العنصريّة في أغلب الأحيان، ولكنّنا نصطدم بحكايات عنصريّة مستمرّة. كما نشعر بها من حين لآخر. لقد كنتُ أتحدّث، في الآونة الآخيرة، إلى الأمين العام الأسبق للكومنويلث الذي ذكّرني بتفصيلات محدّدة كنتُ قد نسيتها تتعلّق بتجربتي الشخصيّة، وبكفاحي الشخصيّ ضدّ العنصريّة. لقد ذكّرني بالظروف التي هاجمت فيها التمييز العنصريّ ]اقتصار مرتاديها على العرق الأبيض، فحسب[ في بركة السباحة، تلك، بأطلانطا، نحو عام 1962م، على ما أظنّ. أعتقد أنّ اسم الفندق كان «أطلانطا أميركانا». كانت مواجهة عنيفة، إلى حدّ بعيد، ولقد كنت أقارن تلك التجربة الشخصيّة بسوسيولوجيا العنصريّة اليوم في الولايات المتحدة، ولا ريب أنّ خطوات هائلة قد تحقّقت بهذا الصدّد.
لم تكُن ثورة السّود لأجل لا شيء، ولست راغبًا في أن يكون الناس بالسلبيّة التي هم عليها الآن.
***
- وول سوينكا: شاعر ومسرحيّ وكاتب مقالات وناشط سياسيّ، وُلد في نيجيريا، سنة 1934م. كان أوّل إفريقي يفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 1986م؛ لـ «تمكّنه من مضامين أعماله الشعريّة ومنظوره الثقافي الواسع، في أن يُشكّل دراما الوجود [الإنسانيّ]». أصدر أكثر من 63 عملًا، في المسرح والشعر والمقالة والقصة القصيرة والترجمة والسيرة الشخصيّة، كان آخرها: مجموعته الشعرية «سمرقند وأسواق أخرى عرفتها» (2002م)، ومسرحية «ألاباتا آباتا» (2011م)، وكتاب مقالاته «عن إفريقيا» (2012م). نال عام 2018م درجة الدكتوراه الفخرية في الأدب من الجامعة الفيدراليّة في أبيوكوتا النيجريّة.
- هنري لويس غيتس الابن ناقد ثقافي وصانع أفلام وصحافي، وُلد في أميركا سنة 1950م. يعمل الآن مديرًا لمركز هتشنز للبحوث الإفريقية والإفريقية- الأميركية بحامعة هارفارد. أصدر نحو 23 كتابًا، كان آخرها، «حجريّة هي الطريق» عام 2019م.