بواسطة الزواوي بغورة - كاتب وأكاديمي جزائري | مارس 1, 2023 | فيلوسوفيا
أصابت جمعية الفلسفة بالمملكة العربية السعودية في اختيارها موضوع «فلسفات فن العيش والحياة المعاصرة»، للاحتفال باليوم العالمي للفلسفة الذي أقرَّته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) منذ 2002م، والذي يصادف الخميس الثالث من شهر نوفمبر. وكان لي شرف المشاركة في الندوة التي نظمتها الجمعية الفلسفية عن بعد، يوم الأحد 13/11/2022م، قدَّمت فيها بعض الأفكار الأولية فيما يمكن تسميته بخطاب الفلسفة بوصفها (طريقة للعيش) أو (أسلوبًا في الحياة)، أو شكلًا من أشكال (جماليات الوجود)، الذي نقرؤه عند فلاسفة معاصرين، منهم: بيير هادو، وميشيل فوكو، وجون غريش، ومارسيل كونش، وفريدريك لونوار، وألان دو بوتون، ومارتا نوسبوم، وأندريه جون فولك، وستانلي كفال، وأرنولد دفيدسون… إلخ.
يقدِّم هذا الخطاب قراءة جديدة للتراث الفلسفي اليوناني والروماني القديم، أو لما يعرف في تاريخ الفلسفة بالمدارس المتأخرة، الإبيقورية والرواقية، وإلى حدٍّ ما المدرسة الكلبية. وتهدف هذه القراءة، على اختلاف مؤلفيها، إلى نقض قراءة سائدة في تاريخ الفلسفة، تقوم على فكرة انحطاط الفلسفة وتراجعها عند هذه المدارس، مقارنة بالازدهار وبلوغ القمة والأوج الذي عرفته الفلسفة عند أفلاطون وأرسطو.
مارتا نوسبوم
حكمة الاهتمام بالنفس
ولقد اتصفت هذه القراءة، شأنها في ذلك شأن مختلف القراءات الأخرى التي عرفها تاريخ الفلسفة بتركيزها على جوانب معينة، وإهمالها جوانب أخرى. ولعل أهم جانب ركَّزت عليه هو مفهوم الفلسفة ذاته الذي لم يعد يتحدَّد بالبحث عن الحقيقة النظرية، وإنما بالاهتمام بالممارسة العملية، وتحويل الفلسفة إلى نوع من الحكمة العملية في مقابل الحكمة النظرية، بحسب تقسيم أرسطي مشهور، والتأكيد للتجربة الفلسفية، وأن الفلسفة فعل تفلسف قبل كل شيء، وليست مذهبًا أو نظرية أو نسقًا. وهو ما يعني أن الفلسفة ممارسة قائمة قبل ظهور الفلسفة النظرية في اليونان. يقول بيير هادو: «كانت الفلسفة القديمة تقترح على الجنس البشري فنًّا للعيش، وعلى العكس من ذلك تبدو الفلسفة الحديثة، فوق كل شيء، كتشييد لرطانة تكنيكية مقصورة على المتخصِّصين» (الفلسفة طريقة حياة، ص399).
من هنا عمد هذا الخطاب إلى تحويل الفلسفة إلى نوع من الطب الروحاني مقارنة بالطب الجسدي، إذا استعملنا عبارة الفيلسوف والطبيب أبي بكر الرازي في رسالته: «الطب الروحاني»، وأن وظيفتها مداواة الأرواح، وتحقيق التحوُّل من نموذج الحقيقة والخطأ إلى نموذج المرض والصحة؛ لأنه من (تألَّم تعلَّم)، ولأنه كما يقول فورفيل: «لا جدوى من الفلسفة إذا لم نتخلَّص من وجع النفس» (المرجع نفسه).
تقوم هذه الفلسفة بوصفها فنًّا في العيش على جملة من الرياضات الروحية والبدنية، منها:
(أ)- تقنيات الانتباه، والتركيز على الذات، والحاضر، والجزئي. (ب)- ممارسة التأمل، وذلك بالتوجه نحو موضوع محدد، والرؤية أو النظرة الفاحصة؛ (ج)- الاهتمام بالقراءة، والكتابة، والاستماع، والحوار الروحي. (د)- الاعتناء بالجسد من خلال إجراء التمارين الرياضية، والحد من الملذَّات، وممارسة قدر من الزهد الفلسفي المتميز بطابعه الحر والذاتي. (هـ)- التواصل مع الآخر المتمثِّل في المعلِّم، والمدرِّب، وممارسة الاعتراف، والشجاعة في قول الحقيقة أو ما يعرف بمبدأ الصراحة.
من هنا ارتبطت هذه الفلسفة بالحياة العادية والمألوفة للناس ومشاغل الحياة اليومية؛ لأنها تطرح أسئلة الحاضر والراهن وتحاول إيجاد الحلول أو العلاجات المناسبة لمختلف المشكلات الحياتية. كان سينيكا يقول: «بينما نحن ننتظر أن نحيا تنقضي الحياة وتضيع». ولذلك، فإن الحكمة الموجهة للفلسفة بوصفها فنًّا للعيش هي ليست فقط حكمة (اعرف نفسك) التي ميَّزت تاريخ الفلسفة، وإنما أيضًا حكمة (اهتم بنفسك) التي نقرؤها في محاورتي أفلاطون: «الدفاع والقبيادس»، والتي تجاهلها تاريخ الفلسفة، أو بتعبير دقيق، تركها في الظل مقارنة بحكمة «اعرف نفسك» التي عرفت تألقًا، في حين أن التفلسف لا يستقيم إلا بممارسة الحكمتين؛ لأنهما تحيلان إلى النفس أو الذات في علاقتها بالمعرفة والممارسة معًا.
ولقد ظهرت حكمة الاهتمام بالنفس والاعتناء بها في الخطاب الفلسفي الأخلاقي المعاصر، وفيما يعرف بأخلاق العناية والاهتمام، الذي تمثِّله مجموعة من الفيلسوفات المعاصرات منهن على سبيل المثال لا الحصر: مارتا نوسبوم، وفرجينيا هيلد، وجوان ترونتو، وساندرا لوغييه… إلخ، وشعارهن في ذلك: اهتم بنفسك؛ لأنني أهتم بك. ويشمل مبدأ الاهتمام بالنفس في هذه الحالة كل أولئك الذين يقعون تحت مسؤوليتنا، وبخاصة أن الكائن الإنساني يعتمد على غيره لسنوات عدة من حياته. وأن كل الناس يحتاجون إلى العناية سواء في السنوات الأولى من حياتهم، أو في حالة المرض، والشيخوخة، والعاهات الدائمة.
والحق أنه إذا كان خطاب الفلسفة بوصفها أسلوبًا في الحياة، وفنًّا للعيش، قد أصبح في المجتمعات الغربية ظاهرة ثقافية، تجسدت في العيادات الفلسفية، والعلاجات الفلسفية، والانتشار المكثف لأدبيات كثيرة تُعنى بهذه الفلسفة، كالمجلات، والكتب، والأفلام، وتحولها في بعض الأحيان إلى نوع من (الموضة) أو التقليعة الحداثية عند أفراد وتجمعات ومؤسسات معينة، فإنَّه يمكننا القول: إن هذا الخطاب الفلسفي قد أصبح خطابًا عالميًّا. يؤكد ذلك درجة الإقبال على ترجمة النصوص والكتابات المخصصة لهذه الفلسفة. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو: ما علاقة هذه الفلسفة بخطابنا الفلسفي العربي المعاصر؟ لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال ما لم ننظر في سؤال آخر أساسي ألا وهو: كيف قرأ الفكر العربي المعاصر الفلسفة اليونانية؟ وكيف نظر إلى المدارس المتأخرة؟
التداوي بالفلسفة في السياق العربي
أبو بكر الرازي
لا يفاجأ الناظر في المشروعات العربية التراثية، بحضور فلسفة أفلاطون أو أرسطو بوصفها قمة الفلسفة اليونانية، وبخاصة ما قدَّموه في موضوع الأخلاق؛ إذ تكفي العودة إلى أربعة كتب ميَّزت الخطاب الأخلاقي العربي المعاصر، وأعني بذلك كتاب: «العقل الأخلاقي العربي» لمحمد عابد الجابري، وكتاب: «الإسلام، الأخلاق والسياسة» لمحمد أركون، وكتاب: «سؤال الأخلاق» لطه عبدالرحمن، وكتاب: «الأخلاق والعقل» لعادل ضاهر؛ حتى ندرك غياب المدارس الفلسفية المتأخرة، وسيادة فكرة الانحطاط، وتغليب العامل السياسي على العامل الفكري.
ونجد الأمر نفسه في الدراسات التاريخية الأكاديمية التي تتقدَّمهم دراسة عبدالرحمن بدوي الذي ربط المدارس الفلسفية المتأخرة بالخريف. يقول في تصديره العام لكتابه «خريف الفكر اليوناني» (1948): «في أماسي الخريف الرطبة ما يغري الموجود الحي بالانطواء على نفسه تأهبًا للموت. وإلى نحو من هذا الجو الباهت استجابت الروح اليونانية، بعد أن صعدت في معراج السماء الروحي حتى الدرجة العليا التي يسَّر لها بلوغها أقصى قواها، فأرهقها هذا التصعيد، ولم يكن في وسعها بعد إلا أن تنحدر حتى الهاوية، منهوكة مهزولة، فاتجهت ببصرها الكليل إلى الجانب الشاحب في الوجود، تستلهمه نظرة في الحياة جديدة، تعبر عن حالها هذا الحزن». (خريف الفكر اليوناني، ص «ب»). ويعلِّل ذلك بقوله: «لأنَّ هذه المدارس قد انصرفت عن النظر الفلسفي الصرف، وعن التفكير المجرَّد العاري عن العمل إلى الأخلاق العملية والسلوك» (المرجع نفسه، ص 7).
وردَّد هذا الحكم من بعده محمد علي أبو ريان في كتابه: «أرسطو والمدارس المتأخرة»، (1972م)، وفيه قسَّم الفلسفة اليونانية إلى ثلاثة أدوار: الدور الأول هو دور النشأة، والثاني دور النضوج، والثالث دور الذبول (ص 251)، وأكَّد أيضًا هذا التصورَ مصطفى النشار في كتابه: «فلسفة أرسطو والمدارس المتأخرة» (2006م). يقول: «لقد تحوَّلت نظرة الفيلسوف في هذا العصر من البحث عن الحقيقة المجردة للوجود وإدراك مظاهره المختلفة والكشف عن كنهها وماهيتها إلى البحث عن طريق للسلوك يحقق للفرد السعادة الذاتية. لقد انعكف الفرد على ذاته؛ لأنَّه لمَّا كان قد فقد حريته في العالم الخارجي نتيجة للظروف السياسية السائدة، فقد راح ينشد نوعًا من الحرية في العالم الباطن» (ص 262). ولعلَّ آخرهم هو مجدي كيلاني في كتابه: «المدارس الفلسفية في العصر الهلينستي» (2009م)، وفيه يقول: «وهذا يعني أن الأفكار التي تبنَّتها هذه المدارس كانت تتميَّز بأنَّها عملية أكثر من أفكار المدارس السابقة عليها» (ص 7). وهو ما يعني سيطرة القراءة الغربية لتاريخ الفلسفة على قراءتنا للتاريخ نفسه.
الرواقية في الفكر الإسلامي
عثمان أمين
ولكن مع ذلك، فإنني لا أجانب الصواب كثيرًا، إذا قلت: إن المؤرخ والمفكر الوحيد الذي خرج عن هذا التوجه الذي وسم القراءة العربية للفلسفة اليونانية سواء تلك الدائرة في فلك المشروعات التراثية العربية، أو تلك الدائرة في فلك البحث التاريخي الأكاديمي، هو عثمان أمين في كتابه: «الفلسفة الرواقية» (1944م)، وذلك بعد أن أصبغ عليها مذهبه المسمى: الجوانية. يقول: «والرواقيون على الخصوص فلاسفة جوانيون يلتفتون إلى الحياة الروحية الداخلية للإنسان، ولا يبالون بما يقع له من أحداث خارجية» (ص. «ج»). وتأكيده أثرَها في الفلسفة الإسلامية والمسيحية الوسيطية، والفلسفة الحديثة؛ ليخلص إلى نتيجة أساسية: «أن نقرِّر غير مسرفين أن الرواقية ما برحت بين المذاهب الفلسفية القديمة من أكثرها حيوية وأبعدها في الفكر أثرًا» (ص 15).
وعلى الرغم من أن الرواقية قد أثَّرت في الفكر الإسلامي القديم كله بحسب عثمان أمين، فإن هذا الأثر يُلتمس أكثر في نصين رائدين؛ هما نص رسالة الكندي: «رسالة في دفع الأحزان»، وكتاب أبي بكر الرازي: «الطب الروحاني»، وذلك لأنهما أكدا مفهومًا تأسيسيًّا في كل فلسفة تريد أن تكون فلسفة حياة، وأعني بذلك عبارتهما القائلة: «جمِّل حياتك بالأخلاق»، أو «زيِّن حياتك بالفضائل»، إضافة إلى الميراث الصوفي الثري والمتنوع الذي يحتاج إلى إعادة قراءة على ضوء مفهوم الزهد الفلسفي الذي يقوم على عنصرين؛ هما الحرية والتنوع في الممارسات. وكذلك في إقبال الباحثين العرب المعاصرين على ترجمة النصوص الرواقية، والنصوص الفلسفية المعاصرة المهتمة بالفلسفة بوصفها فنًّا للعيش، ومحاولة التأسيس لهذه الفلسفة في فكرنا الفلسفي العربي المعاصر الذي يتجلى في كتابات المفكر المغربي سعيد ناشيد، وبخاصة كتابه: «التداوي بالفلسفة» (2018م)، أو ما تحاول تقديمه بعض المؤسَّسات المعنية بتعليم الفلسفة سواءٌ على مستوى التعليم الثانوي أو الجامعي حيث تدرَّس مقرَّرات فلسفية ذات صلة مباشرة بالفلسفة بوصفها طريقة للعيش والحياة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مقرَّرات «فلسفة الأخلاق»، و«الأخلاق والمجتمع الحديث» و«الفلسفات الشرقية» التي تركِّز على فعل التفلسف عند حكماء الشرق، وأكثر من هذا ما يعرفه المجتمع المدني في عالمنا العربي من حضور وتنوع ونشاط، مستفيدًا من هامش الحرية الذي يميِّز عصرنا مقارنة بالمجتمع العربي القديم، وبخاصة من جهة تأسيس جمعيات ونوادي فلسفية تُعنى بمختلف الأنشطة الفلسفية، ومنها تحويل الفلسفة إلى أسلوب للعيش وفنٍّ من فنون الحياة.
بواسطة الزواوي بغورة - كاتب وأكاديمي جزائري | يوليو 1, 2020 | قضايا
أدَّى مقتل المواطن الأميركي جورج فلويد في 25/ 5/ 2020م من جانب شرطة مدينة مينابولس بولاية مينيسوتا بالولايات المتحدة الأميركية إلى إعادة طرح قضية العنصرية من جديد، ليس فقط في المجتمع الأميركي الذي تخترقه هذه الظاهرة منذ تأسيسه، وإنما في العالم كلِّه، وإنْ كان ذلك بدرجات متفاوتة. ولعل الأسباب الظاهرة والمباشرة على ذلك، تعود إلى ما رافق هذه العملية من مظاهرات، بلغت درجة الانتفاضة في بعض المدن الأميركية، وإلى انتشارها في كثير من العواصم الأوربية، وبخاصة بريطانيا، وبلجيكا، وفرنسا.
ولقد تزامنت هذه المظاهرات مع جملة من الأحداث الوطنية والعالمية، يأتي في مقدمتها جائحة كورونا التي أصابت العالم منذ بداية السنة الجديدة، وكشفت عن كثير من التفاوتات والمظالم الاجتماعية، وبخاصة ما يتعلق بمسائل الصحة، ثم تليها الصراعات السياسية والإعلامية العالمية بين بعض أقطاب العالم، وبخاصة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا، على خلفية الجائحة، وارتباطها بحدث وطني يتمثل في الاستعداد للانتخابات الرئاسية الأميركية، وما تفرضه من توظيف لمختلف الأحداث بغرض التحشيد والتجنيد.
من هنا شاهدنا خروج مظاهرات في عدد من العواصم الأوربية مندِّدة بالعنصرية، وبمختلف مظاهر الاضطهاد التي مارسها (الرجل الأبيض) قديمًا وحديثًا. ولعل ما يؤكد هذا التوجه هو انتشار حركة هدم التماثيل التي ترمز للعنصرية، والاستعباد، وكل أشكال التمييز، ورفع شعارات حركة: حياة السود تهمّ (BLM). ولم يقتصر الأمر على المواطنين، بل شاهدنا تدخل بعض الدول، ومنها دول إفريقية طالبت برفع الظلم عن السود، وإحقاق العدالة والمساواة بين مختلف المواطنين.
وبالطبع، فإن كثيرًا من الكتاب والمثقفين والمفكرين والفلاسفة قد عبَّروا عن مواقفهم المختلفة من هذا الحدث الذي أخذ طابعًا عالميًّا، وأعاد طرح قضية العنصرية بوصفها قضية مركزية بالنسبة للإنسان المعاصر، بحكم ارتباطها بالقيم الكبرى للإنسانية، والمتمثلة في الحرية والعدالة والمساواة. وليس يعنينا النظر في مختلف المواقف التي تعجُّ بها وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، مهما كان قائلها، وإنما الذي يعنينا هو النظر في خطاب العنصرية كما تمثله بعض الآراء التي قدَّمت مقاربات منهجية تُسهم في فهم جوانب أساسية من هذه الظاهرة. ولكن مع ذلك، فإن الإشارة إلى بعض المواقف يعدُّ تمهيدًا مناسبًا لمناقشة بعض الجوانب من تاريخ ومحدِّدات خطاب العنصرية. ومن هذه المواقف ما ذهب إليه عالم اللسانيات الأميركي المعروف ناعوم تشومسكي من أن المظاهرات المصحوبة بالتجاوزات تخدم أكثر سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وتعزِّز من حظوظه في الفوز بعهدة رئاسية ثانية. وكما يقول: «إن المتظاهرين العنفين يمثلون خبزًا مباركًا لليمين. ولا يفعلون شيئًا آخر غير تقوية حظوظ الرئيس ترمب»(1). وفي المقابل يرى الكاتب الأميركي دفيد هورويتز أن الأمر لا يتعلق بالمسألة العنصرية، وإنما باستغلال اليسار، والمقصود بذلك الحزب الديمقراطي الأميركي، لضحية سوداء بغرض ضرب الولايات المتحدة الأميركية(2). ولا يختلف كثيرًا هذا الموقف عمّا عبَّر عنه الفيلسوف الفرنسي ميشيل أنفراي في مقال له بعنوان: تمجيد الشرطة، وذلك كردِّ فعل على المظاهرات المندِّدة بتجاوزات الشرطة في العالم، وفي فرنسا تحديدًا، وذلك بعد إحياء قضية المواطن الفرنسي من أصل مالي أداما تراوري التي تعود أحداثها إلى عام 2016م. منتقدًا أحد الشعارات التي رفعها المتظاهرون في باريس والتي تقول: «كلُّنا نكره الشرطة»(3).
في حين تذهب المؤرخة المختصة في التاريخ الأميركي، والباحثة في العلوم السياسية نيكول بشاران في حوار لها مع القناة الفرنسية الخامسة إلى القول: إن ما نراه اليوم في أميركا وامتداداته في بعض العواصم العالمية، إنما هو نتيجة لعهود الاستعباد والاسترقاق(4). كما ربطت فيلسوفة الأخلاق، الفرنسية ساندرا لوغييه بين مقتل جورج فلويد والمصير الذي ينتظر السود في أميركا في ظروف جائحة كورونا(5). ووظَّف الفيلسوف الفرنسي ميخائيل فوصيل، عبارة جورج فلويد: «أنا لا أستطيع أن أتنفَّس!»(6)؛ لتشريح الوضعية الخانقة للسود والأقليات، ليس فقط في المجتمع الأميركي، وإنما في مختلف مجتمعات العالم حيث تعاني الفئات المهمشةُ التضييقَ، والإهمال، والإقصاء.
والحق، أن مختلف هذه المواقف، وغيرها كثير، تؤكد أمرين مهمَّين على الأقل؛ أولهما إعادة طرح مسألة العنصرية من جديد على بساط البحث رغم ما تحقق من حقوق مدنية وسياسية واقتصادية في المجتمع الأميركي أولًا، وفي بقية مجتمعات العالم. وثانيهما، تحوُّل بعض القضايا الوطنية والمحلية إلى قضايا عالمية، وهو ما تؤكده امتداد المظاهرات في بعض البلدان في العالم، وأكثر من هذا النقاش الذي صاحب هذه الأحداث، ويفرض على كل مجتمع أن ينظر في (عنصريته) الداخلية، وفي فئاته الاجتماعية التي تعاني التهميشَ والتضييق؛ وذلك لأنه مهما كانت العنصرية سمة بارزة لبعض المجتمعات، فإنها أضحت سمة ملازمة للمجتمعات المعاصرة، وإن كان ذلك بمستويات ودرجات مختلفة.
وعملًا على تقديم طرح موضوعي وشامل لهذه القضية، فإنه من المهم أن ننظر في بعض الأعمال المنجزة التي تمكنِّنا من الوقوف عند المعالم الأساسية لهذه الظاهرة، وتسمح لنا بتشكيل رؤية مناسبة لهذه الظاهرة المعقدة، التي لا تزال تعانيها فئات اجتماعية كثيرة. ولعل أول ما يجب التذكير به هو أن هذه مسألة قد لاقت اهتمامًا كبيرًا لدى الدارسين في مختلف التخصصات الإنسانية: التاريخ، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم السياسة، والفلسفة السياسية، وليس يعنينا أن نقدِّم جردًا شاملًا لتلك الدراسات، على اهميته، وبخاصة بالنسبة للفكر العربي الذي عرفت مجتمعاته كثيرًا من الآثار الاستعمارية السلبية، وإنما سنتوقف عند بعض الجوانب التاريخية والملامح البنيوية التي تسمح لنا بتشكيل مقاربة شاملة لهذا الخطاب.
أولًا : في التاريخ
رسم الفيلسوف الفرنسي المعاصر كريستيان دولكمبان في كتابه: تاريخ العنصرية، لوحة تاريخية لهذه الظاهرة التي لا تزال تخترق بقوة المجتمعات الغربية. متسائلًا في البداية عن معنى العنصرية، وباحثًا في أشكالها الكبرى، حيث رأى أن العنصرية هي: «كراهية الآخر بوصفه كذلك»(7). وتختلف عن مفهومي التمركز العرقي وكره الأجانب؛ وذلك بحكم أن العنصرية تشير إلى موقف يفيد أن أفراد الجماعة متميزون ومتفوقون، وأن عِرقهم يمثل مركز العالم. ويستند هذا الموقف في الأغلب على ما يلاحظ في المجتمعات (المتوحشة) أو (البدائة) أو المجتمعات بلا كتابة. ولكن نزعة التمركز العرقي لا تعني المتوحشين فقط بل هي نزعة عالمية وتنطبق أكثر على النزعة المركزية الأوربية. وأما مفهوم كره الأجانب فمن الصعب تمييزه من العنصرية، بما أنه مقرون بكراهية الأجنبي والغريب والمختلف. فممَّا لا شك فيه أن الانتقال من كره الأجنبي إلى العنصرية انتقال يسير، بل قد يكون في الأغلب مقدِّمة للعنصرية. إن كره الأجنبي ناتج من شخص له لغة وثقافة وجنسية أجنبية، أما العنصرية فإنها كراهية شخص ينتمي إلى عرق أجنبي. هذا ويجب الإشارة إلى أن العنصرية في عمومها، تبدأ من التمركز العرقي وكره الأجنبي لتتجاوزهما؛ لأنها تؤمن بدونية الأعراق المخالفة لها. ومن هنا يأتي خطر العنصرية الكامن في أنها تعطي الكراهيةَ أساسًا (موضوعيًّا)! وذلك بالاستناد إلى (تأويل معيَّن) لنتائج البيولوجيا، وهو ما يدَّعيه دائمًا الخطاب العنصري، رغم أن علم البيولوجيا يؤكد أن البشر متشابهون رغم أن الأفراد مختلفون فيما بينهم.
ولقد ظهرت العنصرية بأشكال مختلفة في العصور القديمة؛ أبرزها العبودية، واتخذت في العصور الوسطى شكل معاداة السامية، والزَّندقة. وتجلَّى الشكل الحديث من العنصرية في نهاية القرن السابع عشر، وتقوَّى في القرن الثامن عشر عند علماء التاريخ الطبيعي. وتعزَّز في القرن التاسع عشر عند أنصار العرق الأعلى. وتجسَّد في تجارة العبيد، ومعاملة السود/ الزنوج في الولايات المتحدة الأميركية، وفي جرائم الإبادة الاستعمارية. وتمثَّل في أشكال مرعبة في القرن العشرين عندما ارتبط بالفاشية والنازية والمحرقة (الهولوكوست)، والستالينية ومحتشدات الغولاغ، وإبادة الأرمن، والغجر، وما حصل من إبادة جماعية في كمبوديا في ظل حكم الخمير الحمر، والعنصرية الصهيونية في فلسطين وما اقترفته من مجازر في صبرا وشاتيلا على سبيل المثال لا الحصر. وكذلك ما حدث في رواندا، ويوغسلافيا سابقًا أو في البوسنة والهرسك. وأخيرًا، الأشكال الجديدة التي تعرفها العنصرية في أوربا ضد المهاجرين عمومًا، وضد العرب والمسلمين على وجه الخصوص. من هنا يدعونا دولكمبان إلى أن يكون لنا موقف من العنصرية يسمح بكشف خلفيتها التاريخية، وأساسها العلمي المزعوم، وآثارها المباشرة في الآخر، والوعي بأخطارها، ومحاولة الحدِّ منها.
وعلى الرغم من تعدُّد الأشكال التاريخية للعنصرية، فإنه من الممكن تقسيمها قسمينِ أساسين: يمتد القسم الأول من اليونان حتى القرن الثامن عشر حيث عرفت البشرية أشكالًا مختلفة من العنصرية، تتفق في كره الآخر، وتختلف في الأرضية أو القاعدة المعرفية في التفسير. ومنذ القرن الثامن عشر أصبحت العنصرية تتمتَّع بأرضية تفسيرية واحدة قائمة على تأويل فاسد لنتائج البيولوجية. ولقد ظهر هذا التفسير أول ما ظهر فيما قدَّمه علماء التاريخ الطبيعي في القرن الثامن عشر، وذلك عندما أدخلوا مفهومًا ملتبسًا وخطيرًا، ألا وهو مفهوم العرق كأساس لتصنيف البشر إلى فئات ومراتب.
ثانيًا: في المحدِّدات
آرثر غوبينو
اعتُمد مفهوم (العرق) من جانب علماء التاريخ الطبيعي منذ القرن الثامن عشر، ومن هؤلاء السويدي ليني: (1707- 1778م) الذي قدَّم تصنيفًا للنباتات لا يزال مقبولًا. وقسَّم البشريةَ أربعةَ أعراق هي: الأوربية، والأميركية، والآسيوية، والإفريقية، تتفاوت فيما بينها من حيث الذكاء والقدرات. كما قدم الهولندي كومبار: (1722- 1789م) تصنيفًا بناءً على دراسة الجمجمة، تُبيِّن تقاربًا بين العرق الأسود والقردة. ويُعَدُّ هذا العالم من رواد (التأويل الفاسد) لنتائج البيولوجيا، ولكنه مع ذلك لا يزال هذا التأويل يلقى قبولًا عند العنصريين المعاصرين. كما قدَّم الفرنسي بيفون: (1707- 1788م) في كتابه: التاريخ الطبيعي مقارنة بين الصفات الحيوانية والإنسانية، خلص فيه إلى القول: «إن الإنسان الأسود بالنسبة للإنسان الأبيض أشبه بالحمار بالنسبة للحصان، وأنه إذا كان الإنسان الأبيض إنسانًا، فإن الإنسان الأسود أو الزنجي هو حيوان كامل مثل القرد»(8). وهو صاحب نظرية تقهقر أو انحطاط النوع حيث يظهر الإنسان الأسود في مؤخرة الترتيب دائمًا.
وازدهرت في القرن التاسع عشر، قرن الاستعمار، نظرية العرق الأعلى مقارنة بالأعراق الدنيا، وأشهر مُنَظِّريها الفرنسيُّ غوبينو: (1816- 1882م) في كتابه: دراسة في تفاوت الأعراق، وهو أول كتاب في تاريخ النظرية العنصرية. كان يهدف غوبينو إلى أن يجعل من التاريخ جزءًا من العلوم الطبيعية، ولتحقيق ذلك رأى أن العنصر الأساس المحدد لتاريخ البشرية هو الدم؛ لأنه يتضمن قيمًا وفضائل لا يمكن اختزالها في مجرد معطيات فيزيائية. ولقد ألهمت غوبينو الفكرةُ التي قرأها عند عالم الفسيولوجيا الفرنسي بيشا القائلة: «إن الحياة هي مجموع القوى المقاومة للموت»(9). ولقد عمل على نقل هذه الفكرة من حالة الأفراد إلى الجماعات والمجتمعات والحضارات، مؤكدًا أن مصير الحضارة متعلق بمبدأ مؤداه نوعية دم الرجال وقوته وطاقته، وبكلمة موجزة: حيويته.
ولقد تعزَّزت هذه النظرية كثيرًا بالنظرية التطورية التي أسسها داروين: (1809- 1882م)، وبالتأويلات الاجتماعية والنفسية التي أعطيت لهذه النظرية، والتي لا يتسع المجال للنظر في أنواعها، وحسبنا أن نشير في هذا السياق إلى أن نظرية غوبينو كانت الأساس الأيديولوجي للاستعمار والفاشية والنازية، ولمختلف الحركات العنصرية المعاصرة.
وإذا كانت العنصرية تقوم على موقف سلبي من الآخر، فإن هذا الآخر لا يتحدد إلَّا من جانب الأنا، وذلك وفقًا لمرحلة تاريخية معينة، كأن يكون هذا الآخر هو الأسود، أو اليهودي، أو المسلم… إلخ. ومن الوظائف الأساسية لهذا التمييز بين الأنا والأخر هو فرض السلطة، والحق في التفاوت والتمييز. من هنا يذهب الأنثروبولوجي الفرنسي ديديه فاسين إلى أنه بدلًا من الحديث عن الحدود الخارجية بين البلدان والدول، فإنه من الأجدى الحديث عن الحدود الداخلية بين مختلف فئات المجتمع الواحد؛ لأنه إذا كانت الحدود الخارجية مرئية ومعترف بها، فإن الحدود الداخلية غير مرئية وغير معترف بها، بل هنالك ميل لإنكارها، مع أنها قائمة وتفرض نفسها بشدَّة في بعض الحالات والأزمات. وإن تلك الحدود الداخلية على الرغم من لا مرئيتها، فإن لها علامتها، ومنها: لون البشرة، والأصل العرقي، والدين… إلخ. وإنها ترتبط بالهجرة، وتؤدي إلى انقسام في الفضاء الاجتماعي، تنتج منه أزمات متعددة، تفرض اعتماد سياسة في الاعتراف، وذلك بحكم أن: «الحدود العنصرية على سبيل المثال تقوم على صفات مشتركة لفئة معينة، وتتضمن بالضرورة حدودًا اجتماعية، وهو ما يعني أن الاختلاف في اللون يتضمن غالبًا تفاوتًا في الطبقة الاجتماعية»(10).
ولا يتكوَّن الخطاب العنصري من العرق والمعطى الاجتماعي بحدوده المختلفة واللامرئية، وإنما يتعدى ذلك إلى المعطى الكوني، بحكم أن العنصرية لا تؤمن بإنسانية واحدة ومتعددة، وإنما تؤمن بعرق واحد وسيِّد. ولذلك فإنها تشكِّل عائقًا مركزيًّا أمام كل تصور للكونية، وبخاصة أمام الكونية الإنسية المتعددة. ولقد قدَّم في هذا السياق، الفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار مقاربة فلسفية باسم الأنثروبولوجيا الفلسفية تُثمِّن عملية إدانة العنصرية بعد الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من تقدم في الحقوق المدنية للسود في أميركا، وتنامٍ في الحركات التحررية المناهضة للاستعمار، ورفض لكل أشكال التمييز القائمة على الأصل أو الوراثة، وهو ما عبَّرت عنه البيانات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة في عامي 1950-1951م. ولكن التدقيق في هذه البيانات، ومعها البيان العالمي لحقوق الإنسان، يثبت طابعها النظري الغالب، ورهانها على أن التربية والتعليم عوامل كافية للحدِّ من العنصرية، إلَّا أن التجربة التاريخية للمجتمعات الليبرالية، قبل غيرها من المجتمعات، تكذِّب هذا المسعى، وتبيِّن أن العنصرية ظاهرة شديدة التعقيد، وتعرف تحولات وتغيرات، وأنها ليست مجرد حالة نفسية، أو عقلية، أو أيديولوجية سياسية خاصة بفئة محدودة من فئات المجتمع، وإنما هي مسألة مرتبطة بالمؤسسات الاجتماعية القائمة، وأكثر من هذا، فإنها تمثل نوعًا من الكونية المعكوسة، التي تقابل وتناهض الكونية الإنسية الصادرة عن فلسفة التنوير وقيمها، وذلك بحكم أنها لا تقوم على الاعتراف المتبادل بين بني الإنسان، ولا تؤمن بالانتماء إلى الإنسانية الواحدة، وإنما تدافع عن هوية انطوائية إقصائية متعصبة للعرق، وتسعى للهيمنة المطلقة. وهذا يعني، أن فكرة العرق قد عرفت تحولات في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، وهو ما يفرض دراستها دراسة نقدية، وبيان أخطارها، مع العمل الدائم على: «تعزيز المواطنة الديمقراطية»(11).
هوامش:
(1) Noam Chomsky, brûler un commissariat, c’est bon pour Trump !,trad. Claire Joly, in Là-bas si j’y suis, Le 6 juin 2020.
(2) David Horowitz, Mort de George Floyd: « ce n’est pas une question raciale », trad. Thierry Martin, in Comite Laïcité République, Le 10/6/2020.
(3) Michel Onfray, Eloge de la police, le 9/6/ 2020, in : https://frontpopulaire.fr/o/Content/co83677/michel-onfray-eloge-de-la-police
(4) Nicole Bacharan,Racisme aux Etats-Unis: “Ce que l’on voit aujourd’hui, ce sont les séquelles de l’esclavage”in, TV5MONDE, 01/06/2020.
(5) Sandra Laugier, Une mort de trop, in Libération, 4 /6/ 2020.
(6) Michaël Fossel, Pouvoir respirer, in Libération, 11 /6/ 2020.
(7) Christian Delacompagne, Une histoire du racisme,Des origines à nos jours,Paris,Librairie Générale Française, 2000, p.11.
(8) Christian Delacompagne, Une histoire du racisme, op.cit., p.150.
(9) Ibid., p.161.
(10) Didier Fassin(sous.dir), Les nouvelles frontières de la sociétés française, Paris, Editions La Découverte, 2010, p.17.
(11) Etienne Balibar, Un racisme sans races, in Relations,n°763,2013, p.17.
بواسطة الزواوي بغورة - كاتب وأكاديمي جزائري | مايو 1, 2019 | الملف
الناظر في التجربة أو التجارب الفلسفية العربية المعاصرة، ترجمةً وتعليمًا وكتابةً، يدرك بيُسر حضور الخطابات الفلسفية الغربية في تكوينها سواء على صعيد المصطلح، أم المنهج، أم النظرية. ولكن أي محاولة لفحص أوَّليٍّ لهذه الخطابات الفلسفية، ولشكل حضورها، أو لطرق تلقيها في الفلسفة العربية المعاصرة؛ يكشف عن تفاوت واختلاف في الحضور والتأثير والتوظيف سواء على مستوى تعليم الفلسفة في المرحلة الثانوية أو الجامعية التي تشتمل صحائف تخرجها على مقررات كاملة حول الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، وعلى دراسة مجالات فلسفية يغلب عليها الطابع الغربي، وبخاصة الفلسفة السياسية، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة العلوم، أم على مستوى التأليف والكتابة الفلسفية، بما هي محاولة لإنتاج خطاب فلسفي عربي.
ولا نجانب الصواب إذا قلنا: إن أكبر الخطابات الفلسفية المؤثرة أو الأكثر تلقِّيًا في الفلسفة العربية المعاصرة ترتدّ إلى ثلاثة خطابات كبرى، أولها الخطاب الفلسفي الأنغلوسكسوني، وعلى رأسه الاتجاه التحليلي والوضعي المنطقي بأعلامه المشهورة أمثال راسل، وفيتغنشتاين، وكارناب، ورايشنباخ، وأستين، وسيرل، وكواين، ودفيدسون، وكريبك… إلخ، مقترنًا بالاتجاه البراغماتي (الذرائعي) الذي يمثله بيرس، ووليام جيمس، وجون ديوي، وريتشارد رورتي. وثانيها الخطاب الفلسفي الألماني الذي يظهر بشكل أساس في الاتجاه الفينومينولوجي (الظواهري) ومؤسِّسه هوسرل وتلامذته الكثيرون على رأسهم مارتن هايدغر، وتلميذه غادامير الذي أرسى قواعد الفلسفة التأويلية (الهيرمنيوطيقا)، واتجاه مدرسة فرانكفورت بأجيالها الثلاثة: جيل النظرية الماركسية النقدية عند أدورنو، وهوكهايمر، وماركيوز، وجيل النظرية التواصلية عند يورجن هابرماس، وجيل نظرية الاعتراف والفلسفة الاجتماعية عند أكسيل هونيث. وثالثها الخطاب الفلسفي الفرنسي الذي يعرف حضورًا قويًّا ولافتًا في التجربة الفلسفية العربية، كما تؤكده أسماء بعض فلاسفتها: ديكارت، وجان بول سارتر، وميشيل فوكو، وجاك دريدا، وبول ريكور… إلخ. ولا عجب في هذا الحضور الفلسفي الغربي في التجارب الفلسفية العربية المعاصرة، ما دامت طبيعة الفلسفة تتسم بالكونية وتخاطب الإنسان في كل مكان وزمان، وتناقش قضاياه الوجودية والمعرفية والقيمية اعتمادًا على ملكته العاقلة التي تمثل أعدل قسمة بين الناس جميعًا كما قال ديكارت.
وثمة دراسات كثيرة عالجت هذه العلاقة التي تنسجها الفلسفة العربية بالفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة سواء من الناحية التاريخية، وذلك بدراسة هذه التيارات وأعلامها، وتعليم بعض نظرياته في المنظومة التعليمية الثانوية والجامعية، أم بإعداد الرسائل أو الأطروحات الجامعية في بعض موضوعاتها، أم بترجمة بعض نصوصها التي أصبحت جزءًا أساسًا من الخبرة الفلسفية العربية المعاصرة، أم من الناحية التطبيقية، وذلك من خلال توظيف بعض مقولاتها ومناهجها كما يشهد على ذلك ما أصبح يُعرَف في الثقافة العربية بالمشاريع الفكرية، مثل: مشروع تجديد الفكر العربي عند زكي نجيب محمود، أو مشروع نقد العقل العربي عند محمد عابد الجابري، أو مشروع نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون، أو مشروع من النقل إلى الإبداع عند حسن حنفي، وغيرها من المشاريع المعلنة أو المضمرة.
ويفرض علينا هذا التلقي المتعدد الأشكال والطرق للفلسفات الغربية الإشارة إلى أن التلقي داخل الخطابات الفلسفية الغربية نفسها قائم بقوة أكبر مما هو عليه خارج هذه الخطابات. والمثال على ذلك الخطاب الفلسفي الفرنسي الذي يحضر فيه الخطاب الفلسفي الألماني والأنغلوسكسوني بشدة؛ إذ لا يمكننا أن نفهم الفلسفة الوجودية عند سارتر، على سبيل المثال، من دون الفلسفة الفينومينولوجية التي أسسها هوسرل، ولا يمكننا فهم فلسفة ميشيل فوكو من دون نيتشه وقبله كانط. كما لا يمكننا قراءة نصوص دريدا من دون دراية بفلسفة هوسرل أو هايدغر، والحال نفسها للفلسفة التحليلية التي أصبحت تشكل تيارًا قائمًا في الفلسفة الفرنسية المعاصرة، وتعدّ أعمال الفيلسوف جاك بوفراس حول فيتغنشتاين مثالًا نموذجيًّا على هذا التلقي الفلسفي الفرنسي للفلسفة الأنغلوسكسونية، وكذلك الحال لفلسفة بول ريكور التأويلية التي لا يمكن فهمها بعيدًا من الميراث الفلسفي الألماني والإنجليزي على حد سواء، وفي المقابل فإن الفلسفة الفرنسية المعاصرة لها تأثير كبير في الفلسفة الأنغلوسكسونية، وبخاصة ما قدمه ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجيل دولوز، وجان- فرانسوا ليوتار من حضور وتأثير في الفلسفة الأميركية أو الفلسفة الألمانية على حد سواء.
معطيات أساسية
هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإن هذا التلقي للخطاب الفلسفي الغربي في التجربة/ التجارب الفلسفية العربية يفرض علينا أن نقارنه بما سبق وعرفته الفلسفة الإسلامية من تلقٍّ للفلسفة اليونانية. وفي تقديري أن هذا التلقي الجديد يختلف عن التلقي القديم بخمسة معطيات أساسية على الأقل: أولها أن الترجمة أصبحت مباشرة ولم تعد تجري عبر لغة ثانية كما هي الحال قديمًا حيث اضطر الفيلسوف العربي القديم أن يقرأ نصوص أفلاطون أو أرسطو في مرحلة أولى عبر وسيط متمثل في اللغة السريانية، وفي مرحلة ثانية أن يطلع على تلك النصوص منقولة مباشرة من اليونانية، ولكن في الحالين كان على الفيلسوف العربي القديم أن يقرأها مترجمةً من قبل المترجمين السريان، وبذلك يمكننا القول: إن الفيلسوف العربي القديم قد امتنعت عليه إمكانية الاطلاع على نصوص الفلسفة اليونانية في لغتها الأصلية؛ لذا عوَّضها بعمليات الشرح والتفسير التي تجلت بكل قوة في شروحات ابن رشد الذي وُصف، كما هو معلوم، بالشارح الأكبر، وعرف في أوربا بهذه الصفة تحديدًا، في حين يمتلك الباحثون والمؤلفون والمفكرون العرب المحدثون القدرة على الاطلاع على النصوص الفلسفية الغربية في لغاتها، كما يستفيدون من الترجمات المباشرة للنصوص الفلسفية بعيدًا من اللغة الوسيطة إلا فيما ندر. ومما لا شك فيه، أن الاطلاع المباشر على النصوص الفلسفية أو عبر ترجمتها من لغاتها الأصلية مباشرة، يشكل فارقًا أساسيًّا يسمح بالاستيعاب الدقيق، وبإمكانية تقديم قراءات جديدة.
ويتمثل المعطى الثاني في تنوع وتعدد وكثافة التجربة الفلسفية الغربية مقارنة بالفلسفة اليونانية القديمة، من هنا نرى ذلك الانتساب الصريح في بعض الأحيان والمضمر في أحيان أخرى لبعض الفلاسفة أو المفكرين العرب المحدثين إلى تيارات فلسفية غربية صريحة: الوجودية عند عبدالرحمن بدوي، والشخصانية عند عبدالعزيز الحبابي، والتطورية عند شبلي شميل، والوضعية المنطقية عند زكي نجيب محمود، والماركسية عند طيِّب تيزيني أو عبدالله العروي، أو مهدي عامل، والفينومينولوجيا عند حسن حنفي، والبنيوية عند محمد عابد الجابري أو محمد أركون، والتأويلية عند نصر حامد أبو زيد… إلخ.
ويظهر المعطى الثالث في القضايا والمشكلات الفلسفية موضوع الدراسة والبحث أو بالأحرى موضوع السؤال الفلسفي، فإذا كانت الفلسفة الإسلامية أو الفلسفة العربية- الإسلامية (أو الفلسفة العربية القديمة أو الفلسفة المشائية، وذلك بحسب التصنيفات والتأويلات المختلفة لهذا التراث الفلسفي القديم) تدور حول القضية الشائكة المتمثلة في علاقة الفلسفة بالدين أو الحكمة بالشريعة، كما يؤكد ذلك غالبية الدارسين لها، فإن المسألة الدينية في التجارب الفلسفية العربية لا تمثل إلا مسألة من بين المسائل الفلسفية التي يحاول الفلاسفة العرب معالجتها. بل نستطيع القول: إن الفيلسوف العربي المعاصر لا ينظر إلى هذه العلاقة بالمنظور نفسه الذي كان فلاسفة الإسلام ينظرون إليها، والأسباب في ذلك كثيرة؛ بعضها متعلق بطبيعة الفلسفة نفسها التي لم تعد مثالًا للمذهب المتناسق والشامل، وإنما أصبحت نشاطًا تحليليًّا، أو ممارسة فكرية في مجال معين، أو طريقة في قراءة النصوص ونقدها، وبعضها متعلق بالتطورات التي عرفتها المعرفة العلمية في علاقتها بالفلسفة والدين على حد سواء، وبعضها متعلق بالمشكلات السياسية والاجتماعية التي أولاها الفكر العربي المعاصر أهمية كبيرة، بحيث لا يتردد بعض الدارسين في وصف هذا الفكر بالفكر الأيديولوجي وذلك بحكم اهتمامه بالتغيير والإصلاح أو بكلمة: اللحاق بركب التقدم، بعدما أدرك المسافة التي تفصله عن الفكر الغربي المعاصر، ومحاولة الإجابة عن السؤال المتجدد بصيغ مختلفة، الذي طرحه في ثلاثينيات القرن العشرين شكيب أرسلان، ألا وهو: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ من هنا نستطيع القول: إن الخطاب الفلسفي العربي المعاصر يتميز بوعيه التاريخي على ما في هذا الوعي من تفاوت بين المفكرين والفلاسفة.
عدم متابعة التطورات
ويتجلى المعطى الرابع في التطورات الدائمة التي تعرفها الفلسفات الغربية مقارنة بالفلسفة اليونانية قديمًا التي كانت محدودة بنصوصها وأعلامها، في حين أن الوضع اليوم يكاد يكون مغايرًا كليةً لما كان في الماضي. من هنا يحرص الفيلسوف العربي المعاصر على رفد تجربته الفلسفية بالتطورات العلمية والفلسفية التي تساعده على فهم واقعه الثقافي ومحاولة تغييره نحو الأفضل. وفي هذا السياق، فإن ما يجب ملاحظته حول مختلف المشاريع العربية المشار إليها سابقًا هو اعتمادها على مقاربة منهجية محددة، وعدم متابعتها للتطورات التي تعرفها هذه المقاربات المنهجية نفسها أو أشكال النقد الموجهة لها. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر، ما قدمه زكي نجيب محمود من تطبيقات للوضعية المنطقية على الفكر العربي في القديم والحديث، ودرسه في كثير من كتبه ومقالاته، وبخاصة في: تجديد الفكر العربي، والمعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، بحيث توقف عند المعطيات الأولية للوضعية المنطقية كما صاغها كارناب في ثلاثينيات القرن العشرين، ولم يحاول أن ينظر في مختلف الأشكال النقدية التي وجهت لهذه الفلسفة، ومنها ما قدمه كارل بوبر على سبيل المثال. كما لم يهتم بالتغيرات التي عرفها التحليل اللغوي تحت تأثير ما يعرف بفيتغنشتاين الثاني الذي أسس نظرية الألعاب مقارنة بما سبق وقدمه هذا الفيلسوف نفسه في نظريته الأولى التي تعرف بنظرية الصورة أو الرسم التي شكلت أساس التحليلات الوضعية. والأمر نفسه، يمكننا ملاحظته على مشروع الجابري الذي اعتمد على بعض المفاهيم البنيوية العامة كمفهوم البنية، والإبستمية، والخطاب، والسلطة، والقطيعة، من دون أن يهتم بسياقها الثقافي، وبمضمونها المعرفي الدقيق عند فلاسفتها، وما عرفته من تطورات. فمثلًا، وظف مفهوم الإبستمية في كتابيه: تكوين العقل العربي و: بنية العقل العربي، الذي ابتدعه ميشيل فوكو في كتابه: الكلمات والأشياء، ليصف به القانون التاريخي للمعرفة في حقبة تاريخية محددة، تليها حقبة جديدة مغايرة عن سابقتها، أو تتقاطع معها، ولخصها في ثلاثة تحولات كبرى هي: إبستمية التشابه في عصر النهضة، والتمثيل في العصر الكلاسيكي، والإنسان في العصر الحديث، إلا أنها أصبحت مقولة ميتافيزيقية ثابتة عند الجابري بما أنها تشير إلى ثلاثة نظم معرفية منفصلة وثابتة في الثقافة العربية هي: نظام البيان، ونظام البرهان، ونظام العرفان. ثم إننا نجد هذه الإبستمية ترتبط عند فوكو بالسلطة، بحيث طور مجالًا كاملًا من التحليل الفلسفي باسم المعرفة- السلطة، أي تأكيد العلاقة أو الترابط بين المعرفة والسلطة، في حين يفصل الجابري بين هذين المجالين، وهذا يعني أن المفكر العربي المعاصر على الرغم من بحثه عن الفعالية المنهجية، فإنه يُغلِّب الهواجس الأيديولوجية مقارنة بالبحث عن الحقيقة. أضف إلى ذلك أن مفهوم الأبستمية مجرد مفهوم مرحلي أعقبته مفاهيم تحليلية أخرى لم يهتم بها الجابري أو غيره ممن وظفوا مفاهيم ميشيل فوكو.
محمد عابد الجابري
ويتمثل المعطى الخامس والأخير في البحث الصريح والمعلن عن الأصالة والإبداع؛ إذ إنه على الرغم من انتساب معظم التجارب الفلسفية العربية المعاصرة إلى تيارات غربية بعينها، واستعمالها بعض مصطلحاتها، ومنهاجها، فإنها تسعى من وراء ذلك إلى تحقيق الإبداع، أي التميز عن الخطاب الفلسفي الغربي، وذلك من خلال تأكيد الواقع العربي المختلف عن الواقع الغربي، والخصوصية الثقافية التي تميز المجتمعات العربية من غيرها، وهو ما يعرف بمسألة الهوية التي شغلت مختلف الكتابات العربية السياسية والأدبية والفلسفية على حد سواء، بحيث نستطيع القول: إن موضوع الهوية أصبح موضوعًا مركزيًّا في الخطاب الفلسفي العربي المعاصر.
والحق أن البحث عن الإبداع بعد التلقي الإيجابي سواء في صورة الترجمة أو التأليف يمثل الهاجس الفعلي لكل المحاولات الفكرية في العالم العربي. وبتعبير آخر يعمل الخطاب الفلسفي المعاصر من أجل تحقيق النقلة النوعية من التلقي الإيجابي إلى الاستيعاب النقدي والتأسيس الفلسفي الجديد. والدليل على ذلك ما نقرؤه في مختلف الكتابات العربية من ملاحظات نقدية مباشرة حول عمليات التلقي نفسها، والمثال على ذلك ما يشير إليه محمد عابد الجابري نفسه في موضوع تبيئة المفاهيم، والاستخدام الإجرائي للمناهج، أو ما يدعوه ناصيف نصار بضرورة تحقيق الاستقلال الفلسفي، أو ما أجراه عادل ضاهر في عدد من كتبه من تشخيص نقدي للفلسفة الغربية، وبخاصة المسألة الأخلاقية والسياسية، وذلك في كتابيه: الأخلاق والعقل، و: نقد الفكر السياسي في الغرب، بحيث عمد إلى نقد جملة من القضايا السياسية مثل: الحرية، والعدالة، والمساواة، والعلمانية، وبالجملة مختلف القضايا التي أثارها الفكر الليبرالي ومحاولة نقدها. ولا نجانب الصواب إذا قلنا: إن النقد قد تحول في الفلسفة العربية الى ممارسة دائمة، يؤكد هذا ما قدمه جورج طرابيشي من نقد شامل لمشروع محمد عابد الجابري، أو محمد نور الدين أفاية في كتابه: في النقد الفلسفي المعاصر، مصادره الغربية وتجلياته العربية.
وسواء حقق هذا النقد أهدافه أو لم يحققها، فإن الذي يعنينا في هذا السياق هو تأكيد أن ثمة نزعةً نقديةً في التجارب الفلسفية العربية المعاصرة، تحاول الوقوف عند حدود المفاهيم والنظريات، وقيمتها العلمية، ودورها الأيديولوجي، أي أن هذه الممارسة النقدية لا تميل إلى الهدم، أو النقض، إنما إلى التأسيس، وذلك بغرض إدخال قدر من الحيوية الفكرية على التجارب الفلسفية العربية، وتمكينها من التجدد، والتميز؛ إذ لا جدال في أن الفكر الفلسفي الحق، فكر نقدي بامتياز.