العِلم والفلسفة.. أهمية أن يتصالح العلماء والفلاسفة
ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين، روائيّة وفيلسوفة وأستاذة جامعيّة أميركيّة عُرفت بأعمالِها الروائيّة التي تثيرها موضوعات فلسفيّة قديمة أو معاصرة، وربّما ليس أفضل في وصف أعمال غولدشتاين من ذلك الذي قدّمته مؤسّسة ماك آرثر عند منح جائزتها لغولدشتاين عام 1996م، فقد ورد في أسباب منحها هذه الجائزة: «تعدّ روايات غولدشتاين بمنزلة مطارحاتٍ فلسفيّة مصوغة في قالب دراميّ من غير تضحيةٍ بمتطلّبات الخيال الروائيّ، وتروي أعمالها عادةً حكايات جذّابة تصف العلاقة بين العقل والمشاعر بتشويق وتعاطف وأصالة. تواجه شخوص غولدشتاين الروائيّة معضلاتِ الوجود والإيمان – سواءٌ الدينيُّ منه أم ذلك المتعلِّق بقدرة المرء على استيعاب الظواهر الغريبة المحيطة بالعالم الطبيعيّ – بوصفها حالةً مكمِّلة للوجود الأخلاقيّ والعاطفيّ للفرد، وقد برهنت روايات غولدشتاين أنّها محاولات ناجحة لتأكيد قدرة الرواية على أن تكون الوسيط الذي يمكّن القُرّاء الشغوفين من مقاربة أسئلة الأخلاقيّات والوجود بكثير من الرصانة والمتعة».
وُلِدت ريبيكا غولدشتاين في مدينة نيويورك في 23 فبراير 1950م، ودرست الفلسفة في كلية برنارد، وحصلت على شهادة دكتوراه في الفلسفة من جامعة برينستون، ثم درّست هي ذاتها الفلسفة في عدد من الجامعات؛ منها: كولومبيا، ورتجرز، وبرانديس، وقد حصلت على جائزة (ماك آرثر) المرموقة عام 1996م، وكتبت عددًا من الكتب نذكر منها: إشكالية ثنائية العقل – الجسد عام 1983م، خواص الضوء: رواية عن الحب والخيانة والفيزياء الكمومية: عام 2000م، عدم الاكتمال: برهان ومتناقضة كورت غودل عام 2005م، خيانة سبينوزا عام 2006م، 36 دليلًا على وجود الله: عام 2010م. أحدثُ كتب غولدشتاين هو المعنون «أفلاطون في عصر غوغل: الأسباب الكامنة وراء عدم موت الفلسفة» الذي طُرِح في الأسواق في مارس 2015م، ويلقي الضوء الكاشف على التقدّم الهائل – وإن كان غير مرئيّ في الغالب – الذي أحرزته الفلسفة. الآتي ترجمة لأجزاء مهمّة من المقالة التي نشرتها الروائية – الفيلسوفة ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين في مطبوعة «المساءلة الحرّة»، المجلّد 38، العدد 1.
المترجمة
أحبّ أن أعلّمكم جميعًا مقولة صغيرة
واحفظوا هذه الكلمات عن ظهر قلب كما يجب عليكم
لا أقول: إنني أفضل من أيّ أحد سواي
لكنني سأكون إنسانًا غير سويّ إن لم أكن مُجيدًا مثل الآخرين
«المزارعون ورعاة البقر ينبغي أن يكونوا أصدقاء»، أوكلاهوما!
كلمات غنائية وضعها أوسكار هامرشتاين
ثمّة جائحة راهنة من السخرية والتهكّم بشأن الفلسفة اجتاحت العالم، وأبطالها هم بعض العلماء ذوي القامات العلمية المميزة في كلّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وسواءٌ جاء الأمر في كتب أم في حوارات أو تغريدات إلكترونية، فإنّ بعض أكثر العلماء تميزًا من ذوي السجلات العلمية المرموقة لأبعد الحدود قد ذهبوا مذهبًا متطرّفًا في التعبير عن آرائهم بشأن الحالة المحتضرة للفلسفة من خلال إعلان موتها المنشود – ذلك الموت الذي يتطلّعون إليه بكلّ جوارحهم؛ بل ربّما راحوا منذ الآن يتراقصون طربًا حول قبرها! إنّ هذه التمنّيات القاسية غير المسوّغة تجاه الفلسفة تبدو متخالفة مع التوجهات المتخمة بالكياسة والاحترام التي أبداها بعض عظماء العلماء السابقين (مثل ألبرت آينشتاين)، وتستوجب هذه التمنيات المتشوقة لموت الفلسفة قدرًا من التوضيح، وبخاصة إذا ما علمنا أنّ المتهكّمين من الفلسفة والمتطلّعين لموتها من العلماء موضع المساءلة، هم من أعظم النشطاء الفاعلين المناصرين للعقلنة في الفكر المعاصر. إنّ حقيقة كوْن الفلسفة -إلى جانب العلم- مصدرًا جوهريًّا للعقلنة يضفي قدرًا من السخرية الواجبة تجاه العروض التهكمية التي تَنُوشُ الفلسفةَ وتسعى للتقليل من شأنها.
غير أن الجائحة الراهنة من التهكّم والسخرية بالفلسفة هي شيء أبعد من أمر يستحقّ السخرية هو ذاته؛ فهو أولًا، يفتقد إلى المعلومات الدقيقة والكافية؛ لأنه مؤسّس على سوء فهم بشأن دور الفلسفة ووظيفتها. ثانيًا، غير متماسك منطقيًّا؛ لأنّ هؤلاء الساخرين بالفلسفة ينبغي أن يتعاملوا مع الكثير من الموضوعات الفلسفية من أجل تدعيم حججهم.
ثالثًا، لا يتّسمُ بالمسؤولية؛ لأنّ هذا الأمر يحصل في لحظة مفصلية في تاريخ نوعنا البشري حيث بتنا نواجه كلّ التطرّفات المنذرة بسطوة اللاعقلانية، وفي المقابل نحتاج كلّ مصادر العقلنة المُتاحة التي يمكننا جمعها والحصول على دعمها.
سأركّز في أطروحتي التالية على النقطة الأولى: الادّعاء القائل بأنّ الساخر من الفلسفة والمُناصر للعقلنة المُدّعاة لا يعرف بالضبط ما الذي تتمحور حوله الفلسفة، وهو أمر خليق بدفعي لتوضيح هذه الموضوعة. لا مناص من بعض التعقيد الطفيف الذي يظهر هنا بسبب وجود مقاربات متباعدة بعض الشيء في تناول موضوعة الفلسفة؛ إذ ليس ثمة اتفاق فلسفي بشأن ماهية الفلسفة يجمع حوله كل الفلاسفة، والأمر شبيه تمامًا في عدم وجود اتفاق علميّ بشأن ماهية العلم يجمع حوله كل العلماء، ومن جانبي سأحدّد مقاربتي بمناقشة الفلسفة التحليلية، تلك مقاربة فلسفية تُعلِي شأن الدقّة والانضباط والوضوح كما يمثّلها بأجلى صورها ديفيد هيوم وبرتراند راسل، وتتشارك هذه المقاربة الفلسفية مع العلم في نفورها من الأنساق الفكرية الغامضة والمغلقة على الانشغالات الذاتية التي يمثّلها -بين كثيرين- كلّ من هيغل، وسارتر، وديريدا، وأسبابي في هذا التفضيل الذاتي للفلسفة التحليلية عديدة.
أولًا، تمثّل الفلسفة التحليلية الحقل الفلسفي المهيمن في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؛ لذا عندما يعبّر العلماء الأميركان أو البريطانيون عن آرائهم بشأن الفلسفة عامة، فإنّهم إنما يعنون الفلسفة التحليلية على وجه التخصيص في مناقشاتهم، وهنا لا بد لهؤلاء العلماء من الإصغاء لتحذيري الصارم: لا تدينوا حقل الفلسفة عامة من خلال اقتباس بعض العبارات المثيرة والمتطرفة في الغلوّ التي قيلت على لسان (سلافوي جيجك)؛ أما الفيلسوف التحليلي فتمثل مقولات جيجك كلامًا مزعجًا، والأمر برمّته مماثلٌ لتوجيه أصابع الاتهام للطب الحديث من خلال الاستشهاد بفشل المعالجة المثلية(1).
ثانيًا، تمثّل الفلسفة التحليلية المقاربة الأكثر تقبّلًا للأطروحات العلمية إلى حدّ يغدو معه التكييف العلمي لهذه المقاربة مفيدًا كخصيصة تعريفية لهذه المقاربة؛ لذا إذا ما سعى ذلك المتهكِّم بالفلسفة إلى إلغاء كامل الحقل الفلسفي من فضاء المعرفة فسيتوجّب عليه (أو عليها) تقديم دليل حجاجي له من القوّة الكافية التي تستطيع النهوض بعبء تقليل شأن مقاربة فلسفية (المقصود بها الفلسفة التحليلية، المترجمة) لَطالَما عرَّفت نفسَها من خلال علاقتها المتعاطفة الشغوفة بالعلم والأطروحات العلمية، وهنا يتبدّى لنا تهافت المسعى الذي يسعى فيه المرء لمحاربة شيء ما في أقوى مُرتكزاته وليس في أكثرها وهنًا. أما ثالث الأمور فهي أنّ الفلسفة التحليلية هي النوع الوحيد من الفلسفة الذي تدرّبتُ على الدفاع عنه بحكم دراستي وتدريبي المهني. إنّ بعض ما يندرج تحت اسم الفلسفة هو في جوهره ليس سوى أيديولوجيا، وأعني بهذه المفردة نسقًا صلبًا من الأفكار يسعى بكلّ القوة المواتية له لطرح كلّ إمكانية لمساءلته ووضعه موضع الامتحان إلى حدٍّ يغدو تحويل كلّ التوجهات المعرفية قسريًّا لتتناغم مع ذلك النسق فضيلة أخلاقية ثابتة لدى مناصري ذلك النسق، والأيديولوجيا في ادعائها المتواتر بامتلاك مِسْكِ الخِتامِ في كل شيء إنما هي نكوص قاتل يقف في وجه ارتقاء العقلنة، ومن ثم أمام ارتقاء الفلسفة. إذن ليكن أمرًا مفروغًا منه في بقية هذه المقالة أنني عندما أقول (الفلسفة) فإنما أنا أعني الفلسفة التحليلية على وجه التحديد. دعوني الآن أناقش موضوعة الهدف من تلك الفلسفة. ينبغي لي أوّل الأمر أن أوضح بالضبط ما لا تسعى إليه تلك الفلسفة: إنّ كلّ ما تسعى الفلسفة التحليلية لتحقيقه بوساطة مجموعة تقنياتها الفريدة والمميزة إنّما لا تفعله بغرض المزاحمة والتنافس مع العلم ومنجزاته التي يحققها بوساطة حزمة تقنياته المميزة والفريدة هي الأخرى.
مصطلح مضلل
هنا لا بدّ من بضع كلمات بشأن التقنيات العلمية التي تدّعِي (الطريقة العلمية) على الرغم من أنني أعتقد أنّ هذا المصطلح مضلّل إلى حدّ غير قليل؛ لأنه يوحي بوجود سلسلة مرقّمة من الخطوات التي يتوجّب على العالم اتباعُها بطريقة منهجية صارمة لأجل بلوغ مبتغياته العلمية. إنّ هذا التصوُّر قلّما يكون عادلًا ومنصفًا مع الطبيعة الإبداعية للعلم التي يوظّف فيها العالِمُ وسائل تستفيد من الحدس الشخصي؛ بل قد يبلغ الأمر مبلغ الدلائل الحجاجية ذات الطبيعة الجمالية (كما في بعض الحقول الرياضياتية، المترجمة)، مثلما يعجز ذلك التصوّر المحدود للطريقة العلمية عن تمثّل الأنماط المتباينة من الفعاليات الإدراكية المعرفية، وبالتالي المواهب، التي تتطلبها المؤسسة العلمية والبحث العلمي الذي يترافق مع تغايرات عظيمة في طبيعته تبعًا لنوع المعضلة العلمية المطلوبة دراستها ومساءلتها والكشف عن خفاياها. العلم أبعد من أن يكون محض طريقة ميكانيكية رتيبة، هو أقربُ كثيرًا لصندوق العُدَد الميكانيكية القادرة على أداء الكثير من الفعاليات المختلفة باستخدام القدرات الإدراكية المُتاحة أمامه: جَمْعُ البيانات وتحليلها، ووضع الإطار النظري للمعضلة قيد الدراسة، ونمذجة المعضلة بطريقة رياضياتية، والحلّ الرياضياتي المناسب للنموذج السابق، ثم الاختبار التجريبي للحل الرياضياتي.
الجيولوجي الذي يأخذ عيّنات من التربة أو الصخور بقصد فحص خصائصها الفيزيائية وقياس مقاومتها الحرارية إنّما يمارسُ فعالية عقلية مختلفة تمامًا عن العالم الإدراكي الذي يصمّم برنامجًا لمحاكاة حاسوبية عن الذاكرة طويلة الأمد، وتختلف كذلك عن عمل البيولوجي المختص بالبيولوجيا الاحتسابية، وهو يسعى من خلال البيانات الضخمة إلى موضعة الأشكال الجينومية المتعدّدة، ويختلف كذلك عن عمل الفيزيائي النظري الذي يجدّ في دراسة المترتّبات التي يستوجبها نموذج الأحد عشر بُعدًا في نظرية M( 2 )؛ بل حتى تختلف عن فعالية فيزيائي نظري آخر يسعى لتطوير فكرة الأكوان المتعددة بوصفها حلًّا ممكنًا لمعضلة القياس في ميكانيك الكمّ.
ولكن رغم كلّ هذه التمايزات بين هذه الكثرة من الفعاليات العلمية فثمّة خصيصة مميّزة في المجتمع العلمي لها علاقة وثيقة بالكيفية التي يصحّح بها العلم أخطاءه بطريقة ذاتية، وكذلك بالكيفية التي يضمّنُ بها العلمُ الواقِعَ في عملية التصحيح الذاتي للأخطاء. العلم في خاتمة المطاف هو الموضع الذي يستحثّ الواقع لتزويدنا بالإجابة المناسبة في كلّ مرة نحصل فيها على الإجابة الخاطئة. قد لا يتشاطر البعض القناعة المشتركة بشأن الكيفية التي تتعامل بها المؤسسة العلمية مع ضرورات الواقع ومتطلباته الملزمة: هل يعيد العلم تنقيح نظرياته بحسب رؤية كارل بوبر التي يجاهد بموجبها كلّ العلماء لتفنيد نظرياتهم وإعادة هيكلتها؛ أم أنّ ردة الفعل العلمية هي أقربُ للتناغم مع أطروحة توماس كون التي عرضها في كتابه الأشهر «بنية الثورات العلمية»؛ إذ يتشبّث العلماء يائسين بالنموذج الفكري «البارادايم» المحبّب لهم وهم يقصدون دومًا صرف أنظارهم بطريقة عَمْدية عن الشواهد التي لا تتفق مع نظرياتهم (قال الفيزيائي الشهير ماكس بلانك مرة: العلم لا يتقدّم إلّا من خلال المآتم التي تُقام بين حين وآخر)؛ لكن يبقى شرطًا لا غنى عنه دومًا هو أنّ يستحثّ العلم الواقع ذاته لإخبارنا فيما لو كنّا نحصل على صورة خاطئة وغير دقيقة عن ذلك الواقع. أوه، إذن أنت تظنّ أنّ التزامن أمر مطلق، ألست تظنّ ذلك؟ يبدو الأمر واضحًا من الناحية الحدسية أنّ حادثتين من الحوادث إمّا أن تكونا متزامنتين أم لا تكونان كذلك بصرف النظر عن منظومات الإحداثيات المرجعية أو فيما إذا كانت الحادثتان تتحرّكان بكيفية نسبية بينهما تبعًا لتلك الإحداثيات المرجعية. تجيبُنا النظرية النسبية من خلال حثّ الواقع وبالتالي تحدّي حدسنا العميق والراسخ بالزمن الذي يجري بكيفية مطلقة تتجاوز كلّ المحدّدات.
انتصار للبشرية
إنّه انتصارٌ حقيقي للبشرية جمعاء عندما أعملنا التقنيات القابعة في حقيبة عُدّتنا المفاهيمية: الملاحظة، وضع النظرية، التجريب، الوصف الرياضياتي، النمذجة، وذلك لغرض تعديل وطرح بعض أكثر حدوساتنا الراسخة بشأن طبيعة الواقع، وطبيعة المكان والزمان والسببية والغائية والتجربة الفردية من خلال حثّ الواقع ودفعه بطريقة عبقرية (من خلال العلم ووسائله العديدة، المترجمة) لتقديم إجابات مناسبة لنا، وقد برهنت حقيبة التقنيات العلمية على قوّتها وقدرتها على تزويدنا بالبصيرة التي تستطيع الارتقاء المتواتر والمستديم تجاه فهم قوانين الطبيعة رغم أنّ كلّ خطوة ارتقائية هي وقتية بطبيعتها؛ إذ ليس ثمة نتيجة علمية تمتلك حصانة مؤبّدة من المراجعة المفروضة علينا من خلال المستجدّات غير المسبوقة للواقع – تلك المستجدّات التي تثلمُ طريقة فهمنا لذلك الواقع والتي تأتي بها التجارب المُسيطَرُ عليها والتي لا نفتأ نقوم بها.
يمكننا أن نقول بوجود شيء يتّسم بالفضيلة من الناحية الأخلاقية في الممارسة العلمية؛ شيء أقرب ليكون (فضيلة جمعية) لا تتطلّب -لحسن الحظ بالطبع- نوعًا من الفضائل المسبقة من جانب الممارسين العلميين الأفراد، ويكرّس العلم في كلّ فعالياته نمطًا من الروح المتواضعة المناسبة لجماعة من القرود البالغة شأنًا عاليًّا من التطور الارتقائي(3) يتيح لها التعامل مع واقع لم يُصمّم في البدء ليكون مكشوفًا بكلّ تفاصيله أمام مَلَكاتنا المعرفية وقدراتنا العقلية. لو أنّ الفلسفة جعلت نفسها منافسًا للعلم، أو أنها استطابت فكرة قدرة تقنياتها الخاصة على تحدّي التقنيات العلمية التي يوظّفها العلم في وصف الواقع؛ فحينئذ سيكون مسعى الفلسفة وهمًا مثيرًا للشفقة معادلًا لما يراه الساخر من الفلسفة العلمية. إنّ اعتقاد المرء -رجلًا أم امرأة- أنّ الفلسفة يجب أن تعلن عن نفسها كمُنافس للعلم هو اعتقاد مؤسَّسٌ جزئيًّا على عدم قدرة ذلك المرء وخذلانه في رؤية الفائدة المجتناة من وراء العمل الفكري المُفيد خارج إطار التعامل المحض مع الموجودات في الواقع(4). يتساءل هؤلاء: هل ثمة غرض مفيد سوى وصف ما هو كائن من الموجودات ينفع الذكاء الإنسانيّ في التعامل معه؟ وتأسيسًا على هذا التساؤل يخلُصُ الساخرون بالفلسفة إلى الاستنتاج بأنّ غرض وصف الموجودات الكائنة هو ما ينبغي أن يكون المسعى الأوحد للفلسفة، وتلك بالضبط هي الرؤية التي تقود إلى عدِّ الفلسفة نشاطًا عقليًّا قائمًا على الوهم.
سوء التأويل لمسعى الفلسفة
ثمة حقيقة تأريخية تشجّع أيضًا في تكريس سوء التأويل والفهم بشأن مسعى الفلسفة ووظيفتها، وتكمن هذه الحقيقة في التصوّر بأنّ الفلاسفة لطالما طرحوا معضلات استحالت فيما بعدُ معضلاتٍ علمية أصيلة، وكثيرةٌ هي الموضوعات التي تأمّل فيها الفلاسفة ثم تناوشها العلماء بالبحث والتنقيب والمساءلة بمعونة التقنيات التي تحتويها حقيبة عُدّتهم المفاهيمية، ونجحوا آخر الأمر في بلوغ ارتقاء تراكمي نحو إجاباتٍ يكون فيها للواقع مساهمة بيّنة؛ الأمر الذي يحيل التأملات الفلسفية السابقة بشأن تلك المعضلات إلى محض تأمّلات عتيقة تجاوزها الزمن. إذن، هكذا كانت الحال مع كلّ الفيزياء والكوسمولوجيا (علم الكون) والبيولوجيا التي لطالما كانت محتواة في مملكة الفلاسفة حتى بلغت المؤسسة العلمية قدرًا من النضوج يكفي لتحويل تلك الفروع المعرفية إلى علوم محدّدة، ثمّ كانت الانعطافة اللاحقة مع السيكولوجيا، ومن ثمّ اللغويات عندما أزيحا من المجال الفلسفي وأُعِيدَ اكتشافهما كعلوم محدّدة ودقيقة، وبلغت سطوة المؤسسة العلمية حدًّا نجحت فيه بتحويل التأملات الفلسفية المثالية غير الدقيقة أو الزائفة إلى شكل يسمح للواقع بإخبارنا عندما نقترف الأخطاء، وتَتالتْ سطوة المؤسسة العلمية حتى بلغنا حقبتنا العلمية الحالية المتفجّرة حيث تمكّنت الفتوحات العلمية الارتقائية في ميدان العلوم العصبية الإدراكية والسلوكية من تحويل مبحث الطبيعة البشرية ذاتها وبثبات ليدور في مدار العلم.
تلك هي حكاية قديمة غالبًا ما تُروى -أحيانًا- من أجل بيان الأهمية الحاسمة والجوهرية للفلسفة من الناحية العلمية؛ فهي تطرح، بعد كلّ شيء، الأسئلة التي تنتِجُ العِلْمَ في نهاية المطاف؛ لكنّ هذه الحكاية ذاتها تُستَخدَمُ من قبل المتهكّمين المعاصرين بالفلسفة والشأن الفلسفي لبيان تهافت الفلسفة والتدليل على عبثية مسعاها. الفلسفة تحيا فقط من أجل أن يتخطّاها العلم، ووظيفة الفلسفة في ميدان المعرفة هي إرسال إشارات دليلية يحتاجها العلم حتمًا للسير على خُطاها، وعندما يحصل بعض التشويش من جانب الفلسفة بما يتخطّى مهمّة إرسال الإشارات الدليلية المُلْهِمة للعلم، فسيكون الأمر حينئذ مبعثَ حرجٍ للفلسفة ذاتها على النحو الذي ستتكفّل جبهاتُ العلم المتقدّمة بتوضيحه والكشف عنه. لكنْ مع كلّ هذا فإنّ تمهيد الطريق أمام العلم ليس غرض الفلسفة ومسعاها الجوهري: الفلاسفة لا ينطلقون في مساعيهم الفلسفية من أجل محض إبداء آرائهم الجنينية غير الناضجة بشأن معضلاتٍ بعينها سيجري تنضيجها لاحقًا من جانب العلوم الاختبارية. إنّ هذه هي محض حقيقة تأريخية جزئية لخصيصة أعظم تشمل كلّ المسعى الحقيقي للفلسفة الذي يتمحور في تعظيم معرفتنا المنطقية المتماسكة -بأنفسنا والعالم الذي نحيا فيه- من خلال اكتشاف وإيجاد الحلول لكلّ الفجوات المكتنفة بالهشاشة اللامنطقية التي تصادفنا ونحن نسعى لتثبيت ركائزنا في هذا العالم، وهذا السعي هو الجهد الإنساني الأكثر تميّزًا بين كلّ المجهودات الإنسانية في نهاية المطاف. نحن جنسٌ بشري مجبول على تفحّص مواضع أقدامنا في هذا العالم بالمعنى الواسع للمفردة: نحن مسكونون برغبة المعرفة لتساؤلات مثل أين نحن؟ ما طبيعة العالم الذي نجد أنفسنا فيه؟ مَنْ نحنُ، وكيف تتّسق كينونتنا مع بقية العالم؟ ما الذي يُفترض بنا أن نكونه ونجعل حياتنا محورًا له، إن وُجِدَ حقًّا؟
وفي خضمّ مسار محاولتنا الإمساك بمواضع أقدامنا وتوجّهاتنا في هذا العالم غالبًا ما نسأل سؤالين أساسيين بالمعنى الواسع لمعنى التساؤل: ما هو؟ ما الأمر الأكثر أهمية من سواه؟ إنّ طرح مثل هذه التساؤلات في سياق المسعى المحموم للحصول على مرتكزاتنا الأساسية في العالم هو مسعى كافٍ لنا بوصفنا كائنات إنسانية، هذا إذا لم يكن على جانب عظيم من الأهمية لكينونتنا الإنسانية؛ ولكن يحصل بعد كل شيء أنّ بعض تلك الكائنات الإنسانية تعيش حيواتها وهي غير مكترثة البتة بمثل تلك التساؤلات الجوهرية ولا تُبْدي أي لهتمام بإدامة وهج تلك التساؤلات، ويبدو أن الحواسيب عندما تبدأ في طرح السؤالين: ما هو؟ ما الأمر الأكثر أهمية من سواه؟ وبخاصة بعد أن يصيب تلك الحواسيب الكثير من الرهق والعنت في محاولة الإجابة عن التساؤل الخاص بأهمية تلك الحواسيب ذاتها؛ فحينئذ سيكون كل ما نملكه في العالم هو محض كائنات ناشئة من جزيئات غير كربونية(5)، وسنكون حينها مُجبرين من الناحية الأخلاقية على وسْمها بتلك الصفة(6).
لستُ أعني من خلال التمييز بين السؤالين العامّين السابقين تأكيدَ إمكانيةِ فصلِ بعضهما عن بعضٍ بكيفية سهلة وأنيقة؛ إذ إنهما، على العكس من هذا الأمر، متعشّقان بعضهما مع بعض بطريقة حميمة ومعقدة الأوجه، وفي العادة يكون استقصاءُ تلك الأوجه واحدًا من المساعي النموذجية التي يختصّ بها حقل الإبيستمولوجيا ضمن الفضاء الفلسفي. عندما نتساءل، على سبيل المثال، ما أنواع الأسانيد الحجاجية الأكثر أهمية من سواها عندما نقدّم مسوّغاتنا بشأن ما هو كائن؟ هنا يأتي دور الإبيستمولوجيا التي تختصّ بمثل هذه التشابكات المعرفية، وثمة -إضافة لما ذكرتُ- طرقٌ أخرى يتشابك فيها السؤالان الجوهريان (ما هو؟) و(ما الأمر الأكثر أهمية من سواه؟) وبكيفية سأتناولها باستفاضة في المقاطع التالية.
دعونا نسلّم بأنّ العلم خليق بالإجابة عن التساؤل (ما هو؟)؛ إذن سيكون هذا التسليم بدوره تسليمًا بحقيقة النزعة الطبيعية (الطبيعانية)(7) وثمة حجّة قوية تقف بجانب النزعة الطبيعية وهي متأتية من تشخيص العلم الذي جاء أعلاه. العلم، بالتعريف، هو الطريقة المنهجية التي توظّف الواقع ذاته كمشارك فيها، وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: أية طريقة منهجية يمكن لها أن تنافس مثل هذا المُشارِك الذي يؤدي وظيفته بنجاح عزّ نظيرُه(8)؟ واضحٌ تمامًا أننا في مسيس الحاجة لمثل هذه المشاركة الكفوءة؛ غير أنّ وجود ميل إنساني مميّز لسلوك توجّهات محددة لنا في الحياة لا يعني امتلاكنا لعقول متطوّرة بلغت مرحلة من الارتقاء الكفيل بإحراز النجاح في هذا المسعى، وثمة شاهدة قوية تفيد بأننا مسكونون بأحجياتنا الداخلية التي تميل لِـ( نشر أنفسنا في هذا العالم) بحسب التعبير المدهش لديفيد هيوم. إذن يمكن إجمال الحال بالعبارة التالية: إذا كنّا نسعى لبلوغ معتقدات صحيحة مسوّغة بشأن ما هو كائن، فنحن في حاجة مسيسة للواقع؛ لمواصلة هذا المسعى والحصول على دفعة قوية في الاتجاه الصحيح، وبعبارة أخرى: ينبغي الفصل الحاسم بين نوازعنا السيكولوجية الذاتية القادمة من دواخلنا عن الشواهد القادمة من الواقع الماكث خارج ذواتنا.
هوامش المترجمة:
1- المعالجة المثلية: علاج المرض بجرعات صغيرة من المواد الطبيعية التي ستسبّب في الفرد غير المعتلّ عوارض مرضية.
2- نظرية إم :نظرية يعمل على تطويرها الفيزيائي النظري (إدوارد ويتن) وهي أحد الحلول المقترحة لنظرية كل شيء التي يفترض بها أن تدمج نظريات الأوتار الفائقة الخمسة مع الأبعاد الأحد عشر للثقالة الفائقة.
3- إشارة إلى الكائن البشري.
4- تشير الكاتبة هنا إلى الرؤية العلمية المتطرفة (الراديكالية العلمية) السائدة التي ترى أن الفعاليات الفكرية إنما تكون مفيدة متى تعاملت في إطار الممارسة العلمية المحضة، وأن الفائدة تنتفي متى كان التعامل خارج الإطار العلمي، إلى جانب عدّ تلك الفعاليات الفكرية غير مفيدة ولا منتجة خارج الإطار العلمي الصارم، وستمضي الكاتبة في تفنيد تلك الرؤية.
5- إشارة إلى الحواسيب وقدرتها المتوقعة على تخليق بعض الكينونات المادية البدائية في العقود القادمة.
6- تؤكّد الكاتبة هنا على الأهمية الجوهرية للتساؤلين المميزين للكينونة الإنسانية اللذين ذكرتهما في حديثها، وتردف أن الحواسيب إذا ما خاضت في مثل تلك التساؤلات، فسيكون لزامًا علينا عدّها كائناتٍ مثل الكائنات البشرية.
7- الطبيعانية (أو المذهب الطبيعي): فلسفة ترى أن الوجود ممتنع خارج الطبيعة؛ أي لا يوجد شيء لا يمكن ردّه إلى سلسلة وقائع مشابهة لتلك التي نختبرها في الطبيعة.
8- واضح أن الكاتبة تشير إلى الواقع.