فستان أمي
السادسة صباحًا؛
دون استراحة ودون هوادة تحرث أمي الوقت، لا تهادنه ولا تتحايل عليه بل تنقضّ على كل لحظة فيه لتزجّها في ضيق ذلك النهار، تتحول إلى آلة لا تكف عن الدوران، تعمل وتشرف على كل التفاصيل، تعيد تدوير البيت لتكبر مساحته فجأة ويصبح متسعًا لعدد أكبر من الضيوف، تلمّع الأكواب والأطباق الفارغة وتصفها على الشرشف الأبيض المطرز فوق الطاولة، بانتظار حلول الوقت لتعبئتها بالعصير والحلوى، تدق باب غرفتي لتوقظني قبل رنين المنبه الذي يزيد من ضربات قلبي.
الساعة الحادية عشرة صباحًا؛
أسمع أصوات بعض الأقارب وهم يتوافدون إلى البيت، فيما أجلس على المقعد الجلدي المريح الذي وجد صباحًا في غرفتي، ومصفف الشعر يدندن بأغنية لم أسمعها من قبل وهو غارق في بناء ذلك الجبل على رأسي، لا أعرف ما الذي يدور خارج غرفتي المكيّفة ولا أشعر بالقلق، أتابع ما يدور في منزل خطيبي خلال تواصلي معه عبر الواتساب، وافدون كثر في بيتهم أيضًا، وتأهب غير مسبوق لهزم الوقت الذي يطحن ذلك النهار دون رحمة.
ثلاثة شهور ونحن نعد العدة لهذا اليوم، عدد المدعوين، قائمة الطعام، زينة القاعة، التصوير، الفرقة الموسيقية، الفستان الأبيض، رحلة شهر العسل، وكل التفاصيل التي تضمن خروج هذا الحفل بأبهى حلة، وها أنا أجلس الآن بين يدي مصفف الشعر منهكة لا حول لي ولا قوة للاعتراض أو إبداء الرأي في ما يتم جبله على رأسي.
الساعة الرابعة والنصف مساءً؛
لا أشعر بشيء، أخرج من غرفتي دون أن أمنحها وداعًا طيبًا، أتقدم إلى وسط الصالة حيث الضيوف من العائلة والأصدقاء بانتظار تشريف الملكة، مثل إنسان آلي أتحرك دون أن أنتبه لما يرتدون، وفي قاع رأسي أعرف أن خالاتي وعماتي نهبن المتاجر والمواقع الإلكترونية للتسوق، لأجل هذا اليوم، في قاع رأسي أتذكر أن مشادات كثيرة قد حصلت حول عدد المدعوين ومحاولات لاختصار هذا العدد، وفي قاع رأسي ماء عكر جاهدت كثيرًا لأن يركد بعيدًا في رأس أمي.
الساعة الخامسة تمامًا؛
يتضاعف عدد الموجودين في المنزل، تعلو الزغاريد وتتحشرج الأصوات بالأهازيج الحزينة، أتأبط ذراع أبي في رحلة الوداع إلى المرأة الأخرى التي سأصيرها، أرى دموعًا لا أعرف أي عيون تذرفها، تدمع عيناي وينكمش قلبي وأنا أغادر البيت الذي شهد على كل ما جاء في سيرة سوف أكتبها بعد أعوام كثيرة.
الساعة العاشرة مساء أو بعد ذلك بقليل؛
أشعر بالتعب، تنحني أكتافي وسط حلقة الرقص، اللؤلؤ المشكوك بالفستان يزداد ثقلًا، ومشابك الشعر في رأسي تتحول إلى مسامير حادة، الابتسامة المرسومة على وجهي منذ أكثر من ست ساعات تؤلم وجنتيّ، وأمي تصفق بيدين منهكتين، وتخبئ دموعها في ضحكة مفتعلة.
أجرّ جسدي نحو مقعدي وأنا أشعر بالإنهاك الشديد، أجدها فجأة بقربي ودون أي إشارة أو عتب على عدم أخذي بنصيحتها بشأن الحذاء، تستبدل حذاءها بحذائي، تتحرر أصابع قدمي من ذلك القفص، وأطير مرة أخرى إلى ساحة الرقص.
الساعات الكثيرة بعد ذلك اليوم؛
أشاهد شريط ذلك الحفل الذي مضت عليه أعوام كثيرة، أضبط الشريط على أمي، اختفائها وقت خروجي من البيت، حضورها وقت حاجتي لمنديل ورقي أو مروحة يد لتخفيف قيظ ذلك اليوم، أتابع نظراتها التي لم تغادرني ويدها التي على تأهب تام لتخفيف ثقل الفستان عن جسدي، وتلقفي حال اختلال توازني، أتابعها وهي تتابعني مثل ظل خائف وحزين، وأتذكر أنها حين سألتني عن رأيي بفستانها قلت لها: «جميل» رغم أنني رأيته للمرة الأولى بعد أعوام كثيرة على غيابها وفي هذا الشريط.