طيور الأحواز تحلق جنوبًا
هل رواية «طيور الأحواز تحلق جنوبًا» (مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر) منشور سياسي أم إنها يوميات لظاهرة اعتراضية أم قراءة لسيكولوجية الجموع الرافضة للقمع والتواقة إلى الانعتاق والحرية؟ هي كل ذلك إنها عمل إبداعي خلاق رفيع السرد والبِناء. نعم هي سيرة ذاتية لكنها ليست للفرد إنما للجموع وللأمكنة، هكذا تصير الحال عندما يصير الأمر ملتصقًا بالهوية وممتزجًا بها، فتأخُذه الأقدار للبحث عن الذات وفقًا لقوانين وجدلية الصراع، حينها يلجأ الروائي منصاعًا إلى فعل الكتابة وَفْق مقتضياتها هي لا وَفْق إرادة الكاتب، وهذا ما حدث مع محمد عامر في روايته هذه، وهو ما يمكن أن نلمسه من خلال اهتمامه بأدق التفاصيل بين ثوار الأحواز أو الجيل الجديد من الثوار، وهي عبارة وصفية للعلاقة بين علي بدر معتوق الكعبي وصديقه محمد شفيع الكناني منذ الطفولة والمدرسة.
وهو بذلك يعمل على تأكيد أن المصير واحد، وأن المسافات والأزمنة تلاشت هنا، وباتت القضية هي قضية الإنسان الأحوازي التواق إلى الحرية والخلاص من نير الظُّلم والقمع، وفي هذه الجزئية أبدع الكاتب في توظيف العلاقة بصورة لافتة. أيضًا يمكن قراءة الرواية كنص أدبي مكتمل البناء يأخذ الأبعاد الروائية بحِرفية وتكنيك عالٍ؛ من ذلك أن الظاهرة التي تشكّلت واكتملت في أعقاب قيام الثورة الإيرانية ومجيء الملالي إلى السلطة لم تكن ذات بُعد إقليمي، فرجُل الدين محمد طاهر الخاقاني، وهو مرجعية دينية شيعية وصديق للخميني، كما ذكر الراوي، كان رغم وصوله إلى مرتبة الآية أحدَ قادة الظاهرة الثورية الاعتراضية في الأحواز، وهو الذي تزعّم الوفد الثلاثيني لعشائر الأحواز الذي التقى الخميني وقدَّم له المطالب المشروعة لشعب الأحواز التي تتعلق باللغة العربية وبتسيير شؤون الإقليم، وتُعَدّ أقل من المطالبة بالحكم الذاتي، وبين وجهِ الخميني المتجهِّم الذي قام بطرد الوفد، والمنبر الذي صعد إليه الشيخ الخاقاني، هنا يكمن الصراعُ على الهوية، وبين المقاومة العنيفة والقسوة المفرطة لأدوات القمع يظهر العديد من الأسماء والتجاوزات والعنف الدموي لِلِّجان الثورية، التي أسسها الخميني في بداية انتصار ثورته التي أعدمت عشرات الآلاف من البشر، ووصلت إلى حد اغتيال ابن رئيس الجمهورية الحسن بني صدر. وكان صادق خلخالي الذي وصفته الرواية بسفاح العصر رئيس ما يعرف بالمحاكم الثورية. الرواية يمكن عدّها تقريرًا أدبيًّا مفصّلًا للمعاناة، ابتداءً من الداخل الأحوازي والصراع مع فرق الموت؛ اللجان الثورية سابقًا «الباسيج» حاليًّا، وحالة الانتظار في معسكرات المقاومة الأحوازية في قضاء الزبير وميسان وبعدها مرحلة الحرب بين العراق وإيران ومشاركة المقاومة الأحوازية «الجبهة العربية لتحرير الأحواز». الرواية حالة سرد تُعرِّي النظام العربي الإقليمي الرسمي الذي تجاهل قضية عرب الأحواز ومعاناتهم وتركهم يواجهون مصيرهم في ظلمات الليل العربي الحالك السواد. أما بدر معتوق ابن الأحواز فقد أوصل رسالته القوية إلى حالة التواطئ العربي.
هذا النوع من الكتابات التي توثِّق المسكوت عنه في الحياة السياسية العربية يظل من الكتابات القليلة لكنها كثيفة الطرح وزاخرة بالأحداث والأماكن، كانت فلسطين حاضرةً فيها عبر الأحواز، وكان اليمن عبر الحاج حافظ الذي قاتل مع ثورتها وانتقل إلى مصر عبدالناصر، وكان الأردن، والعراق بمدنه البصرة وبغداد والزبير وميسان حاضرة. كان «بدر» بطل الرواية يمثل دلالات للشاب العربي القادم من رحم المعاناة ليرسم ملامح الغد الذي عبر عنه الإنسان الحالم بالحرية من قبضة المحتل وتواطؤ الأنظمة. إنها حالة بوح تحاكي جيلًا من العرب في مرحلة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. لقد استطاع الكاتب ببراعة أن يسقط الوقائع ضمن نص أدبي رفيع، حتى عندما كان يتحدث عن عملية عسكرية وعن تفاصيل تنظيمية، كان يُقدِّم ذلك بلغة جزلة غزيرة المعاني والمفردات ممتزجة بالعاطفة، لقد كانت كلمات الرواية تشبه المرحلة.