قصص «مرويات الذئب» للؤي حمزة الفنتازيا تقرأ التاريخ
يتضمن التعريف المدرسي للأدب ميثاقًا راسخًا حول وجود الخيال بوصفه الفاعل الأول؛ إذ إن كل شيء داخل الأدب يكون بإمرته، لأن الأدب يفترق عن الأشكال التعبيرية الأخرى داخل اللغة عند منطقة الخيال، وبهذا فالقصة مهما كانت إحالاتها مرجعية تبقى كائنًا لغويًّا خياليًّا، وأمام هذا الفهم كيف يمكن نقرأ عنوان الكتاب القصصي «مرويات الذئب/ خيالات قصصية» للكاتب لؤي حمزة عباس.
ابتداءً يمكن القول: إن الكاتب يبدو حذرًا وهو يجترح دربًا للتخلص من مأزق الشكل التقليدي للقصة القصيرة، فهو يريد الخروج بهدوء إلى كون سردي واسع عبر هذا التوصيف، لذلك ليس من الغريب أن نجد الاشتغال على ما هو تاريخي حاضرًا إلى جانب ما هو مؤسطر أو أسطوري، وكل ذلك يأتي في إطار فنتازي لا تكاد تمسك منه شيئًا مما تُقدِّمُه القصة بشكلها التقليدي وهي تتمسك بالحكاية أسًّا وأساسًا، الحكاية في مرويات الذئب هي اللاشيء، وهي كل شيء في الوقت نفسه، إنها واقع ذئبي، وهي في الوقت نفسه خيالات ليس إلا، إنها حكاية الذي يأتي ولا يأتي.
تبدو نصوص المجموعة كابوسيةً غارقة في خيالٍ بعيد، سابحةً في لا منطقيةٍ تكرّس بعدها الفنتازي بقوة، ولكن الأمر اللافت هو اشتراك النصوص في مشتركات أساسية على مستوى الموضوع حتى كأن بعضها يشير إلى البعض الآخر وكأننا أمام فصول رواية من نوع خاص تبدو أقرب إلى اللامعقول، إنها رواية الذئب، فما الرواية إلا مجموع مرويات.
عالم خيالي
كائنات النصوص (الشخصيات) سابحة في عالم خيالي لا معقول، أو هي قادمة من عالم اللامعقول وبأشكال لا معقولة (طفل الماء مثلًا)، وغير ذلك من الكائنات السردية التي حفلت بها المجموعة، كل هذا يأتي إلى جانب أسماء ذات مرجعية تاريخية مثل: (المفضّل الضّبّي مثلًا) ولكن هذه الأسماء بعيدة من عالمها التاريخي المعروف، أو أنها كانت تريد الانسجام مع الكائنات الأخرى بأبعادها المتنوعة، ويكفي أن أشير هنا إلى أن الكاتب نفسه استحال كائنًا من كائنات قصصه أو خيالاته، وهو الذي جعلنا نتساءل عن إمكانية وجود قصة قصيرة (سيرية) بشكل من الأشكال، والحديث هنا بشكل خاص عن النص الأول «كتاب الذئب» وعن تعمد وجود صوت الكاتب بوصفه ساردًا داخل عدد من النصوص، وهو الذي يُحدث نوعًا من التماهي بين شخصية الكاتب وشخصية الراوي داخل النص، في هذا النص وفي عدد من النصوص الأخرى يعمد الكاتب إلى ما هو شخصي أو إلى التجربة الشخصية أو التاريخ ولكن بشكل غير مباشر، بمعنى أننا هنا أمام طريقة جديدة في التعامل مع المرجعي؛ إذ يُحس القارئ بنوع من التداخل بين المرجعي والخيالي، بل كثيرًا ما يحدث بينهما نوع من التبادل عندما يكون المعرفي بابًا لما هو خيالي، فهكذا كانت زيارة متحف الكتب، وهكذا كانت حياة أغاثا كريستي حاضرة، وكان المُفَضَّل حاضرًا، وكانت التواريخ حاضرة، ولكن هذا الحضور يحتاج إلى حضور من نوع آخر حتى تكتمل الحكاية، أعني ما هو خيالي، الخيالي هنا هو الأكثر فاعلية وحضورًا.
فالحكاية وإن كانت تشير في كثير من الأحيان إلى ما هو تاريخي أو ما هو واقعي لكنها تبقى حكاية خيالية، ولذلك كان كل شيء يبدو مبررًا ومقنعًا ومتقنًا في هذه المجموعة من النصوص، كل شيء يبدو محكمًا وملتزمًا بما تَقَدَّمه من عنوان، وكل شيء يبدو مغايرًا للمألوف القصصي، أو هو طريقة جديدة في الكتابة القصصية، وكل شيء يبدو متماسكًا ومربوطًا بخيط خفي تنتظم فيه مجموعة من الثيمات، ومجموعة الشخصيات داخل النصوص، إلى حد أن بعض الثيمات كانت بمنزلة إطار سردي تنتظم تحته أغلب نصوص المجموعة.
ويمكن أن نشير هنا إلى تكرار ثيمة سماع (الصوت)، هذا الصوت الذي كان يأتي من كل شيء، يأتي بشكل منطقي من إنسان أو حيوان أو بشكل غير منطقي من عضو مثل صوت (العين)، أو من شجرة، ومن جانب آخر فإن هذه الثيمة كانت موجِّهة لشكل الشخصية في أغلب النصوص ولهذا يمكن القول: إن الشخصية في أغلب النصوص كانت واحدة ومنسجمة مع نفسها، ولكنها تتلون بلون العالم الذي توضع فيه، فالشخصية ذات البعد الإنساني هي نفسها ولكنها تنسجم مع الكائنات التي تدخل الحكاية، بل تنسجم معها انسجامًا كبيرًا، إنها دائمًا تضع بعدها الإنساني فاعلًا مؤثرًا ولا تتنازل عنه، إنها تتهامس مع الكائنات الأخرى وتنشغل بمحنة وجودها (واضعة إمكاناتها الإنسانية في خدمة تلك الكائنات التي كان الكثير منها ذئبي الطباع: الذئب والتمساح مثلًا).
عالم تبتلع أساطيره كل شيء
على نحو خاص، الشخصية الإنسانية في نصوص المجموعة تعيش أزمة انتماء إلى عالمها الواقعي لذا كانت تهرب منه إليه، تهرب من عالم ذئبي إلى عالم تتصالح فيه مع ذئب أو تمساح، تهرب إلى عالم تبتلع أساطيره كل شيء، وهذا ما كان واضحًا جدًّا في قصة (الحيوان): (مرَّ النهار بطيئًا على وقوفه فاتحًا فمه، ثم حلّ الليل فأحسَّ الريح باردة تكاد تجمد رأسه وأطرافه، وبعد أن طال وقوفه سأل نفسه عن الصوت: إن كان حقًّا صوت حيوان يحدّثه عن رغبته في الخروج؟ وإن كان الخروج إلى عالم يزداد قسوة رغبة حيوان يعيش آمنًا في جوف معتم).
ففي طريق الغابة لن يخرج الطفل الذي دخل الشجرة بدراجته، وهكذا نحن أمام حكاية الذي لا يأتي، حكاية أصوات تغيّر مسار حياتنا على نحو دائم، أصوات لا يستطيع مقاومتها جيش مدجج بالسلاح (مقارعة الصوت مثلًا)، أصوات نسمعها ولكننا لا نعثر على مصادرها، أصوات كابوسية تستدرجنا فنذهب باتجاهها، كانت الشخصيات تستمتع بمتابعة الصوت، تلتذ بملاحقته والذهاب إليه وكأنها ذاهبة في نزهة؛ ولذلك كانت الرحلة إلى مصدر الصوت بريئة وطفولية، وتقترن كثيرًا بركوب الدراجة الهوائية بمرح.
الصوت في المجموعة هو اللعبة السردية الكبرى، الصوت هو المروي الذي يتشكل بأشكال متنوعة، التاريخي والمرجعي والذاتي، وسماع الصوت هو الإصغاء لهذا المروي الذئبي، هو الإنصات لأعماقنا التي استوطنها ذئب أسطوري، نحن نصغي لمروياته الماكرة، والمروية هنا تذهب إلى ما هو أبعد من المعنى الرمزي للذئب، الذئب الراوي والحكاية، ولذلك فإن عملية استدراج القارئ من خلال الفعل السردي والذهاب به إلى منطقة لا يمكن معرفة الاتجاهات فيها تبدو مبررة، فالقارئ في معظم نصوص المجموعة يُترك وحيدًا أمام فضاءٍ سردي لم يُدوَّن، فالنهايات مفتوحة على جميع الاتجاهات، اللعبة السردية التي أتقنها لؤي حمزة في هذه المجموعة لا تشبه غيرها؛ تشعرك بنفسها، تقترح عليك، تستفزك، ولكنها في النهاية تتركك عند مفترق ذي اتجاهات شتى، عليك أن تسمع الصوت الذي بداخلك لتكون قادرًا على إكمال اللعبة.