مشروع سمير أمين المعرفي
سمير أمين مفكر وعالم مصري عالمي الشهرة والتأثير. وُلد عام 1931م، وتوفي عام 2018م. وقد التزم بالماركسية منذ نعومة أظفاره، وظل وفيًّا للمشروع الماركسي التحرري حتى مماته. لكنه يتميز عن أقرانه من المفكرين الماركسيين العرب الآخرين في أنه كان الوحيد بينهم الذي كان خبيرًا في نقد الاقتصاد السياسي وعالمًا مبدعًا في هذا المجال. فهو لم يكن مجرد خبير أكاديمي في نقد الاقتصاد السياسي، إنما أسهم في تطوير هذا العلم ووضْع النظريات وابتكار المفهومات الجديدة فيه، وبنى فكره على أساس هذا الإسهام المميز. أما المفكرون الماركسيون العرب الآخرون، فقد غاب تقريبًا في فكرهم نقد الاقتصاد السياسي، ناهيك عن غياب إسهاماتهم الجديدة فيه. إذ عُنُوا بصورة عامة بالفلسفة والفكر السياسي والنقد الثقافي والنقد الأدبي.
فعُنِي إلياس مرقص بالعقلانية والفلسفة والمنحى القومي والديمقراطية والثورة. وعُني ياسين الحافظ بمفهوم حركة التحرر الوطني العربية والتجارب الثورية الأخرى والمشروعات القومية العربية. وعُني صادق جلال العظم بالفلسفة الأوربية والنقد الثقافي والنقد الأدبي. أما مهدي عامل، فعني بنظرية الدولة السياسية ومفهوم نمط الإنتاج السائد في الأقطار التابعة وطبيعة الثورة الاشتراكية في لبنان والأقطار العربية وبالنقد الأيديولوجي. وعُني حسين مروة بدراسة التراث الفكري العربي الإسلامي وبالنقد الأدبي. أما محمود أمين العالم، فعُني بالنقد الأدبي وبنظرية العلم وبالفلسفة إلى حد ما. فقط سمير أمين من بينهم عُني بنقد الاقتصاد السياسي وتطويره والبناء عليه.
وإذا أردنا أن نفهم فكر سمير أمين، فعلينا أن نحدد موقعه في التراث الماركسي العالمي. ويندرج فكره ضمن عدد من مسارات التراث الماركسي، وبخاصة ضمن المسارات الماركسية ما بعد الحرب العالمية الثانية. فهو ينتمي إلى المسار الرئيسي في الماركسية، وهو مسار نقد الاقتصاد السياسي، الذي دشنه ماركس بكتاباته الاقتصادية؛ كتاب «بؤس الفلسفة»، وكتاب «الرأسمال والعمل المأجور»، وكتاب «الغروندريسا»، وكتاب «الرأسمال» بمجلداته الثلاثة، وكتاب «نظريات فائض القيمة». وبالطبع، فإن هذا المسار ابتدأ بماركس، لكنه لم ينتهِ به، حيث إنه يظل مشروعًا غير ناجز ما دامت الرأسمالية قائمة. وسار ضمن هذا المسار مفكرون ماركسيون كبار أمثال: لينين في كتابه «تطور الرأسمالية في روسيا»، وهلفردنغ في كتابه «الرأسمال النقدي»، وروزا لوكسمبورغ في كتابها «تراكم الرأسمال»، وكُتُب نيكولاي بخارين حول الإمبريالية والرأسمالية وفي رد
وده على لوكسمبورغ وكتابات موريس دوب الاقتصادية، وكتاب الأميركي بول سويزي «نظرية التطور الرأسمالي»، وكتاب بول باران «الاقتصاد السياسي للتنمية»، وكتاب باران وسويزي «الرأسمال الاحتكاري»، وكتاب إرنست ماندل «النظرية الاقتصادية الماركسية» وكتابه الآخر «الرأسمالية المتأخرة» وغيرها من الأعمال الماركسية. وجاء كتابا أمين، «التراكم على الصعيد العالمي» و«التطور اللامتكافئ»، ضمن هذا السياق وإضافة نوعية إلى هذا التراث المعرفي. وعلينا أن ندرك هنا صعوبة الانتماء لهذا التراث والمسار وصعوبة إضافة شيء جديد إليه بعد هذه الكوكبة من كبار المفكرين والعلماء والزعماء الماركسيين. وقد ساهم العربي سمير أمين باقتدار في استئناف هذا المسار وتطويره. كذلك، ينتمي أمين إلى مسار آخر في الماركسية، هو مدرسة التبعية، التي بدأت مع راؤول بريبش في أميركا اللاتينية عام 1949م، وامتدت إلى أميركا الشمالية، وخصوصًا في أعمال إيمانويل فلرستاين وأندريه غوندر فرانك (الذي اشترك معه أمين في بعض الأعمال) ومدرسة مجلة المنثلي ريفيو (بول سويزي وبول بران وهاري ماغدوف وآخرون). وساهمت هذه الأخيرة في ترويج كتابات أمين بترجمتها من الفرنسية إلى الإنجليزية.
وينتمي سمير أمين أيضًا إلى الماوية. لكنه لم يكن مجرد كاهن من كهنتها، إنما كان مفكرًا رئيسيًّا من مفكريها. ولا شك أنه أضاف الجديد إلى مفهوم التحرر الوطني كما سبق أن بلوره ماو. وهو بالتأكيد ينتمي إلى تيار التحرر الوطني العربي جنبًا إلى جنب مع إلياس مرقص وياسين الحافظ ومهدي عامل. وهو لم يخفِ تأثره بإلياس مرقص وياسين الحافظ تحديدًا. وقد تداخلت هذه المسارات بصورة جلية في فكر أمين وممارساته المعرفية والعملية.
التراكم على الصعيد العالمي
أطلق سمير أمين مشروعه المعرفي بعمله الرئيسي المبكر «التراكم على الصعيد العالمي»، الذي كان أصلًا أطروحته للدكتوراه، ثم أصدره كتابًا. وكان مرمى مشروعه منذ البداية هو فهم عملية تراكم الرأسمال على الصعيد العالمي وفهم تناقضاته وسبل تخطي النظام الراسمالي العالمي برمته صوب الاشتراكية. لقد أدرك أمين أن الرأسمالية نشأتْ عالميةً وتطورتْ عالميةً وقد تنتهي عالميةً. وبالطبع، فقد سبق أن أدرك ماركس ذلك في كتاب «الرأسمال»؛ إذ أدرك مثلًا أن الرأسمالية البريطانية قامت على أساس نهب المستعمرات واستعباد الأفارقة ونهب الفلاح البريطاني. وسمى هذه العملية التراكم البدائي للرأسمال. لكنه ركز على آليات التراكم الرأسمالي على الصعيد البريطاني تحديدًا، أي على الصعيد القطري، هادفًا إلى استنباط قوانين حركة الرأسمالية في البلدان المتطورة. أما أمين، فقد أكَّد استمراريةَ التراكم البدائي للرأسمال، حتى في المرحلتين التنافسية والاحتكارية لتطور الرأسمالية، وتابع بصورة خاصة تراكم رأسمال في أطراف النظام الرأسمالي العالمي، وليس في مراكزه كما سبق أن فعل ماركس.
وقد بيَّن أمين أن الرأسمالية منذ بدايتها تنتج مراكز متطورة وأطرافًا متخلفة. وبيَّن أنه، فيما تكون المراكز متملكة بقدر الإمكان لذاتها ومسار تطورها ومتماسكة داخليًّا وتتطور باطراد وتحقق الإنجازات العلمية والتكنولوجية والثقافية، فإن الأطراف تعيد إنتاج تخلفها ويكون اقتصادها ضعيف التماسك، بحيث إن قطاعاتها تكون مرتبطة بالمراكز، وليس بعضها ببعض. كذلك، فإن شروط إعادة إنتاج الأطراف لا تقع فيها، وإنما في المراكز. ومن ثم، فإن المراكز تتحكم تمامًا في تطور الأطراف. وفيما تحطم المراكز أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية وتتخطاها تمامًا، فإن رأسمالية الأطراف الملجومة تعيد إنتاج أنماط الإنتاج القديمة بصور متنوعة.
كذلك، فقد أكَّد أمين أن العلاقة بين المراكز والأطراف علاقة تناحرية. بل ذهب إلى عدِّ التناقض بين المركز والأطراف هو التناقض الرئيسي، الذي يطغى على التناقض بين البرجوازية والبروليتاريا في المراكز. إذ إنه رأى أن العلاقة بين المراكز والأطراف تتسم بالطابع الريعي وبالاستغلال المفرط وبالنهب، أي بطغيان التراكم البدائي للرأسمال في الأطراف. فالأطراف تابعة ومتخلفة وقواها الإنتاجية ملجومة ومقيدة. والنقطة المهمة هنا هي أن شروط إعادة الإنتاج في الأطراف لا تقع فيها، إنما في المراكز. وهذا هو جوهر تبعيتها. فالسوق العالمية تتحكم كليًّا في مجتمعات الأطراف وتخنقها خنقًا. وفي هذا السياق يطرح أمين فكرة ضرورة فك ارتباط الأقطار التابعة مع المراكز والسوق العالمية واتباع خطط تنموية متمركزة على الذات، بحيث تخضع العلاقة مع السوق العالمية إلى مقتضيات الدولة الطرفية وتنميتها، وليس العكس.
وانطلاقًا من هذا التشخيص توصَّل أمين إلى أن الحلول الإصلاحية للمشكلات ممكنة، بل ربما محتمة، في المركز، لكنها مستحيلة في الأطراف. فالحلول الوحيدة المجدية في الأطراف هي الحلول الثورية. وقاده ذلك إلى طرح نظرية جديدة بعض الشيء لعملية الانتقال من نمط الإنتاج الرأسمالي على الصعيد العالمي إلى نمط الإنتاج الاشتراكي وللثورة الاشتراكية عمومًا. فهو لم يكتفِ بالقول: إن الثورة الاشتراكية تبدأ في الأطراف، لا في المراكز، إنما أكَّد أن بناء نمط الإنتاج الاشتراكي يبدأ في الأطراف ويتعزز فيها، ثم ينتقل تناحريًّا إلى المراكز. وتتضح لنا أهمية هذه النظرية إذا قارناها بمواقف لينين وتروتسكي وستالين من الثورة الاشتراكية، ففي عام 1917م، رأى لينين وتروتسكي أن الثورة تبدأ في روسيا المتخلفة نسبيًّا على صورة ثورة وطنية ديمقراطية، ثم تنتقل إلى المراكز المتقدمة، وبخاصة إلى المركز الألماني، حيث الظروف مهيَّأة لبناء الاشتراكية، ثم تأتي ألمانيا الاشتراكية لنجدة الثورة الروسية ودعمها. لكن العكس حصل، حيث هزمت الثورة في الغرب سريعًا وانتصرت الثورة المضادة ممثلة بالفاشية.
وظل تروتسكي متشبثًا بهذا الموقف ومقتنعًا بأن الظروف الموضوعية مواتية للثورة الاشتراكية في الغرب، وأن على الثورة الروسية أن تعطي الأولوية لتصدير الثورة إلى الغرب. أما لينين، فقد تراجع عن هذا الموقف في السنين الأخيرة من عمره ومالَ إلى عدِّ الثورة الروسية مقدمةً لثورات التحرر الوطني في المستعمرات. وبعد موت لينين، عزز هذا التوجه نيكولاي بخارين، ونادى ستالين بفكرة بناء الاشتراكية في بلد واحد، ثم الدخول في تنافس سلمي أو شبه سلمي مع المعسكر الرأسمالي. من ذلك، يتبين لنا أن موقف أمين كان أقرب إلى موقف ستالين؛ إذ رأى أن الاشتراكية تتعزز في الأطراف، ثم تنتقل تناحريًّا إلى المراكز. وربما انحاز إلى هذا الموقف بتأثير ماو، الذي ظل وفيًّا للستالينية.
مراكز متطورة وأطراف متخلفة
لكنْ أمين لم يتوقف عند هذا الحد، إنما عمم نظريته تلك على التاريخ برمته؛ إذ رأى أن كل نظام إنتاج عالمي يتكون من مراكز متطورة وأطراف متخلفة، وأن الانتقال من نظام إنتاج إلى آخر يبدأ دومًا من الأطراف؛ لأن التطور المنقوص في الأطراف يتيح المجال لنشوء نمط الإنتاج الجديد فيها، ويتعزز النمط الجديد فيها، ثم يبدأ في الزحف تدريجيًّا إلى المراكز. وقد ربط أمين هذا التصور بنقده العناصر الأورومركزية في الماركسية الكلاسيكية، فعدل من الرؤية الماركسية التقليدية لتعاقب أنماط الإنتاج. فالتصور التقليدي المبني على أساس تاريخ أوربا وحدها يرى أن أنماط الإنتاج الرئيسية في التاريخ هي المشاعية، فنمط الإنتاج الآسيوي، فنمط الإنتاج العبودي، فنمط الإنتاج الإقطاعي، فنمط الإنتاج الرأسمالي، فنمط الإنتاج الشيوعي. وبالمقابل، انطلق أمين من تاريخ الشرق، ورأى أن أنماط الإنتاج الرئيسية عبر التاريخ هي المشاعية، ثم ما أسماه نمط الإنتاج الخراجي أو الإتاوي، ثم الرأسمالية، ثم الشيوعية. وعدَّ نمط الإنتاج العبودي ونمط الإنتاج الإقطاعي، اللذين سادا في أوربا، هامشيين على تخوم نمط الإنتاج الخراجي. كما رأى أن مراكز نظام الإنتاج الخراجي كانت في الشرق، وبخاصة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، في حين أن أطراف النظام كانت في أوربا، أولًا في نظام الرق اليوناني والروماني، ولاحقًا في نظام الإقطاع في أوربا الغربية.
ومثلما نشهد اليوم (هكذا بدا الأمر لسمير أمين) الانتقال صوب الاشتراكية يبدأ من أطراف النظام الرأسمالي، فإن الانتقال صوب الرأسمالية الذي شهده نمط الإنتاج الخراجي بدأ أيضًا من الأطراف الأوربية، ثم انتقل إلى العالم كله. ولما كان نمط الإنتاج الخراجي منقوصًا في الأطراف الأوربية، كان من الأسهل أن تبدأ الرأسمالية في أوربا بدلًا من الشرق المتطور المحكم. ويلفت أمين نظرنا إلى أن المستوى الذي كان مهيمنًا في نمط الإنتاج الخراجي كان المستوى السياسي الأيديولوجي. لذلك تميزت الأطراف فيه عن المركز على هذا المستوى تحديدًا، حيث كان البناء السياسي الأيديولوجي الأوربي منقوصًا جدًّا مقارنة مع ما ساد في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وذلك بعكس نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي يهيمن فيه المستوى الاقتصادي، وهو الأمر الذي يجعل الأطراف تتميز بتخلفها الاقتصادي مقارنة بالمراكز.
وقد رأى أمين أن الرأسمالية بدأت تتأزم بنيويًّا في نهاية القرن التاسع عشر. وكان ردة الفعل عليها الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية والثورة البلشفية، ثم الثورة الصينية وحركات التحرر الوطني ممثلة بمنظومة دول عدم الانحياز (باندونغ). ويرى أيضًا أن الرأسمالية بدأت تشهد أزمة بنيوية جديدة منذ عام 1975م. ويمكن فهم الأحداث في الأربعين سنة الأخيرة على أنها ردود أفعال على هذه الأزمة. ويرى أمين أن الاحتكارات الكبرى في الاقتصاد العالمي دخلت في طور جديد منذ عام 1975م، حيث تغولت تمامًا على الاقتصاد العالمي وتخطت حجم ملكياتها صوب التحكم في كل صغيرة وكبيرة في عالم اليوم وبالطبقات الاجتماعية كافة؛ البرجوازية المتوسطة والبرجوازية الصغيرة والفلاحين والطبقة العاملة. فالجميع يشتغل لها، وهي تشفط فائض القيمة من جميع هذه الطبقات لصالح البرجوازية الكبيرة، أو ما أسماه أمين الأوليغارشية، وهو الأمر الذي فاقم من الهوة بين الأوليغارشية وباقي شرائح المجتمع العالمي. فما أسمي الـ 1% يملك أكثر مما تملكه الـ 99% مجتمعة.
ونادى أمين قبيل وفاته بإنشاء أممية جديدة، أممية خامسة إن شئتم، تضم القوى المناهضة لهذه الأوليغارشية ولما أسماه أمين الاحتكارات المالية المعممة، التي تتحكم في كل شيء على ظهر كوكبنا. ونادى بأن تكون هذه الأممية مرنة وجامعة، بحيث تضم الأحزاب اليسارية والاجتماعية التوجه والنقابات العمالية والمهنية والجمعيات الثقافية والاجتماعية والمدافعين عن البيئة والحركات النسائية وما إلى ذلك. ونحن نتساءل: هل يمكن لجسم تنظيمي متنوع هكذا ألا يكون مترهلًا وعاجزًا عن الفعل المؤثر؟ إنها بالتأكيد مسألة جدالية، لكن تفاقم أزمة الرأسمالية يحتم علينا مناقشتها وأخذها جديًّا في الحسبان.
رحم الله مفكرنا الكبير سمير أمين، وندعو المهتمين إلى قراءة نتاجه الغزير ومناقشته في سياق السعي إلى فهم وضعنا العربي المتأزم والبحث عن سبل إيجاد الحلول الناجعة لمشكلاتنا المتفاقمة.