وائل حلاق في مواجهة مع الخطاب الاستشراقي
ألَّف المفكر الفلسطيني وائل حلاق ثلاثة كتب في الرد على الاستشراق في علاقته بالتراث الإسلامي، فكتَب «تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام»، و«السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي»، و«نشأة الفقه الإسلامي وتطوره»؛ إذ أعلن أنه بهذه الكتب ينوي وضع «مشروع مقاومة»، ضد الاحتلال الفكري الغربي الاستشراقي الذي يمثل أداة هيمنة، كما يوضح ذلك في مقدمته للترجمة العربية لكتابه الأول. وزعزعة تلك الهيمنة حسب وائل لا تتم من خارج أسوار تلك المنظومة الفكرية، التي تتحصن بدُور المعرفة الغربية وتقبع داخل معاقلها المانعة من التفكيك، ولعل هذا ما يفسر قلة اهتمام النخبة الغربية بالملاحظات والانتقادات التي تأتي من الجهة العربية التي يدونها الكاتب العربي، فظلَّ الفكر الاستشراقي بتلك المنعة محفوظَ الجانب، وشهد انتشارًا بما عليه من علَّات إلى حدود ثمانينيات القرن العشرين.
مما حفز الكاتب إلى دحض أطروحات هذا الفكر من داخل حصونه، وذلك بالانطلاق من المبادئ التاريخية للفكر الاستشراقي التي اتُّخذت مطيةً لفَهْمِ الشريعة كمفهوم يتماشى مع الأهداف الاستعمارية في الثقافة والاجتماع، عبر تفكيكها وإعادة صياغتها تبعًا للأدلة التاريخية التي قفز عليها المستشرقون. ومن ذلك وقوفُه على مبدأ الفصل الذي أقامه الفكر الاستشراقي بين العلوم الإسلامية (الفقه والأصول مثلًا)، وبين المجتمع الإسلامي، من خلال نَفْيِ العلاقة التفاعلية بين الفكر والواقع؛ للوصول إلى خلاصة مفادها هامشية الفكر الإسلامي وعدم اتصاله بالواقع الاجتماعي، ومن ثَمَّ عزله عن مسار تحولات المجتمع وسحب الصفة القانونية عنه، فضلًا عن إثبات صفة العجز عنه. وذلك ما يؤدي إلى القول بتعطيل الشريعة، وعدم مواكبتها للحياة، وعدم قابليتها للنمو والاستمرار، بدءًا من القرن الثاني أو الثالث، إذ انسدَّت مَواطنُ الانفتاح فيه، وأُغلقَ باب الاجتهاد والنظر، وهو ما أوقع المجتمع الإسلامي في دوّامة من التخلف والتقليد، ولم يستفق من غيابه الطويل إلا بعد صدمة الحداثة، التي أثارت فيه الأسئلة المحرجة إزاء الذات والتاريخ، وفتحت أعينه على منجزات الحضارة الغربية المتقدمة، بل أقامت مشروع قراءة جديدة للتراث العربي مخالِفة للقراءة الاجترارية، التي أنجزتْها النُّخَبُ العلمية من العصر الكلاسيكي إلى الحديث.
مزاعم القراءة العلمية
الحافز إلى نقد الأطروحة الاستشراقية في القراءة التفكيكية لحلاق، أنْ تنكشف مثالب «القراءة العلمية» ومزاعمها التي تدَّعِيها المنظومةُ الاستشراقية ذات الطبيعة المهيمِنة، التي تهدف إلى تغيير الهُوِيَّة الإسلامية بتلك المقولات والأساطير المغلوطة. ولذلك فوائل حلاق حينَ يكتب كتبه يتوجه بالأصالة إلى الجمهور الأكاديمي في الغرب، الذي يغلُب عليه الاستمساك بأعمال المستشرقين، التي يطغى عليها التحريف والتزييف. فوجب مواجهة ذلك الخطاب المغلوط ومناهضته بمشروع أكاديمي منفصل بنيويًّا عن خطاب الهيمنة الغربي، وهو الباعث الحثيث إلى تأليف كتبه السابقة. ما يقتضي إنجاز ما يسميه بـ«حفر تاريخي» يُفضي إلى التمييز بين الثابت والمتغير في سلطان الشريعة، واستخلاص الحد الفاصل بينهما، من خلال إبراز توصيف جديد وفهم مُغايِر لمَبحثَيِ الاجتهاد والتقليد عبر الممارسة التاريخية الإسلامية، ضمن الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بحيث ينعكس موضوع التقليد كبنية داخل الاجتهاد، بوصفِه امتدادًا طبيعيًّا له، بمعنًى يرفع القطيعةَ بينها، وبالمقابل يُرسِّخ فكرة الاندماج والوصل بينهما.
ففكرة الثبات والتحول في الشريعة تتجلى في جملة من المبادئ التشريعية التي تُشكل عمادها وأُسَّها القانوني، وهي التي بقيت ثابتة عبر الأزمان ولا يلحقها التغيير، وإلا فما سُمِّيت بالثوابت، فالشريعة شأنها شأنُ بقية النظم القانونية والتشريعية تقوم على المحافظة على هذه المبادئ الحاكمة على بقية التفاصيل الحياتية واليومية للناس، بحيث تؤطرها وتُضفي عليها طابع المرونة والتجديد. وهذه الخاصية هي التي أكسبت الشريعة رواجًا كبيرًا في العالم، ومهّدت إلى فك التعارض بين المبادئ والحاجات الطارئة، وسوّغت للتناغم بين مبدأي الثبات والتحول بين الأصول والفروع في الشريعة. فالدافع إذن إلى الحفر التاريخي عن الثابت والمتحول في الشريعة، أولًا هو إقامة الدليل على صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان، وقدرتها على المواءمة والملاءمة نظريًّا وعمليًّا، وثانيًا هو الرد على الخطاب الاستشراقي المهيمن، الذي يزعم أن الشريعة قد توقَّفتْ عن الحياة وانسدَّت آفاقُها بفعل الجمود والخمول.
فهذه خُرافة روَّج لها المستشرقون، وساقوا لإثباتها كل دليل ولو عَلِيل، وهو ما يحتِّم عدم القَبول والتسليم بكل ما دبَّجته أقلام هؤلاء، من دون وضعِه موضعَ مساءلة وتمحيص، فليس كل ما يقوله مجتمع عن آخرَ هو مَوضعُ ثقةٍ، ولو صِيغتْ مقولاته على وجه الرصانة العلمية الموهومة؛ إذ الانحياز صفة ملازمة لأي فكر كيفما كان، ولا سيما في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، فيلزم معه التفريق بين شيئين في أي منتوج فكري، ففيه ما يَصطلح عليه وائل بـ«الهدف» وفيه «المَهدوف»، فالهدف أي ما هو مُعلَن ومُصرح به ومعرَّف، وهو في الحالة الاستشراقية كشفُ النقاب عما مضى في الشرق، أما المهدوف فغيرُ ذلك بما هو مُضمرات ونوايا خَفيَّة، تنبثق من عقلية مؤامراتية للمستشرق أو من بِنية مجتمعه اتّجاه الآخر، أو تنتج في إطار العلاقة التفاعلية بين الإنسان والمعرفة في شكل فاعل ومفعول به.
ومن هنا تتضح طبيعة الخطاب الاستشراقي من خلال الكشف عن المخبوء في ثنايا أهدافه، وبالتبَع تنكشف المقولة التي تزعم وتدعي جمود الشريعة وانسداد باب الاجتهاد فيها، ويسقط القناع عن النية المُبيَّتة في إرادة الهيمنة الغربية على المجتمعات الإسلامية إبان أواخر القرن التاسع عشر، عبر تفتيت بنيتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال زرع اليأس فيها وقطع صلتها بأصالتها المستمدة من روح الشريعة. ومن هنا يجري الترويج لدعاوى غلق الاجتهاد في الدين، وانسداد الأفق المعرفي والحضاري للأمة، وفي المقابل التبشير بالحل الأجنبي عبر فرض الاستتباع الثقافي والسياسي والحضاري للغرب في نموذجه التنموي والتقدمي، وهو ما حصل فعلًا في تجارب استعمارية لبلدان إسلامية من هذا المدخل الهيمني.
الهيمنة على النظام المعرفي
فمن خلال هذا المهدوف تتحقق المؤامرة الأجنبية على المجتمعات الإسلامية، وتتمخض الصورة الحقيقية للاستشراق الذي يغدو حينها وجهًا من وجوه الاحتلال الاستيطاني. فتحقيق هدف الهيمنة على العالم الإسلامي إستراتيجية تمرّ عبر الهيمنة على نظامه المعرفي، من خلال إثارة الشكوك حول مدى أحقيته بالاعتقاد فضلًا عن الامتثال، وذلك سِرُّ رَميه بالجمود والتحجر والانغلاق، وحجب الثقة عن تشريعاته وأطره المرجعية، في مقابل تقديم أطر بديلة ومستجلَبة من الخارج، تطولُ التشريعات والمؤسسات والأنظمة، وبمُبارَكة وتحريضٍ من المحتلّ الاستيطاني، الذي يُدعِّم ويُشرِف على هذه الأطماع والمشاريع. ومع ذلك يُصرّ الخطاب الاستشراقي على حِياديته وعِلميته، مُعلنًا عن أهدافه دونَ مهدوفاته، لكن المدهش حسب وائل أنْ ينخدعَ جمهور من المسلمين بهذا الخطاب ويَتلقونه بالقَبول الحسَن، على مستوى الجهات الرسمية والشعبية والنخبوية.
ولذلك استهدف وائل حلاق من خلال أعماله نشر المعرفة ومقاومة التشويه والهيمنة الغربية على التاريخ الإسلامي؛ إذ من المهم بمكان دراسة هذا التاريخ، وتشريح الوظائف والمُهمات المعرفية والحضارية والقومية التي قام بها هذا العلم في المجتمعات الحداثية، فدراسته من مكونات الهوية الحضارية التي تُقرر مفاهيم المجتمع وتصرفاته اتجاه الآخر، وكيف يَتمَوْقَع المجتمع نفسه بين المجتمعات الإنسانية الأخرى حضاريًّا وسياسيًّا ومعرفيًّا.
فمن السذاجة إذن أن يَقبل مجتمعٌ ما كُلَّ ما يُقال عنه من جانب مجتمع آخرَ، ولو من قبيل الرواية التاريخية التي توصف بكونها «علمية»، فالتشكيك مبدأٌ مهم في التعامل مع هذه المقولات، التي تَصب على حقبة تاريخية من تاريخ الشريعة خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة، التي اكتملت فيها تدوينًا وتقعيدًا، والتي انكبَّ عليها الخطاب الاستشراقي المنبثق من طبيعة نشأة علم التاريخ كخطاب معرفي حديث، أنتجته أوربا الاستعمارية إبان القرن التاسع عشر، حيث أسّست فرضيات هذا العلم على الأكاديميا الحداثية التي اجتاحت أقطاب الأرض جميعًا. فيلزم إنجاز ما يسميه وائل «بزعزعة» لهذا النوع من الخطاب، بُغية فكّ بِنيته الإقناعية التي تمتزج بروح الأيديولوجيا الحضارية، التي تخرج من رحم الهيمنة والقوة العالمية.
إذ الرواية الغربية لتاريخ الفقه الإسلامي تترابط في جميع أجزائها ترابطًا متماسكًا زائفًا؛ لأنها من جهة تُعلن عن هدف قارّ وهو: سردُ تاريخ التشريع الإسلامي من وجهة نظر علمية، لكنها تُخفي مهدوفًا ثاويًا في خطابها، وهو أن الإسلام وشريعته ظاهرة متدهورة عبر الزمن، تحتاج إلى الغرب لإعادة توجيهها التوجيه الصحيح. بل إن وصف حالة الشرق الإسلامي بالتدهور والتوقف عن التطور، جعلَ من الخطاب الاستشراقي يتعامل مع التاريخ الإسلامي ومع التشريع الإسلامي كأنه ظاهرة معزولة عن العلم الحديث، حيث يُتَعامَل معه من زاوية النظر التقليدية في الدراسات المهجورة، التي تنطلق من رؤية تقوم على فهم التاريخ من زاوية «البَطل»، فمثلًا يُنظر إلى «الشافعي» المؤسس للأصول كأنه هو المُطابق المعرفي لأصول الفقه، وليس قَبله ولا بَعده من ساهَمَ في تطوير هذا العِلم، لسَحب صفة التطور والتجديد في مَوادّه ونظرياته.
وبالإجمال فالفهم الأسطوري للشرق عندهم له قواعد للتحليل ليست في حاجة إلى تعديل، بحيث تتماشى مع القواعد والقوانين التحليلية المستحدَثة، فما دامَ الشرقُ لا يتغير، فليس بالضرورة أن يَخضع لآليات فهم جديدة، تبعًا لطابَع السُّكون الذي يَعتريه. فالمُعوَّل عليه في التحليل الاستشراقي هو اعتماد المنهجية «السينمائية الهوليودية»، التي تُمجِّد البَطل وتُقيم الحُبكة على مَقاسه، وبالتالي فموتُ البطل في التاريخ الإسلامي معناه موتُ القِصة والرواية والموضوع الذي يَجري في سياقه، فموت الشافعي إذن هو إعلانٌ لموت الفقه والأصول بعده، وهنا الخطورة الأيديولوجية في التحليل غير المحايد. فإقامة هالةٍ غير طبيعية للشافعي ليس المقصود منها الإشادة بإسهاماته، بل إقبار جهود من بعده وإجحاد إسهامات كَوكبة من العلماء في تطوير علوم الشريعة، والقصدُ من وراء ذلك الإنكارِ هو التدليلِ على جمود الشريعة نفسِها، وسقوطها في قعر التقليد والتعطيل وعدم المواكبة والتجديد. استنتاجًا من كل ما سبق، فمشروع وائل يرومُ الدخولَ في اشتباك معرفي مع الخطاب الاستشراقي من داخله وبآلياته المعرفية نفْسها، محاوِلًا الكشفَ عن زيفِها وأعطابها ونواياها الخفية، والدخولَ معها في حِجَاج تاريخي ومعرفي، من أجل وضع تصور جديد، يعتمد مناهجَ حديثة في التأريخ للفكر الإسلامي، مع الإشارة إلى مثالبِ المستشرقينَ في دراسته، للخلوص إلى نتيجة مفادها: كونُ الشريعة في مبتدئها ومنتهاها طيِّعة وقابلة للتجديد، وأنها متفاعلةٌ مع تحولات المجتمع، وتتوفر على ميكانيزمات تؤهلها للاجتهاد والانفتاح على الواقع. وهذا المجهود المعرفي -كإشارة لافتة- ليس لأحد من «الأصوليين» أو لأحدٍ من منظِّري المؤامرة الخارجية، إنما هو عمل لباحث متخصص ولمفكر عربي فلسطيني، درَس ودرَّس في الغرب واستوعب نظرياته المعرفية، وكان مدفوعًا بالنقد والتمحيص، بعيدًا من أهداف الديماغوجية والأيديولوجية التي تنطلق من عواطف الدفاع وتمجيد الذات.